تفسير الطبري تفسير الصفحة 467 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 467
468
466
 الآية : 75
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَآفّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ }.
يقول تعالى ذكره: وترى يا محمد الملائكة محدقين من حول عرش الرحمن, ويعني بالعرش: السرير. ذكر من قال ذلك:
23315ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَتَرَى المَلائِكَةَ حافّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ محدقين.
23316ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَتَرَى المَلائِكَةَ حافّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ قال: محدقين حول العرش, قال: العرش: السرير.
واختلف أهل العربية في وجه دخول «مِنْ» في قوله: حافّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ والمعنى: حافّين حول العرش.
وفي قوله: وَلَقَدْ أُوحِيَ إلَيْكَ وَإلى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنّ عَمَلُكَ فقال بعض نحويي البصرة: أدخلت «مِنْ» في هذين الموضعين توكيدا, والله أعلم, كقولك: ما جاءني من أحد وقال غيره: قبل وحول وما أشبههما ظروف تدخل فيها «مِنْ» وتخرج, نحو: أتيتك قبل زيد, ومن قبل زيد, وطفنا حولك ومن حولك, وليس ذلك من نوع: ما جاءني من أحد, لأن موضع «مِنْ» في قولهم: ما جاءني من أحد رفع, وهو اسم.
والصواب من القول في ذلك عندي أن «مِنْ» في هذه الأماكن, أعني في قوله مِنْ حَوْل العَرْشِ ومن قبلك, وما أشبه ذلك, وإن كانت دخلت على الظروف فإنها بمعنى التوكيد.
وقوله: يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ يقول: يصلون حول عرش الله شكرا له والعرب تدخل الباء أحيانا في التسبيح, وتحذفها أحيانا, فتقول: سبح بحمد الله, وسبح حَمْدَ الله, كما قال جلّ ثناؤه: سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَى, وقال في موضع آخر: فَسَبّحْ باسْم رَبّكَ العَظِيمِ.
وقوله: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحَقّ يقول: وقضى الله بين النبيين الذين جيء بهم, والشهداء وأممها بالعدل, فأسكن أهل الإيمان بالله, وبما جاءت به رسله الجنة. وأهل الكفر به, ومما جاءت به رسله النار. وَقِيلَ الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالمِينَ يقول: وختمت خاتمة القضاء بينهم بالشكر للذي ابتدأ خلقهم الذي له الألوهية, ومُلك جميع ما في السموات والأرض من الخلق من ملك وجنّ وإنس, وغير ذلك من أصناف الخلق. وكان قتادة يقول في ذلك ما:
23317ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَيُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ... الاَية, كلها قال: فتح أوّل الخلق بالحمد لله, فقال: الحمد لله الذي خلق السموات والأرض, وختم بالحمد فقال: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحَقّ وَقِيلَ الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالمِينَ.

نهاية تفسير الإمام الطبري لسورة الزمر

سورة غافر مكية
وآياتها خمس وثمانون
بسم الله الرحمَن الرحيـم

الآية : 1-3
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {حـمَ * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذّنبِ وَقَابِلِ التّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطّوْلِ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ }.
اختلف أهل التأويل في معنى قوله حم فقال بعضهم: هو حروف مقطعة من اسم الله الذي هو الرحمن الرحيم, وهو الحاء والميم منه. ذكر من قال ذلك:
23318ـ حدثني عبد الله بن أحمد بن شبّويه المروَزي, قال: حدثنا عليّ بن الحسن, قال: ثني أبي, عن يزيد, عن عكرمة, عن ابن عباس: الر, وحم, ون, حروف الرحمن مقطعة.
وقال آخرون: هو قسم أقسمه الله, وهو اسم من أسماء الله. ذكر من قال ذلك:
23319ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قال: حم: قسم أقسمه الله, وهو اسم من أسماء الله.
23320ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله حم: من حروف أسماء الله.
وقال آخرون: بل هو اسم من أسماء القرآن. ذكر من قال ذلك:
23321ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة حم قال: اسم من أسماء القرآن.
وقال آخرون: هو حروف هجاء.
وقال آخرون: بل هو اسم, واحتجوا لقولهم ذلك بقول شريح بن أوفَى العبسي:
يُذَكّرُنِي حامِيمَ والرّمْحُ شاجِرٌفَهَلاّ تَلا حم قَبْلَ التّقَدّمِ
وبقول الكُمَيت:
وَجَدْنا لَكُمْ فِي آلِ حامِيم آيَةًتَأَوّلَها مِنّا تَقِيّ وَمُعْرِبُ
23322ـ وحُدثت عن معمر بن المثنى أنه قال: قال يونس, يعني الجرمي: ومن قال هذا القول فهو منكَر عليه, لأن السورة حم ساكنة الحروف, فخرجت مخرج التهجي, وهذه أسماء سور خرجت متحركات, وإذا سميت سورة بشيء من هذه الأحرف المجزومة دخلهُ الإعراب.
