تفسير الطبري تفسير الصفحة 442 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 442
443
441
 الآية : 28 -29
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىَ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مّنَ السّمَآءِ وَمَا كُنّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: وما أنزلنا علـى قوم هذا الـمؤمن الذي قتله قومه لدعائه إياهم إلـى الله ونصيحته لهم مِنْ بَعْدِهِ يعنـي: من بعد مهلكه مِنْ جُنْدٍ مِنَ السّماءِ.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى الـجند الذي أخبر الله أنه لـم ينزل إلـى قوم هذا الـمؤمن بعد قتلهموه فقال بعضهم: عُنِـي بذلك أنه لـم ينزل الله بعد ذلك إلـيهم رسالة, ولا بعث إلـيهم نبـيا. ذكر من قال ذلك:
22270ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: مِنْ جُنْدٍ مِنَ السّماءِ قال: رسالة.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حَكّام, عن عنبسة, عن مـحمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبـي بَزّة عن مـجاهد, مثله.
22271ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَما أنْزَلْنا عَلـى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السّماءِ وَما كُنّا مُنْزِلِـينَ قال: فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله إنْ كانَتْ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فإذَا هُمْ خامدُونَ.
وقال آخرون: بل عُنـي بذلك أن الله تعالـى ذكره لـم يبعث لهم جنودا يقاتلهم بها, ولكنه أهلكهم بصيحة واحدة. ذكر من قال ذلك:
22272ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي ابن إسحاق, عن بعض أصحابه, أن عبد الله بن مسعود, قال: غضب الله له, يعنـي لهذا الـمؤمن, لاستضعافهم إياه غضبةً لـم تبق من القوم شيئا, فعجّل لهم النقمة بـما استـحلوا منه, وقال: وَما أنْزَلْنا عَلـى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السمّاءِ وَما كُنّا مُنْزِلِـينَ يقول: ما كاثرناهم بـالـجموع: أي الأمر أيسر علـينا من ذلك إنْ كانَتْ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فإذَا هُمْ خامِدُونَ فأهلك الله ذلك الـملك وأهل أنطاكية, فبـادوا عن وجه الأرض, فلـم تبق منهم بـاقـية.
وهذا القول الثانـي أولـى القولـين بتأويـل الاَية, وذلك أن الرسالة لا يقال لها جند إلا أن يكون أراد مـجاهد بذلك الرّسُل, فـيكون وجها, وإن كان أيضا من الـمفهوم بظاهر الاَية بعيدا, وذلك أن الرسُل من بنـي آدم لا ينزلون من السماء والـخبر فـي ظاهر هذه الاَية عن أنه لـم ينزل من السماء بعد مَهْلِك هذا الـمؤمن علـى قومه جندا وذلك بـالـملائكة أشبه منه ببنـي آدم.
وقوله: إنْ كانَتْ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فإذَا هُمْ خامِدُونَ يقول: ما كانت هَلَكتهم إلا صيحة واحدة أنزلها الله من السماء علـيهم.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار إنْ كانَتْ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً نصبـا علـى التأويـل الذي ذكرت, وأنّ فـي «كانت» مضمرا. وذُكر عن أبـي جعفر الـمدنـي أنه قرأه: «إلاّ صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ» رفعا علـى أنها مرفوعة بكان, ولا مضمر فـي كان.
والصواب من القراءة فـي ذلك عندي النصب لإجماع الـحجة علـى ذلك, وعلـى أن فـي «كانت» مضمرا.
وقوله: فإذَا هُمْ خامِدُونَ يقول: فإذا هم هالكون.
الآية : 30
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مّن رّسُولٍ إِلاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: يا حسرةً من العبـاد علـى أنفسها وتندّما وتلهفـا فـي استهزائهم برسل الله ما يَأتِـيهِمْ مِنْ رَسُولٍ من الله إلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. وذُكر أن ذلك فـي بعض القراءات: «يا حَسْرَةَ العِبـادِ عَلـى أنْفُسِها». وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22273ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة يا حَسْرَةً عَلـى العِبـادِ: أي يا حسرة العبـاد علـى أنفسها علـى ما ضَيّعت من أمر الله, وفرّطت فـي جنب الله. قال: وفـي بعض القراءات: «يا حَسْرَةَ العِبـادِ عَلـى أنْفُسِها».
22274ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: يا حَسْرَةً عَلـى العِبـادِ قال: كان حسرةً علـيهم استهزاؤهم بـالرسل.
