تفسير الطبري تفسير الصفحة 45 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 45
046
044
 الآية : 265
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَمَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
يعنـي بذلك جل ثناؤه: ومثل الذين ينفقون أموالهم فـيصّدّقون بها ويحملون علـيها فـي سبـيـل الله ويقوّون بها أهل الـحاجة من الغزاة والـمـجاهدين فـي سبـيـل الله وفـي غير ذلك من طاعات الله طلب مرضاته. {وَتَثبـيتا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} يعنـي بذلك: وتثبـيتا لهم علـى إنفـاق ذلك فـي طاعة الله وتـحقـيقا, من قول القائل: ثَبّتّ فلانا فـي هذا الأمر: إذ صححت عزمه وحققته وقوّيت فـيه رأيه أثبته تثبـيتا, كما قال ابن رواحة:
فَثَبّتَ اللّهُ ما آتاكَ مِنْ حَسَنٍتَثْبِـيتَ مُوسَى وَنَصْرا كَالّذِي نُصِرُوا
وإنـما عنى الله جلّ وعزّ بذلك, أن أنفسهم كانت موقنة مصدّقة بوعد الله إياها فـيـما أنفقت فـي طاعته بغير منّ ولا أذى, فثبتهم فـي إنفـاق أموالهم ابتغاء مرضاة الله, وصحح عزمهم وآراءهم يقـينا منها بذلك, وتصديقا بوعد الله إياها ما وعدها. ولذلك قال من قال من أهل التأويـل فـي قوله: {وَتَثْبِـيت} وتصديقا, ومن قال منهم ويقـينا¹ لأن تثبـيت أنفس الـمنفقـين أموالهم ابتغاء مرضاة الله إياهم, إنـما كان عن يقـين منها وتصديق بوعد الله. ذكر من قال ذلك من أهل التأويـل:
4877ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيـى, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي موسى, عن الشعبـي: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} قال: تصديقا ويقـينا.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي موسى, عن الشعبـي: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} قال: وتصديقا من أنفسهم ثبـات ونصرة.
4878ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {وتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} قال: يقـينا من أنفسهم. قال: التثبـيت الـيقـين.
4879ـ حدثنـي يونس, قال: حدثنا علـيّ بن معبد, عن أبـي معاوية, عن إسماعيـل, عن أبـي صالـح فـي قوله: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} يقول: يقـينا من عند أنفسهم.
وقال آخرون: معنى قوله: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} أنهم كانوا يتثبتون فـي الـموضع الذي يضعون فـيه صدقاتهم. ذكر من قال ذلك:
4880ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, عن عثمان بن الأسود, عن مـجاهد: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} فقلت له: ما ذلك التثبـيت؟ قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن عثمان بن الأسود, عن مـجاهد: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} قال: كانوا يتثبتون أين يضعونها.
4881ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن علـيّ بن علـيّ بن رفـاعة, عن الـحسن فـي قوله: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} قال: كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم, يعنـي زكاتهم.
4882ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, عن علـيّ بن علـيّ, قال: سمعت الـحسن قرأ: {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} قال: كان الرجل إذا همّ بصدقة تثبت, فإن كان لله مضى, وإن خالطه شك أمسك.
وهذا التأويـل الذي ذكرناه عن مـجاهد والـحسن تأويـل بعيد الـمعنى مـما يدلّ علـيه ظاهر التلاوة, وذلك أنهم تأوّلوا قوله: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} بـمعنى: وتثبتا, فزعموا أن ذلك إنـما قـيـل كذلك لأن القوم كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم. ولو كان التأويـل كذلك, لكان: وتثبتا من أنفسهم¹ لأن الـمصدر من الكلام إن كان علـى تفعلت التفعل, فـيقال: تكرمت تكرما, وتكلـمت تكلـما, وكما قال جل ثناؤه: {أوْ يأْخُذَهُمْ علـى تَـخَوّفٍ} من قول القائل: تـخوّف فلان هذا الأمر تـخوّفـا. فكذلك قوله: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} لو كان من تثبت القوم فـي وضع صدقاتهم مواضعها لكان الكلام: «وتثبتا من أنفسهم», لا «وتثبـيتا», ولكن معنى ذلك ما قلنا من أنه وتثبـيت من أنفس القوم إياهم بصحة العزم والـيقـين بوعد الله تعالـى ذكره.
فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون ذلك نظير قول الله عزّ وجلّ: {وَتَبَتّلْ إلَـيْهِ تَبْتِـيل} ولـم يقل: تبتلاً؟ قـيـل: إن هذا مخالف لذلك, وذلك أن هذا إنـما جاز أن يقال فـيه: «تبتـيلاً» لظهور «وتبتل إلـيه», فكان فـي ظهوره دلالة علـى متروك من الكلام الذي منه قـيـل: تبتـيلاً, وذلك أن الـمتروك هو: «تبتل فـيبتلك الله إلـيه تبتـيلاً», وقد تفعل العرب مثل ذلك أحيانا تـخرج الـمصادر علـى غير ألفـاظ الأفعال التـي تقدّمتها إذا كانت الأفعال الـمتقدمة تدل علـى ما أخرجت منه, كما قال جل وعزّ: {وَاللّهُ أنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَـات} وقال: {وَأنْبَتَهَا نبـاتا حَسَن} والنبـات: مصدر نبت, وإنـما جاز ذلك لـمـجيء أنبت قبله, فدلّ علـى الـمتروك الذي منه قـيـل نبـاتا, والـمعنى: والله أنبتكم فنبّتـم من الأرض نبـاتا. ولـيس قوله: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} كلاما يجوز أن يكون متوهما به أنه معدول عن بنائه. ومعنى الكلام: ويتثبتون فـي وضع الصدقات مواضعها, فـيصرف إلـى الـمعانـي التـي صرف إلـيها قوله: {وَتَبَتّلْ إلَـيْهِ تَبْتِـيل} وما أشبه ذلك من الـمصادر الـمعدولة عن الأفعال التـي هي ظاهرة قبلها.
وقال آخرون: معنى قوله: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} احتسابـا من أنفسهم. ذكر من قال ذلك:
4883ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} يقول: احتسابـا من أنفسهم.
وهذا القول أيضا بعيد الـمعنى من معنى التثبـيت, لأن التثبـيت لا يعرف فـي شيء من الكلام بـمعنى الاحتساب, إلا أن يكون أراد مفسره كذلك أن أنفس الـمنفقـين كانت مـحتسبة فـي تثبـيتها أصحابها. فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلام, فلـيس الاحتساب بـمعنى حينئذ للتثبـيت فـيترجم عنه به.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ أصَابَهَا وَابلٌ فَآتَتْ أُكُلُها ضِعْفَـيْنِ فإنْ لَـمْ يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلّ}.
يعنـي بذلك جل وعزّ: ومثل الذين ينفقون أموالهم, فـيتصدّقون بها, ويسبّلونها فـي طاعة الله بغير منّ علـى من تصدّقوا بها علـيه ولا أذى منهم لهم بها ابتغاء رضوان الله وتصديقا من أنفسهم بوعده, {كَمَثَلِ جَنّةٍ} والـجنة: البستان. وقد دللنا فـيـما مضى علـى أن الـجنة البستان بـما فـيه الكفـاية من إعادته. {بربوة} والربوة من الأرض: ما نشز منها فـارتفع عن السيـل. وإنـما وصفها بذلك جل ثناؤه, لأن ما ارتفع عن الـمسايـل والأودية أغلظ, وجنان ما غُلظ من الأرض أحسن وأزكى ثمرا وغرسا وزرعا مـما رقّ منها, ولذلك قال أعشى بنـي ثعلبة فـي وصف روضة:
ما رَوْضَةٌ مِن رِياضِ الـحَزْنِ مُعْشِبَةٌخَضْرَاءُ جادَ عَلَـيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ
فوصفها بأنها من رياض الـحزن, لأن الـحزون: غرسها ونبـاتها أحسن وأقوى من غروس الأودية والتلاع وزروعها. وفـي الربوة لغات ثلاث, وقد قرأ بكل لغة منهنّ جماعة من القراء, وهي «رُبْوة» بضم الراء, وبها قرأت عامة قراء أهل الـمدينة والـحجاز والعراق. و«رَبْوة» بفتـح الراء, وبها قرأ بعض أهل الشام, وبعض أهل الكوفة, ويقال إنها لغة لتـميـم. و«رِبْوة» بكسر الراء, وبها قرأ فـيـما ذكر ابن عبـاس. وغير جائز عندي أن يقرأ ذلك إلا بإحدى اللغتـين: إما بفتـح الراء, وإما بضمها, لأن قراءة الناس فـي أمصارهم بإحداهما. وأنا لقراءتها بضمها أشدّ إيثارا منـي بفتـحها, لأنها أشهر اللغتـين فـي العرب¹ فأما الكسر فإن فـي رفض القراءة به دلالة واضحة علـى أن القراءة به غير جائزة. وإنـما سميت الربوة لأنها ربت فغلظت وعلت, من قول القائل: ربـا هذا الشيء يربو: إذا انتفخ فعظم.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
4884ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ} قال: الربوة: الـمكان الظاهر الـمستوي.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, قال: قال مـجاهد: هي الأرض الـمستوية الـمرتفعة.
