سورة الزخرف | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الطبري تفسير الصفحة 490 من المصحف
تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 490
491
489
الآية : 11-12
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالّذِي نَزّلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وَالّذِي نَزّلَ مِنَ السّماءِ ماءً بقَدَرٍ يعني: ما نزّل جلّ ثناؤه من الأمطار من السماء بقدر: يقول: بمقدار حاجتكم إليه, فلم يجعله كالطوفان, فيكون عذابا كالذي أنزل على قوم نوح, ولا جعله قليلاً, لا ينبت به النبات والزرع من قلّته, ولكنه جعله غيثا مغيثا, وَحَيا للأرض الميتة محييا فَأنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتا يقول جلّ ثناؤه: فأحيينا به بلدة من بلادكم ميتا, يعني مجدبة لا نبات بها ولا زرع, قد درست من الجدوب, وتعفنت من القحوط كَذلكَ تُخْرَجُونَ يقول تعالى ذكره: كما أخرجنا بهذا الماء الذي نزّلناه من السماء من هذه البلدة الميتة بعد جدوبها وقحوطها النبات والزرع, كذلك أيها الناس تُخرجون من بعد فنائكم ومصيركم في الأرض رفاتا بالماء الذي أنزله إليها لإحيائكم من بعد مماتكم منها أحياء كهيئتكم التي بها قبل مماتكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23781ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَالّذِي نَزّلَ مِنَ السّماءِ ماءً بقَدَرٍ... الاَية, كما أحيا الله هذه الأرض الميتة بهذا الماء كذلك تبعثون يوم القيامة وقيل: أنشرنا به, لأن معناه: أحيينا به, ولو وصفت الأرض بأنها أحييت, قيل: نشرت الأرض, كما قال الأعشى:
حتى يَقُولَ النّاسُ مِمّا رأَوْايا عَجَبا للْمَيّتِ النّاشِرِ
وقوله: وَالّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كلّها يقول تعالى ذكره: والذي خلق كلّ شيء فزوّجه, أي خلق الذكور من الإناث أزواجا, والإناث من الذكور أزواجا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الفُلْكِ وهي السفن والأنْعامِ وهي البهائم ما تَرْكَبُونَ يقول: جعل لكم من السفن ما تركبونه في البحار إلى حيث قصدتم واعتمدتم في سيركم فيها لمعايشكم ومطالبكم, ومن الأنعام ما تركبونه في البرّ إلى حيث أردتم من البلدان, كالإبل والخيل والبغال والحمير.
الآية : 13-14
القول في تأويل قوله تعالى: {لِتَسْتَوُواْ عَلَىَ ظُهُورِهِ ثُمّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَـَذَا وَمَا كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنّآ إِلَىَ رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ }.
يقول تعالى ذكره: كي تستووا على ظهور ما تركبون.
واختلف أهل العربية في وجه توحيد الهاء في قوله: على ظُهُورِهِ وتذكيرها, فقال بعض نحويّي البصرة: تذكيره يعود على ما تركبون, وما هو مذكر, كما يقال: عندي من النساء من يوافقك ويسرّك, وقد تذكّر الأنعام وتؤنث. وقد قال في موضع آخر: مِمّا في بُطُونِهِ وقال في موضع آخر: بُطُونِها. وقال بعض نحويّي الكوفة: أضيفت الظهور إلى الواحد, لأن ذلك الواحد في معنى جمع بمنزلة الجند والجيش. قال: فإن قيل: فهلا قلت: لتستووا على ظهره, فجعلت الظهر واحدا إذا أضفته إلى واحد. قلت: إن الواحد فيه معنى الجمع, فردّت الظهور إلى المعنى, ولم يقل ظهره, فيكون كالواحد الذي معناه ولفظه واحد. وكذلك تقول: قد كثر نساء الجند, وقلت: ورفع الجند أعينه ولم يقل عينه. قال: وكذلك كلّ ما أضفت إليه من الأسماء الموصوفة, فأخرجها على الجمع, وإذا أضفت إليه اسما في معنى فعل جاز جمعه وتوحيده, مثل قولك: رفع العسكر صوتَه, وأصواته أجود وجاز هذا لأن الفعل لا صورة له في الاثنين إلاّ الصورة في الواحد.
وقال آخر منهم: قيل: لتستووا على ظهره, لأنه وصف للفلك, ولكنه وحد الهاء, لأن الفلك بتأويل جمع, فجمع الظهور ووحد الهاء, لأن أفعال كل واحد تأويله الجمع توحد وتجمع مثل: الجند منهزم ومنهزمون, فإذا جاءت الأسماء خرج على الأسماء لا غير, فقلت: الجند رجال, فلذلك جمعت الظهور ووحدت الهاء, ولو كان مثل الصوت وأشباهه جاز الجند رافع صوته وأصواته.
