تفسير الطبري تفسير الصفحة 478 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 478
479
477
 الآية : 12
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَقَضَاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىَ فِي كُلّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيّنّا السّمَآءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }.
يقول تعالى ذكره: ففرغ من خلقهن سبع سموات في يومين, وذلك يوم الخميس ويوم الجمعة, كما:
23491ـ حدثني موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: استوى إلى السماء وهي دخان من تنفس الماء حين تنفس, فجعلها سماء واحدة, ففتقها, فجعلها سبع سموات في يومين, في الخميس والجمعة. وإنما سُمّي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض.
وقوله: وأوْحَى فِي كُلّ سَماءٍ أمْرَها يقول: وألقى في كل سماء من السموات السبع ما أراد من الخلق. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23492ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: وأوْحَى فِي كُلّ سَماءٍ أمْرَها قال: ما أمر الله به وأراده.
23493ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وأوْحَى فِي كُلّ سَماءٍ أمْرَهاقال: خلق في كلّ سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد, وما لا يعلم.
23494ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وأوْحَى فِي كُلّ سَماءٍ أمْرَها: خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها.
وقوله: وَزَيّنا السّماءَ الدّنْيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظا يقول تعالى ذكره: وزيّنا السماء الدنيا إليكم أيها الناس بالكواكب وهي المصابيح, كما:
23495ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ زَيّنا الدّنْيا بِمَصَابِيحَ قال: ثم زين السماء بالكواكب, فجعلها زينة وَحِفْظا من الشياطين.
واختلف أهل العربية في وجه نصبه قوله: وَحِفْظا فقال بعض نحويي البصرة: نصب بمعنى: وحفظناها حفظا, كأنه قال: ونحفظها حفظا, لأنه حين قال: زَيّناها بِمَصابِيحَ قد أخبر أنه قد نظر في أمرها وتعهدها, فهذا يدلّ على الحفظ, كأنه قال: وحفظناها حفظا. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: نصب ذلك على معنى: وحفظا زيناها, لأن الواو لو سقطت لكان إنا زينا السماء الدنيا حفظا وهذا القول الثاني أقرب عندنا للصحة من الأوّل.
وقد بيّنا العلة في نظير ذلك في غير موضع من هذا الكتاب, فأغنى ذلك عن إعادته.
وقوله: ذلكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصفت لكم من خلقي السماء والأرض وما فيهما, وتزييني السماء الدنيا بزينة الكواكب, على ما بينت تقدير العزيز في نقمته من أعدائه, العليم بسرائر عباده وعلانيتهم, وتدبيرهم على ما فيه صلاحهم.
الآية : 13-14
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَآءَتْهُمُ الرّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ اللّهَ قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبّنَا لأنزَلَ مَلاَئِكَةً فَإِنّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: فإن أعرض هؤلاء المشركون عن هذه الحجة التي بيّنتها لهم يا محمد, ونبهتهم عليها فلم يؤمنوا بها ولم يقرّوا أن فاعل ذلك هو الله الذي لا إله غيره, فقل لهم: أنذرتكم أيها الناس صاعقة تهلككم مثل صاعقة عاد وثمود.
وقد بيّنا فيما مضى أن معنى الصاعقة: كلّ ما أفسد الشيء وغيره عن هيئته. وقيل في هذا الموضع عنى بها وقيعة من الله وعذاب. ذكر من قال ذلك:
23496ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: صَاعِقَةٌ مِثْلَ صَاعِقَةِ عادٍ وَثمُودَ قال: يقول: أنذرتكم وقيعة عاد وثمود, قال: عذاب مثل عذاب عاد وثمود.
وقوله: إذْ جاءَتُهُمْ الرّسُلُ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ يقول: فقل: أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود التي أهلكتهم, إذ جاءت عادا وثمود الرسل من بين أيديهم فقوله «إذ» من صلة صاعقة. وعنى بقوله: مِنْ بَينِ أيْدِيهِمْ الرسل التي أتت آباء الذين هلكوا بالصاعقة من هاتين الأمتين. وعنى بقوله: وَمِنْ خَلْفِهِمْ: من خلف الرسل الذين بعثوا إلى آبائهم رسلاً إليهم, وذلك أن الله بعث إلى عاد هودا, فكذّبوه من بعد رسل قد كانت تقدمته إلى آبائهم أيضا, فكذّبوهم, فأهلكوا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23497ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: فإن أعْرَضُوا... إلى قوله: وَمِنْ خَلْفِهِمْ قال: الرسل التي كانت قبل هود, والرسل الذين كانوا بعده, بعث الله قبله رسلاً, وبعث من بعده رسلاً.