4885ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ} يقول: بنشز من الأرض.
4886ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: {كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ} والربوة: الـمكان الـمرتفع الذي لا تـجري فـيه الأنهار والذي فـيه الـجنان.
4887ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي قوله: {بِرَبْوَةٍ} برابـية من الأرض.
4888ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ} والربوة النشَز من الأرض.
4889ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال ابن عبـاس: {كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ} قال: الـمكان الـمرتفع الذي لا تـجري فـيه الأنهار.
وكان آخرون يقولون: هي الـمستوية. ذكر من قال ذلك:
4890ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الـحسن فـي قوله: {كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ} قال: هي الأرض الـمستوية التـي تعلو فوق الـمياه.
وأما قوله: {أصَابَها وَابِلٌ} فإنه يعنـي جل ثناؤه أصاب الـجنة التـي بـالربوة من الأرض وابل من الـمطر, وهو الشديد العظيـم القطر منه. وقوله: {فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَـيْنِ} فإنه يعنـي الـجنة أنها أضعف ثمرها ضعفـين حين أصابها الوابل من الـمطر, والأُكْل: هو الشيء الـمأكول, وهو مثل الرّعْب والهُزْء وما أشبه ذلك من الأسماء التـي تأتـي علـى فعل¹ وأما الأَكْل بفتـح الألف وتسكين الكاف, فهو فعل الاَكل, يقال منه: أكلت أَكْلاً, وأكلت أكلة واحدة, كما قال الشاعر:
وما أكْلَةٌ أكَلْتُها بِغَنِـيـمَةٍولا جَوْعَةٌ إنْ جُعْتُها بغَرَامِ
ففتـح الألف لأنها بـمعنى الفعل. ويدلك علـى أن ذلك كذلك قوله: «ولا جوعة», وإن ضمت الألف من «الأكلة» كان معناه: الطعام الذي أكلته, فـيون معنى ذلك حينئذ: ما طعام أكلته بغنـيـمة.
وأما قوله: {فإنْ لَـمْ يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلّ} فإن الطلّ: هو الندى واللـين من الـمطر. كما:
4891ـ حدثنا عبـاس بن مـحمد, قال: حدثنا حجاج, قال: قال ابن جريج: {فَطَلّ} ندى. عن عطاء الـخراسانـي, عن ابن عبـاس.
4892ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: أما الطل: فـالندى.
4893ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {فإنْ لَـمْ يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلّ} أي طشّ.
4894ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: {فَطَلّ} قال: الطل: الرذاذ من الـمطر, يعنـي اللـين منه.
4895ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {فَطَلّ} أي طش.
وإنـما يعنـي تعالـى ذكره بهذا الـمثل كما ضعفت ثمرة هذه الـجنة التـي وصفت صفتها حين جاد الوابل فإن أخطأ هذا الوابل فـالطلّ كذلك يضعف الله صدقة الـمتصدّق والـمنفق ماله ابتغاء مرضاته وتثبـيتا من نفسه من غير منّ ولا أذى, قلّت نفقته أو كثرت لا تـخيب ولا تـخـلف نفقته, كما تضعف الـجنة التـي وصف جل ثناؤه صفتها قل ما أصابها من الـمطر أو كثر لا يخـلف خيرها بحال من الأحوال.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
4896ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي قوله: {فَآتَتْ أُكُلُهَا ضِعْفَـيْنِ فَإنْ لَـمْ يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلّ} يقول: كما أضعفت ثمرة تلك الـجنة, فكذلك تضاعف ثمرة هذا الـمنفق ضعفـين.
4897ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَـيْنِ فإنْ لَـمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلّ} هذا مثل ضربه الله لعمل الـمؤمن, يقول: لـيس لـخيره خـلف, كما لـيس لـخير هذه الـجنة خـلف علـى أيّ حال, إما وابل, وإما طلّ.
4898ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك, قال: هذا مثل من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله.
4899ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالهمْ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ الله}... الآية, قال: هذا مثل ضربه الله لعمل الـمؤمن.
فإن قال قائل: وكيف قـيـل: {فَإنْ لَـمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلّ} وهذا خبر عن أمر قد مضى؟ قـيـل: يراد فـيه: كان, ومعنى الكلام: فآتت أكلها ضعفـين, فإن لـم يكن الوابل أصابها, أصابها طلّ, وذلك فـي الكلام نـحو قول القائل: حبست فرسين, فإن لـم أحبس اثنـين فواحدا بقـيـمته, بـمعنى: إلا أكن, لا بد من إضمار «كان», لأنه خبر¹ ومنه قول الشاعر:
إذَا ما انْتَسَبْنَا لَـمْ تَلِدْنِـي لَئِيـمَةٌ
ولَـمْ تَـجِدِي مِنْ أنْ تُقِرّي بِها بُدّا
(القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللّهُ بِـمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
يعنـي بذلك: والله بـما تعملون أيها الناس فـي نفقاتكم التـي تنفقونها بصير, لا يخفـى علـيه منها ولا من أعمالكم فـيها وفـي غيرها شيء يعلـم من الـمنفق منكم بـالـمنّ والأذى والـمنفق ابتغاء مرضاة الله, وتثبـيتا من نفسه, فـيحصي علـيكم حتـى يجازي جميعكم جزاءه علـى عمله, إن خيرا فخيرا, وإن شرّا فشرّا.
وإنـما يعنـي بهذا القول جلّ ذكره, التـحذير من عقابه فـي النفقات التـي ينفقها عبـاده, وغير ذلك من الأعمال أن يأتـي أحد من خـلقه ما قد تقدم فـيه بـالنهي عنه, أو يفرّط فـيـما قد أمر به, لأن ذلك بـمرأى من الله ومسمع, يعلـمه ويحصيه علـيهم, وهو لـخـلقه بـالـمرصاد.
الآية : 266
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{أَيَوَدّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ }
يعنـي تعالـى ذكره {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بـالـمَنّ والأذَى كالّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بـاللّهِ وَالـيَوْمِ الاَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَـيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدا لا يَقْدِرُونَ عَلـى شَيْءٍ مِـمّا كَسَبُو} {أَيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَـخِيـلٍ وأعْنابٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنْهارُ لَهُ فِـيها مِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ وأصَابَهُ الكِبرُ}... الآية.
