تفسير الطبري تفسير الصفحة 498 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 498
499
497
 الآية : 40-42
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * إِلاّ مَن رّحِمَ اللّهُ إِنّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ }.
يقول تعالى ذكره: إن يوم فصل الله القضاء بين خلقه بما أسلفوا في دنياهم من خير أو شرّ يجزى به المحسن بالإحسان, والمسيء بالإساءة ميقاتهم أجمعين: يقول: ميقات اجتماعهم أجمعين. كما:
24083ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّ يَوْمَ الفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أجمَعِينَ يوم يُفْصَل فيه بين الناس بأعمالهم.
وقوله: يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عن مَوْلىً شَيْئا يقول: لا يدفع ابن عمّ عن ابن عمّ, ولا صاحب عن صاحبه شيئا من عقوبة الله التي حلّت بهم من الله وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يقول: ولا ينصر بعضهم بعضا, فيستعيذوا ممن نالهم بعقوبة كما كانوا يفعلونه في الدنيا. كما:
24084ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئا... الاَية, انقطعت الأسباب يومئذٍ يا ابن آدم, وصار الناس إلى أعمالهم, فمن أصاب يومئذٍ خيرا سعد به آخر ما عليه, ومن أصاب يومئذٍ شرّا شقي به آخر ما عليه.
وقوله: إلاّ مَنْ رَحِمَ اللّهُ اختلف أهل العربية في موضع «مَنْ» في قوله: إلاّ مَنْ رَحِمَ اللّهُ فقال بعض نحويي البصرة: إلاّ من رحم الله, فجعله بدلاً من الاسم المضمر في ينصرون, وإن شئت جعلته مبتدأ وأضمرت خبره, يريد به: إلاّ من رحم الله فيغني عنه. وقال بعض نحويي الكوفة قوله: إلاّ مَنْ رَحِمَ اللّهُ قال: المؤمنون يشفع بعضهم في بعض, فإن شئت فاجعل «مَنْ» في موضع رفع, كأنك قلت: لا يقوم أحد إلاّ فلان, وإن شئت جعلته نصبا على الاستثناء والانقطاع عن أوّل الكلام, يريد: اللهمّ إلاّ من رحم الله.
وقال آخرون منهم: معناه: لا يغني مولًى عن مولًى شيئا, إلاّ من أذن الله له أن يشفع قال: لا يكون بدلاً مما في ينصرون, لأن إلاّ محقق, والأوّل منفيّ, والبدل لا يكون إلاّ بمعنى الأوّل. قال: وكذلك لا يجوز أن يكون مستأنفا, لأنه لا يستأنف بالاستثناء.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون في موضع رفع بمعنى: يوم لا يغني مولًى عن مولًى شيئا إلاّ من رحم الله منهم, فإنه يغني عنه بأن يشفع له عند ربه.
وقوله: إنّهُ هُوَ العَزِيزُ الرّحِيمُ يقول جلّ ثناؤه واصفا نفسه: إن الله هو العزيز في انتقامه من أعدائه, الرحيم بأوليائه, وأهل طاعته.
الآية : 43-46
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ * طَعَامُ الأثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ }.
يقول تعالى ذكره: إنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ التي أخبر أنها تَنْبُت في أصل الجحيم, التي جعلها طعاما لأهل الجحيم, ثمرها في الجحيم طعام الاَثم في الدنيا بربه, والأثيم: ذو الإثم, والإثم من أثم يأثم فهو أثيم. وعنى به في هذا الموضع: الذي إثمه الكفر بربه دون غيره من الاَثام. وقد:
24085ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن همام بن الحارث, أن أبا الدرداء كان يُقرىء رجلاً إنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ طَعامُ الأثِيمِ فقال: طعام اليتيم, فقال أبو الدرداء: قل إن شجرة الزقوم طعام الفاجر.
24086ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا يحيى بن عيسى عن الأعمش, عن أبي يحيى, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: «لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت إلى الدنيا, لأفسدت على الناس معايشهم».
