تفسير الطبري تفسير الصفحة 466 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 466
467
465
 الآية : 68
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ إِلاّ مَن شَآءَ اللّهُ ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىَ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ونفخ إسرافيل في القرن, وقد بيّنا معنى الصور فيما مضى بشواهده, وذكرنا اختلاف أهل العلم فيه, والصواب من القول فيه بشواهده, فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ يقول: مات, وذلك في النفخة الأولى, كما:
23285ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَنُفِخَ فِي الصورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فَي الأرْضِ قال: مات.
وقوله: إلاّ مَنْ شَاءَ اللّهُ اختلف أهل التأويل في الذي عني الله بالاستثناء في هذه الاَية, فقال بعضهم عني به جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت. ذكر من قال ذلك:
23286ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ ونُفِخَ فِي الصّورِ فَصَعِقَ مَنْ في السّمواتِ وَمَنْ فِي الأرضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ قال جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت.
23287ـ حدثني هارون بن إدريس الأصمّ, قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, قال: حدثنا محمد بن إسحاق, قال: حدثنا الفضل بن عيسى, عن عمه يزيد الرقاشي, عن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ في الأرْضِ إلاّ مَنْ شَاءَ اللّهُ فقيل: من هؤلاء الذين استثنى الله يا رسول الله؟ قال: «جبرائيل وميكائيلَ, ومَلكَ المَوْتِ, فإذَا قَبَضَ أرْوَاحَ الخَلائِقِ قالَ: يا مَلَكَ المَوْتِ مَنْ بَقِي؟ وَهُوَ أعْلَمُ قال: يَقُولُ: سُبْحانَكَ تَبَارَكْتَ رَبّي ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ, بَقِيَ جِبْريلُ وميكائيلُ وَمَلَكُ المَوْتِ قالَ: يَقُولُ يا مَلَك المَوْتِ خُذْ نَفْسَ مِيكائِيلَ قالَ: فَيَقَعُ كالطّوْدِ العَظِيم, قالَ: ثُمّ يَقُولُ: يا مَلَكَ المَوْتِ مَنْ بَقِي؟ فَيَقُول: سُبْحانَكَ رَبّي يا ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ, بَقِيَ جِبْريلُ وَمَلَكُ المَوْتِ, قال: فَيَقُولُ: يا مَلَكَ المَوْتِ مُتْ, قالَ: فَيَمُوتُ قالَ: ثُمّ يَقُولُ: يا جِبرِيلُ مَنْ بَقِيَ؟ قالَ: فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: سُبْحانَكَ رَبّي يا ذَا الجَلال والإكْرامِ, بَقِي جِبْرِيلُ, وَهُوَ مِنَ اللّهِ بالمَكانِ الّذِي هُوَ بِهِ قال: فَيَقُولُ يا جِبْريلُ لا بُدّ مِنْ مَوْتَةٍ قالَ: فَيَقَعُ ساجِدا يَخْفِقُ بِجَناحَيْهِ يَقُولُ: سُبْحانَكَ رَبّي تَبَارَكْتَ وَتَعالَيْتَ يا ذَا الجَلالِ والإكْرامِ, أنْتَ الباقي وجِبْريلُ المَيّت الفاني: قال: ويأْخُذُ رُوحَهُ في الحلْقَةِ التي خُلِقَ مِنْها, قالَ: فَيَقَعُ على مِيكائِيلَ أنّ فَضْلَ خَلْقِهِ على خَلْقِ مِيكائِيلَ كَفَضْلِ الطّوْدِ العَظِيمِ عَلى الظّرْبِ مِنَ الظّرابِ».
وقال آخرون: عني بذلك الشهداء.
23288ـ حدثني محمد بن المثنى, قال: ثني وهب بن جرير, قال: حدثنا شعبة عن عمارة, عن ذي حجر اليحمدي, عن سعيد بن جبير, في قوله: فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ قال: الشهداء ثنية الله حول العرش, متقلدين السيوف.
