تفسير الطبري تفسير الصفحة 492 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 492
493
491
 الآية : 34-35
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِن كُلّ ذَلِكَ لَمّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَالاَخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتّقِينَ }.
يقول تعالى ذكره: وجعلنا لبيوتهم أبوابا من فضة, وسُرُرا من فضة. كما:
23852ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, وسُررا قال: سرر فضة.
23853ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَلِبُيُوتِهِمْ أبْوَابا وسرُرا عَلَيْها يَتّكِئُونَ قال: الأبواب من فضة, والسرر من فضة عليها يتكئون, يقول: على السرر يتكئون.
وقوله: وَزُخْرُفا يقول: ولجعلنا لهم مع ذلك زخرفا, وهو الذهب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23854ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس وَزُخْرُفا وهو الذهب.
23855ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: وَزُخْرُفا قال: الذهب. وقال الحسن: بيت من زُخرف, قال: ذهب.
23856ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَزُخْرُفا الزخرف: الذهب, قال: قد والله كانت تكره ثياب الشهرة. وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إيّاكُمْ والحُمْرَةَ فإنّها مِنْ أحَبّ الزّينَةِ إلى الشّيْطانِ».
23857ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَزُخْرُفا قال: الذهب.
حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَزُخْرُفا قال: الذهب.
23858ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَزُخْرُفا لجعلنا هذا لأهل الكفر, يعني لبيوتهم سقفا من فضة وما ذكر معها. والزخرف سمى هذا الذي سمى السقف, والمعارج والأبواب والسرر من الأثاث والفرش والمتاع.
23859ـ حُدثت عن الحسن, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَزُخْرُفا يقول: ذهبا. والزخرف على قول ابن زيد: هذا هو ما تتخذه الناس في منازلهم من الفرش والأمتعة والاَلات.
وفي نصب الزخرف وجهان: أحدهما: أن يكون معناه: لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومن زخرف, فلما لم يكرّر عليه من نصب على إعمال الفعل فيه ذلك, والمعنى فيه: فكأنه قيل: وزخرفا يجعل ذلك لهم منه. والوجه الثاني: أن يكون معطوفا على السرر, فيكون معناه: لجعلنا لهم هذه الأشياء من فضة, وجعلنا لهم مع ذلك ذهبا يكون لهم غنى يستغنون بها, ولو كان التنزيل جاء بخفض الزخرف لكان: لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومن زخرف, فكان الزخرف يكون معطوفا على الفضة. وأما المعارج فإنها جُمعت على مفاعل, وواحدها معراج, على جمع مِعرج, كما يجمع المفتاح مفاتح على جمع مفتح, لأنهما لغتان: معرج, ومفتح, ولو جمع معاريج كان صوابا, كما يجمع المفتاح مفاتيح, إذ كان واحده معراج.
وقوله: وَإنْ كُلّ ذلكَ لَمّا مَتاعُ الحَياةِ الدّنيْا يقول تعالى ذكره: وما كلّ هذه الأشياء التي ذكرت من السقف من الفضة والمعارج والأبواب والسرر من الفضة والزخرف, إلا متاع يستمتع به أهل الدنيا في الدنيا وَالاَخِرَةُ عِنْدَ رَبّكَ لَلْمُتّقِينَ يقول تعالى ذكره: وزين الدار الاَخرة وبهاؤها عند ربك للمتقين, الذين اتقوا الله فخافوا عقابه, فجدّوا في طاعته, وحذروا معاصيه خاصة دون غيرهم من خلق الله. كما:
23860ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَالاَخِرَةُ عِنْدَ رَبّكَ لِلْمْتّقِينَ خصوصا.