حدثني أبو السائب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن همام, قال: كان أبو الدرداء يُقرىء رجلاً إنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ طَعامُ الأثِيمِ قال: فجعل الرجل يقول: إن شجرة الزقوم طعام اليتيم قال: فلما أكثر عليه أبو الدرداء, فرآه لا يفهم, قال: إن شجرة الزقوم طعام الفاجر.
24087ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: إنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ طَعامُ الأثِيمِ قال: أبو جهل.
وقوله: كالمُهْلِ يَغْلِي فِي البُطُونِ يقول تعالى ذكره: إن شجرة الزقوم التي جعل ثمرتها طعام الكافر في جهنم, كالرصاص أو الفضة, أو ما يُذاب في النار إذا أُذيب بها, فتناهت حرارته, وشدّت حميته في شدّة السواد.
وقد بيّنا معنى المهل فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع من الشواهد, وذكر اختلاف أهل التأويل فيه, غير أنا نذكر من أقوال أهل العلم في هذا الموضع ما لم نذكره هناك:
24088ـ حدثنا سليمان بن عبد الجبار, قال: حدثنا محمد بن الصلت, قال: حدثنا أبو كدينة, عن قابوس, عن أبيه, قال: سألت ابن عباس, عن قول الله جلّ ثناؤه: كالمُهْلِ قال: كدرديّ الزيت.
حدثني عليّ بن سهل, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: كالمُهْلِ يَغْلِي فِي البُطُونِ يقول: أسود كمهل الزيت.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ويعقوب بن إبراهيم, قالوا: حدثنا ابن إدريس, قال: سمعت مطرفا, عن عطية بن سعد, عن ابن عباس, في قوله: كالمُهْلِ ماء غليظ كدرديّ الزيت.
حدثني يحيى بن طلحة, قال: حدثنا شريك, عن مطرّف, عن رجل, عن ابن عباس في قوله: كالمُهْلِ قال: كدرديّ الزيت.
24089ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا عبد الصمد, قال: حدثنا شعبة, قال: حدثنا خليد, عن الحسن, عن ابن عباس, أنه رأى فضة قد أُذيبت, فقال: هذا المهل.
24090ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا أبو معاوية, قال: حدثنا عمرو بن ميمون عن أبيه, عن عبد الله, في قوله: كالمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوه قال: دخل عبد الله بيت المال, فأخرج بقايا كانت فيه, فأوقد عليها النار حتى تلألأت, قال: أين السائل عن المهل, هذا المهل.
24091ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبي عديّ: وحدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا خالد بن الحارث, عن عوف, عن الحسن, قال: بلغني أن ابن مسعود سُئل عن المهل الذي يقولون يوم القيامة شراب أهل النار, وهو على بيت المال, قال: فدعا بذهب وفضة فأذابهما, فقال: هذا أشبه شيء في الدنيا بالمهل الذي هو لون السماء يوم القيامة, وشراب أهل النار, غير أن ذلك هو أشدّ حرّا من هذا, لفظ الحديث لابن بشار وحديث ابن المثنى نحوه.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب, قالا: حدثنا ابن إدريس, قال: أخبرنا أشعث, عن الحسن, قال: كان من كلامه أن عبد الله بن مسعود رجل أكرمه الله بصحبة محمد صلى الله عليه وسلم, فإن عمر رضي الله عنه استعمله على بيت المال, قال: فعمد إلى فضة كثيرة مكسرة, فخدّ لها أُخدودا, ثم أمر بحطب جزل فأوقد عليها, حتى إذا امّاعت وتزبدت وعادت ألوانا, قال: انظروا من بالباب, فأُدخل القوم فقال لهم: هذا أشبه ما رأينا في الدنيا بالمُهْل.
24092ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ طَعامُ الأثِيمِ... الاَية, ذُكر لنا أن ابن مسعود أُهديت له سقاية من ذهب وفضة, فأمر بأخدود فخدّت في الأرض, ثم قُذِف فيها من جزل الحطب, ثم قذفت فيها تلك السقاية, حتى إذا أزبدت وانماعت قال لغلامه: ادع من بحضرتنا من أهل الكوفة, فدعا رهطا, فلما دخلوا قال: أترون هذا؟ قالوا نعم, قال: ما رأينا في الدنيا شبيها للمهل أدنى من الذهب والفضة حين أزبد وانماع.