(ومعنى قوله: {أيَوَدّ أحَدُكُمْ} أيحبّ أحدكم أن تكون له جنة ـ يعنـي بستانا من نـخيـل وأعناب ـ تـجري من تـحتها الأنهار ـ يعنـي من تـحت الـجنة ـ وله فـيها من كل الثمرات. والهاء فـي قوله: {لَهُ} عائدة علـى أحد, والهاء والألف فـي: {فِـيه} علـى الـجنة, {وَأَصَابَهُ} يعنـي وأصاب أحدكم الكبر, {وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفَـاءُ}. وإنـما جعل جل ثناؤه البستان من النـخيـل والأعناب, الذي قال جل ثناؤه لعبـاده الـمؤمنـين: أيودّ أحدكم أن تكون له مثلاً لنفقة الـمنافق التـي ينفقها رياء الناس, لا ابتغاء مرضاة الله, فـالناس بـما يظهر لهم من صدقته, وإعطائه لـما يعطى وعمله الظاهر, يثنون علـيه ويحمدونه بعمله ذلك أيام حياته فـي حسنه كحسن البستان وهي الـجنة التـي ضربها الله عزّ وجلّ لعمله مثلاً من نـخيـل وأعناب, له فـيها من كل الثمرات, لأن عمله ذلك الذي يعمله فـي الظاهر فـي الدنـيا, له فـيه من كل خير من عاجل الدنـيا, يدفع به عن نفسه ودمه وماله وذرّيته, ويكتسب به الـمـحمدة وحسن الثناء عند الناس, ويأخذ به سهمه من الـمغنـم مع أشياء كثـيرة يكثر إحصاؤها, فله فـي ذلك من كل خير فـي الدنـيا, كما وصف جل ثناؤه الـجنة التـي وصف مثلاً بعمله, بأن فـيها من كل الثمرات, ثم قال جل ثناؤه: {وأصَابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفَـاءُ} يعنـي أن صاحب الـجنة أصابه الكبر وله ذرية ضعفـاء صغار أطفـال, {فأصَابَه} يعنـي فأصاب الـجنة إعصار فـيه نار, {فَـاحْتَرَقَتْ} يعنـي بذلك أن جنته تلك أحرقتها الريح التـي فـيها النار فـي حال حاجته إلـيها, وضرورته إلـى ثمرتها بكبره وضعفه عن عمارتها, وفـي حال صغر ولده وعجزه عن إحيائها والقـيام علـيها, فبقـي لا شيء له أحوج ما كان إلـى جنته وثمارها بـالاَفة التـي أصابتها من الإعصار الذي فـيه النار. يقول: فكذلك الـمنفق ماله رياء الناس, أطفأ الله نوره, وأذهب بهاء عمله, وأحبط أجره حتـى لقـيه, وعاد إلـيه أحوج ما كان إلـى عمله, حين لا مستَعْتَب له ولا إقالة من ذنوبه ولا توبة, واضمـحلّ عمله كما احترقت الـجنة التـي وصف جل ثناؤه صفتها عند كبر صاحبها وطفولة ذرّيته أحوج ما كان إلـيها فبطلت منافعها عنه.
وهذا الـمثل الذي ضربه الله للـمنفقـين أموالهم رياء الناس فـي هذه الآية نظير الـمثل الاَخر الذي ضربه لهم بقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَـيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدا لا يَقْدِرُونَ عَلـى شَيْءٍ مِـمّا كَسَبُو}.
وقد تنازع أهل التأويـل فـي تأويـل هذه الآية, إلا أن معانـي قولهم فـي ذلك وإن اختلفت تصاريفهم فـيها عائدة إلـى الـمعنى الذي قلنا فـي ذلك, وأحسنهم إبـانة لـمعناها وأقربهم إلـى الصواب قولاً فـيها السدي.
4900ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَه جَنّةٌ مِنْ نَـخِيـلٍ وأعْنابٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهارُ لَهُ فِـيها مِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ وَأصَابهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفَـاءُ فأصَابَها إعْصَارٌ فِـيهِ نارٌ فـاحْتَرَقَتْ} هذا مثل آخر لنفقة الرياء, أنه ينفق ماله يرائي الناس به, فـيذهب ماله منه وهو يرائي, فلا يأجره الله فـيه, فإذا كان يوم القـيامة واحتاج إلـى نفقته, وجدها قد أحرقها الرياء, فذهبت كما أنفق هذا الرجل علـى جنته, حتـى إذا بلغت وكثر عياله واحتاج إلـى جنته جاءت ريح فـيها سَموم فأحرقت جنته, فلـم يجد منها شيئا, فكذلك الـمنفق رياء.
4901ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجل: {أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَـخِيـلٍ وأعْنابٍ} كمثل الـمفرّط فـي طاعة الله حتـى يـموت, قال يقول: أيودّ أحدكم أن يكون له دنـيا لا يعمل فـيها بطاعة الله, كمثل هذا الذي له جنات تـجري من تـحتها الأنهار, له فـيها من كل الثمرات, وأصابه الكبر, وله ذرية ضعفـاء, فأصابها إعصار فـيه نار فـاحترقت, فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبـير, لا يغنـي عنها شيئا, وولده صغار لا يغنون عنها شيئا, وكذلك الـمفرّط بعد الـموت كل شيء علـيه حسرة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
4902ـ) حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عبد الـملك, عن عطاء, قال: سأل عمر الناس عن هذه الآية فما وجد أحدا يشفـيه, حتـى قال ابن عبـاس وهو خـلفه: يا أمير الـمؤمنـين إنـي أجد فـي نفسي منها شيئا, قال: فتلفت إلـيه, فقال: تـحوّل ههنا! لـمَ تـحقر نفسك؟ قال: هذا مثل ضربه الله عزّ وجلّ فقال: أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الـخير وأهل السعادة, حتـى إذا كان أحوج ما يكون إلـى أن يختـمه بخير حين فنـي عمره, واقترب أجله, ختـم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء فأفسده كله فحرّقه أحوج ما كان إلـيه.
4903ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن مـحمد بن سلـيـم, عن ابن أبـي ملـيكة, أن عمر تلا هذه الآية: {أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَـخِيـلٍ وأعْنابٍ} قال: هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملاً صالـحا, حتـى إذا كان عنده آخر عمره أحوج ما يكون إلـيه, عمل عمل السوء.
4904ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن ابن جريج, قال: سمعت أبـا بكر بن أبـي ملـيكة يخبر عن عبـيد بن عمير أنه سمعه يقول: سأل عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: فـيـم ترون أنزلت {أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَـخِيـلٍ وأعْنابٍ}؟ فقالوا: الله أعلـم! فغضب عمر, فقال: قولوا نعلـم أو لا نعلـم! فقال ابن عبـاس: فـي نفسي منها شيء يا أمير الـمؤمنـين. فقال عمر: قل يا ابن أخي ولا تـحقر نفسك! قال ابن عبـاس: ضربت مثلاً لعمل. قال عمر: أيّ عمل؟ قال: لعمل. فقال عمر: رجل عُنِـيَ بعمل الـحسنات, ثم بعث الله له الشيطان, فعمل بـالـمعاصي حتـى أغرق أعماله كلها قال: وسمعت عبد الله بن أبـي ملـيكة يحدّث نـحو هذا عن ابن عبـاس, سمعه منه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: سمعت أبـا بكر بن أبـي ملـيكة يخبر أنه سمع عبـيد بن عمير, قال ابن جريج: وسمعت عبد الله بن أبـي ملـيكة, قال: سمعت ابن عبـاس, قالا جميعا: إن عمر بن الـخطاب سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكر نـحوه, إلا أنه قال عمر: للرجل يعمل بـالـحسنات, ثم يبعث له الشيطان فـيعمل بـالـمعاصي.
4905ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: سألت عطاء عنها. ثم قال ابن جريج: وأخبرنـي عبد الله بن كثـير, عن مـجاهد, قالا: ضربت مثلاً للأعمال.
قال ابن جريج: وقال ابن عبـاس: ضربت مثلاً للعمل يبدأ فـيعمل عملاً صالـحا, فـيكون مثلاً للـجنة التـي من نـخيـل وأعناب تـجري من تـحتها الأنهار, له فـيها من كل الثمرات, ثم يسيء فـي آخر عمره, فـيتـمادى علـى الإساءة حتـى يـموت علـى ذلك, فـيكون الإعصار الذي فـيه النار التـي أحرقت الـجنة, مثلاً لإساءته التـي مات وهو علـيها. قال ابن عبـاس: الـجنة عيشه وعيش ولده فـاحترقت, فلـم يستطع أن يدفع عن جنته من أجل كبره, ولـم يستطع ذرّيته أن يدفعوا عن جنتهم من أجل صغرهم حتـى احترقت. يقول: هذا مثله تلقاه وهو أفقر ما كان إلـيّ, فلا يجد له عندي شيئا, ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئا, ولا يستطيع من كبره وصغر أولاده أن يعملوا جنة, كذلك لا توبة إذا انقطع العمل حين مات.
قال ابن جريج, عن مـجاهد: سمعت ابن عبـاس قال: هو مثل الـمفرّط فـي طاعة الله حتـى يـموت.
قال ابن جريج وقال مـجاهد: أيودّ أحدكم أن تكون له دنـيا لا يعمل فـيها بطاعة الله, كمثل هذا الذي له جنة, فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبـير لا يغنـي عنها شيئا وأولاده صغار ولا يغنون عنه شيئا, وكذلك الـمفرط بعد الـموت كل شيء علـيه حسرة.
