تفسير الطبري تفسير الصفحة 457 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 457
458
456
 الآية : 62-64
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَىَ رِجَالاً كُنّا نَعُدّهُمْ مّنَ الأشْرَارِ * أَتّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَـرُ * إِنّ ذَلِكَ لَحَقّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النّارِ }.
يقول تعالـى ذكره: قال الطاغون الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم فـي هذه الاَيات, وهم فـيـما ذُكر أبو جهل والولـيد بن الـمُغيرة وذووهما: ما لَنا لا نَرَى رِجالاً يقول: ما بـالنا لا نرى معنا فـي النار رجالاً كُنّا نَعُدّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ يقول: كنا نعدّهم فـي الدنـيا من أشرارنا, وعنوا بذلك فـيـما ذُكر صُهَيْبـا وخَبّـابـا وبِلالاً وسَلْـمان. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
23079ـ حدثنـي مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن لـيث, عن مـجاهد, فـي قوله: ما لَنا لا نَرَى رِجالاً كُنّا نَعُدّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ قال: ذاك أبو جهل بن هشام والولـيد بن الـمغيرة, وذكر أناسا صُهيبـا وَعمّارا وخبّـابـا, كنّا نعدّهم من الأشرار فـي الدنـيا.
حدثنا أبو السائب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: سمعت لـيثا يذكر عن مـجاهد فـي قوله: وَقالُوا ما لَنا لا نَرَى رِجالاً كُنّا نَعُدّهُمْ مِنَ الأَشْرارِ قال: قالوا: أي سَلْـمان؟ أين خَبّـاب؟ أين بِلال؟.
وقوله: أتّـخَذْناهُمْ سِخْرِياّ اختلفت القرّاء فـي قراءته, فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والشام وبعض قرّاء الكوفة: أتّـخَذْناهُمْ بفتـح الألف من أتـخذناهم, وقطعها علـى وجه الاستفهام, وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة, وبعض قرّاء مكة بوصل الألف من الأشرار: «اتّـخَذْناهُمْ». وقد بـيّنا فـيـما مضى قبلُ, أن كلّ استفهام كان بـمعنى التعجب والتوبـيخ, فإن العرب تستفهم فـيه أحيانا, وتُـخرجه علـى وجه الـخبر أحيانا.
وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب قراءة من قرأه بـالوصل علـى غير وجه الاستفهام, لتقدّم الاستفهام قبلَ ذلك فـي قوله: ما لَنا لا نَرَى رِجالاً كُنّا فـيصير قوله: «اتّـخَذْناهُمْ» بـالـخبر أولـى وإن كان للاستفهام وجه مفهوم لـما وصفتُ قبلُ من أنه بـمعنى التعجب.
وإذ كان الصواب من القراءة فـي ذلك ما اخترنا لـما وصفنا, فمعنى الكلام: وقال الطاغون: ما لنا لا نرى سَلْـمان وبِلالاً وخَبّـابـا الذين كنّا نعدّهم فـي الدنـيا أشرارا, اتـخذناهم فـيها سُخريا نهزأ بهم فـيها معنا الـيوم فـي النار؟.
وكان بعض أهل العلـم بـالعربـية من أهل البصرة يقول: من كسر السين من السّخْرِي, فإنه يريد به الهُزء, يريد يسخر به, ومن ضمها فإنه يجعله من السّخْرَة, يستسخِرونهم: يستذِلّونهم, أزاغت عنهم أبصارنا وهم معنا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
23080ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن لـيث, عن مـجاهد أتّـخَذْناهُمْ سِخْرِيّا أمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ يقول: أهم فـي النار لا نعرف مكانهم؟.
23081ـ وحُدثت عن الـمـحاربـيّ, عن جَوَيبر, عن الضحاك وَقالُوا ما لَنا لا نَرىَ رِجالاً كُنّا نَعُدّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ قال: هم قوم كانوا يسخَرون من مـحمد وأصحابه, فـانطُلِق به وبأصحابه إلـى الـجنة وذُهِبَ بهم إلـى النار فقالُوا ما لَنا لا نَرَى رِجالاً كُنّا نَعُدّهُمْ مِنَ الأشْرارِ أَتّـخَذْناهُمْ سِخْريّا أمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الأبْصارُ يقولون: أزاغت أبصارنا عنهم فلا ندري أين هم؟.