24093ـ حدثنا أبو هشام الرفاعي, قال: حدثنا ابن يمان, قال: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن عبد الله بن سفيان الأسديّ, قال: أذاب عبد الله بن مسعود فضة, ثم قال: من أراد أن ينظر إلى المهل فلينظر إلى هذا.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, عن قابوس, عن أبيه, عن ابن عباس, في قوله: يَوْمَ تَكُونُ السّماءُ كالمُهْلِ قال: كدُرديّ الزيت.
24094ـ حدثني يحيى بن طلحة قال: حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد: كالمهل قال: كدردي الزيت.
حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا يعمر بن بشر, قال: حدثنا ابن المبارك, قال: حدثنا أبو الصباح, قال: سمعت يزيد بن أبي سمية يقول: سمعت ابن عمر يقول: هل تدرون ما المهل؟ المهل مهل الزيت, يعني آخره.
قال: ثنا إبراهيم أبو إسحاق الطالقاني, قال: حدثنا ابن المبارك, قال: أخبرنا أبو الصباح الأيلي, عن يزيد بن أبي سمية, عن ابن عمر بمثله.
24095ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا رشدين بن سعد, عن عمرو بن الحارث, عن درّاج أبي السمح, عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: بِمَاءٍ كالمُهْلِ «كعَكر الزيت, فإذا قرّبه إلى وجهه, سقطت فروة وجهه فيه».
قال: ثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا يعمر بن بشر, قال: أخبرنا ابن المبارك, قال: أخبرنا رشدين بن سعد, قال: ثني عمرو بن الحارث, عن أبي السمح, عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد الخُدْريّ, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, مثله.
وقوله: فِي البُطُونِ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة والكوفة «تَغْلِي» بالتاء, بمعنى أن شجرة الزقوم تغلي في بطونهم, فأنثوا تغلي لتأنيث الشجرة. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الكوفة يَغْلِي بمعنى: طعام الأثيم يغلي, أو المهل يغلي, فذكّره بعضهم لتذكير الطعام, ووجه معناه إلى أن الطعام هو الذي يغلي في بطونهم وبعضهم لتذكير المهل, ووجهه إلى أنه صفة للمهل الذي يغلي.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب كَغَلْي الحَمِيمِ يقول: يغلي ذلك في بطون هؤلاء الأشقياء كغلي الماء المحموم, وهو المسخن الذي قد أوقد عليه حتى تناهت شدّة حرّه, وقيل: حميم وهو محموم, لأنه مصروف من مفعول إلى فعيل, كما يقال: قتيل من مقتول.
الآية : 47-48
القول في تأويل قوله تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىَ سَوَآءِ الْجَحِيمِ * ثُمّ صُبّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ }.
يقول تعالى ذكره: خُذُوهُ يعني هذا الأثيم بربه, الذي أخبر جلّ ثناؤه أن له شجرة الزقوم طعام فاعْتِلُوهُ يقول تعالى ذكره: فادفعوه وسوقوه, يقال منه: عتله يعتله عتلاً: إذا ساقه بالدفع والجذب ومنه قول الفرزدق:
لَيْسَ الكِرَامُ بِناحِلِيكَ أبَاهُمُحتى تُرَدّ إلى عَطِيّةَ تُعْتِلُ
أي تُساق دَفْعا وسحبا.
وقوله: إلى سَوَاءِ الجَحِيمِ: إلى وسط الجحيم. ومعنى الكلام: يقال يوم القيامة: خذوا هذا الأثيم فسوقوه دفعا في ظهره, وسحبا إلى وسط النار. وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: فاعْتِلُوهُ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24096ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: خُذُوهُ فاعْتِلُوهُ إلى سَوَاءِ الجَحِيمِ قال: خذوه فادفعوه.