قوله: ثُمّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبّكُمْ يقول تعالى ذكره: ثم تذكروا نعمة ربكم التي أنعمها عليكم بتسخيره ذلك لكم مراكب في البرّ والبحر إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ فتعظموه وتمجدوه, وتقولوا تنزيها لله الذي سخر لنا هذا الذي ركبناه من هذه الفلك والأنعام, مما يصفه به المشركون, وتشرك معه في العبادة من الأوثان والأصنام وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23782ـ حدثنا أبو كُرَيب وعبيد بن إسماعيل الهباري, قالا: حدثنا المحاربيّ, عن عاصم الأحول, عن أبي هاشم عن أبي مجلّز, قال: ركبت دابة, فقلت: سُبْحانَ الّذي سَخّرَ لَنا هَذَا وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ, فسمعني رجل من أهل البيت قال أبو كُرَيب والهباريّ: قال المحاربيّ: فسمعت سفيان يقول: هو الحسن بن عليّ رضوان الله تعالى عليهما, فقال: أهكذا أمرت؟ قال: قلت: كيف أقول؟ قال: تقول الحمد لله الذي هدانا الإسلام, الحمد لله الذي منّ علينا بمحمد عليه الصلاة والسلام, الحمد لله الذي جعلنا في خير أمة أُخرجت للناس, فإذا أنت قد ذكرت نعما عظاما, ثم تقول بعد ذلك سُبْحانَ الّذِي سَخّرَ لَنا هَذَا وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ, وَإنّا إلى رَبّنا لَمُنْقَلِبُونَ.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن أبي هاشم, عن أبي مجلّز, أن الحسن بن عليّ رضي الله عنه, رأى رجلاً ركب دابة, فقال: الحمد لله الذي سخر لنا هذا, ثم ذكر نحوه.
23783ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة لِتَسْتَوُوا على ظُهُورِهِ ثُمّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ يعلمكم كيف تقولون إذا ركبتم في الفلك تقولون: بِسْمِ الله مَجْراها وَمُرْساها, إنّ رَبّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ, وإذا ركبتم الإبل قلتم: سُبْحانَ الّذِي سَخّرَ لَنا هَذَا وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ, وإنّا إلى رَبنَا لمُنْقَلِبُونَ ويعلمكم ما تقولون إذا نزلتم من الفلك والأنعام جميعا تقولون: اللهمّ أنزلنا منزلاً مباركا وأنت خير المنزلين.
23784ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه أنه كان إذا ركب قال: اللهمّ هذا من منّك وفضلك, ثم يقول: سُبْحانَ الّذِي سَخّرَ لَنا هَذَا وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ, وَإنّا إلى رَبّنَا لمُنْقَلِبُونَ.
وقوله: وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ وما كنا له مُطِيقين ولا ضابطين, من قولهم: قد أقرنت لهذا: إذا صرت له قرنا وأطقته, وفلان مقرن لفلان: أي ضابط له مُطِيق. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23785ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ يقول: مُطِيقين.
23786ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله عَزّ وَجَلّ: مُقْرِنِينَ قال: الإبل والخيل والبغال والحمير.
23787ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ: أي مطيقين, لا والله لا في الأيدي ولا في القوّة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, قوله: وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ قال: في القوّة.
23788ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ قال: مطيقين.
23789ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قول الله جلّ ثناؤه: سُبْحانَ الّذِي سَخّرَ لَنا هَذَا وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ قال: لسنا له مطيقين, قال: لا نطيقها إلاّ بك, لولا أنت ما قوينا عليها ولا أطقناها.
وقوله: وَإنّا إلى رَبّنا لَمُنْقَلِبُون يقول جلّ ثناؤه: وليقولوا أيضا: وإنا إلى ربنا من بعد مماتنا لصائرون إليه راجعون.
الآية : 15-17
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ مّبِينٌ * أَمِ اتّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرّحْمَـَنِ مَثَلاً ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء المشركون لله من خلقه نصيبا, وذلك قولهم للملائكة: هم بنات الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23790ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءا قال: ولدا وبنات من الملائكة.
23791ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءا قال: البنات.
وقال آخرون: عنى بالجزء هاهنا: العدل. ذكر من قال ذلك:
23792ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءا: أي عِدلاً.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءا: أي عِدلاً.
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك, لأن الله جلّ ثناؤه أتبع ذلك قوله: أمِ اتّخَذَ مِما يخْلُقُ بَناتٍ وأصْفاكُمْ بالبَنِينَ توبيخا لهم على قولهم ذلك, فكان معلوما أن توبيخه إياهم بذلك إنما هو عما أخبر عنهم من قيلهم ما قالوا في إضافة البنات إلى الله جلّ ثناؤه.
وقوله: إنّ الإنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ يقول تعالى ذكره: إن الإنسان لذو جحد لنِعم ربه التي أنعمها عليه مبين: يقول: يبين كفرانه نعمه عليه, لمن تأمله بفكر قلبه, وتدبر حاله.
وقوله: أمِ اتّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَناتٍ يقول جلّ ثناؤه موبخا هؤلاء المشركين الذين وصفوه بأن الملائكة بناته: اتخذ ربكم أيها الجاهلون مما يخلق بنات, وأنتم لا ترضون لأنفسكم, وأصفاكم بالبنين: يقول: وأخلصكم بالبنين, فجعلهم لكم وَإذَا بُشّرَ أحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ للرّحْمَن مَثَلاً يقول تعالى ذكره: وإذا بشر أحد هؤلاء المشركين الجاعلين لله من عباده جزءا بما ضرب للرحمن مثلاً: يقول: بما مثل لله, فشبهه شبها, وذلك ما وصفه به من أن له بنات. كما:
23793ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: بِمَا ضَرَبَ للرّحْمَن مَثَلاً قال: ولدا.
23794ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: بِما ضَرَبَ للرّحْمَن مَثَلاً بما جعل لله.