الآية : 36-37
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرّحْمَـَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنّهُمْ لَيَصُدّونَهُمْ عَنِ السّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُم مّهْتَدُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ومن يُعْرِض عن ذكر الله فلم يخف سطوته, ولم يَخْشَ عقابه نُقَيّضْ لَهُ شَيْطانا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ يقول: نجعل له شيطانا يغويه فهو له قرين: يقول: فهو للشيطان قرين, أي يصير كذلك, وأصل العشو: النظر بغير ثبت لعلة في العين, يقال منه: عشا فلان يعشو عشوا وعشوّا: إذا ضعف بصره, وأظلمت عينه, كأن عليه غشاوة, كما قال الشاعر:
مَتى تَأْتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْءِ نارِهِتَجِدْ حَطَبا جَزْلاً وَنارا تَأَجّجا
يعني: متى تفتقر فتأته يعنك. وأما إذا ذهب البصر ولم يبصر, فإنه يقال فيه: عَشِيَ فلان يَعْشَى عَشًى منقوص, ومنه قول الأعشي:
رأتْ رَجُلاً عائِبَ الوَافِدَيْنِمُخْتَلِفَ الخَلْقِ أعْشَى ضَرِيرَا
يقال منه: رجل أعشى وامرأة عشواء. وإنما معنى الكلام: ومن لا ينظر في حجج الله بالإعراض منه عنه إلا نظرا ضعيفا, كنظر من قد عَشِي بصره نُقَيّضْ لَهُ شَيْطانا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23861ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطانا يقول: إذا أعرض عن ذكر الله نقيض له شيطانا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ.
23862ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السدّي, في قوله: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرّحْمَنِ قال: يعرض.
وقد تأوّله بعضهم بمعنى: ومن يعمَ, ومن تأوّل ذلك كذلك, فيجب أن تكون قراءته وَمَنْ يَعْشَ بفتح الشين على ما بيّنت قبل. ذكر من تأوّله كذلك:
23863ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرّحْمَنِ قال: من يعمَ عن ذكر الرحمن.
وقوله: وإنّهُمْ لَيَصُدّوَنهُمْ عَنِ السّبِيل يقول تعالى ذكره: وإن الشياطين ليصدّون هؤلاء الذين يعشون عن ذكر الله, عن سبيل الحقّ, فيزينون لهم الضلالة, ويكرّهون إليهم الإيمان بالله, والعمل بطاعته وَيحْسَبُونَ أنّهُمْ مُهْتَدُونَ يقول: ويظنّ المشركون بالله بتحسين الشياطين لهم ما هم عليه من الضلالة, أنهم على الحقّ والصواب, يخبر تعالى ذكره عنهم أنهم من الذي هم عليه من الشرك على شكّ وعلى غير بصيرة. وقال جلّ ثناؤه: وإنّهُمْ لَيَصُدّونَهُمْ عَنِ السّبِيلِ فأخرج ذكرهم مخرج ذكر الجميع, وإنما ذُكر قبل واحدا, فقال: نُقَيّضْ لَهُ شَيْطانا لأن الشيطان وإن كان لفظه واحدا, ففي معنى جمع.
الآية : 38-39
القول في تأويل قوله تعالى: {حَتّىَ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظّلَمْتُمْ أَنّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ }.
اختلفت القرّاء في قراءة قوله: حتى إذَا جاءَنا فقرأته عامة قرّاء الحجاز سوى ابن محيصن, وبعض الكوفيين وبعض الشاميين «حتى إذَا جاءانا» على التثنية بمعنى: حتى إذا جاءنا هذا الذي عَشِيَ عن ذكر الرحمن, وقرينه الذي قيض له من الشياطين. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة وابن محيصن: حتى إذَا جاءَنا على التوحيد, بمعنى: حتى إذا جاءنا هذا العاشي من بني آدم عن ذكر الرحمن.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان متقاربتا المعنى وذلك أنّ في خبر الله تبارك وتعالى عن حال أحد الفريقين عند مقدمه عليه فيما أقرنا فيه في الدنيا, الكفاية للسامع عن خبر الاَخر, إذ كان الخبر عن حال أحدهما معلوما به خبر حال الاَخر, وهما مع ذلك قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23864ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: حتى إذَا جاءَانا هو وقرينه جميعا.
وقوله: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المُشْرقَيْنِ يقول تعالى ذكره: قال أحد هذين القرينين لصاحبه الاَخر: وددت أن بيني وبينك بعد المشرقين: أي بُعد ما بين المشرق والمغرب, فغلب اسم أحدهما على الاَخر, كما قيل: شبه القمرين, وكما قال الشاعر:
أخَذْنا بآفاقِ السّماءِ عَلَيْكُمُلنَا قَمَرَاهَا والنّجُومُ الطّوَالِعُ
وكما قال الاَخر:
فَبَصْرَةُ الأزْدِ مِنّا والعِرَاقُ لنَاوالمَوْصِلانِ وَمِنّا مِصْرُ والحَرَمُ
يعني: الموصل والجزيرة, فقال: الموصلان, فغلب الموصل.