وقوله: ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ اللّهَ يقول تعالى ذكره: جاءتهم الرسل بأن لا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له, قالوا: لَوْ شاءَ رَبّنا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً يقول جلّ ثناؤه: فقالوا لرسلهم إذ دعوهم إلى الإقرار بتوحيد الله: لو شاء ربنا أن نوحده, ولا نعبد من دونه شيئا غيره, لأنزل إلينا ملائكة من السماء رسلاً بما تدعوننا أنتم إليه, ولم يرسلكم وأنتم بشر مثلنا, ولكنه رضى عبادتنا ما نعبد, فلذلك لم يرسل إلينا بالنهي عن ذلك ملائكة.
وقوله: فإنّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ يقول: قال لرسلهم: فإنا بالذي أرسلكم به ربكم إلينا جاحدون غير مصدّقين به.
الآية : 15
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَأَمّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدّ مِنّا قُوّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ }.
يقول تعالى ذكره: فأمّا عادٌ قوم هود فاسْتَكْبَرُوا على ربهم وتجبروا فِي الأرْضِ تكبرا وعتوّا بغير ما أذن الله لهم به وَقالُوا مَنْ أشَدّ مِنّا قُوّةٍ أوَلَمْ يَرَوْا أنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَهُمْ وأعطاهم ما أعطاهم من عظم الخلق, وشدّة البطش هُو أشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً فيحذروا عقابه, ويتقوا سطوته لكفرهم به, وتكذيبهم رسله وكانُوا بآياتِنا يَجْحَدُونَ يقول: وكانوا بأدلتنا وحججنا عليهم يجحدون.
الآية : 16
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِيَ أَيّامٍ نّحِسَاتٍ لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أَخْزَىَ وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: فأرسلنا على عاد ريحا صرصرا.
واختلف أهل التأويل في معنى الصرصر, فقال بعضهم: عني بذلك أنها ريح شديدة. ذكر من قال ذلك:
23498ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ريحا صَرصَرا قال: شديدة.
حدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد رِيحا صَرْصَرا شديدة السّموم عليهم.
وقال آخرون: بل عنى بها أنها باردة. ذكر من قال ذلك:
23499ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحا صَرْصَرا قال: الصرصر: الباردة.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: رِيحا صَرْصَرا قال: باردة.
23500ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ رِيحا صَرْصَرا قال: باردة ذات الصوت.
23501ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول, في قوله: رَيحا صَرْصَرا يقول: ريحا فيها برد شديد.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول مجاهد, وذلك أن قوله: صَرْصَرا إنما هو صوت الريح إذا هبّت بشدّة, فسُمع لها كقول القائل: صرر, ثم جعل ذلك من أجل التضعيف الذي في الراء, فقال ثم أبدلت إحدى الراءات صادا لكثرة الراءات, كما قيل في ردّده: ردرده, وفي نههه: نهنهه, كما قال رؤبة:
فالْيَوْمَ قَدْ نَهْنَهَنِي تَنَهْنُهِيوأوّلُ حِلْمٍ لَيْسَ بالمُسَفّهِ
وكما قيل في كففه: كفكفه, كما قال النابغة:
أُكَفْكِفُ عَبْرَةً غَلَبَتْ عُداتِيإذَا نَهْنَهْتُها عادَتْ ذُباحا
وقد قيل: إن النهر الذي يسمى صرصرا, إنما سمي بذلك لصوت الماء الجاري فيه, وإنه «فعلل» من صرر نظير الريح الصرصر.
وقوله: في أيّامٍ نَحِساتٍ اختلف أهل التأويل في تأويل النحسات, فقال بعضهم: عُني بها المتتابعات.ذكر من قال ذلك:
23502ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: في أيّامٍ نَحِساتٍ قال: أيام متتابعات أنزل الله فيهنّ العذاب.
وقال آخرون: عِني بذلك المشائيم. ذكر من قال ذلك:
23503ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: أيّامٍ نَحِساتٍ قال: مشائيم.