وقوله: ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا يقول تعالى ذكره: ظلّ وجه هذا الذي بشّر بما ضرب للرحمن مثلاً من البنات مسودّا من سوء ما بشر به وَهُوَ كَظِيمٌ يقول: وهو حزين. كما:
23795ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَهُوَ كَظِيمٌ: أي حزين.
الآية : 18
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَمَن يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ }.
يقول تعالى ذكره: أو من ينبت في الحلية ويزين بها وَهُوَ فِي الخِصَامِ يقول: وهو في مخاصمة من خاصمه عند الخصام غير مبين, من خصمه ببرهان وحجة, لعجزه وضعفه, جعلتموه جزء الله من خلقه وزعمتم أنه نصيبه منهم, وفي الكلام متروك استغنى بدلالة ما ذكر منه وهو ما ذكرت.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ, فقال بعضهم: عُنِي بذلك الجواري والنساء. ذكر من قال ذلك:
23796ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: أوَ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ قال: يعني المرأة.
23797ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن علقمة, عن مرثد, عن مجاهد, قال: رخص للنساء في الحرير والذهب, وقرأ أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَام غَيرَ مُبِينٍ قال: يعني المرأة.
23798ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَام غَيرُ مُبِينٍ قال: الجواري جعلتموهنّ للرحمن ولدا, كيف تحكمون.
23799ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أوَ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ قال: الجواري يسفههنّ بذلك, غير مبين بضعفهنّ.
23800ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ يقول: جعلوا له البنات وهم إذا بشّر أحدهم بهنّ ظلّ وجهه مسودّا وهو كظيم. قال: وأما قوله: وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ يقول: قلما تتكلم امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلاّ تكلمت بالحجة عليها.
23801ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ قال: النساء.
وقال آخرون: عُنِي بذلك أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله. ذكر من قال ذلك:
23802ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: أوْ مَنْ يُنَشّأ فِي الْحِلْيةِ... الاَية, قال: هذه تماثيلهم التي يضربونها من فضة وذهب يعبدونها هم الذين أنشأُوها, ضربوها من تلك الحلية, ثم عبدوها وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ قال: لا يتكلم, وقرأ فإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبينٌ.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عني بذلك الجواري والنساء, لأن ذلك عقيب خبر الله عن إضافة المشركين إليه ما يكرهونه لأنفسهم من البنات, وقلة معرفتهم بحقه, وتحليتهم إياه من الصفات والبخل, وهو خالقهم ومالكهم ورازقهم, والمنعم عليهم النعم التي عددها في أوّل هذه السورة ما لا يرضونه لأنفسهم, فاتباع ذلك من الكلام ما كان نظيرا له أشبه وأولى من اتباعه ما لم يجر له ذكر.
واختلف القرّاء في قراءة قوله: أوَ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض المكيين والكوفيين «أوْ مَنْ يَنْشَأُ» بفتح الياء والتخفيف من نشأ ينشأ. وقرأته عامة قرّاء الكوفة يُنَشّأُ بضم الياء وتشديد الشين من نُشّأته فهو ينَشّأ.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان في قرأة الأمصار, متقاربتا المعنى, لأن المنشّأ من الإنشاء ناشىء, والناشىء منشأ, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله «أوْ مَنْ لا يُنَشّأُ إلاّ فِي الْحِلْيَةِ», وفي «من» وجوه من الإعراب الرفع على الاستئناف والنصب على إضمار يجعلون كأنه قيل: أو من ينشأ في الحلية يجعلون بنات الله. وقد يجوز النصب فيه أيضا على الردّ على قوله: أم اتخذ مما يخلق بنات أو من ينشأ في الحلية, فيردّ «من» على البنات, والخفض على الردّ على «ما» التي في قوله: وَإذَا بُشّرَ أحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ للرّحْمَن مَثَلاً.
الآية : 19
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَةَ الّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرّحْمَـَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء المشركون بالله ملائكته الذين هم عباد الرحمن.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة «الّذِينَ هُمْ عِنْدَ الرّحْمَنِ» بالنون, فكأنهم تأوّلوا في ذلك قول الله جلّ ثناؤه: إنّ الّذِينَ عِنْدَ رَبّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ فتأويل الكلام على هذه القراءة: وجعلوا ملائكة الله الذين هم عنده يسبحونه ويقدّسونه إناثا, فقالوا: هم بنات الله جهلاً منهم بحقّ الله, وجرأة منهم على قيل الكذب والباطل. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة وَجَعَلوا المَلائِكَةَ الّذِينَ هُمْ عِبادُ الرّحْمَنِ إناثا بمعنى: جمع عبد. فمعنى الكلام على قراءة هؤلاء: وجعلوا ملائكة الله الذين هم خلقه وعباده بنات الله, فأنثوهم بوصفهم إياهم بأنهم إناث.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان في قرأة الأمصار صحيحتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب, وذلك أن الملائكة عباد الله وعنده.
