تفسير الطبري تفسير الصفحة 471 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 471
472
470
 الآية : 34
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَآءَكُـمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكّ مّمّا جَآءَكُـمْ بِهِ حَتّىَ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مّرْتَابٌ }.
يقول تعالى ذكره: ولقد جاءكم يوسف بن يعقوب يا قوم من قبل موسى بالواضحات من حجج الله, كما:
23390ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ قال: قبل موسى.
وقوله: فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكّ مِمّا جاءَكُمْ بِهِ يقول: فلم تزالوا مرتابين فيما أتاكم به يوسف من عند ربكم غير موقني القلوب بحقيقته حتى إذَا هَلَكَ يقول: حتى إذا مات يوسف قلتم أيها القوم: لن يبعث الله من بعد يوسف إليكم رسولاً بالدعاء إلى الحقّ وكَذَلكَ يُضِلّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرفٌ مُرْتابٌ يقول: هكذا يصدّ الله عن إصابة الحق وقصد السبيل من هو كافر به مرتاب, شاك في حقيقة أخبار رسله.
الآية : 35
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {الّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيَ آيَاتِ اللّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ وَعِندَ الّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ كُـلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبّارٍ }.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن من آل فرعون: الّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ بغَيْرِ سُلْطانٍ أتاهُمْ فقوله «الذين» مردود على «من» في قوله منْ هُوَ مُسْرِفٌ. وتأويل الكلام: كذلك يضلّ الله أهل الإسراف والغلوّ في ضلالهم بكفرهم بالله, واجترائهم على معاصيه, المرتابين في أخبار رسله, الذين يخاصمون في حججه التي أتتهم بها رسله ليدحضوها بالباطل من الحُجَج بغير سلطان أتاهم يقول: بغير حجة أتتهم من عند ربهم يدفعون بها حقيقة الحُجَج التي أتتهم بها الرسل و «الذين» إذا كان معنى الكلام ما ذكرنا في موضع نصب ردّا على «مَن».
وقوله: كَبُرَ مَقْتا عِنْدَ اللّهِ يقول: كبر ذلك الجدال الذي يجادلونه في آيات الله مقتا عند الله, وَعِنْدَ الّذِينَ آمَنُوا باللّه وإنما نصب قوله: مَقْتا لما في قوله كَبُرَ من ضمير الجدال, وهو نظير قوله: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ فنصب كلمة من نصبها, لأنه جعل في قوله: كَبُرَتْ ضمير قولهم: اتّخَذَ اللّهُ وَلَدا, وأما من لم يضمر ذلك فإنه رفع الكلمة.
وقوله: كَذَلكَ يَطْبَعُ اللّهُ على كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبّارٍ يقول: كما طبع الله على قلوب المسرفين الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم, كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر على الله أن يوحده, ويصدّق رسله. جبار: يعني متعظم عن اتباع الحقّ.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار, خلا أبي عمرو بن العلاء, على: كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ بإضافة القلب إلى المتكبر, بمعنى الخبر عن أن الله طبع على قلوب المتكبرين كلها ومن كان ذلك قراءته, كان قوله «جبار». من نعت «متكبر». وقد رُوي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ ذلك «كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ على قَلْبِ كُلّ مُتَكَبّرٍ جَبّارٍ».
23391ـ حدثني بذلك ابن يوسف, قال: حدثنا القاسم, قال: ثني حجاج, عن هارون أنه كذلك في حرف ابن مسعود.
وهذا الذي ذُكر عن ابن مسعود من قراءته يحقق قراءة من قرأ ذلك بإضافة قلب إلى المتكبر, لأن تقديم «كل» قبل القلب وتأخيرها بعده لا يغير المعنى, بل معنى ذلك في الحالتين واحد. وقد حُكي عن بعض العرب سماعا: هو يرجّل شعره يوم كلّ جمعة, يعني: كلّ يوم جمعة. وأما أبو عمرو فقرأ ذلك بتنوين القلب وترك إضافته إلى متكبر, وجعل المتكبر والجبار من صفة القلب.