22275ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: يا حَسْرَةً عَلـى العِبـادِ يقول: يا ويلاً للعبـاد. وكان بعض أهل العربـية يقول: معنى ذلك: يا لها حسرةً علـى العبـاد.

الآية : 31-32
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ أَنّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ * وَإِن كُلّ لّمّا جَمِيعٌ لّدَيْنَا مُحْضَرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ألـم ير هؤلاء الـمشركون بـالله من قومك يا مـحمد كم أهلكنا قبلهم بتكذيبهم رسلنا, وكفرهم بآياتنا من القرون الـخالـية أنّهُمْ إلَـيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ يقول: ألـم يَرَوا أنهم إلـيهم لا يرجعون. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22276ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة أَلَـمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ القُرُونَ أنّهُمْ إلَـيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ قال: عاد وثمود, وقرون بـين ذلك كثـير.
و«كم» من قوله: كَمْ أهْلَكْنَا فـي موضع نصب إن شئت بوقوع يروا علـيها. وقد ذُكر أن ذلك فـي قراءة عبد الله: «أَلَـمْ يَرَوْا مَنْ أهْلَكْنا» وإن شئت بوقوع أهلكنا علـيها وأما «أنهم», فإن الألف منها فتـحت بوقوع يروا علـيها. وذُكر عن بعضهم أنه كسر الألف منها علـى وجه الاستئناف بها, وترك إعمال «يروا» فـيها.
وقوله: وإنْ كُلّ لـمّا جَميعٌ لَدَيْنا مُـحْضَرُونَ يقول تعالـى ذكره: وإن كل هذه القرون التـي أهلكناها والذين لـم نهلكهم وغيرهم عندنا يوم القـيامة جميعهم مـحضرون, كما:
22277ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد عن قتادة وَإنْ كُلّ لـمّا جَميعٌ لَدَيْنا مُـحْضَرُونَ أي هم يوم القـيامة.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض الكوفـيـين: «وَإنْ كُلّ لَـمَا» بـالتـخفـيف توجيها منهم إلـى أن ذلك «ما» أدخـلت علـيها اللام التـي تدخـل جوابـا لإنْ وأن معنى الكلام: وإن كلّ لـجميع لدينا مـحضرون. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة: لَـمّا بتشديد الـميـم. ولتشديدهم ذلك عندنا وجهان: أحدهما: أن يكون الكلام عندهم كان مرادا به: وإن كلّ لـمـما جميع, ثم حذفت إحدى الـميـمات لـما كثرت, كما قال الشاعر:
غَدَاةَ طَفَت عَلْـماءِ بَكْرُ بنُ وَائِلٍوَعُجنْا صُدُورَ الـخَيْـلِ نَـحْوَ تَـمِيـمِ
والاَخر: أن يكونوا أرادوا أن تكون لَـمّا بـمعنى إلا, مع إنْ خاصة فتكون نظيرة إنـما إذا وضعت موضع «إلا». وقد كان بعض نـحويـيّ الكوفة يقول: كأنها «لَـمْ» ضمت إلـيها «ما», فصارتا جميعا استثناء, وخرجتا من حدّ الـجحد. وكان بعض أهل العربـية يقول: لا أعرف وجه «لـمّا» بـالتشديد.
والصواب من القول فـي ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا الـمعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
الآية : 33-34
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَآيَةٌ لّهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنّاتٍ مّن نّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ }.
يقول تعالـى ذكره: ودلالة لهؤلاء الـمشركين علـى قُدرة الله علـى ما يشاء, وعلـى إحيائه من مات من خـلقه وإعادته بعد فنائه, كهيئته قبل مـماته إحياؤه الأرض الـميتة, التـي لا نبت فـيها ولا زرع بـالغيث الذي ينزله من السماء حتـى يخرج زرعها, ثم إخراجه منها الـحبّ الذي هو قوت لهم وغذاء, فمنه يأكلون.
وقوله: وَجَعَلْنا فِـيها جَنّاتٍ مِنْ نَـخِيـلٍ وأعْنابٍ يقول تعالـى ذكره: وجعلنا فـي هذه الأرض التـي أحيـيناها بعد موتها بساتـين من نـخيـل وأعناب وَفَجّرْنا فِـيها مِنَ العُيُونِ يقول: وأنبعنا فـيها من عيون الـماء.
الآية : 35
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: أنشأنا هذه الـجنات فـي هذه الأرض لـيأكل عبـادي من ثمره, وما عملت أيديهم يقول: لـيأكلوا من ثمر الـجنات التـي أنشأنا لهم, وما عملت أيديهم مـما غرسوا هم وزرعوا. و«ما» التـي فـي قوله: وَما عَمِلَتْهُ أيْدِيهِمْ فـي موضع خفض عطفـا علـى الثمر, بـمعنى: ومن الذي عملت وهي فـي قراءة عبد الله فـيـما ذُكر: «وَمـمّا عَمِلَتْهُ» بـالهاء علـى هذا الـمعنى فـالهاء فـي قراءتنا مضمرة, لأن العرب تضمرها أحيانا, وتظهرها فـي صلات: من, وما, والذي. ولو قـيـل: «ما» بـمعنى الـمصدر كان مذهبـا, فـيكون معنى الكلام: ومن عمل أيديهم. ولو قـيـل: إنها بـمعنى الـجحد ولا موضع لها كان أيضا مذهبـا, فـيكون معنى الكلام: لـيأكلوا من ثمره ولـم تعمله أيديهم. وقوله: أفَلا يَشْكُرُونَ يقول: أفلا يشكر هؤلاء القوم الذين رزقناهم هذا الرزق من هذه الأرض الـميتة التـي أحيـيناها لهم مَنْ رزقهم ذلك وأنعم علـيهم به؟.
الآية : 36
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {سُبْحَانَ الّذِي خَلَق الأزْوَاجَ كُلّهَا مِمّا تُنبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمّا لاَ يَعْلَمُونَ }.
يقول تعالـى ذكره تنزيها وتبرئة للذي خـلق الألوان الـمختلفة كلها من نبـات الأرض, ومن أنفسهم, يقول: وخـلق من أولادهم ذكورا وإناثا, ومـما لا يعلَـمون أيضا من الأشياء التـي لـم يطلعهم علـيها, خـلق كذلك أزواجا مـما يضيف إلـيه هؤلاء الـمشركون, ويصفونه به من الشركاء وغير ذلك.
الآية : 37 -38
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَآيَةٌ لّهُمُ الْلّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النّهَارَ فَإِذَا هُم مّظْلِمُونَ * وَالشّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }.
يقول تعالـى ذكره: ودلـيـل لهم أيضا علـى قدرة الله علـى فعل كل ما شاء اللّـيْـلُ نَسْلَـخُ مِنْهُ النّهارَ يقول: ننزع عنه النهار. ومعنى «منه» فـي هذا الـموضع: عنه, كأنه قـيـل: نسلَـخ عنه النهار, فنأتـي بـالظلـمة ونذهب بـالنهار. ومنه قوله: وَاتْلُ عَلَـيْهِمْ نَبَأَ الّذِي آتَـيْناهُ فـانْسَلَـخَ مِنْها: أي خرج منها وتركها, فكذلك انسلاخ اللـيـل من النهار. وقوله: فإذَا هُمْ مُظْلِـمُونَ يقول: فإذا هم قد صاروا فـي ظلـمة بـمـجيء اللـيـل. وقال قتادة فـي ذلك ما:
22278ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وآيَةٌ لَهُمُ اللّـيْـلُ نَسْلَـخُ مِنْهُ النّهارَ فإذَا هُمْ مُظْلِـمُونَ قال: يولـج اللـيـل فـي النهار, ويولـج النهار فـي اللـيـل.
وهذا الذي قاله قتادة فـي ذلك عندي, من معنى سلـخ النهار من اللـيـل, بعيد وذلك أن إيلاج اللـيـل فـي النهار, إنـما هو زيادة ما نقص من ساعات هذا فـي ساعات الاَخر, ولـيس السلْـخ من ذلك فـي شيء, لأن النهار يسلـخ من اللـيـل كله, وكذلك اللـيـل من النهار كله, ولـيس يولـج كلّ اللـيـل فـي كلّ النهار, ولا كلّ النهار فـي كلّ اللـيـل.
وقوله: والشّمْسُ تَـجْرِي لِـمُسْتَقَرّ لَهَا يقول تعالـى ذكره: والشمس تـجري لـموضع قرارها, بـمعنى: إلـى موضع قرارها وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر الرواية بذلك:
22279ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا جابر بن نوح, قال: حدثنا الأعمش, عن إبراهيـم التـيـمي, عن أبـيه, عن أبـي ذرّ الغفـاريّ, قال: كنت جالسا عند النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي الـمسجد, فلـما غَرَبت الشمس, قال: «يا أبـا ذَرّ هَلْ تَدْرِي أيْنَ تَذْهَبُ الشّمْسُ؟» قلت: الله ورسوله أعلـم, قال: «فإنها تذهب فتسجد بَـينَ يَدَيْ رَبّها, ثُمّ تَسْتأذِنُ بـالرّجُوعِ فَـيُؤْذَنُ لَهَا, وكأنّها قَدْ قِـيـلَ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ, فَتَطْلُعَ مِنْ مَكانِهَا, وَذلكَ مُسْتَقَرّها».