واختلفوا أيضا في قراءة قوله: أشَهِدُوا خَلْقَهُمْ فقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة «أُشْهِدُوا خَلْقَهُمْ» بضم الألف, على وجه ما لم يسمّ فاعله, بمعنى: أأشهد الله هؤلاء المشركين الجاعلين ملائكة الله إناثا, خلق ملائكته الذين هم عنده, فعلموا ما هم, وأنهم إناث, فوصفوهم بذلك, لعلمهم بهم, وبرؤيتهم إياهم, ثم رُدّ ذلك إلى ما لم يسمّ فاعله. وقُرىء بفتح الألف, بمعنى: أَشهدوا هم ذلك فعلموه؟
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
وقوله: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ يقول تعالى ذكره: ستكتب شهادة هؤلاء القائلين: الملائكة بنات الله في الدنيا, بما شهدوا به عليهم, ويُسألون عن شهادتهم تلك في الاَخرة أن يأتوا ببرهان على حقيقتها, ولن يجدوا إلى ذلك سبيلاً.
الآية : 20-21
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرّحْمَـَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون من قريش: لو شاء الرحمن ما عبدنا أوثاننا التي نعبدها من دونه, وإنما لم يحلّ بنا عقوبة على عبادتنا إياها لرضاه منا بعبادتناها. كما:
23803ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: لَوْ شاءَ الرّحْمَنُ ما عَبَدْناهُمْ للأوثان يقول الله عزّ وجلّ ما لَهُمْ بِذَلكَ مِنْ عِلْم يقول: ما لهم بحقيقة ما يقولون من ذلك من علم, وإنما يقولونه تخرّصا وتكذّبا, لأنهم لا خبر عندهم مني بذلك ولا بُرْهان. وإنما يقولونه ظنا وحسبانا إنْ هُمْ إلاّ يَخْرُصُونَ يقول: ما هم إلاّ متخرّصون هذا القول الذي قالوه, وذلك قولهم لوْ شاءَ الرّحْمَنُ ما عَبَدْناهُمْ. وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك, ما:
23804ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنا الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: إنْ هُمْ إلاّ يَخْرُصُونَ ما يعلمون قُدرة الله على ذلك.
وقوله: أمْ آتَيْناهُمْ كِتابا مِنْ قَبْلِهِ يقول تعالى ذكره ما آتينا هؤلاء المتخرّصين القائلين لو شاء الرحمن ما عبدنا الاَلهة كتابا بحقيقة ما يقولون من ذلك, من قبل هذا القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد فهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ يقول: فهم بذلك الكتاب الذي جاءهم من عندي من قبل هذا القرآن, مستمسكون يعملون به, ويدينون بما فيه, ويحتجون به عليك.
الآية : 22
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ قَالُوَاْ إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىَ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَىَ آثَارِهِم مّهْتَدُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ما آتينا هؤلاء القائلين: لو شاء الرحمن ما عبدنا هؤلاء الأوثان بالأمر بعبادتها, كتابا من عندنا, ولكنهم قالوا: وجدنا آباءنا الذين كانوا قبلنا يعبدونها, فنحن نعبدها كما كانوا يعبدونها وعنى جلّ ثناؤه بقوله: بَلْ وَجَدْنا آباءَنا على أُمّةٍ بل وجدنا آباءنا على دين وملة, وذلك هو عبادتهم الأوثان. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 23805ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: على أُمّةٍ: مِلّة.
23806ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: إنّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمّةٍ يقول: وجدنا آباءنا على دين.
23807ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمّةٍ قال: قد قال ذلك مشركو قريش: إنا وجدنا آباءنا على دين.
23808ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط عن السديّ قالُوا إنّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمّةٍ قال: على دين.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: على أُمّةٍ فقرأته عامة قرّاء الأمصار على أُمّةٍ بضم الألف بالمعنى الذي وصفت من الدين والملة والسنة. وذُكر عن مجاهد وعمر بن عبد العزيز أنهما قرآه «على إمّةٍ» بكسر الألف. وقد اختُلف في معناها إذا كُسرت ألفها, فكان بعضهم يوجه تأويلها إذا كُسرت على أنها الطريقة وأنها مصدر من قول القائل: أممت القوم فأنا أؤمهم إمّة. وذُكر عن العرب سماعا: ما أحسن عمته وإمته وجلسته إذا كان مصدرا. ووجهه بعضهم إذا كُسرت ألفها إلى أنها الإمة التي بمعنى النعيم والمُلك, كما قال عديّ ابن زيد:
ثُمّ بَعْدَ الفَلاحِ وَالمُلْكِ والإمّة وَارَتّهُمْ هُناكَ القُبورُ
وقال: أراد إمامة الملك ونعيمه. وقال بعضهم: (الأُمّة بالضم, والإمّة بالكسر بمعنى واحد).
والصواب من القراءة في ذلك الذي لا أستجيز غيره: الضمّ في الألف لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه. وأما الذين كسروها فإني لا أراهم قصدوا بكسرها إلاّ معنى الطريقة والمنهاج, على ما ذكرناه قبلُ, لا النعمة والملك, لأنه لا وجه لأن يقال: إنا وجدنا آباءنا على نعمة ونحن لهم متبعون في ذلك, لأن الاتباع إنما يكون في الملل والأديان وما أشبه ذلك لا في الملك والنعمة, لأن الاتباع في الملك ليس بالأمر الذي يصل إليه كلّ من أراده.
وقوله: وَإنّا على آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ يقول: وإنا على آثار آبائنا فيما كانوا عليه من دينهم مهتدون, يعني: لهم متبعون على منهاجهم. كما:
23809ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس وَإنّا على آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ يقول: وإنا على دينهم.