4906ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَـخِيـلٍ وأعْنابٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِهَا الأنْهارُ}... الآية. يقول: أصابها ريح فـيها سموم شديدة, كذلك يبـين الله لكم الاَيات لعلكم تتفكرون, فهذا مثل. فـاعقلوا عن الله جلّ وعزّ أمثاله, فإنه قال: {وَتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها للنّاسِ وَما يَعْقِلُها إلاّ العالِـمُونَ}. هذا رجل كبرت سنة ودقّ عظمه وكثر عياله, ثم احترقت جنته علـى بقـية ذلك كأحوج ما يكون إلـيه. يقول: أيحبّ أحدكم أن يضلّ عنه عمله يوم القـيامة كأحوج ما يكون إلـيه؟
4907ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ} إلـى قوله: {فـاحْتَرَقَتْ} يقول: فذهبت جنته كأحوج ما كان إلـيها حين كبرت سنه وضعف عن الكسب, وله ذرية ضعفـاء لا ينفعونه. قال: وكان الـحسن يقول: فـاحترقت فذهبت أحوج ما كان إلـيها, فذلك قوله: أيودّ أحدكم أن يذهب عمله أحوج ما كان إلـيه.
4908ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: ضرب الله مثلاً حسنا, وكل أمثاله حسن تبـارك وتعالـى. وقال: قال أيوب. {أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَـخِيـلٍ} إلـى قوله: {فِـيها مِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ} يقول: صنعه فـي شبـيبته فأصابه الكبر وله ذرّية ضعفـاء عند آخر عمره, فجاءه إعصار فـيه نار, فأحرق بستانه, فلـم يكن عنده قوّة أن يغرس مثله, ولـم يكن عند نسله خير يعودون علـيه. وكذلك الكافر يوم القـيامة إذا رد إلـى الله تعالـى لـيس له خير فـيُسْتَعْتَب كما لـيس له قوّة فـيغرس مثل بستانه, ولا يجد خيرا قدم لنفسه يعود علـيه, كما لـم يغن عن هذا ولده, وحرم أحره عند أفقر ما كان إلـيه كما حرم هذا جنته عند أفقر ما كان إلـيها عند كبره وضعف ذرّيته. وهو مثل ضربه الله للـمؤمن والكافر فـيـما أوتـيا فـي الدنـيا, كيف نـجى الـمؤمن فـي الاَخرة, وذخر له من الكرامة والنعيـم, وخزن عنه الـمال فـي الدنـيا, وبسط للكافر فـي الدنـيا من الـمال ما هو منقطع, وخزن له من الشرّ ما لـيس بـمفـارقه أبدا ويخـلد فـيها مهانا, من أجل أنه فخر علـى صاحبه ووثق بـما عنده ولـم يستـيقن أنه ملاق ربه.
4909ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {أيَوَدّ أحَدَكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ}... الآية. قال: هذا مثل ضربه الله {أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَـخِيـلً وَأعْنابٍ... فِـيها مِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ} والرجل قد كبر سنه وضعف وله أولاد صغار, وابتلاهم الله فـي جنتهم, فبعث الله علـيها إعصارا فـيه نار فـاحترقت, فلـم يستطع الرجل أن يدفع عن جنته من الكبر, ولا ولده لصغرهم, فذهبت جنته أحوج ما كان إلـيها. يقول: أيحبّ أحدكم أن يعيش فـي الضلالة والـمعاصي حتـى يأتـيه الـموت, فـيجيء يوم القـيامة قد ضلّ عنه عمله أحوج ما كان إلـيه, فـيقول ابن آدم: أتـيتنـي أحوج ما كنت قط إلـى خير, فأين ما قدّمت لنفسك؟
4910ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, وقرأ قول الله عزّ وجلّ {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بـالـمَنّ والأذَى} ثم ضرب ذلك مثلاً, فقال: {أَيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَـخِيـلٍ وأعْنابٍ} حتـى بلغ {فأصَابَها إعْصَارٌ فِـيهِ نَارٌ فـاحْتَرَقَتْ} قال: جرت أنهارها وثمارها, وله ذرية ضعفـاء, فأصابها إعصار فـيه نار فـاحترقت, أيودّ أحدكم هذا؟ فما يحمل أحدكم أن يخرج من صدقته ونفقته حتـى إذا كان له عندي جنة وجرت أنهارها وثمارها, وكانت لولده وولد ولده أصابها ريح إعصار فحرقها.
4911ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا زهير, عن جويبر, عن الضحاك فـي قوله: {أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَـخِيـلٍ وَأعْنَابٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنْهارُ} رجل غرس بستانا فـيه من كل الثمرات, فأصابه الكبر, وله ذرية ضعفـاء, فأصابها إعصار فـيه نار فـاحترقت, فلا يستطيع أن يدفع عن بستانه من كبره, ولـم يستطع ذريته أن يدفعوا عن بستانه, فذهبت معيشته ومعيشة ذريته. فهذا مثل ضربه الله للكافر, يقول: يـلقانـي يوم القـيامة وهو أحوج ما يكون إلـى خير يصيبه, فلا يجد له عندي خيرا ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئا.
وإنـما دللنا أن الذي هو أولـى بتأويـل ذلك ما ذكرناه, لأن الله جل ثناؤه تقدم إلـى عبـاده الـمؤمنـين بـالنهي عن الـمنّ والأذى فـي صدقاتهم. ثم ضرب مثلاً لـمن منّ وآذى من تصدّق علـيه بصدقة, فمثله بـالـمرائي من الـمنافقـين, الـمنفقـين أموالهم رياء الناس. وكانت قصة هذه الآية وما قبلها من الـمثل نظيرة ما ضرب لهم من الـمثل قبلها, فكان إلـحاقها بنظيرتها أولـى من حمل تأويـلها علـى أنه مثل ما لـم يجر له ذكر قبلها ولا معها.
فإن قال لنا قائل: وكيف قـيـل: {وَأصَابَهُ الكِبَرُ} وهو فعل ماض فعطف به علـى قوله {أيَودّ أحَدُكُمْ}؟ قـيـل¹ إن ذلك كذلك, لأن قوله: {أَيَوَدّ} يصحّ أن يوضع فـيه «لو» مكان «أن» فلـما صلـحت بلو وأن ومعناهما جميعا الاستقبـال, استـجازت العرب أن يردّوا «فَعَلَ» بتأويـل «لو» علـى «يفعَل» مع «أن», فلذلك قال: فأصابها, وهو فـي مذهبه بـمنزلة «لو» إذا ضارعت «أن» فـي معنى الـجزاء, فوضعت فـي مواضعها, وأجيبت «أن» بجواب «لو» و«لو» بجواب «أن, فكأنه قـيـل: أيودّ أحدكم لو كانت له جنة من نـخيـل وأعناب, تـجري من تـحتها الأنهار, له فـيها من كل الثمرات وأصابه الكبر.
فإن قال: وكيف قـيـل ههنا: وله ذرية ضعفـاء؟ وقال فـي النساء: {وَلْـيَخْشَ الّذِي لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَـلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعاف}؟ قـيـل: لأن «فعيلاً» يجمع علـى «فعلاء» و«فِعال», فـيقال: رجل ظريف من قوم ظرفـاء وظراف. وأما الإعصار: فإنه الريح العاصف, تهبّ من الأرض إلـى السماء كأنها عمود, تـجمع أعاصير¹ ومنه قول يزيد بن مُفَرّغ الـحميريّ:
أناسٌ أجارُونا فكانَ جِوَارُهُمْأعاصيرَ من سُوءِ العِراقِ الـمُنذّر
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {إعْصَارٌ فِـيهِ نَارٌ فَـاحْتَرَقَتْ} فقال بعضهم: معنى ذلك: ريح فـيها سموم شديدة. ذكر من قال ذلك:
4912ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الله بن بزيغ, قال: حدثنا يوسف بن خالد السمتـي, قال: حدثنا نافع بن مالك, عن عكرمة, عن ابن عبـاس فـي قوله: {إعْصَارٌ فِـيهِ نارٌ} ريح فـيها سموم شديدة.
4913ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن عطية, قال: حدثنا إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن التـميـمي, عن ابن عبـاس فـي: {إعْصَارٌ فِـيهِ نَارٌ} قال: السموم الـحارة التـي خـلق منها الـجان التـي تـحرق.
4914ـ حدثنا حميد, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا شريك, عن أبـي إسحاق, عن التـميـمي, عن ابن عبـاس {فأصَابَها إعْصَارٌ فِـيهِ نارٌ فـاحْتَرَقَتْ} قال: هي السموم الـحارّة.