23082ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: أَتّـخَذْناهُمْ سِخْريّا قال: أخطأناهم أمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الأبْصَارُ ولا نراهم؟.
23083ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَقالُوا ما لَنا لا نَرَى رجالاً كُنّا نَعُدّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ قال: فقدوا أهل الـجنة أَتّـخَذْناهُمْ سِخْريّا فـي الدنـيا أمْ زَاغَت عَنْهُمُ الأَبْصَارُ وهم معناه فـي النار.
وقوله: إنّ ذلكَ لَـحَقّ يقول تعالـى ذكره: إن هذا الذي أخبرتكم أيها الناس من الـخبر عن تراجع أهل النار, ولعْن بعضهم بعضا, ودعاء بعضهم علـى بعض فـي النار لـحقّ يقـين, فلا تشكّوا فـي ذلك, ولكن استـيقنوه تـخاصم أهل النار. وقوله: تَـخاصُمُ ردّ علـى قوله: لَـحَقّ. ومعنى الكلام: إن تـخاصم أهل النار الذي أخبرتكم به لـحقّ.
وكان بعض أهل العربـية من أهل البصرة يوجه معنى قوله: أمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الأبْصَارُ إلـى: بل زاغت عنهم.
23084ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: إنّ ذلكَ لَـحَقّ تـخاصُمُ أهْلِ النّارِ فقرأ: تاللّهِ إنْ كُنّا لَفِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ إذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العالَـمِينَ, وقرأ: يَوْمَ نَـحْشُرُهُمْ جَمِيعا... حتـى بلغ: إنْ كُنّا عَنْ عِبـادَتِكُمْ لَغافِلِـينَ قال: إن كنتـم تعبدوننا كما تقولون إن كنا عن عبـادتكم لغافلـين, ما كنا نسمع ولا نبصر, قال: وهذه الأصنام, قال: هذه خصومة أهل النار, وقرأ: وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ قال: وضلّ عنهم يوم القـيامة ما كانوا يفترون فـي الدنـيا.
الآية : 65-66
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَـَهٍ إِلاّ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ * رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفّارُ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا مـحمد لـمشركي قومك: إنّـمَا أنا مُنْذِرٌ لكم يا معشر قريش بـين يدي عذاب شديد, أنذركم عذاب الله وسخطه أن يحلّ بكم علـى كفركم به, فـاحذروه وبـادروا حلوله بكم بـالتوبة وَما مِنْ إلَهٍ إلاّ اللّهُ الوَاحِدُ القهّارُ يقول: وما من معبود تصلـح له العبـادة, وتنبغي له الربوبـية, إلا الله الذي يدين له كلّ شيء, ويعبدهُ كلّ خـلق, الواحد الذي لا ينبغي أن يكون له فـي ملكه شريك, ولا ينبغي أن تكون له صاحبة, القهار لكلّ ما دونه بقدرته, ربّ السموات والأرض, يقول: مالك السموات والأرض وما بـينهما من الـخـلق يقول: فهذا الذي هذه صفته, هو الإله الذي لا إله سواه, لا الذي لا يـملك شيئا, ولا يضرّ, ولا ينفع. وقوله: العَزِيرُ الغَفّـارُ يقول: العزيز فـي نقمته من أهل الكفر به, الـمدّعين معه إلها غيره, الغفّـار لذنوب من تاب منهم ومن غيرهم من كفره ومعاصيه, فأناب إلـى الإيـمان به, والطاعة له بـالانتهاء إلـى أمره ونهيه.
الآية : 67-70
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَـَلإِ الأعْلَىَ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يُوحَىَ إِلَيّ إِلاّ أَنّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مّبِينٌ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا مـحمد لقومك الـمكذّبـيك فـيـما جئتهم به من عند الله من هذا القرآن, القائلـين لك فـيه: إن هذا إلا اختلاق هُوَ نَبأٌ عَظِيـمٌ يقول: هذا القرآن خبر عظيـم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
23085ـ حدثنـي عبد الأعلـى بن واصل الأسدي, قال: حدثنا أبُو أُسامة, عن شبل بن عبـاد, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: قُلْ هُوَ نَبأٌ عَظِيـمٌ أنْتُـمْ مُعْرِضُونَ قال: القرآن.