23810ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَإنّا على آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ يقول: وإنا متبعوهم على ذلك
491
489
الآية : 11-12
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالّذِي نَزّلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وَالّذِي نَزّلَ مِنَ السّماءِ ماءً بقَدَرٍ يعني: ما نزّل جلّ ثناؤه من الأمطار من السماء بقدر: يقول: بمقدار حاجتكم إليه, فلم يجعله كالطوفان, فيكون عذابا كالذي أنزل على قوم نوح, ولا جعله قليلاً, لا ينبت به النبات والزرع من قلّته, ولكنه جعله غيثا مغيثا, وَحَيا للأرض الميتة محييا فَأنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتا يقول جلّ ثناؤه: فأحيينا به بلدة من بلادكم ميتا, يعني مجدبة لا نبات بها ولا زرع, قد درست من الجدوب, وتعفنت من القحوط كَذلكَ تُخْرَجُونَ يقول تعالى ذكره: كما أخرجنا بهذا الماء الذي نزّلناه من السماء من هذه البلدة الميتة بعد جدوبها وقحوطها النبات والزرع, كذلك أيها الناس تُخرجون من بعد فنائكم ومصيركم في الأرض رفاتا بالماء الذي أنزله إليها لإحيائكم من بعد مماتكم منها أحياء كهيئتكم التي بها قبل مماتكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23781ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَالّذِي نَزّلَ مِنَ السّماءِ ماءً بقَدَرٍ... الاَية, كما أحيا الله هذه الأرض الميتة بهذا الماء كذلك تبعثون يوم القيامة وقيل: أنشرنا به, لأن معناه: أحيينا به, ولو وصفت الأرض بأنها أحييت, قيل: نشرت الأرض, كما قال الأعشى:
حتى يَقُولَ النّاسُ مِمّا رأَوْايا عَجَبا للْمَيّتِ النّاشِرِ
وقوله: وَالّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كلّها يقول تعالى ذكره: والذي خلق كلّ شيء فزوّجه, أي خلق الذكور من الإناث أزواجا, والإناث من الذكور أزواجا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الفُلْكِ وهي السفن والأنْعامِ وهي البهائم ما تَرْكَبُونَ يقول: جعل لكم من السفن ما تركبونه في البحار إلى حيث قصدتم واعتمدتم في سيركم فيها لمعايشكم ومطالبكم, ومن الأنعام ما تركبونه في البرّ إلى حيث أردتم من البلدان, كالإبل والخيل والبغال والحمير.
الآية : 13-14
القول في تأويل قوله تعالى: {لِتَسْتَوُواْ عَلَىَ ظُهُورِهِ ثُمّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَـَذَا وَمَا كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنّآ إِلَىَ رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ }.
يقول تعالى ذكره: كي تستووا على ظهور ما تركبون.
واختلف أهل العربية في وجه توحيد الهاء في قوله: على ظُهُورِهِ وتذكيرها, فقال بعض نحويّي البصرة: تذكيره يعود على ما تركبون, وما هو مذكر, كما يقال: عندي من النساء من يوافقك ويسرّك, وقد تذكّر الأنعام وتؤنث. وقد قال في موضع آخر: مِمّا في بُطُونِهِ وقال في موضع آخر: بُطُونِها. وقال بعض نحويّي الكوفة: أضيفت الظهور إلى الواحد, لأن ذلك الواحد في معنى جمع بمنزلة الجند والجيش. قال: فإن قيل: فهلا قلت: لتستووا على ظهره, فجعلت الظهر واحدا إذا أضفته إلى واحد. قلت: إن الواحد فيه معنى الجمع, فردّت الظهور إلى المعنى, ولم يقل ظهره, فيكون كالواحد الذي معناه ولفظه واحد. وكذلك تقول: قد كثر نساء الجند, وقلت: ورفع الجند أعينه ولم يقل عينه. قال: وكذلك كلّ ما أضفت إليه من الأسماء الموصوفة, فأخرجها على الجمع, وإذا أضفت إليه اسما في معنى فعل جاز جمعه وتوحيده, مثل قولك: رفع العسكر صوتَه, وأصواته أجود وجاز هذا لأن الفعل لا صورة له في الاثنين إلاّ الصورة في الواحد.
وقال آخر منهم: قيل: لتستووا على ظهره, لأنه وصف للفلك, ولكنه وحد الهاء, لأن الفلك بتأويل جمع, فجمع الظهور ووحد الهاء, لأن أفعال كل واحد تأويله الجمع توحد وتجمع مثل: الجند منهزم ومنهزمون, فإذا جاءت الأسماء خرج على الأسماء لا غير, فقلت: الجند رجال, فلذلك جمعت الظهور ووحدت الهاء, ولو كان مثل الصوت وأشباهه جاز الجند رافع صوته وأصواته.
