تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 44 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 44

043

قوله: 260- " وإذ " ظرف منصوب بفعل محذوف: أي اذكر وقت قول إبراهيم، وإنما كان الأمر بالذكر موجهاً إلى الوقت دون ما وقع فيه مع كونه المقصود لقصد المبالغة، لأن طلب وقت الشيء يستلزم طلبه بالأولى، وهكذا يقال في سائر المواضع الواردة في الكتاب العزيز يمثل هذا الظرف. وقوله: "رب" آثره على غيره لما فيه من الاستعطاف الموجب لقبول ما يرد بعده من الدعاء. وقوله: "أرني" قال الأخفش: لم يرد رؤية القلب، وإنما أراد رؤية العين وكذا قال غيره، ولا يصح أن يراد الرؤية القلبية هنا، لأن مقصود إبراهيم أن يشاهد الإحياء لتحصل له الطمأنينة والهمزة الداخلة على الفعل لقصد تعديته إلى المفعول الثاني وهو الجملة: أعني قوله: "كيف تحيي الموتى" وكيف في محل نصب على التشبيه بالظرف أو بالحال والعامل فيها الفعل الذي بعدها. وقوله: " أولم تؤمن " عطف على مقدر أي ألم تعلم ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء حتى تسألني إراءته: "قال بلى" علمت وآمنت بأنك قادر على ذلك، ولكن سألت ليطمئن قلبي باجتماع دليل العيان إلى دلائل الإيمان. وقد ذهب الجمهور إلى أن إبراهيم لم يكن شاكاً في إحياء الموتى قط، وإنما طلب المعاينة لما جبلت عليه النفوس البشرية من رؤية ما أخبرت عنه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الخبر كالمعاينة". وحكى ابن جرير عن طائفة من أهل العلم أنه سأل ذلك لأنه شك في قدرة الله. واستدلوا بما صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من قوله: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" وبما روي عن ابن عباس أنه قال: "ما في القرآن عندي آية أرجى منها". وأخرجه عنه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه، ورجح هذا ابن جرير بعد حكايته له. قال ابن عطية: وهو عندي مردود، يعني قول هذه الطائفة، ثم قال: وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" فمعناه: أنه لو كان شاكاً لكنا نحن أحق به، ونحن لا نشك، فإبراهيم أحرى أن لا يشك. فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم. وأما قول ابن عباس: هي أرجى آية، فمن حيث أن فيها الإدلال على الله وسؤال الإحياء في الدنيا، وليست مظنة ذلك. ويجوز أن نقول هي أرجى آية لقوله: "أولم تؤمن" أي أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير وبحث، قال: فالشك يبعد على من ثبت قدمه في الإيمان فقط، فكيف بمرتبة النبوة والخلة؟ والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً، وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر الألفاظ للآية لم تعط شكاً، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا، ومتى قلت: كيف ثوبك؟ وكيف زيد؟ فإنما السؤال عن حال من أحواله. وقد تكون كيف خبراً عن شيء شأنه أن يستفهم عنه بكيف نحو قولك: كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحي؟ وهي في هذه الآية استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، مثال ذلك أن يقول مدع: أنا أرفع هذا الجبل، فيقول المكذب له: أرني كيف ترفعه. فهذه طريقة مجاز في العبارة ومعناها تسليم جدل، فيقول المكذب له: أرني كيف ترفعه. فهذه طريقة مجاز في العبارة ومعناها تسليم جدل، كأنه يقول: افرض أنك ترفعه. فلما كان في عبارة الخليل هذا الاشتراك المجازي خلص الله له ذلك وحمله على أن بين له الحقيقة فقال له: " أولم تؤمن قال بلى " فكمل الأمر وتخلص من كل شيء، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة. قال القرطبي: هذا ما ذكره ابن عطية وهو بالغ، ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث. وقد أخبر الله سبحانه أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل: فقال: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان". وقال اللعين: "إلا عبادك منهم المخلصين" وإذا لم يكن له عليهم سلطنه فكيف يشككم، وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها، واتصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها فأراد أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين. فقوله: "أرني كيف" طلف مشاهدة الكيفية. قال الماوردي: وليست الألف في قوله: "أولم تؤمن" ألف الاستفهام، وإنما هي ألف إيجاب وتقرير كما قال جرير: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح والواو واو الحال، وتؤمن: معناه إيماناً مطلقاً دخل فيه فضل إحياء الموتى، والطمأنينة: اعتدال وسكون. وقال ابن جرير: معنى "ليطمئن قلبي" ليوقن. قوله: "فخذ أربعة من الطير" الفاء جواب شرط محذوف: أي إن أردت ذلك فخذ، والطير: اسم جمع لطائر كركب لراكب، أو جمع أو مصدر، وخص الطير بذلك، قيل: لأنه أقرب أنواع الحيوان إلى الإنسان، وقيل: إن الطير همته الطيران في السماء، والخليل كنت همته العلو، وقيل غير ذلك من الأسباب الموجبة لتخصيص الطير. وكل هذه لا تسمن ولا تغني من جوع وليست إلا خواطر أفهام وبوادر أذهان لا ينبغي أن تجعل وجوهاً لكلام الله، وعللاً لما يرد في كلامه، وهكذا قيل: ما وجه تخصيص هذا العدد فإن الطمأنينة تحصل بإحياء واحد؟ فقيل إن الخليل إنما سأل واحداً على عدد العبودية، فأعطى أربعاً على قدر الربوبية، وقيل إن الطيور الأربعة إشارة إلى الأركان الأربعة التي منها تتركب أركان الحيوان ونحو ذلك من الهذيان. قوله: "فصرهن إليك" قرئ بضم الصاد وكسرها: أي اضممهن إليك وأملهن واجمعهن، يقال: رجل أصور: إذا كان مائل العنق، ويقال صار الشيء يصوره: أماله. قال الشاعر: الله يعلم أنا في تلفتنا يوم الفراق إلى جيراننا صور وقيل معناه قطعتهن، يقال: صار الشيء يصوره: أي قطعته، ومنه قول توبة بن الحمير: فأدنت لي الأسباب حتى بلغتها بنهضي وقد كان اجتماعي يصورها أي يقطعها، وعلى هذا يكون قوله: "إليك" متعلقاً بقوله: "خذ". وقوله: "ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً" فيه الأمر بالتجزئة، لأن جعل كل جزء على جبل تستلزم تقدم التجزئة. قال الزجاج: المعنى ثم اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءاً، والجزء النصيب. وقوله: "يأتينك" في محل جزم على أنه جواب الأمر، ولكنه بني لأجل نون الجمع المؤنث. وقوله: "سعياً" المراد به الإسراع في الطيران أو المشي. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال: إن إبراهيم مر برجل ميت زعموا أنه حبشي على ساحل البحر، فرأى دواب البحر تخرج فتأكل منه، وسباع الأرض تأتيه فتأكل منه، والطير يقع عليه فيأكل منه، فقال إبراهيم عند ذلك: رب، هذه دواب البحر تأكل من هذا، وسباع الأرض والطير، ثم تميت هذه فتبلى ثم تحييها، فأرني كيف تحيي الموتى " قال أولم تؤمن " يا إبراهيم أني أحيي الموتى؟ "قال بلى" يا رب "ولكن ليطمئن قلبي" يقول: لأرى من آياتك وأعلم أنك قد أجبتني فقال الله: خذ أربعاً من الطير واصنع ما صنع، والطير الذي أخذ: وز، ورأل، وديك، وطاوس، أخذ نصفين مختلفين: ثم أتى أربعة أجبل، فجعل على كل جبل نصفين مختلفين وهو قوله: "ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً" ثم تنحى ورؤوسها تحت قدميه فدعا باسم الله الأعظم، فرجع كل نصف إلى نصفه، وكل ريش إلى طائره، ثم أقبلت تطير بغير رؤوس إلى قدميه تريد رؤوسها بأعناقها، فرفع قدميه فوضع كل طائر منها عنقه في رأسه فعادت كما كانت. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج أيضاً عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج أنها كانت جيفة حمار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "ولكن ليطمئن قلبي" يقول: أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فخذ أربعة من الطير" قال: الغرنوق، والطاوس، والديك، والحمامة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتمال عن مجاهد، قال: الأربعة من الطير: الديك، والطاوس، والغراب، والحمام. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عباس "فصرهن" قال: قطعهن. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال هي بالنبطية: شققهن. وأخرجا عنه أنه قال: "فصرهن" أوثقهن. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: وضعهن على سبعة أجبل، وأخذ الرؤوس بيده فجعل ينظر إلى القطرة تلقى القطرة والريشة تلقى الريشة حتى صرن أحياء ليس لهن رؤوس، فجئن إلى رؤوسهن فدخلن فيها.
قوله: 261- " كمثل حبة" لا يصح جعل هذا خبراً عن قوله: "مثل الذين ينفقون" لاختلافهما فلا بد من تقدير محذوف أما في الأول: أي مثل نفقة الذين ينفقون، أو في الثاني: أي كمثل زارع حبة، والمراد بالسبع السنابل هي التي تخرج في ساق واحد يتشعب منه سبع شعب في كل شعبة سنبلة، والحبة اسم لكل ما يزدرعه ابن آدم، ومنه قول المتلمس: آليت حب العراق الدهر أطعمه والحب يأكله في القرية السوس قيل: المراد بالسنابل هنا سنابل الدخن، فهو الذين يكون في السنبلة منه هذا العدد. وقال القرطبي: إن سنبل الدخن يجيء في السنبلة منه أكثر من هذا العدد بضعفين وأكثر على ما شاهدنا. قال ابن عطية: وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، وأما في سائر الحبوب فأكثر، ولكن المثال وقع بهذا القدر. وقال الطبري: إن قوله: "في كل سنبلة مائة حبة" معناه إن وجد ذلك وإلا فعلى أن تفرضه. قوله: "والله يضاعف لمن يشاء" يحتمل أن يكون المراد يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء أو يضاعف هذا العدد، فيزيد عليه أضعافه لمن يشاء وهذا هو الراجح لما سيأتي. وقد ورد القرآن بأن الحسنة بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية بأن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف فيبنى العام على الخاص، وهذا بناءً على أن سبيل الله هو الجهاد فقط، وأما إذا كان المراد به وجوه الخير فيخص هذا التضعيف إلى سبعمائة بثواب النفقات وتكون العشرة الأمثال فيما عدا ذلك.
