تفسير الطبري تفسير الصفحة 470 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 470
471
469
 الآية : 26
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِيَ أَقْتُلْ مُوسَىَ وَلْيَدْعُ رَبّهُ إِنّيَ أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُـمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ }.
يقول تعالى ذكره: وَقالَ فِرْعَوْنُ لملئه: ذَرُونِي أقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبّهُ الذي يزعم أنه أرسله إلينا فيمنعه منا إنّي أخاف أنْ يُبَدّلَ دِينَكُمْ يقول: إني أخاف أن يغير دينكم الذي أنتم عليه بسحره.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: أو أن يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الفَسادَ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والشأم والبصرة: «وأنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الفَسادَ» بغير ألف, وكذلك ذلك في مصاحف أهل المدينة, وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: أوْ أنْ بالألف, وكذلك ذلك في مصاحفهم «يَظْهَرَ فِي الأرْضِ» بفتح الياء ورفع الفساد.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار متقاربتا المعنى, وذلك أن الفساد إذا أظهره مظهر كان ظاهرا, وإذا ظهر فبإظهار مظهره يظهر, ففي القراءة بإحدى القراءتين في ذلك دليل واضح على صحة معنى الأخرى. وأما القراءة في: أوْ أنْ يُظْهِرَ بالألف وبحذفها, فإنهما أيضا متقاربتا المعنى, وذلك أن الشيء إذا بدل إلى خلافه فلا شكّ أن خلافه المبدل إليه الأوّل هو الظاهر دون المبدل, فسواء عطف على خبره عن خوفه من موسى أن يبدّل دينهم بالواو أو بأو, لأن تبديل دينهم كان عنده ظهور الفساد, وظهور الفساد كان عنده هو تبديل الدين.
فتأويل الكلام إذن: إني أخاف من موسى أن يغير دينكم الذي أنتم عليه, أو أن يظهر في أرضكم أرض مصر, عبادة ربه الذي يدعوكم إلى عبادته, وذلك كان عنده هو الفساد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23372ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة إنّي أخافُ أنْ يُبَدّلَ دِينَكُمْ: أي أمركم الذي أنتم عليه أوْ أنْ يُظْهِرَ فَي الأرْضِ الفَسادَ والفساد عنده أن يعمل بطاعة الله.

الآية : 27-28
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَىَ إِنّي عُذْتُ بِرَبّي وَرَبّكُـمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ * وَقَالَ رَجُلٌ مّؤْمِنٌ مّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّيَ اللّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِن رّبّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الّذِي يَعِدُكُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ }.
يقول تعالى ذكره: وقال موسى لفرعون وملئه: إني استجرت أيها القوم بربي وربكم, من كلّ متكبر عليه, تكبر عن توحيده, والإقرار بألوهيته وطاعته, لا يؤمن بيوم يحاسب الله فيه خلقه, فيجازي المحسن بإحسانه, والمسيء بما أساء وإنما خصّ موسى صلوات الله وسلامه عليه, الاستعاذه بالله ممن لا يؤمن بيوم الحساب, لأن من لم يؤمن بيوم الحساب مصدّقا, لم يكن للثواب على الإحسان راجيا, ولا للعقاب على الإساءة, وقبيح ما يأتي من الأفعال خائفا, ولذلك كان استجارته من هذا الصنف من الناس خاصة.
وقوله: وَقَالَ رَجُلٌ مُوءْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ اختلف أهل العلم في هذا الرجل المؤمن, فقال بعضهم: كان من قوم فرعون, غير أنه كان قد آمن بموسى, وكان يُسِرّ إيمانه من فرعون وقومه خوفا على نفسه. ذكر من قال ذلك:
23373ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَقَالَ رَجُلٌ مُوءْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ قال: هو ابن عمّ فرعون.
ويقال: هو الذي نجا مع موسى, فمن قال هذا القول, وتأوّل هذا التأويل, كان صوابا الوقف إذا أراد القارىء الوقف على قوله: مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ, لأن ذلك خبر متناه قد تمّ.
وقال آخرون: بل كان الرجل إسرائيليا, ولكنه كان يكتم إيمانه من آل فرعون.
والصواب على هذا القول لمن أراد الوقف أن يجعل وقفه على قوله: يَكْتُمُ إيمَانَهُ لأن قوله: مِنَ آلِ فِرْعَوْنَ صلة لقوله: يَكْتمُ إيمَانَهُ فتمامه قوله: يكتم إيمانه, وقد ذكر أن اسم هذا الرجل المؤمن من آل فرعون: جبريل, كذلك.
23374ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق.