قوله: ثُمّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبّكُمْ يقول تعالى ذكره: ثم تذكروا نعمة ربكم التي أنعمها عليكم بتسخيره ذلك لكم مراكب في البرّ والبحر إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ فتعظموه وتمجدوه, وتقولوا تنزيها لله الذي سخر لنا هذا الذي ركبناه من هذه الفلك والأنعام, مما يصفه به المشركون, وتشرك معه في العبادة من الأوثان والأصنام وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23782ـ حدثنا أبو كُرَيب وعبيد بن إسماعيل الهباري, قالا: حدثنا المحاربيّ, عن عاصم الأحول, عن أبي هاشم عن أبي مجلّز, قال: ركبت دابة, فقلت: سُبْحانَ الّذي سَخّرَ لَنا هَذَا وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ, فسمعني رجل من أهل البيت قال أبو كُرَيب والهباريّ: قال المحاربيّ: فسمعت سفيان يقول: هو الحسن بن عليّ رضوان الله تعالى عليهما, فقال: أهكذا أمرت؟ قال: قلت: كيف أقول؟ قال: تقول الحمد لله الذي هدانا الإسلام, الحمد لله الذي منّ علينا بمحمد عليه الصلاة والسلام, الحمد لله الذي جعلنا في خير أمة أُخرجت للناس, فإذا أنت قد ذكرت نعما عظاما, ثم تقول بعد ذلك سُبْحانَ الّذِي سَخّرَ لَنا هَذَا وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ, وَإنّا إلى رَبّنا لَمُنْقَلِبُونَ.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن أبي هاشم, عن أبي مجلّز, أن الحسن بن عليّ رضي الله عنه, رأى رجلاً ركب دابة, فقال: الحمد لله الذي سخر لنا هذا, ثم ذكر نحوه.
23783ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة لِتَسْتَوُوا على ظُهُورِهِ ثُمّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ يعلمكم كيف تقولون إذا ركبتم في الفلك تقولون: بِسْمِ الله مَجْراها وَمُرْساها, إنّ رَبّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ, وإذا ركبتم الإبل قلتم: سُبْحانَ الّذِي سَخّرَ لَنا هَذَا وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ, وإنّا إلى رَبنَا لمُنْقَلِبُونَ ويعلمكم ما تقولون إذا نزلتم من الفلك والأنعام جميعا تقولون: اللهمّ أنزلنا منزلاً مباركا وأنت خير المنزلين.
23784ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه أنه كان إذا ركب قال: اللهمّ هذا من منّك وفضلك, ثم يقول: سُبْحانَ الّذِي سَخّرَ لَنا هَذَا وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ, وَإنّا إلى رَبّنَا لمُنْقَلِبُونَ.
وقوله: وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ وما كنا له مُطِيقين ولا ضابطين, من قولهم: قد أقرنت لهذا: إذا صرت له قرنا وأطقته, وفلان مقرن لفلان: أي ضابط له مُطِيق. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23785ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ يقول: مُطِيقين.
23786ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله عَزّ وَجَلّ: مُقْرِنِينَ قال: الإبل والخيل والبغال والحمير.
23787ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ: أي مطيقين, لا والله لا في الأيدي ولا في القوّة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, قوله: وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ قال: في القوّة.
23788ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ قال: مطيقين.
23789ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قول الله جلّ ثناؤه: سُبْحانَ الّذِي سَخّرَ لَنا هَذَا وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ قال: لسنا له مطيقين, قال: لا نطيقها إلاّ بك, لولا أنت ما قوينا عليها ولا أطقناها.
وقوله: وَإنّا إلى رَبّنا لَمُنْقَلِبُون يقول جلّ ثناؤه: وليقولوا أيضا: وإنا إلى ربنا من بعد مماتنا لصائرون إليه راجعون.
الآية : 15-17
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ مّبِينٌ * أَمِ اتّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرّحْمَـَنِ مَثَلاً ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء المشركون لله من خلقه نصيبا, وذلك قولهم للملائكة: هم بنات الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23790ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءا قال: ولدا وبنات من الملائكة.
23791ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءا قال: البنات.
وقال آخرون: عنى بالجزء هاهنا: العدل. ذكر من قال ذلك:
23792ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءا: أي عِدلاً.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءا: أي عِدلاً.
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك, لأن الله جلّ ثناؤه أتبع ذلك قوله: أمِ اتّخَذَ مِما يخْلُقُ بَناتٍ وأصْفاكُمْ بالبَنِينَ توبيخا لهم على قولهم ذلك, فكان معلوما أن توبيخه إياهم بذلك إنما هو عما أخبر عنهم من قيلهم ما قالوا في إضافة البنات إلى الله جلّ ثناؤه.
وقوله: إنّ الإنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ يقول تعالى ذكره: إن الإنسان لذو جحد لنِعم ربه التي أنعمها عليه مبين: يقول: يبين كفرانه نعمه عليه, لمن تأمله بفكر قلبه, وتدبر حاله.
وقوله: أمِ اتّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَناتٍ يقول جلّ ثناؤه موبخا هؤلاء المشركين الذين وصفوه بأن الملائكة بناته: اتخذ ربكم أيها الجاهلون مما يخلق بنات, وأنتم لا ترضون لأنفسكم, وأصفاكم بالبنين: يقول: وأخلصكم بالبنين, فجعلهم لكم وَإذَا بُشّرَ أحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ للرّحْمَن مَثَلاً يقول تعالى ذكره: وإذا بشر أحد هؤلاء المشركين الجاعلين لله من عباده جزءا بما ضرب للرحمن مثلاً: يقول: بما مثل لله, فشبهه شبها, وذلك ما وصفه به من أن له بنات. كما:
23793ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: بِمَا ضَرَبَ للرّحْمَن مَثَلاً قال: ولدا.
23794ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: بِما ضَرَبَ للرّحْمَن مَثَلاً بما جعل لله.
