تفسير الطبري تفسير الصفحة 507 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 507
508
506
سورة محمد
مدنية
وآياتها ثمان وثلاثون
بسم الله الرحمَن الرحيم
الآية : 1-2
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ أَضَلّ أَعْمَالَهُمْ * وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَآمَنُواْ بِمَا نُزّلَ عَلَىَ مُحَمّدٍ وَهُوَ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ كَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ }.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذين جحدوا توحيد الله وعبدوا غيره وصدّوا من أراد عبادتَه والإقرار بوحدانيته, وتصديق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن الذي أراد من الإسلام والإقرار والتصديق أضَلّ أعمالَهمْ يقول: جعل الله أعمالهم ضلالاً على غير هدى وغير رشاد, لأنها عملت في سبيل الشيطان وهي على غير استقامة وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ يقول تعالى ذكره: والذين صدّقوا الله وعملوا بطاعته, واتبعوا أمره ونهيه وآمَنُوا بِمَا نُزّلَ على مُحَمّدٍ يقول: وصدّقوا بالكتاب الذي أنزل الله على محمد وَهُوَ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ كَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ يقول: محا الله عنهم بفعلهم ذلك سيىء ما عملوا من الأعمال, فلم يؤاخذهم به, ولم يعاقبهم عليه وأصْلَحَ بالَهُمْ يقول: وأصلح شأنهم وحالهم في الدنيا عند أوليائه, وفي الاَخرة بأن أورثهم نعيم الأبد والخلود الدائم في جنانه.
وذُكر أنه عنى بقوله: الّذِينَ كَفَرُوا... الآية أهل مكة, وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالحِاتِ... الآية, أهل المدينة. ذكر من قال ذلك:
24237ـ حدثني إسحاق بن وهب الواسطي, قال: حدثنا عبيد الله بن موسى, قال: أخبرنا إسرائيل, عن أبي يحيى القتات, عن مجاهد, عن عبد الله بن عباس, في قوله: الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ قال: نزلت في أهل مكة وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ قال: الأنصار.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: وأصْلَحَ بالَهُمْ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24238ـ حدثني إسحاق بن وهب الواسطي, قال: حدثنا عبيد الله بن موسى, قال: حدثنا إسرائيل, عن أبي يحيى القتات, عن مجاهد, عن عبد الله بن عباس وأصْلَحَ بالَهُمْ قال: أمرهم.
24239ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وأصْلَحَ بالَهُمْ قال: شأنهم.
24240ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وأصْلَحَ بالَهُمْ قال: أصلح حالهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة وأصْلَحَ بالَهُمْ قال: حالهم.
24241ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وأصْلَحَ بالَهُمْ قال حالهم. والبال: كالمصدر مثل الشأن لا يعرف منه فعل, ولا تكاد العرب تجمعه إلا في ضرورة شعر, فإذا جمعوه قالوا بالات.
الآية : 3
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ اتّبَعُواْ الْبَاطِلَ وَأَنّ الّذِينَ آمَنُواْ اتّبَعُواْ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ لِلنّاسِ أَمْثَالَهُمْ }.
يقول تعالى ذكره: هذا الذي فعلنا بهذين الفريقين من إضلالنا أعمال الكافرين, وتكفيرنا عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات, جزاء منا لكلّ فريق منهم على فعله. أما الكافرون فأضللنا أعمالهم, وجعلناها على غير استقامة وهدى, بأنهم اتبعوا الشيطان فأطاعوه, وهو الباطل. كما:
24250حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة, وعباس بن محمد, قالا: حدثنا حجاج بن محمد, قال: قال ابن جُرَيج: أخبرني خالد أنه سمع مجاهدا يقول ذلكَ بأنّ الّذِينَ كَفَرُوا اتّبَعُوا الباطِلَ قال: الباطل: الشيطان. وأما المؤمنون فكفّرنا عنهم سيئاتهم, وأصلحنا لهم حالهم بأنهم اتبعوا الحقّ الذي جاءهم من ربهم, وهو محمد صلى الله عليه وسلم, وما جاءهم به من عند ربه من النور والبرهان كَذَلكَ يَضْرِبُ اللّهُ للنّاسِ أمْثالَهُمْ يقول عزّ وجلّ: كما بينت لكم أيها الناس فعلي بفريق الكفر والإيمان, كذلك نمثل للناس الأمثال, ونشبه لهم الأشباه, فنلحق بكلّ قوم من الأمثال أشكالاً.
