تفسير الطبري تفسير الصفحة 468 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 468
469
467
الآية : 8
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {رَبّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ الّتِي وَعَدْتّهُمْ وَمَن صَـلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ إِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن دعاء ملائكته لأهل الإيمان به من عبادة, تقول: يا رَبّنا وأدْخِلْهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ يعني: بساتين إقامة التي وَعَدْتَهُمْ يعني التي وعدت أهل الإنابة إلى طاعتك أن تدخلهموها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وأزْوَاجِهِمْ وَذُرّياتِهِمْ يقول: وأدخل مع هؤلاء الذين تابوا واتّبَعُوا سَبِيلَكَ جنات عدن من صلح من آبائهم وأزواجهم وذريّاتهم, فعمل بما يرضيك عنه من الأعمال الصالحة في الدنيا, وذكر أنه يدخل مع الرجل أبواه وولده وزوجته الجنة, وإن لم يكونوا عملوا عمله بفضل رحمة الله إياه, كما:
23335ـ حدثنا أبو هشام, قال: حدثنا يحيى بن يمان العجلي, قال: حدثنا شريك, عن سعيد, قال: يدخل الرجل الجنة, فيقول: أين أبي, أين أمي, أين ولدي, أين زوجتي, فيقال: لم يعملوا مثل عملك, فيقول: كنت أعمل لي ولهم, فيقال: أدخلوهم الجنة ثم قرأ جَنّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وأزْوَاجِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ.
فمن إذن, إذ كان ذلك معناه, في موضع نصب عطفا على الهاء والميم في قوله وأدْخِلْهِمْ وجائز أن يكون نصبا على العطف على الهاء والميم في وعدتهم إنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ يقول: إنك أنت يا ربنا العزيز في انتقامه من أعدائه, الحكيم في تدبيره خلقه.

الآية : 9
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَقِهِمُ السّيّئَاتِ وَمَن تَقِ السّيّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }.
يقول تعالى ذكره بقوله مخبرا عن قيل ملائكته: وقِهم: اصرف عنهم سوء عاقبة سيئاتهم التي كانوا أتوها قبل توبتهم وإنابتهم, يقولون: لا تؤاخذهم بذلك, فتعذّبهم به وَمَنْ تَقِ السّيّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ يقول: ومن تصرف عنه سوء عاقبة سيئاته بذلك يوم القيامة, فقد رحمته, فنجيه من عذابك وذَلكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ لأنه من نجا من النار وأدخل الجنة فقد فاز, وذلك لا شك هو الفوز العظيم. وبنحو الذي قلنا في معنى السيئات قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23336ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَقِهِمُ السّيّئاتِ: أي العذاب.
23337ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا معمر بن بشير, قال: حدثنا ابن المبارك, عن معمر, عن قتادة, عن مطرف, قال: وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة, وأغشّ العباد للعباد الشياطين, وتلا: الّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ... الاَية.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: قال مطرف: وجدنا أغشّ عباد الله لعباد الله الشياطين, ووجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة.

الآية : 10-11
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللّهِ أَكْبَرُ مِن مّقْتِكُمْ أَنفُسَكُـمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُواْ رَبّنَآ أَمَتّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىَ خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ }.
يقول تعالى ذكره: إن الذين كفروا بالله ينادون في النار يوم القيامة إذا دخلوها, فمقتوا بدخولهموها أنفسهم حين عاينوا ما أعدّ الله لهم فيها من أنواع العذاب, فيقال لهم: لَمَقْتُ الله إياكم أيها القوم في الدنيا, إذ تدعون فيها للإيمان بالله فتكفرون, أكبر من مقتكم اليوم أنفسكم لما حلّ بكم من سخط الله عليكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23338ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: لَمَقْتُ الله أكْبَرُ قال: مقتوا أنفسهم حين رأوا أعمالهم, ومقت الله إياهم في الدنيا, إذ يدعون إلى الإيمان, فيكفرون أكبر.
23339ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللّهِ أكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أنْفُسَكُمْ إذْ تُدْعونَ إلى الإيمانِ فَتَكْفُرُونَ يقول: لمقت الله أهل الضلالة حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا, فتركوه, وأبوا أن يقبلوا, أكبرُ مما مقتوا أنفسهم, حين عاينوا عذاب الله يوم القيامة.
23340ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السدّي قوله: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنَادُوْنَ لَمَقْتُ اللّهِ أكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أنْفُسَكُمْ في النار إذْ تَدْعُونَ إلى الإيمانِ في الدنيا فَتَكْفُرُونَ.