وقوله: ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا يقول تعالى ذكره: ظلّ وجه هذا الذي بشّر بما ضرب للرحمن مثلاً من البنات مسودّا من سوء ما بشر به وَهُوَ كَظِيمٌ يقول: وهو حزين. كما:
23795ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَهُوَ كَظِيمٌ: أي حزين.
الآية : 18
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَمَن يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ }.
يقول تعالى ذكره: أو من ينبت في الحلية ويزين بها وَهُوَ فِي الخِصَامِ يقول: وهو في مخاصمة من خاصمه عند الخصام غير مبين, من خصمه ببرهان وحجة, لعجزه وضعفه, جعلتموه جزء الله من خلقه وزعمتم أنه نصيبه منهم, وفي الكلام متروك استغنى بدلالة ما ذكر منه وهو ما ذكرت.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ, فقال بعضهم: عُنِي بذلك الجواري والنساء. ذكر من قال ذلك:
23796ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: أوَ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ قال: يعني المرأة.
23797ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن علقمة, عن مرثد, عن مجاهد, قال: رخص للنساء في الحرير والذهب, وقرأ أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَام غَيرَ مُبِينٍ قال: يعني المرأة.
23798ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَام غَيرُ مُبِينٍ قال: الجواري جعلتموهنّ للرحمن ولدا, كيف تحكمون.
23799ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أوَ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ قال: الجواري يسفههنّ بذلك, غير مبين بضعفهنّ.
23800ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ يقول: جعلوا له البنات وهم إذا بشّر أحدهم بهنّ ظلّ وجهه مسودّا وهو كظيم. قال: وأما قوله: وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ يقول: قلما تتكلم امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلاّ تكلمت بالحجة عليها.
23801ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ قال: النساء.
وقال آخرون: عُنِي بذلك أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله. ذكر من قال ذلك:
23802ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: أوْ مَنْ يُنَشّأ فِي الْحِلْيةِ... الاَية, قال: هذه تماثيلهم التي يضربونها من فضة وذهب يعبدونها هم الذين أنشأُوها, ضربوها من تلك الحلية, ثم عبدوها وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ قال: لا يتكلم, وقرأ فإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبينٌ.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عني بذلك الجواري والنساء, لأن ذلك عقيب خبر الله عن إضافة المشركين إليه ما يكرهونه لأنفسهم من البنات, وقلة معرفتهم بحقه, وتحليتهم إياه من الصفات والبخل, وهو خالقهم ومالكهم ورازقهم, والمنعم عليهم النعم التي عددها في أوّل هذه السورة ما لا يرضونه لأنفسهم, فاتباع ذلك من الكلام ما كان نظيرا له أشبه وأولى من اتباعه ما لم يجر له ذكر.
واختلف القرّاء في قراءة قوله: أوَ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض المكيين والكوفيين «أوْ مَنْ يَنْشَأُ» بفتح الياء والتخفيف من نشأ ينشأ. وقرأته عامة قرّاء الكوفة يُنَشّأُ بضم الياء وتشديد الشين من نُشّأته فهو ينَشّأ.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان في قرأة الأمصار, متقاربتا المعنى, لأن المنشّأ من الإنشاء ناشىء, والناشىء منشأ, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله «أوْ مَنْ لا يُنَشّأُ إلاّ فِي الْحِلْيَةِ», وفي «من» وجوه من الإعراب الرفع على الاستئناف والنصب على إضمار يجعلون كأنه قيل: أو من ينشأ في الحلية يجعلون بنات الله. وقد يجوز النصب فيه أيضا على الردّ على قوله: أم اتخذ مما يخلق بنات أو من ينشأ في الحلية, فيردّ «من» على البنات, والخفض على الردّ على «ما» التي في قوله: وَإذَا بُشّرَ أحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ للرّحْمَن مَثَلاً.
الآية : 19
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَةَ الّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرّحْمَـَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء المشركون بالله ملائكته الذين هم عباد الرحمن.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة «الّذِينَ هُمْ عِنْدَ الرّحْمَنِ» بالنون, فكأنهم تأوّلوا في ذلك قول الله جلّ ثناؤه: إنّ الّذِينَ عِنْدَ رَبّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ فتأويل الكلام على هذه القراءة: وجعلوا ملائكة الله الذين هم عنده يسبحونه ويقدّسونه إناثا, فقالوا: هم بنات الله جهلاً منهم بحقّ الله, وجرأة منهم على قيل الكذب والباطل. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة وَجَعَلوا المَلائِكَةَ الّذِينَ هُمْ عِبادُ الرّحْمَنِ إناثا بمعنى: جمع عبد. فمعنى الكلام على قراءة هؤلاء: وجعلوا ملائكة الله الذين هم خلقه وعباده بنات الله, فأنثوهم بوصفهم إياهم بأنهم إناث.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان في قرأة الأمصار صحيحتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب, وذلك أن الملائكة عباد الله وعنده.