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بإضافة القلب إلى المتكبر, لأن التكبر فعل الفاعل بقلبه, كما أن القاتل إذا قتل قتيلاً وإن كان قتله بيده, فإن الفعل مضاف إليه, وإنما القلب جارحة من جوارح المتكبر. وإن كان بها التكبر, فإن الفعل إلى فاعله مضاف, نظير الذي قلنا في القتل, وذلك وإن كان كما قلنا, فإن الأخرى غير مدفوعة, لأن العرب لا تمنع أن تقول: بطشت يد فلان, ورأت عيناه كذا, وفهم قلبه, فتضيف الأفعال إلى الجوارح, وإن كانت في الحقيقة لأصحابها.
الآية : 36-37
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَقَالَ فَرْعَوْنُ يَهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لّعَـلّيَ أَبْلُغُ الأسْبَابَ * أَسْبَابَ السّمَاوَاتِ فَأَطّلِعَ إِلَىَ إِلَـَهِ مُوسَىَ وَإِنّي لأظُنّهُ كَاذِباً وَكَـذَلِكَ زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوَءُ عَمَلِهِ وَصُدّ عَنِ السّبِيلِ وَمَا كَـيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاّ فِي تَبَابٍ }.
يقول تعالى ذكره: وقال فرعون لما وعظه المؤمن من آله بما وعظه به وزجره عن قتل موسى نبيّ الله وحذره من بأس الله على قيله أقتله ما حذره لوزيره وزير السوء هامان: يا هامانُ ابْنِ لي صَرْحا لَعَلّي أبْلُغُ الأسْبابَ يعني بناءً. وقد بيّنا معنى الصرح فيما مضى بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
لَعَلّي أبْلُغُ الأسْبابَ اختلف أهل التأويل في معنى الأسباب في هذا الموضع, فقال بعضهم: أسباب السموات: طرقها. ذكر من قال ذلك:
23392ـ حدثنا أحمد بن هشام, قال: حدثنا عبد الله بن موسى, عن إسرائيل, عن السديّ, عن أبي صالح أسْبابَ السّمَوَاتِ قال: طُرُق السموات.
23393ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ أبْلُغُ الأسْبابَ أسْبابَ السّمَوَاتِ قال: طُرُق السموات.
وقال آخرون: عُني بأسباب السموات: أبواب السموات. ذكر من قال ذلك:
23394ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لي صَرْحا وكان أوّل من بنى بهذا الاَجر وطبخه لَعَلّي أبْلُغُ الأسْبابَ أسْبابَ السّمَوَاتِ: أي أبواب السموات.
وقال آخرون: بل عُني به مَنْزِل السماء. ذكر من قال ذلك:
23395ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: لَعَلّي أبْلُغُ الأسْبابَ أسْبابَ السّمَوَاتِ قال: منزل السماء.
وقد بيّنا فيما مضى قبل, أن السبب: هو كلّ ما تُسَبّبَ به إلى الوصول إلى ما يطلب من حبل وسلم وطريق وغير ذلك.
فأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: معناه لعلي أبلغ من أسباب السموات أسبابا أتسبب بها إلى رؤية إله موسى, طرقا كانت تلك الأسباب منها, أو أبوابا, أو منازل, أو غير ذلك.
وقوله: فأطّلِعَ إلى إلَهِ مُوسَى اختلف القرّاء في قراءة قوله: فأطّلِعَ فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار: «فأطّلِعُ» بضم العين: ردّا على قوله: أبْلُغُ الأسْبابَ وعطفا به عليه. وذُكر عن حميد الأعرج أنه قرأ فأطّلِعَ نصبا جوابا للعَلّي, وقد ذكر الفرّاء أن بعض العرب أنشده:
(عَلّ صُرُوفِ الدّهْرِ أَوْ دُولاتِها )
(يُدِيلْنَنا اللّمّةَ مِنْ لَمّاتِها )
(فَتَسْتَرِيحَ النّفْسُ مِنْ زَفْرَاتِها )
فنصب فتستريحَ على أنها جواب للعلّ.
والقراءة التي لا أستجيز غيرها الرفع في ذلك, لإجماع الحجة من القراء عليه.
وقوله: وَإني لأَظُنّهُ كاذِبا يقول: وإني لأظنّ موسى كاذبا فيما يقول ويدّعي من أن له في السماء ربا أرسله إلينا.
وقوله: وكَذَلكَ زُيّنَ لِفَرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ يقول الله تعالى ذكره: وهكذا زين الله لفرعون حين عتا عليه وتمردّ, قبيح عمله, حتى سوّلت له نفسه بلوغ أسباب السموات, ليطلع إلى إله موسى.