23504ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة في أيّامٍ نَحِساتٍ أيام والله كانت مشؤومات على القوم.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: النحسات: المشؤومات النكدات.
23505ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ في أيّامٍ نَحِساتٍ قال: أيام مشؤومات عليهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: أيام ذات شرّ. ذكر من قال ذلك:
23506ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد قوله: أيّامٍ نَحِساتٍ قال: النحس: الشرّ أرسل عليهم ريح شرّ ليس فيها من الخير شيء.
وقال آخرون: النحسات: الشداد. ذكر من قال ذلك:
23507ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في أيّامٍ نَحِساتٍ قال: شداد.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال عنى بها: أيام مشائيم ذات نحوس, لأن ذلك هو المعروف من معنى النحس في كلام العرب.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار غير نافع وأبي عمرو في أيّامٍ نَحِساتٍ بكسر الحاء, وقرأه نافع وأبو عمرو: «نَحْساتٍ» بسكون الحاء. وكان أبو عمرو فيما ذكر لنا عنه يحتج لتسكينه الحاء بقوله: يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٌ وأن الحاء فيه ساكنة.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان, قد قرأ بكلّ واحدة منهما قرّاء علماء مع اتفاق معنييهما, وذلك أن تحريك الحاء وتسكينها في ذلك لغتان معروفتان, يقال هذا يومٌ نَحْسٌ, ويومٌ نَحِسٌ, بكسر الحاء وسكونها قال الفرّاء: أنشدني بعض العرب:
أبلِغْ جُذَاما وَلَخْما أنّ إخْوَتُهمْطَيّا وَبهْرَاءَ قَوْمٌ نَصْرُهُمْ نَحِسُ
وأما من السكون فقول الله يَوْمِ نَحْسٍ ومنه قول الراجز:
يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ وَيَوْما شَمْسانَجْمَيْنِ بالسّعْدِ وَنجْما نَحْسا
فمن كان في لغته: «يَوْمٍ نَحْسٍ» قال: «في أيّامٍ نَحْساتٍ», ومن كان في لغته: يَوْمِ نَحْسٍ قال: في أيّامٍ نَحِساتٍ, وقد قال بعضهم: النحْس بسكون الحاء: هو الشؤم نفسه, وإن إضافة اليوم إلى النحس, إنما هو إضافة إلى الشؤم, وإن النحِس بكسر الحاء نعت لليوم بأنه مشؤوم, ولذلك قيل: في أيّامٍ نَحِساتٍ لأنها أيام مشائيم.
وقوله: لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخَزْيِ في الحَياةِ الدّنْيا يقول جلّ ثناؤه: ولعذابنا إياهم في الاَخرة أخزى لهم وأشدّ إهانة وإذلالاً وهُمْ لا يُنْصَرُونَ يقول: وهم يعني عادا لا ينصرهم من الله يوم القيامة إذا عذّبهم ناصر, فينقذهم منه, أو ينتصر لهم.
الآية : 17-18
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبّواْ الْعَمَىَ عَلَى الْهُدَىَ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * وَنَجّيْنَا الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يتّقُونَ }.
يقول تعالى ذكره: فبيّنا لهم سبيل الحقّ وطريق الرشد, كما:
23508ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ: أي بيّنا لهم.
23509ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ بيّنا لهم سبيل الخير والشرّ.
23510ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ بيّنا لهم.
23511ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ قال: أعلمناهم الهدى والضلالة, ونهيناهم أن يتّبعوا الضلالة, وأمرناهم أن يتبعوا الهدى.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله: ثَمُودُ فقرأته عامة القرّاء من الأمصار غير الأعمش وعبد الله بن أبي إسحاق برفع ثمود, وترك إجرائها على أنها اسم للأمة التي تعرف بذلك. وأما الأعمش فإنه ذكر عنه أنه كان يُجزي ذلك في القرآن كله إلا في قوله: وآتَيْنَا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فإنه كان لا يجريه في هذا الموضع خاصة من أجل أنه في خطّ المصحف في هذا الموضع بغير ألف, وكان يوجه ثمود إلى أنه اسم رجل بعينه معروف, أو اسم جيل معروف. وأما ابن إسحاق فإنه كان يقرؤه نصبا. وأما ثمود بغير إجراء, وذلك وإن كان له في العربية وجه معروف, فإن أفصح منه وأصحّ في الإعراب عند أهل العربية الرفع لطلب أما الأسماء وأن الأفعال لا تليها, وإنما تعمل العرب الأفعال التي بعد الأسماء فيها إذا حسن تقديمها قبلها والفعل في أما لا يحسن تقديمه قبل الاسم ألا ترى أنه لا يقال: وأما هدينا فثمود, كما يقال: وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا الرفع وترك الإجراء أما الرفع فلما وصفت, وأما ترك الإجراء فلأنه اسم للأمة.