واختلفوا أيضا في قراءة قوله: أشَهِدُوا خَلْقَهُمْ فقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة «أُشْهِدُوا خَلْقَهُمْ» بضم الألف, على وجه ما لم يسمّ فاعله, بمعنى: أأشهد الله هؤلاء المشركين الجاعلين ملائكة الله إناثا, خلق ملائكته الذين هم عنده, فعلموا ما هم, وأنهم إناث, فوصفوهم بذلك, لعلمهم بهم, وبرؤيتهم إياهم, ثم رُدّ ذلك إلى ما لم يسمّ فاعله. وقُرىء بفتح الألف, بمعنى: أَشهدوا هم ذلك فعلموه؟
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
وقوله: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ يقول تعالى ذكره: ستكتب شهادة هؤلاء القائلين: الملائكة بنات الله في الدنيا, بما شهدوا به عليهم, ويُسألون عن شهادتهم تلك في الاَخرة أن يأتوا ببرهان على حقيقتها, ولن يجدوا إلى ذلك سبيلاً.
الآية : 20-21
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرّحْمَـَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون من قريش: لو شاء الرحمن ما عبدنا أوثاننا التي نعبدها من دونه, وإنما لم يحلّ بنا عقوبة على عبادتنا إياها لرضاه منا بعبادتناها. كما:
23803ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: لَوْ شاءَ الرّحْمَنُ ما عَبَدْناهُمْ للأوثان يقول الله عزّ وجلّ ما لَهُمْ بِذَلكَ مِنْ عِلْم يقول: ما لهم بحقيقة ما يقولون من ذلك من علم, وإنما يقولونه تخرّصا وتكذّبا, لأنهم لا خبر عندهم مني بذلك ولا بُرْهان. وإنما يقولونه ظنا وحسبانا إنْ هُمْ إلاّ يَخْرُصُونَ يقول: ما هم إلاّ متخرّصون هذا القول الذي قالوه, وذلك قولهم لوْ شاءَ الرّحْمَنُ ما عَبَدْناهُمْ. وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك, ما:
23804ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنا الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: إنْ هُمْ إلاّ يَخْرُصُونَ ما يعلمون قُدرة الله على ذلك.
وقوله: أمْ آتَيْناهُمْ كِتابا مِنْ قَبْلِهِ يقول تعالى ذكره ما آتينا هؤلاء المتخرّصين القائلين لو شاء الرحمن ما عبدنا الاَلهة كتابا بحقيقة ما يقولون من ذلك, من قبل هذا القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد فهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ يقول: فهم بذلك الكتاب الذي جاءهم من عندي من قبل هذا القرآن, مستمسكون يعملون به, ويدينون بما فيه, ويحتجون به عليك.
الآية : 22
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ قَالُوَاْ إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىَ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَىَ آثَارِهِم مّهْتَدُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ما آتينا هؤلاء القائلين: لو شاء الرحمن ما عبدنا هؤلاء الأوثان بالأمر بعبادتها, كتابا من عندنا, ولكنهم قالوا: وجدنا آباءنا الذين كانوا قبلنا يعبدونها, فنحن نعبدها كما كانوا يعبدونها وعنى جلّ ثناؤه بقوله: بَلْ وَجَدْنا آباءَنا على أُمّةٍ بل وجدنا آباءنا على دين وملة, وذلك هو عبادتهم الأوثان. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 23805ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: على أُمّةٍ: مِلّة.
23806ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: إنّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمّةٍ يقول: وجدنا آباءنا على دين.
23807ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمّةٍ قال: قد قال ذلك مشركو قريش: إنا وجدنا آباءنا على دين.
23808ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط عن السديّ قالُوا إنّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمّةٍ قال: على دين.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: على أُمّةٍ فقرأته عامة قرّاء الأمصار على أُمّةٍ بضم الألف بالمعنى الذي وصفت من الدين والملة والسنة. وذُكر عن مجاهد وعمر بن عبد العزيز أنهما قرآه «على إمّةٍ» بكسر الألف. وقد اختُلف في معناها إذا كُسرت ألفها, فكان بعضهم يوجه تأويلها إذا كُسرت على أنها الطريقة وأنها مصدر من قول القائل: أممت القوم فأنا أؤمهم إمّة. وذُكر عن العرب سماعا: ما أحسن عمته وإمته وجلسته إذا كان مصدرا. ووجهه بعضهم إذا كُسرت ألفها إلى أنها الإمة التي بمعنى النعيم والمُلك, كما قال عديّ ابن زيد:
ثُمّ بَعْدَ الفَلاحِ وَالمُلْكِ والإمّة وَارَتّهُمْ هُناكَ القُبورُ
وقال: أراد إمامة الملك ونعيمه. وقال بعضهم: (الأُمّة بالضم, والإمّة بالكسر بمعنى واحد).
والصواب من القراءة في ذلك الذي لا أستجيز غيره: الضمّ في الألف لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه. وأما الذين كسروها فإني لا أراهم قصدوا بكسرها إلاّ معنى الطريقة والمنهاج, على ما ذكرناه قبلُ, لا النعمة والملك, لأنه لا وجه لأن يقال: إنا وجدنا آباءنا على نعمة ونحن لهم متبعون في ذلك, لأن الاتباع إنما يكون في الملل والأديان وما أشبه ذلك لا في الملك والنعمة, لأن الاتباع في الملك ليس بالأمر الذي يصل إليه كلّ من أراده.
وقوله: وَإنّا على آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ يقول: وإنا على آثار آبائنا فيما كانوا عليه من دينهم مهتدون, يعني: لهم متبعون على منهاجهم. كما:
23809ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس وَإنّا على آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ يقول: وإنا على دينهم.
23810ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَإنّا على آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ يقول: وإنا متبعوهم على ذلك
الصفحة رقم 490 من المصحف تحميل و استماع mp3