قوله: 262- " الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله" هذه الجملة متضمنة لبيان كيفية الإنفاق الذي تقدم، أي هو إنفاق الذي ينفقون ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى: والمن هو ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها، وقيل المن: التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه، والمن من الكبائر كما ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب عظيم. والأذى: السب والتطاول والتشيكي. قال في الكشاف: ومعنى ثم إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى، وإن تركهما خير من نفس الإنفاق، كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدخول فيه بقوله: "ثم استقاموا" انتهى. وقد المن على الأذى لكثرة وقوعه ووسط كلمة "لا" للدلالة على سمول النفي. وقوله: "عند ربهم" فيه تأكيد وتشريف. وقوله: "ولا خوف عليهم" ظاهرة نفي الخوف عنهم في الدارين لما تفيده النكرة الواقعة في سياق النفي من الشمول، وكذلك "ولا هم يحزنون" يفيد دوام انتفاء الحزن عنهم.
قوله: 263- "معروف ومغفرة" قيل الخبر محذوف: أي أولى وأمثل، ذكره النحاس. قال: ويجوز أن يكون خبراً عن مبتدأ محذوف: أي الذي أمرتم به قول معروف. وقوله: "ومغفرة" مبتدأ أيضاً وخبره قوله: "خير من صدقة" وقيل: إن قوله: خير خبر عن قوله: قول معروف وعن قوله: ومغفرة وجاز الابتداء بالنكرتين لأن الأولى تخصصت بالوصف، والثانية بالعطف، والمعنى: أن القول المعروف من المسؤول للسائل وهو التأنس والترجية بما عند الله، والرد الجميل خير من الصدقة التي يتبعها أذى. وقد ثبت في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم: "الكلمة الطيبة صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق" وما أحسن ما قاله ابن دريد: لا تدخلنك ضجرة من سائل فلخير دهرك أن ترى مسؤولاً لا تجبهن بالـرد وجــه مؤمـل فبقــاء عـزك أن تـرى مأمـولاً والمراد بالمغفرة الستر للخلة، وسوء حالة المحتاج، والعفو عن السائل إذا صدر منه من الإلحاح ما يكدر صدر المسؤول، وقيل: المراد: أن العفو من جهة السائل، لأنه إذا رده رداً جميلاً عذره، وقيل المراد: فعل يؤدي إلى المغفرة خير من صدقة: أي غفران الله خير من صدقتكم. وهذه الجملة مستأنفة مقررة لترك اتباع المن والأذى للصدقة.
قوله: 264- "يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى" الإبطال للصدقات: إذهاب أثرها وإفساد منفعتها: أي لا تبطلوها بالمن والأذى أو بأحدهما. قوله: "كالذي" أي إبطالاً كإبطال الذي على أنه نعت لمصدر محذوف، ويجوز أن يكون حالاً: أي لا تبطلوا مشابهين للذي ينفق ماله رئاء الناس، وانتصاب رئاء على أنه علة لقوله: "ينفق" أي لأجل الرياء أو حال أي ينفق مرائياً لا يقصد بذلك وجه الله وثواب الآخرة، بل يفعل ذلك رياءً للناس استجلاباً لثنائهم عليه ومدحهم له، قيل: والمراد به المنافق بدليل قوله: "ولا يؤمن بالله واليوم الآخر". قوله: "فمثله كمثل صفوان" الصفوان الحجر الكبير الأملس. وقال الأخفش: صفوان جمع صفوانة. وقال الكسائي: صفوان واحد وجمعه صفي وأصفى، وأنكره المبرد. وقال النحاس: يجوز أن يكون جمعاً ويجوز أن يكون واحداً وهو أولى لقوله: "عليه تراب فأصابه وابل" والوابل المطر الشديد، مثل الله سبحانه هذا المنفق بصفوان عليه تراب يظنه الظان أرضاً منبتة طيبة، فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب وبقي صلداً: أي أجرد نقياً من التراب الذي كان عليه، فكذلك هذا المرائي فإن نفقته لا تنفعه كما لا ينفع المطر الواقع على الصفوان الذي عليه تراب قوله: "لا يقدرون على شيء مما كسبوا" أي: لا ينتفعون بما فعلوه رياءً ولا يجدون له ثواباً، والجملة مستانفة كأنه قيل: ماذا يكون حالهم حينئذ؟ فقيل: لا يقدرون إلخ، والضميران للموصول: أي كالذي باعتبار المعنى كما في قوله تعالى: " وخضتم كالذي خاضوا " أي الجنس أو الجمع أو الفريق.