وقال آخرون: عني بالاستثناء في الفزع: الشهداء, وفي الصعق: جبريل, وملك الموت, وحملة العرش. ذكر من قال ذلك, والخبر الذي جاء فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
23289ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا المحاربي عبد الرحمن بن محمد, عن إسماعيل بن رافع المدني, عن يزيد, عن رجل من الأنصار, عن محمد بن كعب القرظي, عن رجل من الأنصار, عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُنْفَخُ في الصّور ثَلاث نَفَخاتٍ: الأُولى: نَفْخَة الفَزَعِ, والثّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصّعْقِ, والثّالِثَةُ: نَفْخَةُ الْقِيامِ لِرَبّ العالَمِينَ تَبارَكَ وَتَعالى يأْمُرُ اللّهُ إسْرَافِيلَ بالنّفْخَةِ الأُولى, فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ, فَتَفْزَعُ أهْلُ السّمَوَاتِ وأهْلُ الأرْضِ إلاّ مَنْ شَاءَ اللّهُ» قال أبو هريرة: يا رسولَ الله, فمن استثنىَ حين يقول: ففَزِعَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ قال: «أُولَئِكَ الشّهَداءُ, وإنّما يَصلُ الفَزَعُ إلى الأحْياءِ, أُولَئِكَ أحْياءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ, وَقاهُمُ اللّهُ فَزَعَ ذلكَ اليَوْمِ وأمّنَهُمُ, ثُمّ يَأْمُرُ اللّهُ إسْرافِيلَ بنَفْخَةِ الصّعْقِ, فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الصّعْقِ, فَيَصْعَقُ أهْلُ السّمَوَاتِ والأرْضِ إلاّ مَنْ شَاءَ اللّهُ فإذا هُمْ خامِدُونَ, ثُمّ يأتي مَلَكُ المَوْتِ إلى الجَبّارِ تَبارَكَ وَتَعالى فَيَقُولُ: يا رَبّ قَدْ ماتَ أهْلُ السّمَوَاتِ والأرْضِ إلاّ مَنْ شِئْتَ, فَيَقُولُ لَهُ وَهُوَ أعْلَمُ: فَمَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ: بَقِيتَ أنْتَ الحَيّ الّذِي لا يَمُوتُ, وَبَقِيَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ, وَبَقِيَ جِبْرِيلَ وَمِيكائِيلُ فَيَقُولُ اللّهُ لَهُ: اسْكتْ إنّي كتَبْتُ المَوْتَ على مَنْ كانَ تَحْتَ عَرْشِي ثُمّ يأتي مَلَكُ المَوْتِ فَيَقُولُ: يا رَب قَدْ ماتَ جِبْرِيلُ وَمِيكائِيلُ فَيَقولُ اللّهُ وَهُوَ أعْلَمُ: فَمَنْ بَقِيَ؟ فَيَقولُ: بَقِيتَ أنتَ الحيّ الّذِي لا يَمُوتُ, وَبَقِيَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ, وَبَقِيتُ أنا, فَيَقُولُ اللّهُ: فَلْيَمُتْ حَمَلَةُ العَرْشِ, فَيَمُوتُونَ وَيأْمُرُ اللّهُ تعالى العَرْشَ فَيَقْبِضُ الصّورَ. فَيَقُولُ: أيْ رَبّ قَدْ ماتَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ فَيَقُولُ: مَنْ بَقِي؟ وَهُوَ أعْلَمُ, فَيَقُولُ: بَقِيت أنْتَ الحَيّ الّذِي لا يَمُوتُ وَبَقِيتُ أنا, قال: فَيَقُولُ اللّهُ: أنْتَ مِنْ خَلقِي خَلَقْتُكَ لِمَا رأيْتُ, فَمُتْ لا تَحْيَ, فَيَمُوتُ».
وهذا القول الذي رُوي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالصحة, لأن الصعقة في هذا الموضع: الموت. والشهداء وإن كانوا عند الله أحياء كما أخبر الله تعالى ذكره فإنهم قد ذاقوا الموت قبل ذلك.