4915ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا الـحمانـي, قال: حدثنا شريك, عن أبـي إسحاق, عن التـميـمي, عن ابن عبـاس: {إعْصَارٌ فِـيهِ نَارٌ فَـاحْتَرَقَتْ} التـي تقتل.
4916ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عمن ذكره, عن ابن عبـاس, قال: إن السموم التـي خـلق منها الـجان جزء من سبعين جزءا من النار.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {إعْصَارٌ فِـيهِ نارٌ فَـاحْتَرَقَتْ} هي ريح فـيها سموم شديد.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: {إعْصَارٌ فِـيهِ نارٌ} قال: سموم شديد.
4917ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {إعْصَارٌ فِـيهِ نارٌ} يقول: أصابها ريح فـيها سموم شديدة.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, نـحوه.
4918ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {إعْصَارٌ فِـيهِ نارٌ فـاحْتَرَقَتْ} أما الإعصار فـالريح, وأما النار فـالسموم.
4919ـ حُدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {إعْصَارٌ فِـيهِ نارٌ} يقول: ريح فـيها سموم شديد.
وقال آخرون: هي ريح فـيها برد شديد. ذكر من قال ذلك:
4920ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, قال: كان الـحسن يقول فـي قوله: {إعْصَارٌ فِـيهِ نَارٌ فـاحْتَرَقَتْ} فـيها صِرّ وبرد.
4921ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: {إعْصَارٌ فِـيهِ نارٌ فـاحْتَرَقَتْ} يعنـي بـالإعصار ريح فـيها برد.
(القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كَذَلِكَ يُبَـيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ}.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: كما بـين لكم ربكم تبـارك وتعالـى أمر النفقة فـي سبـيـله, وكيف وجهها, وما لكم وما لـيس لكم فعله فـيها, كذلك يبـين لكم الاَيات سوى ذلك, فـيعرفكم أحكامها وحلالها وحرامها, ويوضح لكم حججها, إنعاما منه بذلك علـيكم {لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ} يقول: لتتفكروا بعقولكم فتتدبروا وتعتبروا بحجج الله فـيها, وتعملوا بـما فـيها من أحكامها, فتطيعوا الله به.)
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
4922ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, قال: قال مـجاهد: {لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ} قال: تطيعون.
4923ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: {كَذلِكَ يُبَـيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ} يعنـي فـي زوال الدنـيا وفنائها, وإقبـال الاَخرة وبقائها.
الآية : 267
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الأرْضِ وَلاَ تَيَمّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ غَنِيّ حَمِيدٌ }
يعنـي جل ثناؤه بقوله: يا أيها الذين آمنوا صدّقوا بـالله ورسوله وآي كتابه. ويعنـي بقوله: {أنْفِقُو} زكوا وتصدّقوا. كما:
4924ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس قوله: {أنْفِقُوا مِنْ طَيّبـاتِ ما كَسَبْتُـمْ} يقول: تصدقوا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مِنْ طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ}.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: زكوا من طيب ما كسبتـم بتصرّفكم إما بتـجارة, وإما بصناعة من الذهب والفضة, ويعنـي بـالطيبـات: الـجياد. يقول: زكوا أموالكم التـي اكتسبتـموها حلالاً, وأعطوا فـي زكاتكم الذهب والفضة, الـجياد منها دون الرديء. كما:
4925ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, عن شعبة, عن الـحكم, عن مـجاهد فـي هذه الآية: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ} قال: من التـجارة.
حدثنـي موسى بن عبد الرحمن, قال: حدثنا زيد بن الـحبـاب, قال: وأخبرنـي شعبة, عن الـحكم, عن مـجاهد, مثله.
حدثنـي حاتـم بن بكر الضبـي, قال: حدثنا وهب, عن شعبة, عن الـحكم, عن جاهد, مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا شعبة, عن الـحكم, عن مـجاهد فـي قوله: {وَأنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ} قال: التـجارة الـحلال.
4926ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن عطاء بن السائب, عن عبد الله بن معقل: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ} قال: لـيس فـي مال الـمؤمن من خبـيث, ولكن لا تـيـمـموا الـخبـيث منه تنفقون.
4927ـ حدثنـي عصام بن رواد بن الـجراح, قال: حدثنا أبـي, قال: حدثنا أبو بكر الهذلـي, عن مـحمد بن سيرين, عن عبـيدة, قال: سألت علـيّ بن أبـي طالب صلوات الله علـيه عن قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبـاتِ ما كَسَبْتُـمْ} قال: من الذهب والفضة.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {مِنْ طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ} قال: التـجارة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
4928ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس قوله: {أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ ما كَسَبْتُـمْ} يقول: من أطيب أموالكم وأنفسه.
4929ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ} قال: من الذهب والفضة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ومِـمّا أخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وأنفقوا أيضا مـما أخرجنا لكم من الأرض, فتصدقوا وزكوا من النـخـل والكرم والـحنطة والشعير, وما أوجبت فـيه الصدقة من نبـات الأرض. كما:
4930ـ حدثنـي عصام بن روّاد, قال: ثنـي أبـي, قال: حدثنا أبو بكر الهذلـي, عن مـحمد بن سيرين, عن عبـيدة, قال: سألت علـيا صلوات الله علـيه عن قول الله عزّ وجل: {ومِـمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} قال: يعنـي من الـحبّ والثمر وكل شيء علـيه زكاة.
4931ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد قوله: {ومِـمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} قال: النـخـل.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: {ومِـمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} قال: من ثمر النـخـل.
4932ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا هشيـم, قال: حدثنا شعبة, عن الـحكم, عن مـجاهد قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ} قال: من التـجارة, {وَمِـمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} من الثمار.
4933ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {وَمِـمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} قال: هذا فـي التـمر والـحبّ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ}.
يعنـي بقوله جل ثناؤه {وَلاَ تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ} ولا تعمدوا ولا تقصدوا. مق وقد ذكر أن ذلك فـي قراءة عبد الله: «ولا تأمـموا», من أمـمت, وهذه من تـيـمـمت, والـمعنى واحد وإن اختلفت الألفـاظ, يقال: تأمـمت فلانا وتـيـمـمته وأمـمته, بـمعنى: قصدته وتعمدته, كما قال ميـمون بن قـيس الأعشى:
تـيـمّـمْتُ قَـيْسا وكَمْ دُونَهُمِنَ الأرْضِ من مَهْمَهٍ ذي شَزَنْ
4934ـ وكما حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {وَلاَ تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيث} ولا تعمّدُوا.
4935ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: {وَلا تَـيَـمّـمُو} لا تعمّدوا.
حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن قتادة, مثله.
(القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}.
يعنـي جل ثناؤه بـالـخبث: الرديء غير الـجيد, يقول: لا تعمدوا الرديء من أموالكم فـي صدقاتكم, فتصدّقوا منه, ولكن تصدّقوا من الطيب الـجيد. وذلك أن هذه الآية نزلت فـي سبب رجل من الأنصار علق قِنْوا من حَشَف فـي الـموضع الذي كان الـمسلـمون يعلقون صدقة ثمارهم صدقة من تـمره.) ذكر من قال ذلك:
4936ـ حدثنـي الـحسين بن عمرو بن مـحمد العنقزي, قال: حدثنا أبـي, عن أسبـاط, عن السدي, عن عديّ بن ثابت, عن البراء بن عازب فـي قول الله عزّ وجلّ {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ وَمِـمّا أخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} إلـى قوله: {وَاللّهُ غَنِـيّ حَمِيدٌ} قال: نزلت فـي الأنصار, كانت الأنصار إذا كان أيام جذاذ النـخـل أخرجت من حيطانها أقناء البسر, فعلقوه علـى حبل بـين الأسطوانتـين فـي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فـيأكل فقراء الـمهاجرين منه, فـيعمد الرجل منهم إلـى الـحشف فـيدخـله مع أقناء البسر, يظنّ أن ذلك جائز, فأنزل الله عزّ وجلّ فـيـمن فعل ذلك: {وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال لا تـيـمـموا الـحَشَفَ منه تنفقون.
حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, زعم السدي, عن عديّ بن ثابت, عن البراء بن عازب بنـحوه, إلا أنه قال: فكان يعمد بعضهم, فـيدخـل قنو الـحشف, ويظن أنه جائز عنه فـي كثرة ما يوضع من الأقناء, فنزل فـيـمن فعل ذلك: {وَلاَ تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} القنو الذي قد حَشِفَ, ولو أهدي إلـيكم ما قبلتـموه.