الآية : 4
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرّقَابِ حَتّىَ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدّواْ الْوَثَاقَ فَإِمّا مَنّا بَعْدُ وَإِمّا فِدَآءً حَتّىَ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـَكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَن يُضِلّ أَعْمَالَهُمْ }.
يقول تعالى ذكره لفريق الإيمان به وبرسوله: فَإذَا لَقِيُتمُ الّذِينَ كَفَرُوا بالله ورسوله من أهل الحرب, فاضربوا رقابهم.
وقوله: حتى إذَا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدّوا الوَثاقَ يقول: حتى إذا غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم, فصاروا في أيديكم أسرى فَشُدّوا الوَثاقَ يقول: فشدّوهم في الوثاق كيلا يقتلوكم, فيهربوا منكم.
وقوله: فإمّا مَنّا بَعْدُ وإمّا فِدَاءً يقول: فإذا أسرتموهم بعد الإثخان, فإما أن تمنوا عليهم بعد ذلك بإطلاقكم إياهم من الأسر, وتحرروهم بغير عوض ولا فدية, وإما أن يفادوكم فداء بأن يعطوكم من أنفسهم عوضا حتى تطلقوهم, وتخلوا لهم السبيل.
واختلف أهل العلم في قوله: حتى إذَا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدّوا الوَثاقَ, فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً فقال بعضهم: هو منسوخ نسخه قوله: فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم وقوله فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ في الحَرْب فَشَرّدْ بِهِمْ مِنْ خَلْفِهُمْ. ذكر من قال ذلك:
24242ـ حدثنا ابن حُمَيد وابن عيسى الدامغانيّ, قالا: حدثنا ابن المبارك, عن ابن جُرَيج أنه كان يقول, في قوله: فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً نسخها قوله: فاقْتُلوا المشْرِكِينَ حَيْثُ وَجدْتُموهُمْ.
24243ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن السديّ فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً قال: نسخها فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.
24244ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً نسخها قوله: فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فإذَا لَقِيُتمُ الّذينَ كَفَرُوا إلى قوله: وَإمّا فِدَاءً كان المسلمون إذا لقوا المشركين قاتلوهم, فإذا أسروا منهم أسيرا, فليس لهم إلا أن يُفادوه, أو يمنوا عليه, ثم يرسلوه, فنسخ ذلك بعد قوله: فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ: أي عظ بهم من سواهم من الناس لعلهم يذّكرون.
24245ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن عبد الكريم الجزري, قال: كتب إلى أبي بكر رضي الله عنه في أسير أُسر, فذكر أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا, فقال أبو بكر: اقتلوه, لقتلُ رجل من المشركين, أحبّ إليّ من كذا وكذا.
24246ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: فإذَا لَقِيُتمُ الّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرّقابِ... إلى آخر الآية, قال: الفداء منسوخ, نسختها: فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ... إلى كُلّ مَرْصَدٍ قال: فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا حرمة بعد براءة, وانسلاخ الأشهر الحَرم.
24247ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً هذا منسوخ, نسخه قوله: فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة بعد براءة.
وقال آخرون: هي محكمة وليست بمنسوخة, وقالوا: لا يجوز قتل الأسير, وإنما يجوز المنّ عليه والفداء. ذكر من قال ذلك:
24248ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا أبو عتاب سهل بن حماد, قال: حدثنا خالد بن جعفر, عن الحسن, قال: أتى الحجاج بأسارى, فدفع إلى ابن عمر رجلاً يقتله, فقال ابن عمر: ليس بهذا أُمرنا, قال الله عزّ وجلّ حتى إذَا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدّوا الوَثاقَ, فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً قال: البكا بين يديه فقال الحسن: لو كان هذا وأصحابه لابتدروا إليهم.
24249ـ حدثنا ابن حميد وابن عيسى الدامغانيّ, قالا: حدثنا ابن المبارك, عن ابن جُرَيج, عن عطاء أنه كان يكره قتل المشرك صبرا, قال: ويتلو هذه الآية فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً.
24250ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الحسن, قال: لا تقتل الأُسارى إلا في الحرب يهيب بهم العدوّ.
24251ـ قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, قال: كان عمر بن عبد العزيز يفديهم الرجل بالرجل, وكان الحسن يكره أن يفادي بالمال.
24252ـ قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن رجل من أهل الشأم ممن كان يحرس عمر بن عبد العزيز, وهو من بني أسد, قال: ما رأيت عمر رحمه الله قتل أسيرا إلا واحدا من الترك كان جيء بأسارى من الترك, فأمر بهم أن يُسترقوا, فقال رجل ممن جاء بهم: يا أمير المؤمنين, لو كنت رأيت هذا لأحدهم وهو يقتل المسلمين لكثر بكاؤك عليهم, فقال عمر: فدونك فاقتله, فقام إليه فقتله.