وإنما عني جلّ ثناؤه بالاستثناء في هذا الموضع, الاستثناء من الذين صعقوا عند نفخة الصعق, لا من الذين قد ماتوا قبل ذلك بزمان ودهر طويل وذلك أنه لو جاز أن يكون المراد بذلك من قد هلك, وذاق الموت قبل وقت نفخة الصعق, وجب أن يكون المراد بذلك من قد هلك, فذاق الموت من قبل ذلك, لأنه ممن لا يصعق في ذلك الوقت إذا كان الميت لا يجدّد له موت آخر في تلك الحال. وقال آخرون في ذلك ما:
23290ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ قال الحسن: يستثني الله وما يدع أحدا من أهل السموات ولا أهل الأرض إلا أذاقه الموت؟ قال قتادة: قد استثنى الله, والله أعلم إلى ما صارت ثنيته. قال: ذُكر لنا أن نبيّ الله قال: «أتانِي مَلَكٌ فَقالَ: يا مُحَمّدُ اخْتَرْ نَبِيا مَلِكا, أوْ نَبيّا عَبْدا فأَوْمأَ إليّ أنْ تَوَاضَعْ, قال: نَبِيّا عَبْدا, قال: فأُعْطيتُ خَصْلَتَيْنِ: أنْ جُعِلْتُ أوّلَ مَنْ تَنْشَقّ عَنْهُ الأرْضَ, وأوّلَ شافِعٍ, فَأرْفَعُ رأسِي فأجِدُ مُوسَى آخِذا بالعَرْشِ, فاللّهُ أعْلَمُ أصَعِقَ بَعْدَ الصّعْقَةِ الأُولى أمْ لا؟».
23291ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا عبدة بن سليمان, قال: حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو سلمة, عن أبي هريرة, قال: قال يهودي بسوق المدينة: والذي اصطفى موسى على البشر قال: فرفع رجل من الأنصار يده, فصكّ بها وجهه, فقال: تقول هذا وفينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ, ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فإذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ, فَأكُونُ أنا أوّلَ مَنْ يَرْفَعُ رأسَهُ, فإذا مُوسَى آخِذٌ بقائمَةِ مِنْ قَوَائمِ العَرْشِ فَلا أدْرِي أرَفَعَ رأسهُ قَبْلي, أوْ كانَ مِمّنْ استثنى الله».
23292ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن الحسن, قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كأنّي أنْفُضُ رأسِي مِنَ التّرَابِ أوّلَ خارِجٍ, فَألْتَفِتُ فَلا أرَى أحَدا إلاّ مُوسَى مُتَعَلّقا بالعَرْشِ, فَلا أدْرَي أمِمّنِ اسْتَثْنى اللّهُ أنْ لا تُصِيبَهُ النّفْخَةُ أوْ بُعِث قَبْلِي».
وقوله: ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فإذَا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ يقول تعالى ذكره: ثم نُفخ في الصور نفخة أخرى والهاء التي في «فيه» من ذكر الصور, كما:
23293ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى قال: في الصور, وهي نفخة البعث.
وذُكر أن بين النفختين أربعين سنة. ذكر من قال ذلك:
23294ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بَينَ النّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ» قالوا: يا أبا هريرة أربعون يوما؟ قال: أبَيْتُ قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيت قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت «ثُمّ يُنَزّلُ اللّهُ مِن السّماءِ ماءً فَتَنْبِتُونَ كما يَنْبُتُ البَقْلُ, قالَ: وَلَيسَ مِنَ الإنْسانِ شَيْءٌ إلاّ يَبْلَى, إلاّ عَظْما وَاحِدا, وَهُوَ عَجْبُ الذّنبِ, وَمِنْهُ يُرَكّبُ الخَلْقُ يَوْمَ القِيامَةِ».
23295ـ حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا البلخي بن إياس, قال: سمعت عكرمة يقول في قوله فَصَعِقَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ... الاَية, قال: الأولى من الدنيا, والأخيرة من الاَخرة.