وقد قيل: عنى بقوله بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ: مشرق الشتاء, ومشرق الصيف, وذلك أن الشمس تطلع في الشتاء من مشرق, وفي الصيف من مشرق غيره وكذلك المغرب تغرب في مغربين مختلفين, كما قال جلّ ثناؤه: رَبّ المَشْرِقَيْنِ وَرَبّ المَغْرِبَينِ.
وذُكر أن هذا قول أحدهما لصاحبه عند لزوم كل واحد منهما صاحبه حتى يورده جهنم. ذكر من قال ذلك:
23865ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن سعيد الجريري, قال: بلغني أن الكافر إذا بُعث يوم القيامة من قبره, سفعَ بيده الشيطان, فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار, فذلكم حين يقول: يا ليت بيني وبينك بُعد المشرقين, فبئس القرين. وأما المؤمن فيوكّل به مَلك فهو معه حتى قال: إما يفصل بين الناس, أو نصير إلى ما شاء الله.
وقوله: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ أيها العاشون عن ذكر الله في الدنيا إذْ ظَلَمْتُمْ أنّكُمْ فِي العَذَابِ مُشْترِكُونَ يقول: لن يخفف عنكم اليوم من عذاب الله اشتراككم فيه, لأن لكل واحد منكم نصيبه منه, و«أنّ» من قوله أنّكُمْ في موضع رفع لما ذكرت أن معناه: لن ينفعكم اشتراككم.
الآية : 40-42
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصّمّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ * فَإِمّا نَذْهَبَنّ بِكَ فَإِنّا مِنْهُم مّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنّكَ الّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنّا عَلَيْهِمْ مّقْتَدِرُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أفأنْتَ تُسْمِعُ الصّمّ: من قد سلبه الله استماع حججه التي احتجّ بها في هذا الكتاب فأصمه عنه, أو تهدي إلى طريق الهدى من أعمى الله قلبه عن إبصاره, واستحوذ عليه الشيطان, فزيّن له الرّدَى وَمَنْ كانَ في ضَلال مُبِينٍ يقول: أو تهدي من كان في جور عن قصد السبيل, سالك غير سبيل الحقّ, قد أبان ضلاله أنه عن الحقّ زائل, وعن قصد السبيل جائر: يقول جلّ ثناؤه: ليس ذلك إليك, إنما ذلك إلى الله الذي بيده صرف قلوب خلقه كيف شاء, وإنما أنت منذر, فبلغهم النذارة.
وقوله: فإمّا نَذْهَبّنَ بِكَ فإنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ اختلف أهل التأويل في المعنيين بهذا الوعيد, فقال بعضهم: عُنِي به أهل الإسلام من أمة نبينا عليه الصلاة والسلام. ذكر من قال ذلك:
23866ـ حدثنا سوار بن عبد الله العنبري, قال: ثني أبي, عن أبي الأشهب, عن الحسن, في قوله: فإمّا نَذْهَبنّ بِكَ فإنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ قال: لقد كانت بعد نبيّ الله نقمة شديدة, فأكرم الله جلّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يريه في أمته ما كان من النقمة بعده.
23867ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فإمّا نَذْهَبنّ بِكَ فإنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ فذهب الله بنبيه صلى الله عليه وسلم, ولم ير في أمته إلا الذي تقرّ به عينه, وأبقى الله النقمة بعده, وليس من نبيّ إلا وقد رأى في أمته العقوبة, أو قال ما لا يشتهي. ذُكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُري الذي لقيت أمته بعده, فما زال منقبضا ما انبسط ضاحكا حتى لقي الله تبارك وتعالى.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, قال: تلا قتادة فإمّا نَذْهَبنّ بِكَ فإنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ فقال: ذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم وبقيت النقمة, ولم يُرِ الله نبيه صلى الله عليه وسلم في أمته شيئا يكرهه حتى مضى, ولم يكن نبيّ قطّ إلا رأى العقوبة في أمته, إلا نبيكم صلى الله عليه وسلم. قال: وذُكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُري ما يصيب أمته بعده, فما رُئي ضاحكا منبسطا حتى قبضه الله.