وقال بعضهم فـي ذلك بـما:
22280ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: والشّمْسُ تَـجْرِي لِـمُسْتَقَرّ لَهَا قال: وقت واحد لا تعدوه.
وقال آخرون: معنى ذلك: تـجري لـمـجرى لها إلـى مقادير مواضعها, بـمعنى: أنها تـجري إلـى أبعد منازلها فـي الغروب, ثم ترجع ولا تـجاوزه. قالوا: وذلك أنها لا تزال تتقدّم كل لـيـلة حتـى تنتهي إلـى أبعد مغاربها ثم ترجع.
وقوله: ذلكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِـيـمِ يقول: هذا الذي وصفنا من جري الشمس لـمستقرّ لها, تقدير العزيز فـي انتقامه من أعدائه, العلـيـم بـمصالـح خـلقه, وغير ذلك من الأشياء كلها, لا يخفـى علـيه خافـية.
الآية : 39 -40
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالْقَمَرَ قَدّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتّىَ عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلّيْلُ سَابِقُ النّهَارِ وَكُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }.
اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: وَالقَمَرَ قَدّرْناهُ مَنازِلَ فقرأه بعض الـمكيـين وبعض الـمدنـيـين وبعض البصريـين: «وَالقَمَرُ» رفعا عطفـا بها علـى الشمس, إذ كانت الشمس معطوفة علـى اللـيـل, فأتبعوا القمر أيضا الشمس فـي الإعراب, لأنه أيضا من الاَيات, كما اللـيـل والنهار آيتان, فعلـى هذه القراءة تأويـل الكلام: وآية لهم القمرُ قدّرناه منازل. وقرأ ذلك بعض الـمكيـين وبعض الـمدنـيـين وبعض البصريـين, وعامة قرّاء الكوفة نصبـا: وَالقَمَرَ قَدّرْناهُ بـمعنى: وقدّرنا القمر منازل, كما فعلنا ذلك بـالشمس, فردّوه علـى الهاء من الشمس فـي الـمعنى, لأن الواو التـي فـيها للفعل الـمتأخر.
والصواب من القول فـي ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان صحيحتا الـمعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب, فتأويـل الكلام: وآية لهم, تقديرنا القمر منازل للنقصان بعد تناهيه وتـمامه واستوائه, حتـى عاد كالعرجون القديـم والعرجون: من العذق من الـموضع النابت فـي النـخـلة إلـى موضع الشماريخ وإنـما شبهه جلّ ثناؤه بـالعرجون القديـم, والقديـم هو الـيابس, لأن ذلك من العِذْق, لا يكاد يوجد إلا متقوّسا منـحنـيا إذا قدم ويبس, ولا يكاد أن يُصاب مستويا معتدلاً, كأغصان سائر الأشجار وفروعها, فكذلك القمرُ إذا كان فـي آخر الشهر قبل استسراره, صار فـي انـحنائه وتقوّسه نظير ذلك العرجون. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22281ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: حتـى عادَ كالعُرْجُونِ القَدِيـمِ يقول: أصل العِذق العتـيق.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: حتـى عادَ كالعُرجُونَ القَديـم يعنـي بـالعُرجون: العذقَ الـيابس.
22282ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن عُلَـية, عن أبـي رجاء, عن الـحسن, فـي قوله: والقَمَرَ قَدّرْناهُ مَنازِلَ حتـى عادَ كالعُرْجُونِ القَدِيـمِ قال: كعِذْق النـخـلة إذا قدُم فـانـحنى.
22283ـ حدثنـي أحمد بن إبراهيـم الدورقـيّ, قال: حدثنا أبو يزيد الـخرّاز, يعنـي خالد بن حيان الرقّـي, عن جعفر بن برقان, عن يزيد بن الأصمّ فـي قوله: حتـى عادَ كالعُرْجُونَ القَدِيـمِ قال: عذق النـخـلة إذا قدُم انـحنى.
22284ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عيسى بن عبـيد, عن عكرمة, فـي قوله: كالعُرْجُونِ القَدِيـمِ قال: النـخـلة القديـمة.