4937ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن السدي, عن أبـي مالك, عن البراء بن عازب, قال: كانوا يجيئون فـي الصدقة بأردإ تـمرهم وأردإ طعامهم, فنزلت: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ ما كَسَبْتُـمْ}... الآية.
4938ـ حدثنـي عصام بن رواد, قال: حدثنا أبـي, قال: حدثنا أبو بكر الهذلـي, عن ابن سيرين, عن عبـيدة السلـمانـي, قال: سألت علـيا عن قول الله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبـاتِ ما كَسَبْتُـمْ وَمِـمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلاَ تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: فقال علـي: نزلت هذه الآية فـي الزكاة الـمفروضة, كان الرجل يعمد إلـى التـمر فـيصرمه, فـيعزل الـجيد ناحية, فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء, فقال عزّ وجلّ: {وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}.
4939ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثنـي عبد الـجلـيـل بن حميد الـيحصبـي, أن ابن شهاب حدثه, قال: ثنـي أبو أمامة بن سهل بن حنـيف فـي الآية التـي قال الله عزّ وجلّ: {وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: هو الـجُعْرُور, ولون حُبَـيْق, فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ فـي الصدقة.
4940ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {وَلاَ تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: كانوا يتصدّقون, يعنـي من النـخـل بحشفه وشراره, فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتصدّقوا بطيبه.
4941ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ} إلـى قوله: {وَاعْلَـمُوا أنّ اللّهَ غَنِـيّ حَمِيدٌ} ذكر لنا أن الرجل كان يكون له الـحائطان علـى عهد نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم, فـيعمد إلـى أردئهما تـمرا فـيتصدّق به ويخـلط فـيه من الـحشف, فعاب الله ذلك علـيهم ونهاهم عنه.
4942ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: تعمد إلـى رذالة مالك فتصدّق به, ولست بآخذه إلا أن تغمض فـيه.
4943ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن يزيد بن إبراهيـم, عن الـحسن قال: كان الرجل يتصدّق برذالة ماله, فنزلت: {وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثِ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}.
4944ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنا عبد الله بن كثـير أنه سمع مـجاهدا يقول: {وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: فـي الأقناء التـي تعلّق, فرأى فـيها حشفـا, فقال: «ما هذا؟». قال ابن جريج: سمعت عطاء يقول: علق إنسان حشفـا فـي الأقناء التـي تعلق بـالـمدينة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هَذَا؟ بِئْسَمَا عَلّقَ هَذَا!» فنزلت: {وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تـيـمـموا الـخبـيث من الـحرام منه تنفقون, وتدعوا أن تنفقوا الـحلال الطيب. ذكر من قال ذلك:
4945ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وسألته عن قول الله عزّ وجلّ: {وَلاَ تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: الـخبـيث: الـحرام, لا تتـيـمه: تنفق منه, فإن الله عزّ وجلّ لا يقبله.
وتأويـل الآية: هو التأويـل الذي حكيناه عمن حكينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفـاق أهل التأويـل فـي ذلك دون الذي قاله ابن زيد.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ}.
(يعنـي بذلك جل ثناؤه: ولستـم بآخذي الـخبـيث فـي حقوقكم. والهاء فـي قوله: {بآخِذِيهِ} من ذِكر الـخبـيث. {إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ} يعنـي إلا أن تتـجافوا فـي أخذكم إياه عن بعض الواجب لكم من حقكم, فترخصوا فـيه لأنفسكم,) يقال منه: أغمض فلان لفلان عن بعض حقه فهو يغمض, ومن ذلك قول الطرِمّاح بن حكيـم:
لَـمْ يَفُتْنا بـالوِتْرِ قَوْمٌ وللضّيْــيْـمِ رِجالٌ يَرْضَوْنَ بـالإغْماضِ
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: ولستـم بآخذي هذا الرديء من غرمائكم فـي واجب حقوقكم قبلهم إلا عن إغماض منكم لهم فـي الواجب لكم علـيهم. ذكر من قال ذلك:
4946ـ حدثنا عصام بن رواد. قال: حدثنا أبـي, قال: حدثنا أبو بكر الهذلـي, عن مـحمد بن سيرين, عن عبـيدة قال: سألت علـيا عنه, فقال: {وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فـيه} يقول: ولا يأخذ أحدكم هذا الرديء حتـى يهضم له.
4947ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن السدي, عن أبـي مالك, عن البراء بن عازب: {وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ} يقول: لو كان لرجل علـى رجل فأعطاه ذلك لـم يأخذه إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه.
4948ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: حدثنا معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس قوله: {وَلاَ تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ}. يقول: لو كان لكم علـى أحد حقّ فجاءكم بحقّ دون حقكم, لـم تأخذوا بحساب الـجيد حتـى تنقصوه, فذلك قوله: {إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ} فكيف ترضون لـي ما لا ترضون لأنفسكم, وحقـي علـيكم من أطيب أموالكم وأنفسها؟ وهو قوله: {لَنْ تَنَالُوا البِرّ حتـى تُنْفِقُوا مِـمّا تُـحِبّونَ}.
4949ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ} قال: لا تأخذونه من غرمائكم ولا فـي بـيوعكم إلا بزيادة علـى الطيّب فـي الكيـل.
4950ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: حدثنا أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ ومِـمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ} وذلك أن رجالاً كانوا يعطون زكاة أموالهم من التـمر, فكانوا يعطون الـحشف فـي الزكاة, فقال: لو كان بعضهم يطلب بعضا ثم قضاه لـم يأخذه إلا أن يرى أنه قد أغمض عنه حقه.
4951ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: {وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ} يقول: لو كان لك علـى رجل دين فقضاك أردأ مـما كان لك علـيه هل كنت تأخذ ذلك منه إلا وأنت له كاره؟
4952ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا جويبر, عن الضحاك فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ} إلـى قوله: {إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ} قال: كانوا حين أمر الله أن يؤدوا الزكاة يجيء الرجل من الـمنافقـين بأردإ طعام له من تـمر وغيره, فكره الله ذلك, وقال: {أنْفِقُوا مِنْ طَيّبـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ وَمِـمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} يقول: لستـم بآخذيه إلا أن تغمضوا فـيه. يقول: لـم يكن رجل منكم له حقّ علـى رجل فـيعطيه دون حقه فـيأخذه إلا وهو يعلـم أنه قد نقصه, فلا ترضوا لـي ما لا ترضون لأنفسكم, فـيأخذ شيئا وهو مغمض علـيه أنقص من حقه.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولستـم بآخذي هذا الرديء الـخبـيث إذا اشتريتـموه من أهله بسعر الـجيد إلا بإغماض منهم لكم فـي ثمنه. ذكر من قال ذلك:
4953ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن عمران بن حدير, عن الـحسن: {وَلَسْتُـمْ بآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيـهِ} قال: لو وجدتـموه فـي السوق يبـاع ما أخذتـموه حتـى يُهضم لكم من ثمنه.
4954ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {وَلَسْتُـمْ بآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ} يقول: لستـم بآخذي هذا الرديء بسعر هذا الطيب إلا أن يغمض لكم فـيه.
وقال آخرون: معناه: ولستـم بآخذي هذا الرديء الـخبـيث لو أهدي لكم إلا أن تغمضوا فـيه, فتأخذوه وأنتـم له كارهون علـى استـحياء منكم مـمن أهداه لكم. ذكر من قال ذلك:
4955ـ حدثنـي الـحسين بن عمرو بن مـحمد العنقزي, قال: حدثنا أبـي, عن أسبـاط, عن السدي, عن عديّ بن ثابت, عن البراء بن عازب: {وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيه} قال: لو أهدي لكم ما قبلتـموه إلا علـى استـحياء من صاحبه أنه بعث إلـيك بـما لـم يكن له فـيه حاجة.
حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, قال: زعم السدي, عن عديّ بن ثابت, عن البراء نـحوه, إلا أنه قال: إلا علـى استـحياء من صاحبه وغيظا أنه بعث إلـيك بـما لـم يكن له فـيه حاجة.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولستـم بآخذي هذا الرديء من حقكم إلا أن تغمضوا من حقكم. ذكر من قال ذلك:
4956ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن ابن معقل: {وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ} يقول: ولستـم بآخذيه من حقّ هو لكم, إلا أن تغضموا فـيه, يقول: أغمض لك من حقك.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولستـم بآخذي الـحرام إلا أن تغمضوا علـى ما فـيه من الإثم علـيكم فـي أخذه. ذكر من قال ذلك:
4957ـ حدثنـي يونس, قال: حدثنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وسألته عن قوله: {وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ} قال: يقول: لست آخذا ذلك الـحرام حتـى تغمض علـى ما فـيه من الإثم ـ قال: وفـي كلام العرب: أما والله لقد أخذه ولقد أغمض علـى ما فـيه ـ وهو يعلـم أنه حرام بـاطل.