والقول في ذلك عندي نظير القول في أخواتها, وقد بيّنا ذلك, في قوله: الم, ففي ذلك كفاية عن إعادته في هذا الموضع, إذ كان القول في حم, وجميع ما جاء في القرآن على هذا الوجه, أعني حروف التهجي قولاً واحدا.
وقوله: تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ يقول الله تعالى ذكره: من الله العزيز في انتقامه من أعدائه, العليم يما يعملون من الأعمال وغيرها تنزيل هذا الكتاب فالتنزيل مرفوع بقوله: مِنَ اللّهِ.
وفي قوله: غافِرِ الذّنْبِ وجهان أحدهما: أن يكون بمعنى يغفر ذنوب العباد, وإذا أريد هذا المعنى, كان خفض غافر وقابل من وجهين, أحدهما من نية تكرير «من», فيكون معنى الكلام حينئذ: تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم, من غافر الذنب, وقابل التوب, لأن غافر الذنب نكرة, وليس بالأفصح أن يكون نعتا للمعرفة, وهو نكرة, والاَخر أن يكون أجرى في إعرابه, وهو نكرة على إعراب الأوّل كالنعت له, لوقوعه بينه وبين قوله: ذِي الطّوْلِ وهو معرفة.. وقد يجوز أن يكون أتبع إعرابه وهو نكرة إعراب الأوّل, إذا كان مدحا, وكان المدح يتبع إعرابه ما قبله أحيانا, ويعدل به عن إعراب الأوّل أحيانا بالنصب والرفع كما قال الشاعر:
لا يَبْعَدَنْ قَوْمي الّذِينَ هُمُسَمّ العُدَاةِ وآفَةُ الجُزُرِ
النّازِلِينَ بِكُلّ مَعُتَركٍوالطّيِبينَ معَاقِدَ الأُزُزُ
وكما قال جلّ ثناؤه وَهُوَ الغَفُورُ الَودُودُ ذُو العَرْشِ المَجِيدُ فَعّالٌ لِمَا يُرِيدُ فرفع فعّالٌ وهو نكرة محضة, وأتبع إعراب الغفور الودود والاَخر: أن يكون معناه: أن ذلك من صفته تعالى, إذ كان لم يزل لذنوب العباد غفورا من قبل نزول هذه الاَية وفي حال نزولها, ومن بعد ذلك, فيكون عند ذلك معرفة صحيحة ونعتا على الصحة. وقال: غافِرِ الذّنْبِ ولم يقل الذنوب, لأنه أريد به الفعل, وأما قوله: وَقابِلِ التّوْبِ فإن التوب قد يكون جمع توبة, كما يجمع الدّومة دَوما والعَومة عَوما من عومة السفينة, كما قال الشاعر:
(عَوْمَ السّفِينَ فَلَمّا حالَ دُونَهُمُ )
وقد يكون مصدر تاب يتوب توبا.
وقد:
23323ـ حدثني محمد بن عبيد المحاربي, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, عن أبي إسحاق, قال: جاء رجل إلى عمر, فقال: إني قتلت, فهل لي من توبة؟ قال: نعم, اعمل ولا تيأس, ثم قرأ: حم تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللّهِ العَزِيرِ العَلِيمِ غافِرِ الذّنْبِ وَقابِلِ التّوْبِ.
وقوله: شَدِيد العقابِ يقول تعالى ذكره: شديد عقابه لمن عاقبه من أهل العصيان له, فلا تتكلوا على سعة رحمته, ولكن كونوا منه على حذر, باجتناب معاصيه, وأداء فرائضه, فإنه كما أن لا يؤيس أهل الإجرام والاَثام من عفوه, وقبول توبة من تاب منهم من جرمه, كذلك لا يؤمنهم من عقابه وانتقامه منهم بما استحلوا من محارمه, وركبوا من معاصيه.
وقوله: ذِي الطّوْلِ يقول: ذي الفضل والنعم المبسوطة على من شاء من خلقه يقال منه: إن فلانا لذو طَوْل على أصحابه, إذا كان ذا فضل عليهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23324ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو الصالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ذِي الطّوْلِ يقول: ذي السعة والغنى.
23325ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ذِي الطّوْلِ الغنى.