23341ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله يُنَادُونَ لَمَقْتُ اللّهِ... الاَية, قال: لما دخلوا النار مقتوا أنفسهم في معاصي الله التي ركبوها, فنُودوا: إن مقت الله إياكم حين دعاكم إلى الإسلام أشدّ من مقتكم أنفسكم اليوم حين دخلتم النار.
واختلف أهل العربية في وجه دخول هذه اللام في قوله: لَمَقْتُ اللّهِ أكْبَرُ فقال بعض أهل العربية من أهل البصرة: هي لام الابتداء, كأن ينادون يقال لهم, لأن في النداء قول قال: ومثله في الإعراب يقال: لزيد أفضل من عمرو. وقال بعض نحوييّ الكوفة: المعنى فيه: ينادون إن مقت الله إياكم, ولكن اللام تكفي من أن تقول في الكلام: ناديت أنّ زيدا قائم, قال: ومثله قوله: ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ لَيَسْجُنُنّهُ حتى حِينِ اللام بمنزلة «إن» في كلّ كلام ضارع القول مثل ينادون ويخبرون, وأشباه ذلك.
وقال آخر غيره منهم: هذه لام اليمين, تدخل مع الحكاية, وما ضارع الحكاية لتدلّ على أن ما بعدها ائتناف. قال: ولا يجوز في جوابات الأيمان أن تقوم مقام اليمين, لأن اللام كانت معها النون أو لم تكن, فاكتفى بها من اليمين, لأنها لا تقع إلا معها.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: دخلت لتؤذن أن ما بعدها ائتناف وأنها لام اليمين.
وقوله: رَبّنا أمَتّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ قد أتينا عليه في سورة البقرة, فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع, ولكنا نذكر بعض ما قال بعضم فيه.
23342ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أمَتَنّا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ قال: كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم, فأحياهم الله في الدنيا, ثم أماتهم الموتة التي لا بدّ منها, ثم أحياهم للبعث يوم القيامة, فهما حياتان وموتتان.
23343ـ وحُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: أمَتّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ هو قول الله كَيْفَ تَكْفُرُونَ باللّهِ وكُنْتُمْ أمْوَاتا فأحْياكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ ثُمّ إلَيْهِ تُرْجِعُونَ.
23344ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: رَبّنا أمَتَنّا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ قال: هو كقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ باللّهِ وكُنتُمْ أمْوَاتا... الاَية.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن عبد الله, في قوله: أمَتّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ قال: هي كالتي في البقرة وكُنْتُمْ أمْوَاتا فأحْياكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ.
23345ـ حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس, قال: حدثنا عبثر, قال: حدثنا حصين, عن أبي مالك في هذه الاَية أمَتّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ قال: خلقتنا ولم نكن شيئا ثم أمتنا, ثم أحييتنا.
حدثني يعقوب, قال: حدثنا هشيم, عن حصين, عن أبي مالك, في قوله: أمَتّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ قالوا: كانوا أمواتا فأحياهم الله, ثم أماتهم, ثم أحياهم.
وقال آخرون فيه ما:
23346ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: أمتَنّا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ قال: أميتوا في الدنيا, ثم أحيوا في قبورهم, فسئلوا أو خوطبوا, ثم أميتوا في قبورهم, ثم أحيوا في الاَخرة.
وقال آخرون في ذلك ما:
23347ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله رَبّنا أمَتّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ قال: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق, وقرأ: وَإذْ أخَذَ رَبّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ, فقرأ حتى بلغ المُبْطِلُونَ قال: فنسّاهم الفعل, وأخذ عليهم الميثاق, قال: وانتزع ضلعا من أضلاع آدم القصري, فخلق منه حوّاء, ذكره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, قال: وذلك قول الله: يا أيّها النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمْ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَق مِنْها زَوْجَها وَبَثّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيرا وَنِساءً. قال: بثّ منهما بعد ذلك في الأرحام خلقا كثيرا, وقرأ: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمّهاتِكُمْ خَلُقا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ قال: خلقا بعد ذلك, قال: فلما أخذ عليهم الميثاق, أماتهم ثم خلقهم في الأرحام, ثم أماتهم, ثم أحياهم يوم القيامة, فذلك قول الله: رَبّنا أمَتّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ فاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا, وقرأ قول الله: وأخَذْنا مِنْهُم مِيثاقا غَلِيظا قال: يومئذ, وقرأ قول الله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وأطَعْنا.