وفي قوله: فاعْتلُوهُ لغتان: كسر التاء, وهي قراءة بعض قرّاء أهل المدينة وبعض أهل مكة.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا أنهما لغتان معروفتان في العرب, يقال منه: عتل يعتِل ويعتُل, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
24097ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة إلى سَوَاءِ الجَحِيمِ: إلى وَسَط النار.
وقوله: ثُمّ صُبّوا فَوْقَ رأسِهِ مِنْ عَذابِ الحَمِيمِ يقول تعالى ذكره: ثم صبوا على رأس هذا الأثيم من عذاب الحميم, يعني: من الماء المسخن الذي وصفنا صفته, وهو الماء الذي قال الله يُصْهَرُ بِهِ ما في بُطُونهِمْ والجُلُودُ, وقد بيّنت صفته هنالك.
الآية : 49-50
القول في تأويل قوله تعالى: {ذُقْ إِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنّ هَـَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: يقال لهذا الأثيم الشقيّ: ذق هذا العذاب الذي تعذّب به اليوم إنّكَ أنْتَ العَزِيزُ في قومك الكَرِيمُ عليهم. وذُكر أن هذه الاَيات نزلت في أبي جهل بن هشام. ذكر من قال ذلك:
24098ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ثُمّ صُبّوا فَوْقَ رأسِهِ مِنْ عَذَابِ الحَمِيمِ نزلت في عدوّ الله أبي جهل لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم, فأخذه فهزّه, ثم قال: أولى لك يا أبا جهل فأولى, ثم أولى لك فأولى, ذق إنك أنت العزيز الكريم, وذلك أنه قال: أيوعدني محمد, والله لأنا أعزّ من مشى بين جبليها. وفيه نزلت وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِما أوْ كَفُورا وفيه نزلت كَلاّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ وقال قتادة: نزلت في أبي جهل وأصحابه الذين قتل الله تبارك وتعالى يوم بدر ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ بَدّلُوا نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرا وأَحَلّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: نزلت في أبي جهل خُذوهُ فاعْتِلُوهُ قال قتادة, قال أبو جهل: ما بين جبليها رجل أعزّ ولا أكرم مني, فقال الله عزّ وجلّ: ذُقْ إنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ.
24099ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: خُذُوهُ فاعْتِلُوهُ إلى سَوَاءِ الجَحِيمِ قال: هذا لأبي جهل.
فإن قال قائل: وكيف قيل وهو يهان بالعذاب الذي ذكره الله, ويذلّ بالعتل إلى سواء الجحيم: إنك أنت العزيز الكريم؟ قيل: إن قوله: إنّكَ أنْتَ العَزيزُ الكَرِيمُ غير وصف من قائل ذلك له بالعزّة والكرم, ولكنه تقريع منه له بما كان يصف به نفسه في الدنيا, وتوبيخ له بذلك على وجه الحكاية, لأنه كان في الدنيا يقول: إنك أنت العزيز الكريم, فقيل له في الاَخرة, إذ عذّب بما عُذّب به في النار: ذُق هذا الهوان اليوم, فإنك كنت تزعم أنك أنت العزيز الكريم, وإنك أنت الذليل المهين, فأين الذي كنت تقول وتدّعي من العزّ والكرم, هلا تمتنع من العذاب بعزّتك.
24100ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا صفوان بن عيسى قال حدثنا ابن عجلان عن سعيد المقبري, عن أبي هريرة قال: قال كعب: لله ثلاثة أثواب: اتّزر بالعزّ, وتَسَربل الرحمة, وارتدى الكبرياء تعالى ذكره, فمن تعزّز بغير ما أعزّه الله فذاك الذي يقال: ذق إنك أنت العزيز الكريم, ومن رحم الناس فذاك الذي سربل الله سرباله الذي ينبغي له ومن تكبر فذاك الذي نازع الله رداءه إن الله تعالى ذكره يقول: «لا ينبغي لمن نازعني ردائي أن أدخله الجنة» جلّ وعزّ. وأجمعت قرّاء الأمصار جميعا على كسر الألف من قوله: ذُقْ إنّكَ على وجه الابتداء. وحكاية قول هذا القائل: إني أنا العزيز الكريم. وقرأ ذلك بعض المتأخرين «ذُقْ أَنّكَ» بفتح الألف على إعمال قوله: ذُقْ في قوله: أنّكَ كأنك معنى الكلام عنده: ذق هذا القول الذي قلته في الدنيا.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا كسر الألف من إنّكَ على المعنى الذي ذكرت لقارئه, لإجماع الحجة من القرّاء عليه, وشذوذ ما خالفه, وكفى دليلاً على خطأ قراءة خلافها, ما مضت عليه الأئمة من المتقدمين والمتأخرين, مع بُعدها من الصحة في المعنى وفراقها تأويل أهل التأويل.