23086ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا هشام, عن ابن سيرين, عن شريح, أن رجلاً قال له: أتقضي علـيّ بـالنبأ؟ قال: فقال له شريح: أوَ لَـيْس القرآن نبأ؟ قال: وتلا هذه الاَية: قُلْ هُوَ نَبأٌ عَظِيـمٌ قال: وقَضَى علـيه.
23087ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: قُلْ هُو نَبأٌ عَظِيـمٌ أنْتُـمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ قال: القرآن. وقوله: أنْتُـمْ عَنهُ مُعْرِضُونَ يقول: أنتـم عنه منصرفون لا تعملون به, ولا تصدّقون بـما فـيه من حجج الله وآياته.
وقوله: ما كانَ لِـيَ مِنْ عِلْـمٍ بـالـمَلإِ الأَعْلَـى يقول لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد لـمشركي قومك: ما كان لِـيَ من علـم بـالـملأ الأعلـى إذّ يَخْتَصِمُونَ فـي شأن آدم من قبل أن يوحي إلـيّ ربّـي فـيعلـمنـي ذلك, يقول: ففـي إخبـاري لكم عن ذلك دلـيـل واضح علـى أن هذا القرآن وحي من الله وتنزيـل من عنده, لأنكم تعلـمون أن علـم ذلك لـم يكن عندي قبل نزول هذا القرآن, ولا هو مـما شاهدته فعاينته, ولكنـي علـمت ذلك بإخبـار الله إياي به. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
23088ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: ما كانَ لِـيَ مِنْ عِلْـمٍ بـالـمَلإٍ الأَعْلَـى إذْ يَخْتَصِمُونَ قال: الـملأ الأعلـى: الـملائكة حين شووروا فـي خـلق آدم, فـاختصموا فـيه, وقالوا: لا تـجعل فـي الأرض خـلـيفة.
23089ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ بـالـمَلإِ الأَعْلَـى إذْ يَخْتَصِمَونَ هو: إذْ قالَ رَبّكَ للْـمَلائِكَةِ إنّـي جاعِلٌ فِـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً.
23090ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ما كانَ لِـيَ مِنْ عِلْـمٍ بـالـمَلإِ الأعْلـى قال: هم الـملائكة, كانت خصومتهم فـي شأن آدم حين قال ربك للـملائكة: إنّـي خالِقٌ بَشَرا مِنْ طِينٍ... حتـى بلغ ساجِدينَ, وحين قال: إنّـي جاعِلٌ فِـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً... حتـى بلغ وَيَسْفِكَ الدّماءَ, ففـي هذا اختصم الـملأ الأعلـى.
وقوله: إنْ يُوحَى إلـيّ إلاّ أنّـمَا أنا نَذِيرٌ مُبِـينٌ يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد لـمشركي قريش: ما يوحي الله إلـيّ علـم ما لا علـم لـي به, من نـحو العلـم بـالـملأ الأعلـى واختصامهم فـي أمر آدم إذا أراد خَـلقه, إلا لأنـي إنـما أنا نذير مبـين «فإنـما» علـى هذا التأويـل فـي موضع خفض علـى قول من كان يرى أن مثل هذا الـحرف الذي ذكرنا لا بد له من حرف خافض, فسواءٌ إسقاط خافضه منه وإثبـاته. وإما علـى قول من رأى أن مثل هذا ينصب إذا أسقط منه الـخافض, فإنه علـى مذهبه نصب, وقد بـيّنا ذلك فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
وقد يتـجه لهذا الكلام وجه آخر, وهو أن يكون معناه: ما يوحي الله إلـى إنذاركم. وإذا وجه الكلام إلـى هذا الـمعنى, كانت «أنـما» فـي موضع رفع, لأن الكلام يصير حينئذٍ بـمعنى: ما يوحَى إلـيّ إلا الإنذار.