وقوله: فاسْتَحَبّوا العَمَى على الهُدَى يقول: فاختاروا العمى على البيان الذي بيّنت لهم, والهدى الذي عرفتهم, بأخذهم طريق الضلال على الهدى, يعني على البيان الذي بيّنه لهم, من توحيد الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23512ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ فاسْتَحَبّوا العَمَى على الهُدَى قال: اختاروا الضلالة والعمى على الهدى.
23513ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فاسْتَحَبّوا العَمَى على الهُدَى قال: أرسل الله إليهم الرسل بالهدى فاستحبوا العمى على الهدى.
23514ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة فاسْتَحَبّوا العَمَى يقول: بيّنا لهم, فاستحبوا العمى على الهدى.
23515ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فاسْتَحَبّوا العَمَى على الهُدَى قال: استحبوا الضلالة على الهدى, وقرأ: وَكذَلكَ زَيّنا لِكُلّ أُمّةٍ عَمَلَهُمْ... إلى آخر الاَية, قال: فزين لثمود عملها القبيح, وقرأ: أَفَمَنْ زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرآهُ حَسَنا فإنّ اللّهَ يُضِلّ مَنْ يَشاءُ... إلى آخر الاَية.
وقوله: فَأخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العَذابِ الهُونِ بِمَا كانُوا يكْسِبُونَ يقول: فأهلكتهم من العذاب المذلّ المهين لهم مُهلكة أذلتهم وأخزتهم والهون: هو الهوان, كما:
23516ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ عَذَابِ الهُونِ قال: الهوان.
وقوله: بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ من الاَثام بكفرهم بالله قبل ذلك, وخلافهم إياه, وتكذيبهم رسله.
وقوله: ونَجّيْنا الّذِينَ آمَنُوا يقول: ونجينا الذين آمنوا من العذاب الذي أخذهم بكفرهم بالله, الذين وحّدوا الله, وصدّقوا رسله وَكانُوا يَتّقُونَ يقول: وكانوا يخافون الله أن يحلّ بهم من العقوبة على كفرهم لو كفروا ما حلّ بالذين هلكوا منهم, فآمنوا اتّقاء الله وخوف وعيده, وصدّقوا رسله, وخلعوا الاَلهة والأنداد.
الآية : 19-20
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللّهِ إِلَى النّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتّىَ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ويوم يجمع هؤلاء المشركون أعداء الله إلى النار, إلى نار جهنم, فهم يحبس أوّلهم على آخرهم, كما:
23517ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ فَهُمْ يُوزَعُونَ قال: يحبس أوّلهم على آخرهم.
23518ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَهُمْ يُوزَعُونَ قال: عليهم وزعة تردّ أولاهم على أُخراهم.
وقوله: حتى إذَا ما جاؤها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبْصَارُهُمْ يقول: حتى إذا ما جاؤوا النار شهد عليهم سمعهم بما كانوا يصغون به في الدنيا إليه, ويستمعون له, وأبصارهم بما كانوا يبصرون به وينظرون إليه في الدنيا وَجُلُودُوهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.
وقد قيل: عُني بالجلود في هذا الموضع: الفروج. ذكر من قال ذلك:
23519ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب القمي, عن الحكم الثقفي, رجل من آل أبي عقيل رفع الحديث, وقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا إنما عُني فروجهم, ولكن كني عنها.
23520ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثنا حرملة, أنه سمع عبيد الله بن أبي جعفر, يقول حتى إذَا ما جاؤها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ قال: جلودهم: الفروج.
وهذا القول الذي ذكرناه عمن ذكرنا عنه في معنى الجلود, وإن كان معنى يحتمله التأويل, فليس بالأغلب على معنى الجلود ولا بالأشهر, وغير جائز نقل معنى ذلك المعروف على الشيء الأقرب إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها