تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 470 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 470

469

26- "وقال فرعون ذروني أقتل موسى" إنما قال هذا لأنه كان في خاصة قومه من يمنعه من قتل موسى مخافة أن ينزل بهم العذاب، والمعنى: اتركوني أقتله "وليدع ربه" الذي يزعم أنه أرسله إلينا فليمنعه من القتل إن قدر على ذلك: أي لا يهولنكم ذلك فإنه لا رب له حقيقة، بل أنا ربكم الأعلى، ثم ذكر العلة التي لأجلها أراد أن يقتله فقال: "إني أخاف أن يبدل دينكم" الذي أنتم عليه من عبادة غير الله ويدخلهم في دينه الذي هو عبادة الله وحده "أو أن يظهر في الأرض الفساد" أي يوقع بين الناس الخلاف والفتنة، جعل اللعين ظهور ما دعا إليه موسى وانتشاره في الأرض واهتداء الناس به فساداً، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو من تابعه. قرأ الكوفيون ويعقوب "أو أن يظهر" بأو التي للإبهام، والمعنى: أنه لا بد من وقوع أحد الأمرين. وقرأ الباقون " وإن يظهر " بدون ألف على معنى وقوع الأمرين جميعاً، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من "إني أخاف" وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص يظهر بضم الياء وكسر الهاء من أظهر، وفاعله ضمير موسى، والفساد نصباً على أنه مفعول به، وقرأ الباقون بفتح الياء والهاء، ورفع الفساد على الفاعلية.
27- "وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب" قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي "عذت" بإدغام الذال، وقرأ الباقون بالإظهار، لما هدده فرعون بالقتل استعاذ بالله عز وجل من كل متعظم عن الإيمان بالله غير مؤمن بالبعث والنشور، ويدخل فرعون في هذا العموم دخولاً أولياً.
28- "وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه" قال الحسن ومقاتل والسدي: كان قبطياً وهو ابن عم فرعون، وهو الذي نجا مع موسى، وهو المراد بقوله: "وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى" الآية، وقيل كان من بني إسرائيل ولم يكن من آل فرعون وهو خلاف ما في الآية، وقد تمحل لذلك بأن في الآية تقديماً وتأخيراً، والتقدير: وقال رجل مؤمن من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون. قال القشيري: ومن جعله إسرائيلياً ففيه بعد، لأنه يقال كتمه أمر كذا ولا يقال كتم منه كما قال سبحانه: "ولا يكتمون الله حديثاً" وأيضاً ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول. وقد اختلف في اسم هذا الرجل، فقيل حبيب، وقيل حزقيل، وقيل غير ذلك، وقرأ الجمهور " رجل " بضم الجيم، وقرأ الأعمش وعبد الوارث بسكونها، وهي لغة تميم ونجد، والأولى هي الفصيحة، وقرئ بكسر الجيم ومؤمن صفة لرجل، ومن آل فرعون صفة أخرى، ويكتم إيمانه صفة ثالثة، والاتفهام في "أتقتلون رجلاً" للإنكار، و"أن يقول ربي الله" في موضع نصب بنزع الخافض: أي لأن يقول أو كراهة أن يقول، وجملة "وقد جاءكم بالبينات من ربكم" في محل نصب على الحال: أي والحال أنه قد جاءكم بالمعجزات الواضحات والدلالات الظاهرات على نبوته وصحة رسالته، ثم تلطف لهم في الدفع عنه فقال: "وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم" ولم يكن قوله هذا لشك منه، فإنه كان مؤمناً كما وصفه الله، ولا يشك المؤمن، ومعنى "يصبكم بعض الذي يعدكم" أنه إذا لم يصبكم كله فلا أقل من أن يصيبكم بعضه، وحذفت النون من يكن في الموضعين تخفيفاً لكثرة الاستعمال: كما قال سيبويه، وقال أبو عبيدة وأبو الهيثم: بعض هنا بمعنى كل: أي يصبكم كل الذي يعدكم، وأنشد أبو عبيدة على هذا قول لبيد: ‌تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها أي كل النفوس، وقد اعترض عليه، وأجيب بأن البعض قد يستعمل في لغة العرب بمعنى الكل كما في قول الشاعر: قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل وقول الآخر: إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللا وليس في البيتين ما يدل على ما زعموه، وأما بيت لبيد فقيل إنه أراد ببعض النفوس نفسه، ولا ضرورة تلجئ إلى حمل ما في الآية على ذلك، لأنه أراد التنزل معهم وإيهامهم أنه لا يعتقد صحة نبوته كما يفيده قوله: "يكتم إيمانه" قال أهل المعاني: وهذا على المظاهرة في الحجاج، كأنه قال لهم: أقل ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وفي بعض ذلك هلاككم، فكأن الحاصل بالبعض هو الحاصل بالكل: وقال الليث: بعض ها هنا صلة، يريد: يصبكم الذي يعدكم، وقيل يصبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا وهو بعض ما يتوعدكم به من العذاب، وقيل إنه وعدهم بالثواب والعقاب، فإذا كفروا أصابهم العقاب، وهو بعض ما وعدهم به "إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب" هذا من تمام كلام الرجل المؤمن وهو احتجاج آخر ذو وجهين: أحدهما أنه لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله إلى البينات ولا أيده بالمعجزات، وثانيهما أنه إذا كان كذلك خذله الله وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله، والمسرف المقيم على المعاصي المستكثر منها، والكذاب المفتري.
29- "يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض" ذكرهم ذلك الرجل المؤمن ما هم فيه من الملك ليشكروا الله ولا يتمادوا في كفرهم، ومعنى ظاهرين: الظهور على الناس والغلبة لهم والاستعلاء عليهم، والأرض أرض مصر، وانتصاب ظاهرين على الحال "فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا" أي من يمنعنا من عذابه ويحول بيننا وبينه عند مجيئه، وفي هذا تحذير منه لهم من نقمة الله بهم وإنزال عذابه عليهم، فلما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح الصحيح جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة والرعاية بمكان مكين، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكاً يكون فيه جلب النفع لهم ودفع الضر عنهم، ولهذا قال: " ما أريكم إلا ما أرى " قال ابن زيد: أي ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي. وقال الضحاك ما أعلمكم إلا ما أعلم، والرؤية هنا هي القلبية لا البصرية، والمفعول الثاني هو إلا ما أرى "وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" أي ما أهديكم بهذا الرأي إلا طريق الحق. قرأ الجمهور الرشاد بتخفيف الشين، وقرأ معاذ بن جبل بتشديدها على أنها صيغة مبالغة كضراب. وقال النحاس: هي لحن، ولا وجه لذلك. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وقال رجل مؤمن من آل فرعون" قال: لم يكون في آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر موسى الذي قال: "إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك" قال ابن المنذر: أخبرت أن اسمه حزقيل. وأخرج عبد بن حميد عن أبي إسحاق قال: اسمه حبيب. وأخرج البخاري وغيره من طريق عروة قال: قيل لعبد الله بن عمرو بن العاص أخبرنا بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال "أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم". وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة والبزار عن علي بن أبي طالب أنه قال: أيها الناس أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا أنت. قال: أما أني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه ولكن أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا لا نعلم فمن؟ قال أبو بكر، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذته قريش، فهذا يجنبه وهذا يتلتله، وهم يقولون أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً، قال: فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويجيء هذا ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، ثم رفع بردة كانت عليه، فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أشدكم أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبون؟ فوالله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن من آل فرعون، وذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه.
ثم كرر ذلك الرجل المؤمن تذكيرهم، وحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم، فقال الله حاكياً عنه 30- "وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب" أي مثل يوم عذاب الأمم الماضية الذين تحزبوا على أنبيائهم وأفرد اليوم لأن جمع الأحزاب قد أغنى عن جمعه.
ثم فسر الأحزاب فقال: 31- " مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم " أي مثل حالهم في العذاب، أو مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب، أو مثل جزاء ما كانوا عليه من الكفر والتكذيب "وما الله يريد ظلماً للعباد" أي لا يعذبهم بغير ذنب، ونفي الإرادة للظلم يستلزم نفي الظلم بفحوى الخطاب.
ثم زاد في الوعظ والتذكير فقال: 32- "ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد" قرا الجمهور التناد بتخفيف الدال وحذف الياء، والأصل التنادي، وهو التفاعل من النداء، يقال تنادى القوم: أي نادى بعضهم بعضاً، وقرأ الحسن وابن السميفع ويعقوب وابن كثير ومجاهد بإثبات الياء على الأصل، وقرأ ابن عباس والضحاك وعكرمة بتشديد الدال. قال بعض أهل اللغة هو لحن، لأنه من ند يند: إذا مر على وجهه هارباً. قال النحاس: وهذا غلط، والقراءة حسنة على معنى التنافي. قال الضحاك: في معناه أنهم إذا سمعوا بزفير جهنم ندوا هرباً، فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلا وجدوا صفوفاً من الملائكة فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله: "يوم التناد" وعلى قراءة الجمهور المعنى: يوم ينادي بعضهم بعضاً، أو ينادي أهل النار أهل الجنة وأهل الجنة أهل النار، أو ينادي فيه بسعادة السعداء وشقاوة الأشقياء، أو يوم ينادي فيه كل أناس بإمامهم، ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني.
وقوله: 33- "يوم تولون مدبرين" بدل من يوم التناد: أي منصرفين عن الموقف إلى النار، أو فارين منها. قال قتادة ومقاتل: المعنى إلى النار بعد الحساب، وجملة "ما لكم من الله من عاصم" في محل نصب على الحال: أي ما لكم من يعصمكم من عذاب الله ويمنعكم منه "ومن يضلل الله فما له من هاد" يهديه إلى طريق الرشاد.