23326ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ذِي الطّوْلِ: أي ذي النعم.
وقال بعضهم: الطّول: القدرة. ذكر من قال ذلك:
23327ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ذِي الطّوْلِ قال: الطول القدرة, ذاك الطول.
وقوله: لا إلَهَ إلاّ هوَ إلَيْهِ المَصِيرُ يقول: لا معبود تصلح له العبادة إلا الله العزيز العليم, الذي صفته ما وصف جلّ ثناؤه, فلا تعبدوا شيئا سواه إلَيْهِ المَصِيرُ يقول تعالى ذكره: إلى الله مصيركم ومرجعكم أيها الناس, فإياه فاعبدوا, فإنه لا ينفعكم شيء عبدتموه عند ذلك سواه.
الآية : 4-5
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِيَ آيَاتِ اللّهِ إِلاّ الّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ * كَـذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمّتْ كُـلّ أُمّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ }.
يقول تعالى ذكره: ما يخاصم في حجج الله وأدلته على وحدانيته بالإنكار لها, إلا الذين جحدوا توحيده.
وقوله: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلّبُهُمْ في البِلادِ يقول جلّ ثناؤه: فلا يخدعك يا محمد تصرّفهم في البلاد وبقاؤهم ومكثهم فيها, مع كفرهم بربهم, فتحسب أنهم إنما أمهلوا وتقلبوا, فتصرّفوا في البلاد مع كفرهم بالله, ولم يعاجلوا بالنقمة والعذاب على كفرهم لأنهم على شيء من الحق فإنا لم نمهلهم لذلك, ولكن ليبلغ الكتاب أجله, ولتحقّ عليهم كلمة العذاب, عذاب ربك, كما:
23328ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فلا يَغْرُرْكَ تَقَلّبُهُمْ فِي البِلاد أسفارهم فيها, ومجيئهم وذهابهم.
ثم قصّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قصص الأمم المكذّبة رسلها, وأخبره أنهم كانوا من جدالهم لرسله على مثل الذي عليه قومه الذين أرسل إليهم, وإنه أحلّ بهم من نقمته عند بلوغهم أمدهم بعد إعذار رسله إليهم, وإنذارهم بأسه ما قد ذكر في كتابه إعلاما منه بذلك نبيه, أن سنته في قومه الذين سلكوا سبيل أولئك في تكذيبه وجداله سنته من إحلال نقمته بهم, وسطوته بهم, فقال تعالى ذكره: كذبت قبل قومك المكذّبين لرسالتك إليهم رسولاً, المجادليك بالباطل قوم نوح والأحزاب من بعدهم, وهم الأمم الذين تحزّبُوا وتجمّعوا على رسلهم بالتكذيب لها, كعاد وثمود, وقوم لوط, وأصحاب مَدْيَن وأشباههم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23329ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ قال: الكفار.
وقوله: وَهمّتْ كُلّ أُمّةٍ برَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ يقول تعالى ذكره: وهمت كلّ أمة من هذه الأمم المكذبة رسلها, المتحزّبة على أنبيائها, برسولهم الذي أُرسل إليهم ليأخذوه فيقتلوه, كما:
23330ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَهَمّتْ كُلّ أُمّةٍ بِرَسُولِهِمْ لَيأْخُذُوهُ: أي ليقتلوه, وقيل برسولهم وقد قيل: كلّ أمة, فوجّهت الهاء والميم إلى الرجل دون لفظ الأمة, وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله «برسولها», يعني برسول الأمة.
وقوله: وجَادَلُوا بالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَ يقول: وخاصموا رسولهم بالباطل من الخصومة ليبطلوا بجدالهم إياه وخصومتهم له الحقّ الذي جاءهم به من عند الله, من الدخول في طاعته, والإقرار بتوحيده, والبراءة من عبادة ما سواه, كما يخاصمك كفار قومك يا محمد بالباطل.
وقوله: فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقَابِ يقول تعالى ذكره: فأخذت الذين هموا برسولهم ليأخذوه بالعذاب من عندي, فكيف كان عقابي إياهم, ألم أهلكهم فأجعلهم للخلق عبرة, ولمن بعدهم عظة؟ وأجعل ديارهم ومساكنهم منهم خلاء, وللوحوش ثواء. وقد:
23331ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَأَخَذَتْهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقَابِ قال: شديد والله.
الآية : 6
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ حَقّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّهُمْ أَصْحَابُ النّارِ }.