والصواب من القول عندنا في ذلك أن هذه الآية محكمة غير منسوخة, وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ ما قد بيّنا في غير موضع في كتابنا إنه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال واحدة, أو ما قامت الحجة بأن أحدهما ناسخ الاَخر, وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المنّ والفداء والقتل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, وإلى القائمين بعده بأمر الأمة, وإن لم يكن القتل مذكورا في هذه الآية, لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى, وذلك قوله: فَاقْتُلُوا المُشْركِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.... الآية, بل ذلك كذلك, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيرا في يده من أهل الحرب, فيقتل بعضا, ويفادي ببعض, ويمنّ على بعض, مثل يوم بدر قتل عقبة بن أبي مُعَيْط وقد أُتي به أسيرا, وقتل بني قُرَيظة, وقد نزلوا على حكم سعد, وصاروا في يده سلِما, وهو على فدائهم, والمنّ عليهم قادر, وفادى بجماعة أسارى المشركين الذين أُسروا ببدر, ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفيّ, وهو أسير في يده, ولم يزل ذلك ثابتا من سيره في أهل الحرب من لدن أذن الله له بحربهم, إلى أن قبضه إليه صلى الله عليه وسلم دائما ذلك فيهم, وإنما ذكر جلّ ثناؤه في هذه الآية المنّ والفداء في الأسارى, فخصّ ذكرهما فيها, لأن الأمر بقتلهما والإذن منه بذلك قد كان تقدم في سائر آي تنزيله مكرّرا, فأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بما ذكر في هذه الآية من المنّ والفداء ماله فيهم مع القتل.
وقوله: حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها يقول تعالى ذكره: فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا رقابهم, وافعلوا بأسراهم ما بيّنت لكم, حتى تضع الحرب آثامها وأثقال أهلها, المشركين بالله بأن يتوبوا إلى الله من شركهم, فيؤمنوا به وبرسوله, ويطيعوه في أمره ونهيه, فذلك وضع الحرب أوزارها, وقيل: حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها والمعنى: حتى تلقي الحرب أوزار أهلها. وقيل: معنى ذلك: حتى يضع المحارب أوزاره. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24253ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى: وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: حتى تَضَعَ الحَرْبُ أوْزَارَها قال: حتى يخرج عيسى ابن مريم, فيسلم كلّ يهوديّ ونصرانيّ وصاحب ملة, وتأمن الشاة من الذئب, ولا تقرض فأرة جِرابا, وتذهب العداوة من الأشياء كلها, ذلك ظهور الإسلام على الدين كله, وينعم الرجل المسلم حتى تقطر رجله دما إذا وضعها.
24254ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها حتى لا يكون شرك.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها قال: حتى لا يكون شرك.
ذكر من قال: عُنِي بالحرب في هذا الموضع: المحاربون.
24255ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور عن معمر, عن قتادة حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها قال الحرب: من كان يقاتلهم سماهم حربا.
وقوله: ذلكَ وَلَوْ يَشاءُ اللّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ يقول تعالى ذكره: هذا الذي أمرتكم به أيها المؤمنون من قتل المشركين إذا لقيتموهم في حرب, وشدّهم وثاقا بعد قهرهم, وأسرهم, والمنّ والفداء حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها هو الحقّ الذي ألزمكم ربكم ولو يشاء ربكم, ويريد لانتصر من هؤلاء المشركين الذين بين هذا الحكم فيهم بعقوبة منه لهم عاجلة, وكفاكم ذلك كله, ولكنه تعالى ذكره كره الانتصار منهم, وعقوبتهم عاجلاً إلا بأيديكم أيها المؤمنون لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ يقول: ليختبركم بهم, فيعلم المجاهدين منكم والصابرين, ويبلوهم بكم, فيعاقب بأيديكم من شاء منهم, ويتعظ من شاء منهم بمن أهلك بأيديكم من شاء منهم حتى ينيب إلى الحقّ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24256ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَلَوْ يَشاءُ اللّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ إي والله بجنوده الكثيرة كلّ خلقه له جند, ولو سلط أضعف خلقه لكان جندا.