23296ـ حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فإذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ قال نبيّ الله: «بَينَ النّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ» قال أصحابه: فما سألناه عن ذلك, ولا زادنا على ذلك, غير أنهم كانوا يرون من رأيهم أنها أربعون سنة. وذُكر لنا أنه يبعث في تلك الأربعين مطر يقال له مطر الحياة, حتى تطيب الأرض وتهتزّ, وتنبت أجساد الناس نباتَ البقل, ثم ينفخ فيه الثانية فإذا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ قال: ذُكر لنا أن معاذ بن جبل, سأل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: كيف يُبعث المؤمنون يوم القيامة؟ قال؟ «يُبْعَثُونَ جُرْدا مُرْدا مُكَحّلينَ بني ثَلاثِينَ سَنَةً».
وقوله: فإذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ يقول: فإذا من صعق عند النفخة التي قبلها وغيرهم من جميع خلق الله الذين كانوا أمواتا قبل ذلك قيام من قبورهم وأماكنهم من الأرض أحياء كهيئتهم قبل مماتهم ينظرون أمر الله فيهم, كما:
23297ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ فإذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُون قال: حين يبعثون.

الآية : 69
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِـيءَ بِالنّبِيّيْنَ وَالشّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }.
يقول تعالى ذكره: فأضاءت الأرض بنور ربها, يقال: أشرقت الشمس: إذا صفت وأضاءت, وشرقت: إذا طلعت, وذلك حين يبرز الرحمن لفصل القضاء بين خلقه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23298ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وأشْرَقَتِ الأرْضُ بنُورِ رَبّها قال: فما يتضارّون في نوره إلا كما يتضارّون في الشمس في اليوم الصحو الذي لا دخن فيه.
23299ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وأشْرَقَتِ الأرْضُ بنُورِ رَبّها قال: أضاءت.
وقوله: وَوُضِعَ الكِتَابُ يعني: كتاب أعمالهم لمحاسبتهم ومجازاتهم, كما:
23300ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَوُضِعَ الكِتَابُ قال: كتاب أعمالهم.
23301ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَوُضِعَ الكِتابُ قال: الحساب.
وقوله: وَجِيءَ بالنّبِيّينَ والشّهدَاءِ يقول: وجيء بالنبيين ليسألهم ربهم عما أجابتهم به أممهم, وردّت عليهم في الدنيا, حين أتتهم رسالة الله والشهداء, يعني بالشهداء: أمة محمد صلى الله عليه وسلم, يستشهدهم ربهم على الرسل, فيما ذكرت من تبليغها رسالة الله التي أرسلهم بها ربهم إلى أممها, إذ جحدت أممهم أن يكونوا أبلغوهم رسالة الله, والشهداء: جمع شهيد, وهذا نظير قول الله: وكَذلكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَداءَ على النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا وقيل: عُني بقوله: الشّهدَاء: الذين قتلوا في سبيل الله وليس لما قالوا من ذلك في هذا الموضع كبير معنى, لأن عقيب قوله: وَجِيءَ بالنّبِيّينَ والشهدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحَقّ, وفي ذلك دليل واضح على صحة ما قلنا من أنه إنما دعى بالنبيين والشهداء للقضاء بين الأنبياء وأممها, وأن الشهداء إنما هي جمع شهيد, الذين يشهدون للأنبياء على أممهم كما ذكرنا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23302ـ حدثنا عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله وَجِيءَ بالنّبِيّينِ وَالشّهدَاءِ فإنهم ليشهدون للرسل بتبليغ الرسالة, وبتكذيب الأمم إياهم.
ذكر من قال ما حكينا قوله من القول الاَخر:
23303ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَجِيءَ بالنّبِيّينَ والشهدَاءِ: الذين استشهدوا في طاعة الله.
وقوله: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحَقّ يقول تعالى ذكره: وقضي بين النبيين وأممها بالحقّ, وقضاؤه بينهم بالحق, أن لا يحمل على أحد ذنب غيره, ولا يعاقب نفسا إلا بما كسبت.