وقوله: إنّ هَذَا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ يقول تعالى ذكره: يقال له: إن هذا العذاب الذي تعذّب به اليوم, هو العذاب الذي كنتم في الدنيا تَشُكّون, فتختصمون فيه, ولا توقنون به فقد لقيتموه, فذوقوه.
الآية : 51-53
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ الْمُتّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مّتَقَابِلِينَ }.
يقول تعالى ذكره: إن الذين اتقوا الله بأداء طاعته, واجتناب معاصيه في موضع إقامة, آمنين في ذلك الموضع مما كان يخاف منه في مقامات الدنيا من الأوصاب والعلل والأنصاب والأحزان.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: فِي مَقامٍ أمِينٍ فقرأته عامة قرّاء المدينة «في مُقامٍ أمِينٍ» بضم الميم, بمعنى: في إقامة أمين من الظعن. وقرأته عامة قرّاء المصرين. الكوفة والبصرة فِي مَقامٍ بفتح الميم على المعنى الذي وصفنا, وتوجيها إلى أنهم في مكان وموضع أمين.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار صحيحتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24101ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّ المُتّقِينَ فِي مَقَامٍ أمِينٍ إيّ والله, أمين من الشيطان والأنصاب والأحزان.
وقوله: فِي جَنّاتِ وَعُيُونٍ الجنات والعيون ترجمة عن المقام الأمين, والمقام الأمين: هو الجنات والعيون, والجنات: البساتين, والعيون: عيون الماء المطرد في أصول أشجار الجنات.
وقوله: يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ يقول: يلبس هؤلاء المتقون في هذه الجنات من سندس, وهو ما رقّ من الديباج وإستبرق: وهو ما غلظ من الديباج. كما:
24102ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن عكرمة, في قوله: مِنْ سُنْدُسٍ وإسْتَبْرَقٍ قال: الإستبرق: الديباج الغليظ.
وقيل: يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإسْتَبْرَقٍ ولم يقل لباسا, استغناء بدلالة الكلام على معناه.
وقوله: مُتَقابِلِينَ يعني أنهم في الجنة يقابل بعضهم بعضا بالوجوه, ولا ينظر بعضهم في قفا بعض. وقد ذكرنا الرواية بذلك فما مضى, فأغني ذلك عن إعادته.
الآية : 54-57
القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاّ الْمَوْتَةَ الاُولَىَ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلاً مّن رّبّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }.
يقول تعالى ذكره: كما أعطينا هؤلاء المتقين في الاَخرة من الكرامة بإدخالناهم الجنات, وإلباسناهم فيها السندس والإستبرق, كذلك أكرمناهم بأن زوّجناهم أيضا فيها حورا من النساء, وهن النقيات البياض, واحدتهنّ: حَوْراء. وكان مجاهد يقول في معنى الحُور, ما:
24103ـ حدثني به محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: وزَوّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ قال: أنكحناهم حورا. قال: والحُور: اللاتي يحار فيهنّ الطرف بادٍ مُخّ سوقهنّ من وراء ثيابهنّ, ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهنّ كالمرآة من رقة الجلد, وصفاء اللون, وهذا الذي قاله مجاهد من أن الحور إنما معناها: أنه يحار فيها الطرف, قول لا معنى له في كلام العرب, لأن الحُور إنما هو جمع حوراء, كالحمر جمع حمراء, والسود: جمع سوداء, والحوراء إنما هي فعلاء من الحور وهو نقاء البياض, كما قيل للنقيّ البياض من الطعام الحُوّاري. وقد بيّنا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبل. وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال سائر أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24104ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: كَذَلكَ وَزَوّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ قال: بيضاء عيناء, قال: وفي قراءة ابن مسعود «بعِيسٍ عِينٍ».