يقول تعالى ذكره: وكما حقّ على الأمم التي كذّبت رسلها التي قصصت عليك يا محمد قصصها عذابي, وحلّ بها عقابي بتكذيبهم رسلهم, وجدالهم إياهم بالباطل, ليدحضوا به الحقّ, كذلك وجبت كلمة ربك على الذين كفروا بالله من قومك, الذين يجادلون في آيات الله.
وقوله: أنّهُمْ أصحَابُ النّارِ اختلف أهل العربية في موضع قوله أنّهُمْ, فقال بعض نحوييّ البصرة: معنى ذلك: حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار: أي لأنهم, أو بأنهم, وليس أنهم في موضع مفعول ليس مثل قولك: أحققت أنهم لو كان كذلك كان أيضا أحققت, لأنهم. وكان غيره يقول: «أنهم» بدل من الكلمة, كأنه أحقت الكلمة حقا أنهم أصحاب النار.
والصواب من القول في ذلك, أن قوله «أنهم» ترجمة عن الكلمة, بمعنى: وكذلك حقّ عليهم عذاب النار, الذي وعد الله أهل الكفر به.

الآية : 7
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {الّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَا وَسِعْتَ كُـلّ شَيْءٍ رّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلّذِينَ تَابُواْ وَاتّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ }
يقول تعالى ذكره: الذين يحملون عرش الله من ملائكته, ومن حول عرشه, ممن يحفّ به من الملائكة يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ يقول: يصلون لربهم بحمده وشكره وَيُؤْمِنُونَ بِهِ يقول: ويقرّون بالله أنه لا إله لهم سواه, ويشهدون بذلك, لا يستكبرون عن عبادنه وَيَسْتَغْفِرُونَ للّذِينَ آمَنُوا يقول: ويسألون ربهم أن يغفر للذين أقرّوا بمثل إقرارهم من توحيد الله, والبراءة من كلّ معبود سواه ذنوبهم, فيعفوها عنهم, كما:
23332ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَيَسْتَغْفِرُونَ للّذِينَ آمَنُوا لأهل لا إله إلا الله.
وقوله: رَبّنا وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْما, وفي هذا الكلام محذوف, وهو يقولون ومعنى الكلام ويستغفرون للذين آمنوا يقولون: يا ربنا وسعت كلّ شيء رحمة وعلما. ويعني بقوله: وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحمَةً وَعِلْما: وسعت رحمتك وعلمك كلّ شيء من خلقك, فعلمت كلّ شيء, فلم يخف عليك شيء, ورحمت خلقك, ووسعتهم برحمتك.
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب الرحمة والعلم, فقال بعض نحويي البصرة: انتصاب ذلك كانتصاب لك مثله عبدا, لأنك قد جعلت وسعت كلّ شيء, وهو مفعول له, والفاعل التاء, وجاء بالرحمة والعلم تفسيرا, وقد شغلت عنهما الفعل كما شغلت المثل بالهاء, فلذلك نصبته تشبيها بالمفعول بعد الفاعل وقال غيره: هو من المنقول, وهو مفسر, وسعت رحمته وعلمه, ووسع هو كلّ شيء رحمة, كما تقول: طابت به نفسي, وطبت به نفسا, وقال: أمالك مثله عبدا, فإن المقادير لا تكون إلا معلومة مثل عندي رطل زيتا, والمثل غير معلوم, ولكن لفظه لفظ المعرفة والعبد نكرة, فلذلك نصب العبد, وله أن يرفع, واستشهد لقيله ذلك بقول الشاعر:
ما في مَعَدّ والقَبائِلِ كُلّهاقَحْطانَ مِثْلُكَ وَاحِدٌ مَعْدودُ
وقال: رد «الواحد» على «مثل» لأنه نكرة, قال: ولو قلت: ما مثلك رجل, ومثلك رجل, ومثلك رجلاً, جاز, لأن مثل يكون نكرة, وإن كان لفظها معرفة.
وقوله: فاغْفِرِ للّذِينَ تابُوا وَاتّبَعُوا سَبِيلَكَ يقول: فاصفح عن جرم من تاب من الشرك بك من عبادك, فرجع إلى توحيدك, واتبع أمرك ونهيك, كما:
23333ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فاغْفِرْ للّذِينَ تابُوا من الشرك.
وقوله: واتّبَعُوا سَبِيلَكَ يقول: وسلكوا الطريق الذي أمرتهم أن يسلكوه, ولزموا المنهاج الذي أمرتهم بلزومه, وذلك الدخول في الإسلام. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23334ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة واتّبَعُوا سَبِيلَكَ: أي طاعتك.
وقوله: وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ يقول: واصرف عن الذين تابوا من الشرك, واتبعوا سبيلك عذاب النار يوم القيامة