(والذي هو أولـى بتأويـل ذلك عندنا أن يقال: إن الله عزّ وجلّ حثّ عبـاده علـى الصدقة وأداء الزكاة من أموالهم وفرضها علـيهم فـيها, فصار ما فرض من ذلك فـي أموالهم حقا لأهل سهمان الصدقة, ثم أمرهم تعالـى ذكره أن يخرجوا من الطيبِ, وهو الـجيد من أموالهم, الطيبَ, وذلك أن أهل السهمان شركاء أربـاب الأموال فـي أموالهم بـما وجب لهم فـيها من الصدقة بعد وجوبها, فلا شكّ أن كل شريكين فـي مال فلكلّ واحد منهما بقدر ملكه, ولـيس لأحدهما منع شريكه من حقه من الـملك الذي هو فـيه شريكه بإعطائه بـمقدار حقه منه من غيره, مـما هو أردأ منه أو أخسّ, فكذلك الـمزكي ماله حرم الله علـيه أن يعطي أهل السهمان مـما وجب لهم فـي ماله من الطيب الـجيد من الـحقّ, فصاروا فـيه شركاء من الـخبـيث الرديء غيره, ويـمنعهم ما هو لهم من حقوقهم فـي الطيب من ماله الـجيد, كما لو كان مال ربّ الـمال رديئا كله غير جيد, فوجبت فـيه الزكاة وصار أهل سهمان الصدقة فـيه شركاء بـما أوجب الله لهم فـيه لـم يكن علـيه أن يعطيهم الطيب الـجيد من غير ماله الذي منه حقهم, فقال تبـارك وتعالـى لأربـاب الأموال: زكوا من جيد أموالكم الـجيد, ولا تـيـمـموا الـخبـيث الرديء, تعطونه أهل سهمان الصدقة, وتـمنعونهم الواجب لهم من الـجيد الطيب فـي أموالكم, ولستـم بآخذي الرديء لأنفسكم مكان الـجيد الواجب لكم قِبل من وجب لكم علـيه ذلك من شركائكم وغرمائكم وغيرهم إلا عن إغماض منكم وهضم لهم وكراهة منكم لأخذه. يقول: ولا تأتوا من الفعل إلـى من وجب له فـي أموالكم حقّ ما لا ترضون من غيركم أن يأتـيه إلـيكم فـي حقوقكم الواجبة لكم فـي أموالهم¹ فأما إذا تطوّع الرجل بصدقة غير مفروضة فإنـي وإن كرهت له أن يعطي فـيها إلا أجود ماله وأطيبه¹ لأن الله عزّ وجلّ أحقّ من تقرّب إلـيه بأكرم الأموال وأطيبها, والصدقة قربـان الـمؤمن, فلست أحرّم علـيه أن يعطي فـيها غير الـجيد, لأن ما دون الـجيد ربـما كان أعمّ نفعا لكثرته, أو لعظم خطره, وأحسن موقعا من الـمسكين, ومـمن أعطيه قربة إلـى الله عزّ وجلّ من الـجيد, لقلته أو لصغر خطره وقلة جدوى نفعه علـى من أعطيه.)
وبـمثل ما قلنا فـي ذلك قال جماعة أهل العلـم. ذكر من قال ذلك:
4958ـ حدثنا مـحمد بن عبد الـملك بن أبـي الشوارب, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سلـمة بن علقمة, عن مـحمد بن سيرين, قال: سألت عبـيدة عن هذه الآية: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ ما كَسَبْتُـمْ ومِـمّا أخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلاَ تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ} قال: ذلك فـي الزكاة, الدرهم الزائف أحبّ إلـيّ من التـمرة.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: حدثنا سلـمة بن علقمة, عن مـحمد بن سيرين, قال: سألت عبـيدة عن ذلك, فقال: إنـما ذلك فـي الزكاة, والدرهم الزائف أحبّ إلـيّ من التـمرة.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, عن هشام, عن ابن سيرين, قال: سألت عبـيدة عن هذه الآية: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ وَمِـمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ} فقال عبـيدة: إنـما هذا فـي الواجب, ولا بأس أن يتطوّع الرجل بـالتـمرة, والدرهم الزائف خير من التـمرة.
4959ـ حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا ابن إدريس, عن هشام, عن ابن سيرين فـي قوله: {وَلاَ تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: إنـما هذا فـي الزكاة الـمفروضة, فأما التطوّع فلا بأس أن يتصدّق الرجل بـالدرهم الزائف, والدرهم الزائف خير من التـمرة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاعْلَـمُوا أنّ اللّهَ غَنِـيّ حَمِيدٌ}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: واعلـموا أيها الناس أن الله عزّ وجلّ غنـيّ عن صدقاتكم وعن غيرها, وإنـما أمركم بها, ورفضها فـي أموالكم, رحمة منه لكم لـيغنـي بها عائلكم, ويقوّي بها ضعيفكم, ويجزل لكم علـيها فـي الاَخرة مثوبتكم, لا من حاجة به فـيها إلـيكم. ويعنـي بقوله: {حَمِيدٌ} أنه مـحمود عند خـلقه بـما أولاهم من نعمه, وبسط لهم من فضله. كما:
4960ـ حدثنـي الـحسين بن عمرو بن مـحمد العنقزي, قال: حدثنا أبـي, عن أسبـاط, عن السدي, عن عديّ بن ثابت, عن البراء بن عازب فـي قوله: {وَاللّهُ غَنِـيّ حَمِيدٌ} عن صدقاتكم.
الآية : 268
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{الشّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللّهُ يَعِدُكُم مّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
يعنـي بذلك تعالـى ذكره: الشيطان يعدكم أيها الناس ـ بـالصدقة وأدائكم الزكاة الواجبة علـيكم فـي أموالكم ـ أن تفتقروا, {ويأْمُرُكُمْ بـالفَحْشَاءِ} يعنـي: ويأمركم بـمعاصي الله عزّ وجلّ, وترك طاعته {وَالله يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ} يعنـي أن الله عزّ وجلّ يعدكم أيها الـمؤمنون, أن يستر علـيكم فحشاءكم بصفحه لكم عن عقوبتكم علـيها, فـيغفر لكم ذنوبكم بـالصدقة التـي تتصدّقون. {وَفَضْل} يعنـي: ويعدكم أن يخـلف علـيكم من صدقتكم, فـيتفضل علـيكم من عطاياه ويسبغ علـيكم فـي أرزاقكم. كما:
4961ـ حدثنا مـحمد بن حميد, قال: حدثنا يحيـى بن واضح, قال: حدثنا الـحسين بن واقد, عن يزيد النـحوي, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: اثنان من الله, واثنان من الشيطان, الشيطان يعدكم الفقر يقول: لا تنفق مالك, وأمسكه علـيك, فإنك تـحتاج إلـيه, ويأمركم بـالفحشاء¹ والله يعدكم مغفرة منه علـى هذه الـمعاصي وفضلاً فـي الرزق.
4962ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {الشّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيأْمُرُكُمْ بـالفَحْشاءِ وَاللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْل} يقول: مغفرة لفحشائكم, وفضلاً لفقركم.
4963ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا أبو الأحوص, عن عطاء بن السائب, عن مرة, عن عبد الله, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ للشّيْطانِ لَـمّةً مِنْ ابْنِ آدَمَ وللْـمَلَكَ لَـمّةً: فأمّا لَـمّةٌ الشّيْطانِ: فإيعادٌ بـالشّرّ, وَتَكْذِيبٌ بـالـحَقّ¹ وأمّا لَـمّةُ الـمَلَكِ: فإيعادٌ بـالـخَيْرِ, وَتَصْدِيقٌ بـالـحَقّ. فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْـيَعْلَـمْ أنّهُ مِنَ اللّهِ وَلْـيَحْمَدِ اللّهَ, وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى فَلْـيَتَعَوّذْ بـاللّهِ مِنَ الشّيْطَانِ», ثُمّ قَرأ {الشّيطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيأْمُرُكُمْ بـالفَحْشاءِ}.