وقال آخرون: بل عنى به أهل الشرك من قريش, وقالوا: قد رأى الله نبيه عليه الصلاة والسلام فيهم. ذكر من قال ذلك:
23868ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: فإمّا نَذْهَبنّ بِكَ فإنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ كما انتقمنا من الأمم الماضية أوْ نُرِيَنّكَ الّذِي وَعْدْناهُمْ فقد أراه الله ذلك وأظهره عليه وهذا القول الثاني أولى التأويلين في ذلك بالصواب وذلك أن ذلك في سياق خبر الله عن المشركين فلأن يكون ذلك تهديدا لهم أولى من أن يكون وعيدا لمن لم يجر له ذكر. فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك: فإن نذهب بك يا محمد من بين أظهر هؤلاء المشركين, فنخرجَك من بينهم فَإنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ, كما فعلنا ذلك بغيرهم من الأمم المكذّبة رسلها, أَوْ نُرِيَنّكَ الّذِي وَعَدْناهُمْ يا محمد من الظفر بهم, وإعلائك عليهم فَإنّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ أن نظهرك عليهم, ونخزيهم بيدك وأيدي المؤمنين بك.
الآية : 43-44
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالّذِيَ أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنّكَ عَلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ * وَإِنّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فتمسك يا محمد بما يأمرك به هذا القرآن الذي أوحاه إليك ربك, إنّكَ عَلَى صِرِاطٍ مُسْتَقِيمٍ ومنهاج سديد, وذلك هو دين الله الذي أمر به, وهو الإسلام. كما:
23869ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فاسْتَمْسِكْ بالّذِي أُوحِيَ إلَيْكَ إنّكَ على صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ: أي الإسلام.
23870ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ فاسْتَمْسِكْ بالّذِي أُوحِيَ إلَيْكَ إنّكَ على صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وقوله: وَإنّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ يقول تعالى ذكره: وإن هذا القرآن الذي أوحي إليك يا محمد الذي أمرناك أن تستمسك به لشرف لك ولقومك من قريش وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ يقول: وسوف يسألك ربك وإياهم عما عملتم فيه, وهل عملتم بما أمركم ربكم فيه, وانتهيتم عما نهاكم عنه فيه؟. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23871ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثنا معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس: قوله: وَإنّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ يقول: إن القرآن شرف لك.
23872ـ حدثني عمرو بن مالك, قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: وَإنّهُ لَذَكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ قال: يقول للرجل: من أنت؟ فيقول: من العرب, فيقال: من أيّ العرب؟ فيقول: من قريش.
23873ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَإنّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وهو هذا القرآن.
23874ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَإنّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ قال: شرف لك ولقومك, يعني القرآن.
23875ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَإنّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ قال: أو لم تكن النبوّة والقرآن الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم ذكرا له ولقومه.
الآية : 45
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرّحْمَـَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ }.
اختلف أهل التأويل في معنى قوله: واسأَلْ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ومن الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسألتهم ذلك, فقال بعضهم الذين أُمر بمسألتهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, مؤمنو أهل الكتابين: التوراة, والإنجيل. ذكر من قال ذلك:
23876ـ حدثني عبد الأعلى بن واصل, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: في قراءة عبد الله بن مسعود «وَاسأَلِ الّذِينَ أرْسَلْنا إلَيْهِمْ قَبْلَكَ رُسُلَنا».
23877ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ وَاسْألِ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا إنها قراءة عبد الله: «سل الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا».
23878ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة واسأَلْ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا يقول: سل أهل التوراة والإنجيل: هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد أن يوحدوا الله وحده؟ قال: وفي بعض القراءة: «واسأل الذين أرسلنا إليهم رسلنا قبلك». أجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرّحْمَنِ آلِهَة يُعْبَدُونَ.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة في بعض الحروف «واسألِ الّذِينَ أرْسَلْنا إلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا» سل أهل الكتاب: أما كانت الرسل تأتيهم بالتوحيد؟ أما كانت تأتي بالإخلاص؟.
23879ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول: في قوله: واسأَلْ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا في قراءة ابن مسعود «سَلِ الّذينَ يَقْرَءُونَ الكِتاب مِنْ قَبْلِكَ» يعني: مؤمني أهل الكتاب.