وقوله: فاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا يقول: فأقررنا بما عملنا من الذنوب في الدنيا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ يقول: فهل إلى خروج من النار لنا سبيل, لنرجع إلى الدنيا, فنعمل غير الذي كنا نعمل فيها, كما:
23348ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ: فهل إلى كرّة إلى الدنيا.
الآية : 12
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {ذَلِكُم بِأَنّهُ إِذَا دُعِيَ اللّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للّهِ الْعَلِـيّ الْكَبِيرِ }.
وفي هذا الكلام متروك استغني بدلالة الظاهر من ذكره عليه وهو: فأجيبوا أن لا سبيل إلى ذلك هذا الذي لكم من العذاب أيها الكافرون بأنّهُ إذا دُعِيَ اللّهُ وَحْدَه كَفَرْتُمْ, فأنكرتم أن تكون الألوهة له خالصة, وقلتم أجَعَلَ الاَلِهَةَ إلَها وَاحدا.
وإنْ يُشْرَكْ بِهِ تُوءْمِنُوا يقول: وإن يجعل لله شريك تصدّقوا من جعل ذلك له فالحُكْمُ لِلّهِ العَلِيّ الكَبِيرِ يقول: فالقضاء لله العليّ على كل شيء, الكبير الذي كلّ شيء دونه متصاغرا له اليوم.
الآية : 13-14
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {هُوَ الّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزّلُ لَكُم مّنَ السّمَآءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكّرُ إِلاّ مَن يُنِيبُ * فَادْعُواْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: الذي يريكم أيها الناس حججه وأدلته على وحدانيته وربوبيته وَيُنَزّلُ لَكُمْ مِنَ السّمَاءِ رِزْقا يقول ينزّل لكم من أرزاقكم من السماء بإدرار الغيث الذي يخرج به أقواتكم من الأرض, وغذاء أنعامكم عليكم وَما يَتَذَكّرُ إلاّ مَنْ يُنِيبُ يقول: وما يتذكر حجج الله التي جعلها أدلة على وحدانيته, فيعتبر بها ويتعظ, ويعلم حقيقة ما تدلّ عليه, إلا من ينيب, يقول: إلا من يرجع إلى توحيده, ويقبل على طاعته, كما:
23349ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ إلاّ مَنْ يُنِيبُ قال: من يقبل إلى طاعة الله.
وقوله: فادْعُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به, فاعبدوا الله أيها المؤمنون له, مخلصين له الطاعة غير مشركين به شيئا مما دونه وَلَوْ كَرِهَ الكافِرُون يقول: ولو كره عبادتكم إياه مخلصين له الطاعة الكافرون المشركون في عبادتهم إياه الأوثان والأنداد.
الآية : 15-16
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {رَفِيعُ الدّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التّلاَقِ * يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىَ عَلَى اللّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْوَاحِدِ الْقَهّارِ }.
يقول تعالى ذكره: هو رفيع الدرجات ورفع قوله: رَفِيعُ الدّرَجاتِ على الابتداء ولو جاء نصبا على الردّ على قوله: فادعوا الله, كان صوابا. ذُو العَرْشِ يقول: ذو السرير المحيط بما دونه.
وقوله: يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يقول: ينزل الوحي من أمره على من يشاء من عباده.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى الروح في هذا الموضع, فقال بعضهم: عُني به الوحي. ذكر من قال ذلك:
23350ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ قال: الوحي من أمره.
وقال آخرون: عُني به القرآن والكتاب. ذكر من قال ذلك:
23351ـ حدثني هارون بن إدريس الأصمّ, قال: حدثنا عبد الرحمن بن المحاربيّ, عن جُوَيبر, عن الضحاك في قوله: يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ قال: يعني بالروح: الكتاب ينزله على من يشاء.
23352ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ, وقرأ: وكذَلكَ أوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحا مِنْ أمْرِنا قال: هذا القرآن هو الروح, أوحاه الله إلى جبريل, وجبريل روح نزل به على النبيّ صلى الله عليه وسلم, وقرأ: نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأمِينُ قال: فالكتب التي أنزلها الله على أنبيائه هي الروح, ليُنذر بها ما قال الله يوم التلاق, يَوْمَ يَقُومُ الرّوحُ وَالمَلاَئِكَةُ صَفّا, قال: الروح: القرآن, كان أبي يقوله, قال ابن زيد: يقومون له صفا بين السماء والأرض حين ينزل جلّ جلاله.
وقال آخرون: عُني به النبوّة. ذكر من قال ذلك:
23353ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, وفي قول الله: يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ قال: النبوّة على من يشاء.