وقوله: وَصُدّ عَنِ السّبِيلِ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة: وَصُدّ عَنِ السّبِيلِ بضمّ الصاد, على وجه ما لم يُسَمّ فاعله, كما:
23396ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَصُدّ عَنِ السّبِيلِ قال: فُعِل ذلك به, زين له سوء عمله, وصُدّ عن السبيل.
وقرأ ذلك حميد وأبو عمرو وعامة قرّاء البصرة «وَصَدّ» بفتح الصاد, بمعنى: وأعرض فرعون عن سبيل الله التي ابتُعِث بها موسى استكبارا.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان في قرأة الأمصار, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
وقوله: وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلاّ في تَبابٍ يقول تعالى ذكره: وما احتيال فرعون الذي يحتال للاطلاع إلى إله موسى, إلا في خسار وذهاب مال وغبن, لأنه ذهبت نفقته التي أنفقها على الصرح باطلاً, ولم ينل بما أنفق شيئا مما أراده, فذلك هو الخسار والتباب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23397ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلاّ فِي تَبابٍ يقول: في خُسران.
23398ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: فِي تَبابٍ قال: خَسار.
23399ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلاّ فِي تَبابٍ: أي في ضلال وخسار.
23400ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلاّ فِي تَبابٍ قال: التّباب والضّلال واحد.
الآية : 38-39
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَقَالَ الّذِيَ آمَنَ يَقَوْمِ اتّبِعُونِ أَهْدِكُـمْ سَبِيـلَ الرّشَـادِ * يَقَوْمِ إِنّمَا هَـَذِهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنّ الاَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَـرَارِ }.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن المؤمن بالله من آل فرعون وَقالَ الّذي آمَنَ من قوم فرعون لقومه: يا قَوْمِ اتّبِعُونِ أهْدِكُمْ سَبِيلَ الرّشادِ يقول: إن اتبعتموني فقبلتم مني ما أقول لكم, بيّنت لكم طريق الصواب الذي تَرشدُون إذا أخذتم فيه وسلكتموه وذلك هو دين الله الذي ابتعث به موسى. يقول: إنّمَا هَذِهِ الحيَاةُ الدّنْيا مَتاعٌ يقول لقومه: ما هذه الحياة الدنيا العاجلة التي عجلت لكم في هذه الدار إلا متاع تستمعون بها إلى أجل أنتم بالغوه, ثم تموتون وتزول عنكم وَإنّ الاَخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرارِ يقول: وإن الدار الاَخرة, وهي دار القرار التي تستقرّون فيها فلا تموتون ولا تزول عنكم, يقول: فلها فاعملوا, وإياها فاطلبوا. وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: وَإنّ الاَخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرارِ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23401ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَإنّ الاَخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرارِ استقرّت الجنة بأهلها, واستقرّت النار بأهلها.
الآية : 40
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {مَنْ عَمِـلَ سَـيّئَةً فَلاَ يُجْزَىَ إِلاّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِـلَ صَالِحاً مّن ذَكَـرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ }.
يقول: من عمل بمعصية الله في هذه الحياة الدنيا, فلا يجزيه الله في الاَخرة إلا سيئة مثلها, وذلك أن يعاقبه بها وَمَنْ عَمِلَ صَالِحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى يقول: ومن عمل بطاعة الله في الدنيا, وأتمر لأمره, وانتهى فيها عما نهاه عنه من رجل أو امرأة, وهو مؤمن بالله فأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنّةَ يقول: فالذين يعملون ذلك من عباد الله يدخلون في الاَخرة الجنة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23402ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلا يُجْزَى إلاّ مِثْلَها أي شركا, «السيئة عند قتادة شرك» وَمَنْ عَمِلَ صَالِحا, أي خيرا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُوءْمِنٌ.
وقوله: يُرْزَقُونَ فِيها بغَيْرِ حِسابٍ يقول: يرزقهم الله في الجنة من ثمارها, وما فيها من نعيمها ولذّاتها بغير حساب, كما:
23403ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة يُرْزَقُونَ فِيها بغَيْرِ حِسابٍ قال: لا والله ما هناكم مكيال ولا ميزان