وقوله: «وَالّذِينَ قاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ» اختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الحجاز والكوفة «وَالّذِينَ قاتَلُوا» بمعنى: حاربوا المشركين, وجاهدوهم, بالألف وكان الحسن البصري فيما ذُكر عنه يقرأه قُتّلُوا بضم القاف وتشديد التاء, بمعنى: أنه قتلهم المشركون بعضهم بعد بعض, غير أنه لم يسمّ الفاعلون. وذُكر عن الجحدريّ عاصم أنه كان يقرأه «وَالّذِينَ قَتَلُوا» بفتح القاف وتخفيف التاء, بمعنى: والذين قتلوا المشركون بالله. وكان أبو عمرو يقرأه قُتِلُوا بضم القاف وتخفيف التاء بمعنى: والذين قتلهم المشركون, ثم أسقط الفاعلين, فجعلهم لم يسمّ فاعل ذلك بهم.
وأولى القراءات بالصواب قراءة من قرأه «وَالّذِينَ قاتَلُوا» لاتفاق الحجة من القرّاء, وإن كان لجميعها وجوه مفهومة.
وإذ كان ذلك أولى القراءات عندنا بالصواب, فتأويل الكلام: والذين قاتلوا منكم أيها المؤمنون أعداء الله من الكفار في دين الله, وفي نصرة ما بعث به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى, فجاهدوهم في ذلك فَلَنْ يُضِلّ أعمالَهُمْ فلن يجعل الله أعمالهم التي عملوها في الدنيا ضلالاً عليهم كما أضلّ أعمال الكافرين. وذُكر أن هذه الآية عُنِي بها أهل أُحد. ذكر من قال ذلك:
24257ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَالّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلّ أعمالَهُمْ ذُكر لنا أن هذه الآية أُنزلت يوم أُحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشّعْب, وقد فَشَت فيهم الجراحات والقتل, وقد نادى المشركون يومئذٍ: أُعْلُ هُبَلْ, فنادى المسلمون: الله أعلى وأجلّ, فنادى المشركون: يوم بيوم, إن الحرب سجال, إن لنا عُزّى, ولا عُزّى لكم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللّهُ مَوْلانا وَلا مَوْلَى لَكْمُ. إنّ القَتْلَى مُخْتَلِفَةٌ, أمّا قَتْلانا فأَحْياءٌ يُرْزَقُونَ, وأمّا قَتْلاكُمْ فَفِي النّارِ يُعَذّبُونَ».
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وَالّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلّ أعمالَهُمْ قال: الذين قُتلوا يوم أُحد.
الآية : 5-7
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنّةَ عَرّفَهَا لَهُمْ * يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تَنصُرُواْ اللّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ }.
يقول تعالى ذكره: سيوفق الله تعالى ذكره للعمل بما يرضي ويحبّ, هؤلاء الذين قاتلوا في سبيله, وَيُصْلِحُ بالَهُمْ: ويصلح أمرهم وحالهم في الدنيا والاَخرة وَيُدْخِلُهُمُ الجَنّةَ عَرّفَها لَهُمْ يقول: ويُدخلهم الله جنته عرّفها, يقول: عرّفها وبيّنها لهم, حتى إن الرجل ليأتي منزله منها إذا دخلها كما كان يأتي منزله في الدنيا, لا يُشْكِلُ عليه ذلك. كما:
24258ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, عن أبي سعيد الخُدْريّ, قال: إذا نجّى الله المؤمنين من النار حُبسوا على قنطرة بين الجنة والنار, فاقتصّ بعضهم من بعض مظالم كثيرة كانت بينهم في الدنيا, ثم يُؤذن لهم بالدخول في الجنة, قال: فما كان المؤمن بأدلّ بمنزله في الدنيا منه بمنزله في الجنة حين يدخلها.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله وَيُدْخِلُهُمُ الجَنّةَ عَرّفَها لَهُمْ قال: أي منازلهم فيها.
24259ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: وَيُدْخِلُهُمُ الجَنّةَ عَرّفَها لَهُمْ قال: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم, وحيث قسم الله لهم لا يخطئون, كأنهم سكانها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحدا.
24260ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَيُدْخِلُهُمُ الجَنّةَ عَرّفَها لَهُمْ قال: بلغنا عن غير واحد قال: يدخل أهل الجنة الجنة, ولهم أعرف بمنازلهم فيها من منازلهم في الدنيا التي يختلفون إليها في عمر الدنيا قال: فتلك قول الله جلّ ثناؤه وَيُدْخِلُهُمُ الجَنّةَ عَرّفَها لَهُمْ.
وقوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنْصُرُوا اللّهَ يَنْصُرْكُمْ يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله, إن تنصروا الله ينصركم بنصركم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر به وجهادكم إياهم معه لتكون كلمته العُليا ينصركم عليهم, ويظفركم بهم, فإنه ناصر دينه وأولياءه. كما:
24261ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنْ تَنْصُرُوا اللّهَ يَنْصُرْكمْ لأنه حقّ على الله أن يعطي من سأله, وينصر من نصره.
وقوله: وَيُثَبّتْ أقْدَامَكُمْ يقول: ويقوّكم عليهم, ويجرّئكم, حتى لا تولوا عنهم, وإن كثر عددهم, وقلّ عددكم.
الآية : 8-9
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَالّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لّهُمْ وَأَضَلّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ اللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }.
يقول تعالى ذكره: وَالّذِينَ كَفَرُوا بالله, فجحدوا توحيده فَتَعْسا لَهُمْ يقول: فخزيا لهم وشقاء وبلاء. كما:
24262ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: وَالّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسا لَهُمْ قال: شقاء لهم.
وقوله: وأضَلّ أعمالَهُمْ يقول وجعل أعمالهم معمولة على غير هدى ولا استقامة, لأنها عملت في طاعة الشيطان, لا في طاعة الرحمن. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24263ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وأضَلّ أعمالَهُمْ قال: الضلالة التي أضلهم الله لم يهدهم كما هَدى الاَخرين, فإن الضلالة التي أخبرك الله: يضلّ من يشاء, ويهدي من يشاء قال: وهؤلاء ممن جعل عمله ضلالاً, وردّ قوله: وأضَلّ أعمالَهُمْ على قوله: فَتَعْسا لَهُمْ وهو فعل ماض, والتعس اسم, لأن التعس وإن كان اسما ففي معنى الفعل لما فيه من معنى الدعاء, فهو بمعنى: أتعسهم الله, فلذلك صلح ردّ أضلّ عليه, لأن الدعاء يجري مجرى الأمر والنهي, وكذلك قوله: حتى إذَا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدّوا الوَثاقَ مردودة على أمر مضمر ناصب لضرب.
وقوله: ذلكَ بأنّهُم كَرِهُوا ما أنْزَلَ اللّهُ يقول تعالى ذكره: هذا الذي فعلنا بهم من الإتعاس وإضلال الأعمال من أجل أنهم كرهوا كتابنا الذي أنزلناه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسخطوه, فكذّبوا به, وقالوا: هو سحر مبين.
وقوله: فَأَحْبَطَ أعمالَهُمْ يقول: فأبطل أعمالهم التي عملوها في الدنيا, وذلك عبادتهم الاَلهة, لم ينفعهم الله بها في الدنيا ولا في الاَخرة, بل أوبقهم بها, فأصلاهم سعيرا, وهذا حكم الله جلّ جلاله في جميع من كفر به من أجناس الأمم, كما قال قتادة.
24264ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة في قوله: فَتَعْسا لَهُمْ قال: هي عامة للكفار.
الآية : 10
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمّرَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا }.
يقول تعالى ذكره: أفلم يَسِر هؤلاء المكذّبون محمدا صلى الله عليه وسلم, المنكرو ما أنزلنا عليه من الكتاب في الأرض سفرا, وإنما هذا توبيخ من الله لهم, لأنهم قد كانوا يسافرون إلى الشام, فيرون نقمة الله التي أحلّها بأهل حَجْرِ ثمود, ويرون في سفرهم إلى اليمن ما أحلّ الله بسَبَأ, فقال لنبيه عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين به: أفلم يسِر هؤلاء المشركون سفرا في البلاد فينظروا كيف كان عاقبة تكذيب الذين من قبلهم من الأمم المكذّبة رسلها الرّادّة نصائحها ألم نهلكها فندمّر عليها منازلها ونخرّبها, فيتعظوا بذلك, ويحذروا أن يفعل الله ذلك بهم في تكذيبهم إياه, فينيبوا إلى طاعة الله في تصديقك, ثم توعّدهم جلّ ثناؤه, وأخبرهم إن هم أقاموا على تكذيبهم رسوله, أنه مُحِلّ بهم من العذاب ما أحلّ بالذين كانوا من قبلهم من الأمم, فقال: وللْكافِرِين أمْثالهَا يقول: وللكافرين من قريش المكذبي رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب العاجل, أمثال عاقبة تكذيب الأمم الذين كانوا من قبلهم رسلهم على تكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24265ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: وللْكافرِين أمْثالهَا قال: مثل ما دُمَرت به القرون الأولى وعيد من الله لهم.