قوله: إلا أنـما أنا نَذِيرٌ مُبِـينٌ يقول: إلا أنـي نذير لكم مُبِـين لكم إنذاره إياكم. وقـيـل: إلا أنـما أنا, ولـم يقل: إلا أنـما أنك, والـخبر من مـحمد عن الله, لأن الوحْي قول, فصار فـي معنى الـحكاية, كما يقال فـي الكلام: أخبرونـي أنـي مسيء, وأخبرونـي أنك مسيء بـمعنى واحد, كما قال الشاعر:
رَجُلانِ مِنْ ضَبّةَ أخْبَرَانا أنّا رأيْنا رَجُلاً عُرْيانا.
بـمعنى: أخبرانا أنهما رأيا, وجاز ذلك لأن الـخبر أصله حكاية.

الآية : 71 -74
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ * فَإِذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُـلّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }.
وقوله: إذْ قالَ رَبّكَ من صلة قوله: إذْ يَخْتَصِمُونَ, وتأويـل الكلام: ما كان لـي من علـم بـالـملأ الأعلـى إذ يختصمون حين قال ربك يا مـحمد للْـمَلائِكَةِ إنّـي خالِقٌ بَشَرا مِنْ طِينٍ يعنـي بذلك خـلق آدم.
وقوله: فإذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِـيهِ مِنْ رُوحي يقول تعالـى ذكره: فإذا سوّيت خـلقه, وعَدّلْت صورته, ونفخت فـيه من روحي, قـيـل: عنى بذلك: ونفخت فـيه من قُدرتـي. ذكر من قال ذلك:
23091ـ حُدثت عن الـمسيب بن شريك, عن أبـي روق, عن الضحاك وَنَفَخْتُ فِـيهِ مِنْ رُوحي قال: من قدرتـي.
فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ يقول: فـاسجدوا له وخِرّوا له سُجّدا. وقوله: فَسَجدَ الـمَلاِئكَةُ كُلّهُمْ أجمَعُونَ يقول تعالـى ذكره: فلـما سوّى الله خـلق ذلك البشر, وهو آدم, ونفخ فـيه من روحه, سجد له الـملائكة كلهم أجمعون, يعنـي بذلك: الـملائكة الذين هم فـي السموات والأرض إلاّ إبْلِـيسَ اسْتَكْبَرَ يقول: غير إبلـيس, فإنه لـم يسجد, استكبر عن السجود له تعظما وتكبرا وكانَ مِنَ الكافِرِينَ يقول: وكان بتعظّمه ذلك, وتكبره علـى ربه ومعصيته أمره, مـمن كفر فـي علـم الله السابق, فجحد ربوبـيته, وأنكر ما علـيه الإقرار له به من الإذعان بـالطاعة, كما:
23092ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: قال أبو بكر فـي: إلاّ إبْلِـيسَ اسْتَكْبَرَ وكانَ مِنَ الكافِرِينَ قال: قال ابن عبـاس: كان فـي علـم الله من الكافرين.
الآية : 75-76
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ يَإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }.
يقول تعالـى ذكره: قالَ الله لإبلـيس, إذ لـم يسجد لاَدم, وخالف أمره: يا إبْلِـيسُ ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ يقول: أيّ شيء منعك من السجود لِـما خَـلَقْتُ بِـيَدَيّ يقول: لـخـلق يديّ يخبر تعالـى ذكره بذلك أنه خـلق آدم بـيديه, كما:
23093ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, قال: أخبرنـي عبـيد الـمكتب, قال: سمعت مـجاهدا يحدّث عن ابن عمر, قال: خـلق الله أربعة بـيده: العرش, وعَدْن, والقلـم, وآدم, ثم قال لكلّ شي كن فكان.