22285ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة الأسدي, قال: حدثنا عبـيد الله بن موسى, قال: أخبرنا إسرائيـل, عن أبـي يحيى عن مـجاهد كالعُرْجُونِ القَدِيـمِ قال: العِذْق الـيابس.
22286ـ حدثنـي مـحمد بن عمر بن علـيّ الـمقدمي وابن سنان القزاز, قالا: حدثنا أبو عاصم والـمقدمي, قال: سمعت أبـا عاصم يقول: سمعت سلـيـمان التـيـمي فـي قوله: حتـى عادَ كالعُرْجُونِ القَدِيـمِ قال: العذْق.
22287ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة حتـى عادَ كالْعُرْجُونِ القَدِيـمِ قال: قدّره الله منازل, فجعل ينقص حتـى كان مثل عذق النـخـلة, شبهه بعذق النـخـلة.
وقوله: لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَها أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ يقول تعالـى ذكره: لا الشمس يصلـح لها إدراك القمر, فـيذهب ضوؤها بضوئه, فتكون الأوقات كلها نهارا لا لـيـل فـيها وَلا اللّـيْـلُ سابِقُ النّهارِ يقول تعالـى ذكره: ولا اللـيـل بفـائت النهار حتـى تذهب ظلـمته بضيائه, فتكون الأوقات كلها لـيلاً.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل علـى اختلاف منهم فـي ألفـاظهم فـي تأويـل ذلك, إلا أن معانـي عامتهم الذي قلناه. ذكر من قال ذلك:
22288ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام عن عنبسة, عن مـحمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبـي بَزّة, عن مـجاهد فـي قوله: لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ قال: لا يشبه ضَوءُها ضوء الاَخر, لا ينبغي لها ذلك.
22289ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ قال: لا يُشبه ضوء أحدهما ضوء الاَخر, ولا ينبغي ذلك لهما. وفـي قوله: وَلا اللّـيْـلُ سابِقُ النّهار قال: يتطالبـان حَثـيثـين ينسلـخ أحدهما من الاَخر.
22290ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا الأشجعيّ, عن سفـيان, عن إسماعيـل, عن أبـي صالـح: لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلا اللّـيْـلُ سابِقُ النّهارِ قال: لا يدرك هذا ضوءَ هذا ولا هذا ضوء هذا.
22291ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول, فـي قوله: لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وهذا فـي ضوء القمر وضوء الشمس, إذا طلعت الشمس لـم يكن للقمر ضوء, وإذا طلع القمر بضوئه لـم يكن للشمس ضوء ولاَ اللّـيْـلُ سابِقُ النّهارِ قال: فـي قضاء الله وعلـمه أن لا يفوت اللـيـل النهار حتـى يدركه, فـيذهب ظلـمته, وفـي قضاء الله أن لا يفوت النهار اللـيـل حتـى يدركه, فـيذهب بضوئه.
22292ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلا اللّـيْـلُ سابِقُ النّهارِ ولكلَ حدّ وعلـم لا يعدوه, ولا يقصر دونه إذا جاء سلطان هذا, ذهب سلطان هذا, وإذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان هذا. ورُوي عن ابن عبـاس فـي ذلك ما:
22293ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: لا الشّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلا اللّـيْـلُ سابِقُ النّهارِ يقول: إذا اجتـمعا فـي السماء كان أحدهما بـين يدي الاَخر, فإذا غابـا غاب أحدهما بـين يدي الاَخر.
وأن من قوله: أنْ تُدْرِكَ فـي موضع رفع بقوله: ينبغي. وقوله: وكُلّ فِـي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يقول: وكلّ ما ذكرنا من الشمس والقمر واللـيـل والنهار فـي فلك يَجْرُون. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
22294ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا أبو النعمان الـحكم بن عبد الله العجلـي, قال: حدثنا شعبة, عن مسلـم البطين, عن سعيد بن جُبَـير, عن ابن عبـاس وكُلّ فِـي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ قال: فـي فلك كفلك الـمِغْزَل.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الصمد, قال: حدثنا شعبة, قال: حدثنا الأعمش, عن مسلـم البطين, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, مثله.
22295ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد, قال: مـجرى كلّ واحد منهما, يعنـي اللـيـل والنهار, فـي فَلَك يسبحون: يجرون.
22296ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وكُلّ فِـي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ: أي فـي فلك السماء يسبحون.
22297ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وكُلّ فِـي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ دورانا, يقول: دورانا يسبحون يقول: يجرون.
22298ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وكُلّ فِـي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يعنـي: كلّ فـي فلك فـي السموات