الآية : 70-71
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَوُفّيَتْ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الّذِينَ كَـفَرُوَاْ إِلَىَ جَهَنّمَ زُمَراً حَتّىَ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَـآءَ يَوْمِكُمْ هَـَذَا قَالُواْ بَلَىَ وَلَـَكِنْ حَقّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ }.
يقول تعالى ذكره: ووفى الله حينئذ كل نفس جزاء عملها من خير وشرّ, وهو أعلم بما يفعلون في الدنيا من طاعة أو معصية, ولا يعزب عنه علم شيء من ذلك, وهو مجازيهم عليه يوم القيامة, فمثيبٌ المحسنَ بإحسانه, والمسيءَ بما أساءَ.
وقوله: وَسِيقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنّمَ يقول: وحُشر الذين كفروا بالله إلى ناره التي أعدّها لهم يوم القيامة جماعات, جماعة جماعة, وحزبا حزبا, كما:
23304ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: زُمَرا قال: جماعات.
وقوله: حتى إذَا جاءُوها فُتِحَتْ أبْوابُها السبعة وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها قوّامها: ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبّكُمْ يعني: كتاب الله المنزل على رسله وحججه التي بعث بها رسله إلى أممهم وَيُنْذِرُنَكُمْ لِقاءِ يَوْمِكُمْ هَذا يقول: وينذركم ما تلقون في يومكم هذا وقد يحتمل أن يكون معناه: وينذرونكم مصيركم إلى هذا اليوم. قالوا: بلى: يقول: قال الذين كفروا مجيبين لخزنة جهنم: بلى قد أتتنا الرسل منا, فأنذرتنا لقاءنا هذا اليوم وَلَكنْ حَقّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ على الكافِرِينَ يقول: قالوا: ولكن وجبت كلمة الله أن عذابه لأهل الكفر به علينا بكفرنا به, كما:
23305ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلَكِنْ حَقّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ على الكافِرِينَ بأعمالهم.
الآية : 72
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قِيلَ ادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَـبّرِينَ }.
يقول تعالى ذكره: فتقول خزنة جهنم للذين كفروا حينئذ: ادْخُلُوا أبْوَابَ جَهَنّمَ السبعة على قدر منازلكم فيها خالِدِينَ فِيها يقول: ماكثين فيها لا يُنقلون عنها إلى غيرها. فَبئْسَ مَثْوَى المُتَكَبرين يقول: فبئس مسكن المتكبرين على الله في الدنيا, أن يوحدوه ويفردوا له الألوهة, جهنم يوم القيامة.
الآية : 73-74
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَسِيقَ الّذِينَ اتّقَوْاْ رَبّهُمْ إِلَى الّجَنّةِ زُمَراً حَتّىَ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَـالُواْ الْحَـمْدُ للّهِ الّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوّأُ مِنَ الْجَنّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ }.
يقول تعالى ذكره: وحُشر الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه, واجتناب معاصيه في الدنيا, وأخلصوا له فيها الألوهة, وأفردوا له العبادة, فلم يشركوا في عبادتهم إياه شيئا إلى الجَنّةِ زُمَرا يعني جماعات, فكان سوق هؤلاء إلى منازلهم من الجنة وفدا على ما قد بيّنا قبل في سورة مريم على نجائب من نجائب الجنة, وسوق الاَخرين إلى النار دعّا ووردا, كما قال الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وقد ذكر ذلك في أماكنه من هذا الكتاب. وقد:
23306ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَسِيقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنّمَ زُمَرا, وفي قوله: وَسِيقَ الّذِينَ اتّقُوا رَبّهُمْ إلى الجَنّةِ زُمَرا قال: كان سوق أولئك عنفا وتعبا ودفعا, وقرأ: يَوْمَ يُدَعّونَ إلى نارِ جَهَنّمَ دَعّا قال: يدفعون دفعا, وقرأ: فَذلِكَ الّذي يَدُعّ اليَتِيمَ قال: يدفعه, وقرأ ونَسُوقُ المُجْرِمينَ إلى جَهَنّمَ وِرْدا و ونَحْشُرُ المُتّقِينَ إلى الرّحْمَنِ وَفْدا ثم قال: فهؤلاء وفد الله.