وقال آخرون: بل الذي أمر بمسألتهم ذلك الأنبياء الذين جُمعوا له ليلة أُسري به ببيت المقدس. ذكر من قال ذلك:
23880ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: واسْئَلِ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ... الاَية, قال: جمعوا له ليلة أُسري به ببيت المقدس, وصلى بهم, فقال الله له: سلهم, قال: فكان أشدّ إيمانا ويقينا بالله وبما جاءه من الله أن يسألهم, وقرأ فإنْ كُنْتَ فِي شَكّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ فاسأَل الّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ قال: فلم يكن في شكّ, ولم يسأل الأنبياء, ولا الذين يقرأون الكتاب. قال: ونادى جبرائيل صلى الله عليه وسلم, فقلت في نفسي: «الاَن يؤمنا أبونا إبراهيم» قال: «فدفع جبرائيل في ظهري», قال: تقدم يا محمد فصلّ, وقرأ سُبْحانَ الّذِي أَسْرَى بعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ... حتى بلغ لِنُرِيهُ مِنْ آياتِنا.
وأولى القولين بالصواب في تأويل ذلك, قول من قال: عنى به: سل مؤمني أهل الكتابين.
فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يقال: سل الرسل, فيكون معناه: سل المؤمنين بهم وبكتابهم؟ قيل: جاز ذلك من أجل أن المؤمنين بهم وبكتبهم أهل بلاغ عنهم ما أتوهم به عن ربهم, فالخبر عنهم وعما جاؤوا به من ربهم إذا صحّ بمعنى خبرهم, والمسألة عما جاؤوا به بمعنى مسألتهم إذا كان المسؤول من أهل العلم بهم والصدق عليهم, وذلك نظير أمر الله جلّ ثناؤه إيانا بردّ ما تنازعنا فيه إلى الله وإلى الرسول, يقول: فإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إلى اللّهِ وَالرّسُولِ, ومعلوم أن معنى ذلك: فردّوه إلى كتاب الله وسنة رسوله, لأن الردّ إلى ذلك ردّ إلى الله والرسول. وكذلك قوله: وَاسْئَلْ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا إنما معناه: فاسأل كتب الذين أرسلنا من قبلك من الرسل, فإنك تعلم صحة ذلك من قِبَلِنا, فاستغني بذكر الرسل من ذكر الكتب, إذ كان معلوما ما معناه.
وقوله: أجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ يقول: أمرناهم بعبادة الاَلهة من دون الله فيما جاؤوهم به, أو أتوهم بالأمر بذلك من عندنا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23881ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ أجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ؟ أتتهم الرسل يأمرونهم بعبادة الاَلهة من دون الله؟ وقيل: آلِهَةً يُعْبَدُونَ, فأخرج الخبر عن الاَلهة مخرج الخبر عن ذكور بني آدم, ولم يقل: تعبد, ولا يعبدن, فتؤنث وهي حجارة, أو بعض الجماد كما يفعل في الخبر عن بعض الجماد. وإنما فعل ذلك كذلك, إذ كانت تعبد وتعظم تعظيم الناس ملوكهم وسَرَاتهم, فأُجْرِي الخبر عنها مُجْرى الخبر عن الملوك والأشراف من بني آدم.
الآية : 46-47
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىَ بِآيَاتِنَآ إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنّي رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ * فَلَمّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مّنْهَا يَضْحَكُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا يا محمد موسى بحججنا إلى فرعون وأشراف قومه, كما أرسلناك إلى هؤلاء المشركين من قومك, فقال لهم موسى: إني رسول ربّ العالمين, كما قلتَ أنت لقومك من قريش. إني رسول الله إليكم, فَلَمّا جاءَهُمْ بآياتِنا إذَا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ يقول: فلما جاء موسى فرعونَ وملأه بحججنا وأدلتنا على صدق قوله, فيما يدعوهم إليه من توحيد الله والبراءة من عبادة الاَلهة, إذا فرعون وقومه مما جاءهم به موسى من الاَيات والعِبَر يضحكون كما أن قومك مما جئتهم به من الاَيات والعِبر يسخرون, وهذا تسلية من الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من مشركي قومه, وإعلام منه له, أن قومه من أهل الشرك لن يَعْدُو أن يكونوا كسائر الأمم الذين كانوا على منهاجهم في الكفر بالله وتكذيب رسله, وندب منه نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الاستنان في الصبر عليهم بسنن أولي العزم من الرسل, وإخبار منه له أن عقبى مردتهم إلى البوار والهلاك كسنته في المتمرّدين عليه قبلهم, وإظفاره بهم, وإعلائه أمره, كالذي فعل بموسى عليه السلام, وقومه الذين آمنوا به من إظهارهم على فرعون وملئه