وهذه الأقوال متقاربات المعاني, وإن اختلفت ألفاظ أصحابها بها.
وقوله: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التّلاقِ يقول: لينذر من يلقي الروح عليه من عباده من أمر الله بإنذاره من خلقه عذاب يوم تلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض, وهو يوم التلاق, وذلك يوم القيامة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23354ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس, قوله: يَوْمَ التّلاقِ من أسماء يوم القيامة, عظمه الله, وحذّره عباده.
23355ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يَوْمَ التّلاقِ: يوم تلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض, والخالق والخلق.
23356ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السدي يَوْمَ التّلاق تلتقي أهل السماء وأهل الأرض.
23357ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد يَومْ التّلاقِ قال: يوم القيامة. قال: يوم تتلاقى العباد.
وقوله: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفَى على اللّهِ منْهُمْ شَيْءٌ يعني بقوله يَوْمَ هُمْ بارزُونَ يعني المنذرين الذين أرسل الله إليهم رسله لينذروهم وهم ظاهرون يعني للناظرين لا يحول بينهم وبينهم جبل ولا شجر, ولا يستر بعضهم عن بعض ساتر, ولكنهم بقاعٍ صفصف لا أَمْتَ فيه ولا عوج. و «هم» من قوله: يَوْمَ هُمْ في موضع رفع بما بعده, كقول القائل: فعلت ذلك يوم الحجاج أمير.
واختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها لم تخفض هم بيوم وقد أضيف إليه؟ فقال بعض نحويي البصرة: أضاف يوم إلى هم في المعنى, فلذلك لا ينوّن اليوم, كما قال: يَوْمَ هُمْ عَلى النّار يُفْتَنُونَ وقال: هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ومعناه: هذا يوم فتنتهم, ولكن لما ابتدأ بالاسم, وبنى عليه لم يقدر على جرّه, وكانت الإضافة في المعنى إلى الفتنة, وهذا إنما يكون إذا كان اليوم في معنى إذ, وإلا فهو قبيح إلا ترى أنك تقول: ليتك زمن زيدٌ أمير: أي إذ زيد أمير, ولو قلت: ألقاك زمن زيد أمير, لم يحسن. وقال غيره: معنى ذلك: أن الأوقات جعلت بمعنى إذ وإذا, فلذلك بقيت عل نصبها في الرفع والخفض والنصب, فقال: وَمِنْ خِزْيِ يَوْمَئِذٍ فنصبوا, والموضع خفض, وذلك دليل على أنه جعل موضع الأداة, ويجوز أن يعرب بوجوه الإعراب, لأنه ظهر ظهور الأسماء ألا ترى أنه لا يعود عليه العائد كما يعود على الأسماء, فإن عاد العائد نوّن وأعرب ولم يضف, فقيل: أعجبني يوم فيه تقول, لما أن خرج من معنى الأداة, وعاد عليه الذكر صار اسما صحيحا. وقال: وجائز في إذ أن تقول: أتيتك إذ تقوم, كما تقول: أتيتك يوم يجلس القاضي, فيكون زمنا معلوما, فأما أتيتك يوم تقوم فلا مؤنة فيه وهو جائز عند جميعهم, وقال: وهذه التي تسمى إضافة غير محضة.
والصواب من القول عندي في ذلك, أن نصب يوم وسائر الأزمنة في مثل هذا الموضع نظير نصب الأدوات لوقوعها مواقعها, وإذا أعربت بوجوه الإعراب, فلأنها ظهرت ظهور الأسماء, فعوملت معاملتها.
وقوله: لا يَخْفَى على اللّهِ مِنْهُمْ أي ولا من أعمالهم التي عملوها في الدنيا شَيْءٌ. وكان قتادة يقول في ذلك ما:
23358ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لاَ يَخْفَى على الله مِنْهُمْ شَيْءٌ ولكنهم برزوا له يوم القيامة, فلا يستترون بجبل ولا مَدَر.
وقوله: لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ يعني بذلك: يقول الربّ: لمن الملك اليوم وترك ذكر «يقول» استغناء بدلالة الكلام عليه. وقوله: لِلّهِ الوَاحِدِ القَهّارِ وقد ذكرنا الرواية الواردة بذلك فيما مضى قبل ومعنى الكلام: يقول الربّ: لمن السلطان اليوم؟ وذلك يوم القيامة, فيجيب نفسه فيقول: لِلّهِ الوَاحِدِ الذي لا مثل له ولا شبيه القَهّارِ لكلّ شيء سواه بقدرته, الغالب بعزّته.