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي القول الذي قاله السدي من أن الرجل المؤمن كان من آل فرعون, قد أصغى لكلامه, واستمع منه ما قاله, وتوقّف عن قتل موسى عند نهيه عن قتله, وقيله ما قال, وقال له: ما أريكم إلا ما أرى, وما أهديكم إلا سبيل الرشاد, ولو كان إسرائيليا لكان حريا أن يعاجل هذا القائل له, ولملئه ما قال بالعقوبة على قوله, لأنه لم يكن يستنصح بني إسرائيل, لاعتداده إياهم أعداء له, فكيف بقوله عن قتل موسى لو وجد إليه سبيلاً؟ ولكنه لما كان من ملأ قومه, استمع قوله, وكفّ عما كان همّ به في موسى.
وقوله: أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبّي اللّهُ يقول: أتقتلون أيها القوم موسى لأن يقول ربي الله؟ فأن في موضع نصب لما وصفت. وَقَدْ جاءَكُمْ بالبَيّناتِ يقول: وقد جاءكم بالاَيات الواضحات على حقيقة ما يقول من ذلك, وتلك البينات من الاَيات يده وعصاه, كما:
23375ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق وَقَدْ جاءَكُمْ بالبَيّنات مِنْ رَبّكُمْ بعصاه وبيده.
وقوله: وَإنْ يَكُ كاذِبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ يقول: وإن يك موسى كاذبا في قيله: إن الله أرسله إليكم يأمركم بعبادته, وترك دينكم الذي أنتم عليه, فإنما إثم كذبه عليه دونكم وَإنْ يَكُ صَادِقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الّذِي يَعدُكُمْ يقول: وإن يك صادقا في قيله ذلك, أصابكم الذي وعدكم من العقوبة على مقامكم على الدين الذي أنتم عليه مقيمون, فلا حاجة بكم إلى قتله, فتزيدوا ربكم بذلك إلى سخطه عليكم بكفركم سخطا إنّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هو مُسْرِفٌ كَذّابٌ يقول: إن الله لا يوفّق للحقّ من هو متعدّ إلى فعل ما ليس له فعله, كذّاب عليه يكذب, ويقول عليه الباطل وغير الحقّ.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى الإسراف الذي ذكره المؤمن في هذا الموضع, فقال بعضهم: عُني به الشرك, وأراد: إن الله لا يهدي من هو مشرك به مفتر عليه. ذكر من قال ذلك:
23376ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة إنّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هو مُسْرِفٌ كَذّابٌ: مشرك أسرف على نفسه بالشرك.
وقال آخرون: عنى به من هو قتال سفّاك للدماء بغير حقّ. ذكر من قال ذلك:
23377ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ إنّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هو مُسْرِفٌ كَذّابٌ قال: المسرف: هو صاحب الدم, ويقال: هم المشركون.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن هذا المؤمن أنه عمّ بقوله: إنّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هو مُسْرِفٌ كَذّابٌ والشرك من الإسراف, وسفك الدم بغير حقّ من الإسراف, وقد كان مجتمعا في فرعون الأمران كلاهما, فالحقّ أن يعمّ ذلك كما أخبر جلّ ثناؤه عن قائله, أنه عمّ القول بذلك.
الآية : 29
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَقَومِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاّ مَآ أَرَىَ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرّشَادِ }.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن من آل فرعون لفرعون وملئه: يا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ اليَوْمَ ظاهِرِينَ في الأرْضِ يعني: أرض مصر, يقول: لكم السلطان اليوم والملك ظاهرين أنتم على بني إسرائيل في أرض مصر فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللّهِ يقول: فمن يدفع عنا بأس الله وسطوته إن حلّ بنا, وعقوبته إن جاءتنا, قال فرعون أُرِيكُمْ إلاّ ما أرَى يقول: قال فرعون مجيبا لهذا المؤمن الناهي عن قتل موسى: ما رأيكم أيها الناس من الرأي والنصيحة إلا ما أرى لنفسي ولكم صلاحا وصوابا, وما أهديكم إلا سبيل الرشاد. يقول: وما أدعوكم إلا إلى طريق الحقّ والصواب في أمر موسى وقتله, فإنكم إن لم تقتلوه بدّل دينكم, وأظهر في أرضكم الفساد.
الآية : 30-31
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَقَالَ الّذِيَ آمَنَ يَقَوْمِ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مّثْلَ يَوْمِ الأحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ }.
يقول تعالى ذكره: وقال المؤمن من آل فرعون لفرعون وملئه: يا قوم إني أخاف عليكم بقتلكم موسى إن قتلتموه مثل يوم الأحزاب الذين تحزّبوا على رسل الله نوح وهود وصالح, فأهلكهم الله بتجرئهم عليه, فيهلككم كما أهلكهم.
وقوله: مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ يقول: يفعل ذلك بكم فيهلككم مثل سنته في قوم نوح وعاد وثمود وفعله بهم. وقد بيّنا معنى الدأب فيما مضى بشواهده, المغنية عن إعادته, مع ذكر أقوال أهل التأويل فيه. وقد:
23378ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ يقول: مثل حال.
23379ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ قال: مثل ما أصابهم.
وقوله: وَالّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني قوم إبراهيم, وقوم لوط, وهم أيضا من الأحزاب, كما:
23380ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سيعد, عن قتادة وَالّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ قال: هم الأحزاب.
وقوله: وَما اللّهُ يُرِيدُ ظُلْما للْعِبادِ يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن من آل فرعون لفرعون وملئه: وما أهلك الله هذه الأحزاب من هذه الأمم ظلما منه لهم بغير جرم اجترموه بينهم وبينه, لأنه لا يريد ظلم عباده, ولا يشاؤه, ولكنه أهلكهم بإجرامهم وكفرهم به, وخلافهم أمره.
الآية : 32-33
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَيَقَوْمِ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التّنَادِ * يَوْمَ تُوَلّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا المؤمن لفرعون وقومه: وَيا قَوْمِ إنّي أخافُ عَلَيْكُمْ بقتلكم موسى إن قتلتموه عقاب الله يَوْمَ التّنادِ.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: يَوْمَ التّنَادِ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار: يَوْمَ التّنادِ بتخفيف الدال, وترك إثبات الياء, بمعنى التفاعل, من تنادي القوم تناديا, كما قال جلّ ثناؤه: وَنادَى أصحَابُ الجَنّةِ أصحَابَ النّارِ أنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبّنا حَقّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبّكُمْ حَقّا قالُوا نَعَمْ وقال: وَنَادَى أصحَابُ النّارِ أصْحَابَ الجَنّةِ أنّ أفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الماءِ فلذلك تأوّله قارئو ذلك كذلك. ذكر من قال ذلك:
23381ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاريّ, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة أنه قال في هذه الاَية يَوْمَ التّنادِ قال: يوم ينادي أهل النار أهل الجنة: أن أفيضوا علينا من الماء.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ويَا قَوْمِ إنّي أخافُ عَلَيْكُم يَوْمَ التّنادِ يوم ينادي أهل الجنة أهل النار أنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبّنا حَقّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبّكُمْ حَقّا وينادي أهل النار أهل الجنة أنْ أفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ المَاءِ أوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ.
23382ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: يَوْمَ التّنادِ قال: يوم القيامة ينادي أهل الجنة أهل النار.
وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى ذلك على هذه القراءة تأويل آخر على غير هذا الوجه وهو ما:
23383ـ حدثنا به أبو كُرَيب, قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ, عن إسماعيل بن رافع المدنّي, عن يزيد بن زياد, عن محمد بن كعب القرظيّ, عن رجل من الأنصار, عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَأْمُرُ اللّهُ إسْرَافِيلَ بالنّفْخَةِ الأُولى, فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ, فَفَزِعَ أهْلُ السّمَوَاتِ وأهْلُ الأرْضِ إلاّ مَنْ شَاءَ اللّهُ, ويَأْمُرُهُ اللّهُ أنْ يُدِيمَها وَيُطَوّلَهَا فَلا يَفْتَرُ, وَهِيَ التي يَقُولُ اللّهُ: وَما يَنْظُرُ هَولاءِ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةٍ ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ, فَيُسَيّرُ اللّهُ الجِبالَ فَتَكُونُ سَرَابا, فَتُرَجّ الأرْضُ بأهْلِها رَجّا, وَهِيَ التي يَقُولُ اللّهُ: يَوْمَ تُرْجَفُ الرّاجِفَةُ تَتْبَعُها الرّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ فَتَكُونُ كالسّفِينَةِ المُرْتَعَةِ فِي البَحْرِ تَضَرِبُها الأمْوَاجُ تَكْفأُ بأهْلِها, أوْ كالقِنْدِيلِ المُعَلّقِ بالعَرْشِ تَرُجّهُ الأرْوَاحُ, فَتَمِيدُ النّاسَ عَلى ظَهْرِها, فَتَذْهَلُ المَرَاضِعُ, وَتَضَعُ الحَوَامِلُ, وَتَشِيبُ الوِلْدانُ, وَتَطِيرُ الشّياطِينُ هارِبَةً حتى تأتي الأقْطارَ, فَتَلَقّاها المَلائِكَةُ, فَتَضْرِبُ وُجُوهَها, فَترْجِعَ وَيُوَلي النّاسُ مُدْبِرينَ, يُنادِي بَعْضُهُمْ بَعْضا, وَهُوَ الّذِي يَقُولُ اللّهُ: يَوْمَ التّنادِ يَوْمَ تُوَلّونَ مُدْبِرينَ ما لَكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِمِ».
فعلى هذا التأويل معنى الكلام: ويا قوم إني أخاف عليكم يوم ينادي الناس بعضهم بعضا من فزع نفخة الفزع.
وقرأ ذلك آخرون: «يَوْمَ التّنادّ» بتشديد الدال, بمعنى: التفاعل من النّدّ, وذلك إذا هربوا فنَدّوا في الأرض, كما تَنِدّ الإبل: إذا شَرَدَت على أربابها. ذكر من قال ذلك كذلك, وذكر المعنى الذي قَصَد بقراءته ذلك كذلك:
23384ـ حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقيّ, قال: حدثنا أبو أسامة, عن الأجلح, قال: سمعت الضحاك بن مزاحم, قال: إذا كان يوم القيامة, أمر الله السماء الدنيا فتشقّقت بأهلها, ونزل من فيها من الملائكة, فأحاطوا بالأرض ومن عليها, ثم الثانية, ثم الثالثة, ثم الرابعة, ثم الخامسة, ثم السادسة, ثم السابعة, فصفوا صفا دون صف, ثم ينزل الملك الأعلى على مجنبته اليسرى جهنم, فإذا رآها أهل الأرض نَدّوا فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا السبعة صفوف من الملائكة, فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه, فذلك قول الله: إنّي أخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التّنادِ يَوْمَ توَلّونَ مُدْبِرِين وذلك قوله: وَجاءَ رَبّكَ وَالمَلَكُ صَفّا صَفّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنّمَ, وقوله: يا مَعْشَرَ الجِنّ والإنْس إن اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَنْفُذُوا مِنْ أقْطارِ السّمَوَاتِ والأرْضِ فانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إلاّ بِسُلْطانٍ, وذلك قوله: وَانْشَقّتِ السّماءُ فَهِي يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالمَلَكُ على أرْجائِها.
23385ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله يَوْمَ التّنادِ قال: تَنِدّون.
ورُوِي عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك: «يَوْمَ التّنادِي» بإثبات الياء وتخفيف الدال.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار, وهو تخفيف الدال وبغير إثبات الياء, وذلك أن ذلك هو القراءة التي عليها الحجة مجمعة من قرّاء الأمصار, وغير جائز خلافها فيما جاءت به نقلاً. فإذا كان ذلك هو الصواب, فمعنى الكلام: ويا قوم إني أخاف عليكم يوم ينادي الناس بعضُهم بعضا, إما من هول ما قد عاينوا من عظيم سلطان الله, وفظاعة ما غشيهم من كرب ذلك اليوم, وإما لتذكير بعضهم بعضا إنجاز الله إياهم الوعد الذي وعدهم في الدنيا, واستغاثة من بعضهم ببعض, مما لقي من عظيم البلاء فيه.
وقوله: يَوْمَ تُوَلّونَ مُدْبِرِينَ فتأويله على التأويل الذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَوْمَ يُوَلّونَ هارِبِينَ فِي الأرْضِ حِذَارَ عَذَابِ اللّهِ وَعِقَابِهِ عِنْدَ مُعايَنَتِهِمْ جَهَنّمَ.
وتأويله على التأويل الذي قاله قتادة في معنى يَوْمَ التّنادِ: يوم تولّون مُنْصَرِفِينَ عن موقف الحساب إلى جهنم. وبنحو ذلك رُوي الخبر عنه, وعمن قال نحو مقالته في معنى يَوْمَ التّنادِ. ذكر من قال ذلك:
23386ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة يَوْمَ تُوَلّونَ مُدْبِرِينَ: أي منطلقا بكم إلى النار.
وأولى القولين في ذلك بالصواب, القول الذي رُوى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإن كان الذي قاله قتادة في ذلك غير بعيد من الحقّ, وبه قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23387ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميع لقول الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإن كان الذي قاله قتادة في ذلك غير بعيد من الحقّ, وبه قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23388ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله يوم تولون مدبرين قال فارّين غير معجزين وقوله مالكم من الله من عاصم يقول مالكم من الله من مانع يمنعكم وناصر ينصركم وينحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك.
23389ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ما لَكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِمٍ: أي من ناصر.
وقوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هادِ يقول: ومن يخذله الله فلم يوفَقه لرشده, فما له من موفّق يوفقه له