حدثنا بن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: بِحُورٍ عِينٍ قال: بيض عين, قال: وفي حرف ابن مسعود «بعِيسٍ عِينٍ». وقرأ ابن مسعود هذه, يعني أن معنى الحور غير الذي ذهب إليه مجاهد, لأن العيس عند العرب جمع عيساء, وهي البيضاء من الإبل, كما قال الأعشي:
وَمَهْمَةً نازِحٍ تَعْوِي الذّئابُ بِهِكَلّفْتُ أَعْيَسَ تَحْتَ الرّحْلِ نَعّابا
يعني بالأعيس: جملاً أبيض. فأما العين فإنها جمع عيناء, وهي العظيمة العينين من النساء.
وقوله: يَدْعُونَ فِيها... الاَية, يقول: يدعو هؤلاء المتقون في الجنة بكلّ نوع من فواكه الجنة اشتهوه, آمنين فيها من انقطاع ذلك عنهم ونفاده وفنائه, ومن غائلة أذاه ومكروهه, يقول: ليست تلك الفاكهة هنالك كفاكهة الدنيا التي نأكلها, وهم يخافون مكروه عاقبتها, وغب أذاها مع نفادها من عندهم, وعدمها في بعض الأزمنة والأوقات. وكان قتادة يوجه تأويل قوله: آمنين إلى ما:
24105ـ حدثنا به بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة يَدْعُونَ فِيهَا بكُلّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ أمنوا من الموت والأوصاب والشيطان.
وقوله: لا يَذُوقُونَ فِيها المَوْتَ إلاّ المَوْتَةَ الأُولى يقول تعالى ذكره: لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة الموت بعد الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا.
وكان بعض أهل العربية يوجه «إلاّ» في هذا الموضع إلى أنها في معنى سوى, ويقول: معنى الكلام: لا يذوقون فيها الموت سوى الموتة الأولى, ويمثله بقوله تعالى ذكره: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَف بمعنى: سوى ما قد فعل آباؤكم, وليس للذي قال من ذلك عندي وجه مفهوم, لأن الأغلب من قول القائل: لا أذوق اليوم الطعام إلا الطعام الذي ذقته قبل اليوم أنه يريد الخبر عن قائله أن عنده طعاما في ذلك اليوم ذائقه وطاعمه دون سائر الأطعمة غيره. وإذا كان ذلك الأغلب من معناه وجب أن يكون قد أثبت بقوله: إلاّ المَوْتَةَ الأُولى موتة من نوع الأولى هم ذائقوها, ومعلوم أن ذلك ليس كذلك, لأن الله عزّ وجلّ قد آمَن أهل الجنة في الجنة إذا هم دخلوها من الموت, ولكن ذلك كما وصفت من معناه. وإنما جاز أن توضع «إلا» في موضع «بعد» لتقارب معنييهما في هذا الموضع وذلك أن القائل إذا قال: لا أكلم اليوم رجلاً إلا رجلاً عند عمرو قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلاً بعد كلام الرجل الذي عند عمرو. وكذلك إذا قال: لا أكلم اليوم رجلاً بعد رجل عند عمرو, قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلاً إلا رجلاً عند عمرو, فبعد, وإلا: متقاربتا المعنى في هذا الموضع. ومن شأن العرب أن تضع الكلمة مكان غيرها إذا تقارب معنياهما, وذلك كوضعهم الرجاء مكان الخوف لما في معنى الرجاء من الخوف, لأن الرجاء ليس بيقين, وإنما هو طمع, وقد يصدق ويكذب كما الخوف يصدق أحيانا ويكذب, فقال في ذلك أبو ذُؤَيْب:
إذا لَسَعَتْهُ الدّبْرُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهاوَخالَفَها فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَامِلُ
فقال: لم يرج لسعها, ومعناه في ذلك: لم يخف لسعها, وكوضعهم الظنّ موضع العلم الذي لم يدرك من قِبل العيان, وإنما أدرك استدلالاً أو خبرا, كما قال الشاعر:
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنّوا بألْفَيْ مُدَجّجٍسَرَاتُهُمُ في الفارِسِيّ المُسَرّدِ
بمعنى: أيقنوا بألفى مدجّج واعلموا, فوضع الظنّ موضع اليقين, إذ لم يكن المقول لهم ذلك قد عاينوا ألفي مدجج, ولا رأوهم, وإن ما أخبرهم به هذا المخبر, فقال لهم ظنوا العلم بما لم يعاين من فعل القلب, فوضع أحدهما موضع الاَخر لتقارب معنييهما في نظائر لما ذكرت يكثر إحصاؤها, كما يتقارب معنى الكلمتين في بعض المعاني, وهما مختلفتا المعنى في أشياء أخر, فتضع العرب إحداهما مكان صاحبتها في الموضع الذي يتقارب معنياهما فيه, فكذلك قوله: لا يَذُوقُون فِيها المَوْتَ إلاّ المَوْتَةَ الأُولى وضعت «إلا» في موضع «بعد» لما نصف من تقارب معنى «إلا», و«بعد» في هذا الموضع, وكذلك وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ إنما معناه: بعد الذي سلف منكم في الجاهلية, فأما إذا وجهت «إلا» في هذا الموضع إلى معنى سوى, فإنما هو ترجمة عن المكان, وبيان عنها بما هو أشدّ التباسا على من أراد علم معناها منها.
وقوله: وَوَقاهُمْ عَذَابَ الجَحِيمِ فَضْلاً مِنْ رَبّكَ يقول تعالى ذكره: ووقى هؤلاء المتقين ربهم يومئذٍ عذاب النار تفضلاً يا محمد من ربك عليهم, وإحسانا منه إليهم بذلك, ولم يعاقبهم بجرم سلف منهم في الدنيا, ولولا تفضله عليهم بصفحه لهم عن العقوبة لهم على ما سلف منهم من ذلك, لم يقهم عذاب الجحيم, ولكن كان ينالهم ويصيبهم ألمه ومكروهه.
وقوله: ذَلكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ يقول تعالى ذكره: هذا الذي أعطينا هؤلاء المتقين في الاَخرة من الكرامة التي وصفت في هذه الاَيات, هو الفوز العظيم: يقول: هو الظفر العظيم بما كانوا يطلبون من إدراكه في الدنيا بأعمالهم وطاعتهم لربهم, واتقائهم إياه, فيما امتحنهم به من الطاعات والفرائض, واجتناب المحارم.
الآية : 58-59
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنّمَا يَسّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنّهُمْ مّرْتَقِبُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإنما سهّلنا قراءة هذا القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد بلسانك, ليتذكر هؤلاء المشركون الذين أرسلناك إليهم بعبره وحُججه, ويتّعظوا بعظاته, ويتفكّروا في آياته إذا أنت تتلوه عليهم, فينيبوا إلى طاعة ربهم, ويذعنوا للحقّ عند تَبَيُنهموه. كما:
24106ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فإنّمَا يَسّرْناهُ بِلِسانِكَ: أي هذا القرآن لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ.
24107ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فإنّما يَسّرْناهُ بِلِسانِكَ قال: القرآن, ويسّرناه: أطلق به لسانه.
وقوله: فارْتَقِبْ إنّهُمْ مُرْتَقِبُونَ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فانتظر أنت يا محمد الفتح من ربك, والنصر على هؤلاء المشركين بالله من قومك من قريش, إنهم منتظرون عند أنفسهم قهرك وغلبتك بصدّهم عما أتيتهم به من الحقّ من أراد قبوله واتباعك عليه. وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: فارْتَقِبْ إنّهُمْ مُرْتَقِبُونَ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24108ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فارَتَقِبْ إنّهُمْ مُرْتَقِبُونَ: أي فانتظر إنهم منتظرون.

نهاية تفسير الإمام الطبري لسورة الدخان