4964ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا الـحكيـم بن بشير بن سلـيـمان, قال: حدثنا عمرو, عن عطاء بن السائب, عن مرة, عن عبد الله, قال: إن للإنسان من الـمَلك لـمة, ومن الشيطان لـمة¹ فـاللـمة من الـمَلك: إيعاد بـالـخير, وتصديق بـالـحقّ, واللـمة من الشيطان: إيعاد بـالشرّ, وتكذيب بـالـحقّ. وتلا عبد الله: {الشّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرْكُمْ بـالفَحْشاءِ وَاللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْل}. قال عمرو: وسمعنا فـي هذا الـحديث أنه كان يقال: إذا أحسّ أحدكم من لـمة الـملك شيئا فلـيحمد الله, ولـيسأله من فضله, وإذا أحسّ من لـمة الشيطان شيئا, فلـيستغفر الله ولـيتعوّذ من الشيطان.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: حدثنا عطاء بن السائب, عن أبـي الأحوص, أو عن مرّة, قال: قال عبد الله: ألا إن للـملك لـمة, وللشيطان لـمة¹ فلـمة الـملك: إيعاد بـالـخير وتصديق بـالـحق, ولـمة الشيطان: إيعاد بـالشرّ وتكذيب بـالـحقّ¹ وذلكم بأن الله يقول: {الشّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيأمُرُكُمْ بـالفَحْشَاءِ واللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَالله وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ} فإذا وجدتـم من هذه شيئا فـاحمدوا الله علـيه, وإذا وجدتـم من هذه شيئا فتعوّذوا بـالله من الشيطان.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الزهري, عن عبـيد الله بن عبد الله بن عتبة, عن عبد الله بن مسعود فـي قوله: {الشّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأمُرُكُمْ بـالفَحْشاءِ} قال: إن للـملك لـمة, وللشيطان لـمة¹ فلـمة الـملك¹ إيعاد بـالـخير وتصديق بـالـحقّ, فمن وجدها فلـيحمد الله¹ ولـمة الشيطان: إيعاد بـالشرّ وتكذيب بـالـحقّ, فمن وجدها فلـيستعذ بـالله.
حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا حجاج بن الـمنهال, قال: حدثنا حماد بن سلـمة, قال: أخبرنا عطاء بن السائب, عن مرة الهمدانـي أن ابن مسعود قال: إن للـملك لـمة, وللشيطان لـمة¹ فلـمة الـملك: إيعاد بـالـخير وتصديق بـالـحقّ, ولـمة الشيطان: إيعاد بـالشرّ وتكذيب بـالـحقّ. فمن أحسّ من لـمة الـملك شيئا فلـيحمد الله علـيه, ومن أحسّ من لـمة الشيطان شيئا فلـيتعوّذ بـالله منه. ثم تلا هذه الآية: {الشّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيأمُرُكُمْ بـالفَحْشَاءِ وَاللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَالله وَاسعٌ عَلِـيـمٌ}.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن فطر, عن الـمسيب بن رافع, عن عامر بن عبدة, عن عبد الله, بنـحوه.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن مرّة بن شراحيـل, عن عبد الله بن مسعود, قال: إن للشيطان لـمة, وللـملك لـمة, فأما لـمة الشيطان فتكذيب بـالـحقّ وإيعاد بـالشرّ. وأما لـمة الـملك: فإيعاد بـالـخير وتصديق بـالـحقّ. فمن وجد ذلك فلـيعلـم أنه من الله ولـيحمد الله علـيه. ومن وجد الأخرى فلـيستعذ من الشيطان. ثم قرأ: {الشّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بـالفَحْشاءِ وَاللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْل}.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ}.
(يعنـي تعالـى ذكره: والله واسع الفضل الذي يعدكم أن يعطيكموه من فضله وسعة خزائنه, علـيـم بنفقاتكم وصدقاتكم التـي تنفقون وتصدّقون بها, يحصيها لكم حتـى يجازيكم بها عند مقدمكم علـيه فـي آخرتكم.
الآية : 269
القول في تأويل قوله تعالى:
{يُؤّتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبَابِ }
يعني بذلك جل ثناؤه: يؤتي الله الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده, ومن يؤت الإصابة في ذلك منهم, فقد أوتي خيراً كثيراً.
واختلف أهل التأويل في ذلك, فقال بعضهم: الحكمة التي ذكرها الله في هذا الموضع هي القرآن والفقه به. ذكر من قال ذلك:
4965ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس في قوله: وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً يعني المعرفة بالقرآن, ناسخه ومنسوخه, ومحكمه ومتشابهه, ومقدّمه ومؤخره, وحلاله وحرامه, وأمثاله.
4966ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: يُوْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ قال: الحكمة: القرآن, والفقه في القرآن.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً والحكمة: الفقه في القرآن.
4967ـ حدثنا محمد بن عبد الله الهلالي, قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم, قال: حدثنا مهدي بن ميمون, قال: حدثنا شعيب بن الحبحاب, عن أبي العالية: وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً قال: الكتاب والفهم فيه.
4968ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد قوله: يُوْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ... الآية, قال: ليست بالنبوّة, ولكنه القرآن والعلم والفقه.
4969ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس: الفقه في القرآن.
وقال آخرون: معنى الحكمة: الإصابة في القول والفعل. ذكر من قال ذلك:
4970ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, قال: سمعت مجاهداً قال: وَمَنْ يُءَوتَ الحِكْمَةَ قال: الإصابة.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله عزّ وجل: يُءَوتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ قال: يؤتي إصابته من يشاء.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: يُؤْتِي الحِكَمَةَ مَنْ يَشَاءُ قال: الكتاب, يؤتي إصابته.
وقال آخرون: هو العلم بالدين. ذكر من قال ذلك:
4971ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ العقل في الدين, وقرأ: وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً.
4972ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: الحكمة: العقل.
4973ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قلت لمالك: وما الحكمة؟ قال: المعرفة بالدين, والفقه فيه, والاتباع له.
وقال آخرون: الحكمة: الفهم. ذكر من قال ذلك:
4974ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي قال: حدثنا سفيان, عن أبي حمزة, عن إبراهيم, قال: الحكمة: هي الفهم. وقال آخرون: هي الخشية. ذكر من قال ذلك:
4975ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ... الآية, قال: الحكمة: الخشية, لأن رأس كل شيء خشية الله, وقرأ: إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ.
وقال آخرون: هي النبوّة. ذكر من قال ذلك:
4976ـ حدثني موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السدي قوله: يُؤتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُءَوَت الحِكْمَةَ... الآية. قال: الحكمة: هي النبوّة.
وقد بينا فيما مضى معنى الحكمة, وأنها مأخوذة من الحكم وفصل القضاء, وأنها الإصابة بما دلّ على صحته, فأغنى ذلك عن تكريره في هذا الموضع. فإذا كان ذلك كذلك معناه, كان جميع الأقوال التي قالها القائلون الذين ذكرنا قولهم في ذلك داخلاً فيما قلنا من ذلك, لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة. وإذا كان ذلك كذلك كان المصيب عن فهم منه بمواضعٍ الصواب في أموره فهماً خاشياً لله فقيهاً عالماً, وكانت النبوّة من أقسامه, لأن الأنبياء مسددون مفهّمون, وموفّقون لإصابة الصواب في بعض الأمور, والنبوّة بعض معاني الحكمة.
فتأويل الكلام: يؤتي الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء, ومن يؤته الله ذلك فقد آتاه خيراً كثيراً.
القول في تأويل قوله تعالى: وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُولُوا الألْبَابِ.
يعني بذلك جل ثناؤه: وما يتعظ بما وعظ به ربه في هذه الاَيات التي وعظ فيها المنفقين أموالهم بما وعظ به غيرهم فيها, وفي غيرها من آي كتابه, فيذكر وعده ووعيده فيها, فينزجر عما زجره عنه ربه, ويطيعه فيما أمره به, إِلاّ أُولُوا أَلالْبَابِ, يعني: إلا أولوا العقول الذين عقلوا عن الله عزّ وجلّ أمره ونهيه. فأخبر جل ثناؤه أن المواعظ غير نافعة إلا أولي الحِجا والحلوم, وأن الذكرى غير ناهية إلا أهل النّهَى والعقول