23307ـ حدثنا مجاهد بن موسى, قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا شريك بن عبد الله, عن أبي إسحاق, عن عاصم بن ضمرة, عن علي بن أبي طالب, رضي الله عنه قوله: وَسِيقَ الّذِينَ اتّقُوا رَبّهُمْ إلى الجَنّةِ زُمَرا حتى إذا انتهوا إلى بابها, إذا هم بشجرة يخرج من أصلها عينان, فعمدوا إلى إحداهما, فشربوا منها كأنما أمروا بها, فخرج ما في بطونهم من قذر أو أذى أو قذى, ثم عمدوا إلى الأخرى, فتوضّؤا منها كأنما أُمروا به, فجرت عليهم نضرة النعيم, فلن تشعث رؤوسهم بعدها أبدا ولن تبلى ثيابهم بعدها, ثم دخلوا الجنة, فتلقتهم الولدان كأنهم اللؤلؤ المكنون, فيقولون: أبشر, أعدّ الله لك كذا, وأعدّ لك كذا وكذا, ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه جندل اللؤلؤ الأحمر والأصفر والأخضر, يتلألأ كأنه البرق, فلولا أن الله قضى أن لا يذهب بصره لذهب, ثم يأتي بعضهم إلى بعض أزواجه, فيقول: أبشري قد قدم فلان ابن فلان, فيسميه باسمه واسم أبيه, فتقول: أنت رأيته, أنت رأيته فيستخفها الفرح حتى تقوم, فتجلس على أسكفة بابها, فيدخل فيتكىء على سريره, ويقرأ هذه الاَية: الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدانا لِهَذا وَما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدانا اللّهُ... الاَية.
23308ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: ذكر أبو إسحاق عن الحارث, عن عليّ رضي الله عنه قال: يساقون إلى الجنة, فينتهون إليها, فيجدون عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان تجريان, فيعمدون إلى إحداهما, فيغتسلون منها, فتجري عليهم نضرة النعيم, فلن تشعث رؤوسهم بعدها أبدا, ولن تغبر جلودهم بعدها أبدا, كأنما دهنوا بالدهان ويعمدون إلى الأخرى, فيشربون منها, فيذهب ما في بطونهم من قذى أو أذى, ثم يأتون باب الجنة فيستفتحون, فيفتح لهم, فتتلقاهم خزنة الجنة فيقولون سلاَمٌ عَلَيْكُم ادْخُلُوا الجَنّةَ بِما كنتم تَعْمَلُونَ قال: وتتلقاهم الولدان المخلدون, يطيفون بهم كما تطيف ولدان أهل الدنيا بالحميم إذا جاء من الغيبة, يقولون: أبشر أعدّ الله لك كذا, وأعدّ لك كذا, فينطلق أحدهم إلى زوجته, فيبشرها به, فيقول: قدم فلان باسمه الذي كان يسمى به في الدنيا, وقال: فيستخفها الفرح حتى تقوم على أسكفة بابها, وتقول: أنت رأيته, أنت رأيته؟ قال: فيقول: نعم, قال: فيجيء حتى يأتي منزله, فإذا أصوله من جندل اللؤلؤ من بين أصفر وأحمر وأخضر, قال: فيدخل فإذا الأكواب موضوعة, والنمارق مصفوفة, والزرابيّ مبثوثة قال: ثم يدخل إلى زوجته من الحور العين, فلولا أن الله أعدّها له لالتمع بصره من نورها وحسنها قال: فاتكأ عند ذلك ويقول: الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدانا لهَذَا وَما كُنّا لِنَهْتَديَ لَوْلاَ أنْ هَدانا اللّهُ قال: فتناديهم الملائكة: أنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ أوُرِثْتمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
23309ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, قال: ذكر السديّ نحوه أيضا, غير أنه قال: لهو أهدى إلى منزله في الجنة منه إلى منزله في الدنيا, ثم قرأ السديّ: وَيُدْخِلُهُمُ الجَنّةَ عَرّفَها لهُمْ.