وقوله: أسْتَكْبَرْتَ يقول لإبلـيس: تعظّمت عن السجود لاَدم, فتركَت السجود له استكبـارا علـيه, ولـم تكن من الـمتكبرين العالـين قبل ذلك أمْ كُنْتَ مِنَ العالِـينَ يقول: أم كنت كذلك من قبل ذا علوّ وتكّبر علـى ربك قالَ أنا خَيْرٌ مِنْهُ خَـلَقْتَنِـي مِنْ نارٍ يقول جلّ ثناؤه: قال إبلـيس لربه: فعلت ذلك فلـم أسجد للذي أمرتنـي بـالسجود له لأنـي خير منه وكنت خيرا لأنك خـلقتنـي من نار وخـلقته من طين, والنار تأكل الطين وتُـحرقه, فـالنار خير منه, يقول: لـم أفعل ذلك استكبـارا علـيك, ولا لأنـي كنت من العالـين, ولكنـي فعلته من أجل أنـي أشرف منه وهذا تقريع من الله للـمشركين الذين كفروا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وأبَوا الانقـياد له, واتبـاع ما جاءهم به من عند الله استكبـارا عن أن يكونوا تبعا لرجل منهم حين قالُوا: أأُنْزِلَ عَلَـيْهِ الذّكْرُ مِنْ بَـيْنِنا وهَلْ هَذَا إلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فقصّ علـيهم تعالـى ذكره قصة إبلـيس وإهلاكه بـاستكبـاره عن السجود لاَدم بدعواه أنه خير منه, من أجل أنه خـلق من نار, وخـلق آدم من طين, حتـى صار شيطانا رجيـما, وحقت علـيه من الله لعنته, مـحذّرهم بذلك أن يستـحقوا بـاستكبـارهم علـى مـحمد, وتكذيبهم إياه فـيـما جاءهم به من عند الله حسدا, وتعظما من اللعن والسخط ما استـحقه إبلـيس بتكبره عن السجود لاَدم.

الآية : 77 -79
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنّكَ رَجِيمٌ * وَإِنّ عَلَيْكَ لَعْنَتِيَ إِلَىَ يَوْمِ الدّينِ * قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِيَ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ }.
يقول تعالـى ذكره لإبلـيس: فـاخْرُجْ مِنْها يعنـي من الـجنة فإنّكَ رَجِيـمٌ يقول: فإنك مرجوم بـالقوم, مشتوم ملعون, كما:
23094ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فـاخْرُجْ مِنْها فإنّكَ رَجِيـمٌ قال: والرجيـم: اللعين.
23095ـ حُدثت عن الـمـحاربـيّ, عن جُوَيبر, عن الضحاك بـمثله.
وقوله: وَإنّ عَلَـيْكَ لَعْنَتِـي يقول: وإن لك طردي من الـجنة إلـى يَوْمِ الدّينِ يعنـي: إلـى يوم مـجازاة العبـاد ومـحاسبتهم قال رَبّ فأنْظِرْنِـي إلـى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يقول تعالـى ذكره: قال إبلـيس لربه: ربّ فإذ لعنتنـي, وأخرجتنـي من جنتك فأنْظِرْنِـي يقول: فأخّرنـي فـي الأجل, ولا تهلكنـي إلـى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يقول: إلـى يوم تَبْعَثُ خـلقك من قبورهم.
الآية : 80-83
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ فَإِنّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَىَ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزّتِكَ لاُغْوِيَنّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: قال الله لإبلـيس: فإنك مـمن أنظرته إلـى يوم الوقت الـمعلوم, وذلك الوقت الذي جعله الله أجلاً لهلاكه. وقد بـيّنت وقت ذلك فـيـما مضى علـى اختلاف أهل العلـم فـيه وقال: فَبِعِزّتِكَ لاَغْوِيَنّهُمْ أجمَعِينَ يقول تعالـى ذكره: قال إبلـيس: فبعزّتك: أي بقدرتك وسلطانك وقهرك ما دونك من خـلقك لاَغْوِينّهُمْ أجمَعِينَ يقول: لأُضلّنّ بنـي آدم أجمعين إلاّ عِبـادَكَ مِنْهُمُ الـمُخْـلَصِينَ يقول: إلا من أخـلصته منهم لعبـادتك, وعصمتَه من إضلالـي, فلـم تـجعل لـي علـيه سبـيلاً, فإنـي لا أقدر علـى إضلاله وإغوائه.
23096ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قالَ فَبِعِزّتِكَ لأُغْوِينّهُمْ أجمَعِينَ قال: عَلِـم عدوّ الله أنه لـيست له عزّة