واختلف أهل العربية في موضع جواب «إذا» التي في قوله حتى إذَا جاءُوها فقال بعض نحويي البصرة: يقال إن قوله وَقالَ لَهُم خَزَنَتُها في معنى: قال لهم, كأنه يلغي الواو, وقد جاء في الشعر شيء يشبه أن تكون الواو زائدة, كما قال الشاعر:
فإذَا وَذلكَ يا كُبَيْشَةُ لَمْ يَكُنْإلاّ تَوَهّمَ حالِمٍ بِخَيالِ
فيشبه أن يكون يريد: فإذا ذلك لم يكن. قال: وقال بعضهم: فأضمر الخبر, وإضمار الخبر أيضا أحسن في الاَية, وإضمار الخبر في الكلام كثير. وقال آخر منهم: هو مكفوف عن خبره, قال: والعرب تفعل مثل هذا قال عبد مَناف بن ربع في آخر قصيدة:
حتى إذَا أسْلَكُوهُمْ فِي قُتائِدِهِشَلاّ كما تَطْرُدُ الجَمّالَةُ الشّرُدا
وقال الأخطل في آخر القصيدة:
خَلا أنّ حيّا منْ قُرَيْشٍ تَفَضّلواعلى النّاسِ أوْ أنّ الأكارِمَ نَهْشَلا
وقال بعض نحويّي الكوفة: أدخلت في حتى إذا وفي فلما, الواو في جوابها وأخرجت, فأما من أخرجها فلا شيء فيه, ومن أدخلها شبه الأوائل بالتعجب, فجعل الثاني نسقا على الأوّل, وإن كان الثاني جوابا كأنه قال: أتعجب لهذا وهذا.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: الجواب متروك, وإن كان القول الاَخر غير مدفوع, وذلك أن قوله: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادْخُلُوها خالِدِينَ يدلّ على أن في الكلام متروكا, إذ كان عقيبه وَقالُوا الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي صَدّقَنا وَعْدَهُ وإذا كان ذلك كذلك, فمعنى الكلام: حتى إذا جاؤوا وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها: سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين, دخلوها وقالوا: الحمد لله الذي صدقنا وعده. وعني بقوله سَلامٌ عَلَيْكُمْ: أمنة من الله لكم أن ينالكم بعدُ مكروه أو أذى. وقوله طِبْتُمْ يقول: طابت أعمالكم في الدنيا, فطاب اليوم مثواكم. وكان مجاهد يقول في ذلك ما:
23310ـ حدثنا محمد بن عمر, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: طِبْتُمْ قال: كنتم طيبين في طاعة الله.
وقوله: وَقالُوا الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ يقول: وقال الذين سيقوا زمرا ودخلوها: الشكر خالص لله الذي صدقنا وعده, الذي كان وعدناه في الدنيا على طاعته, فحققه بإنجازه لنا اليوم, وأوْرَثَنا الأرْضَ يقول: وجعل أرض الجنة التي كانت لأهل النار لو كانوا أطاعوا الله في الدنيا, فدخلوها, ميراثا لنا عنهم, كما:
23311ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وأوْرَثَنا الأرْضَ قال: أرض الجنة.
23312ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وأوْرَثَنا الأرْضَ أرض الجنة.
23313ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وأوْرَثَنا الأرْضَ قال: أرض الجنة, وقرأ: أنّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ.
وقوله: نَتَبَوّأُ مِنَ الجَنّةِ حَيثُ نَشاءُ يقول: نتخذ من الجنة بيتا, ونسكن منها حيث نحبّ ونشتهي, كما:
23314ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ نَتَبَوّأُ مِنَ الجَنّةِ حَيْثُ نَشاءُ ننزل منها حيث نشاء.
وقوله: فَنِعْمَ أجْرُ العامِلِينَ يقول: فنعم ثواب المطيعين لله, العاملين له في الدنيا الجنة لمن أعطاه الله إياها في الاَخرة