تفسير الطبري تفسير الصفحة 508 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 508
509
507
 الآية : 11-12
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ مَوْلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَأَنّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىَ لَهُمْ * إِنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَالّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنّارُ مَثْوًى لّهُمْ }.
يقول تعالى ذكره: هذا الفعل الذي فعلنا بهذين الفريقين: فريق الإيمان, وفريق الكفر, من نُصرتنا فريق الإيمان بالله, وتثبيتنا أقدامِهم, وتدميرنا على فريق الكفر بأنّ الله مَوْلى الّذِين آمَنُوا يقول: من أجل أن الله وليّ من آمن به, وأطاع رسوله. كما:
24266ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ذلك بأنّ الله مَوْلى الّذِين آمَنُوا قال: وليهم.
وقد ذُكر لنا أن ذلك في قراءة عبد الله «ذلك بأنّ الله ولِيّ الّذِين آمَنُوا» و«أن» التي في المائدة التي هي في مصاحفنا إنّمَا ولِيّكُمُ اللّهُ ورسُولُهُ: «إنّمَا مَوْلاكُمُ اللّهُ» في قراءته.
وقوله: وأنّ الكافِرِين لا مَوْلى لهُمْ يقول: وبأن الكافرين بالله لا وليّ لهم, ولا ناصر.
وقوله: إنّ الله يُدْخِلُ الّذِين آمَنُوا وعمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تحْتِها الأنهَارُ يقول تعالى ذكره: إن الله له الألوهة التي لا تنبغي لغيره, يُدخل الذين آمنوا بالله وبرسوله بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار, يفعل ذلك بهم تكرمة على إيمانهم به وبرسوله.
وقوله: والّذِين كَفَرُوا يَتَمَتّعُونَ وَيأْكُلُونَ كمَا تَأْكُلُ الأنْعامُ يقول جل ثناؤه: والذين جحدوا توحيد الله, وكذّبوا رسوله صلى الله عليه وسلم يتمتعون في هذه الدنيا بحطامها ورياشها وزينتها الفانية الدارسة, ويأكلون فيها غير مفكّرين في المعاد, ولا معتبرين بما وضع الله لخلقه من الحجج المؤدّية لهم إلى علم توحيد الله ومعرفة صدق رسله, فمثلهم في أكلهم ما يأكلون فيها من غير علم منهم بذلك, وغير معرفة, مثل الأنعام من البهائم المسخرة التي لا همة لها إلا في الاعتلاف دون غيره والنّارُ مَثْوًى لَهُمْ يقول جلّ ثناؤه: والنار نار جهنم مسكن لهم, ومأوى, إليها يصيرون من بعد مماتهم.
الآية : 13
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدّ قُوّةً مّن قَرْيَتِكَ الّتِيَ أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ }.
يقول تعالى ذكره: وكم يا محمد من قرية هي أشدّ قوّة من قريتك, يقول أهلها أشدّ بأسا, وأكثر جمعا, وأعدّ عديدا من أهل قريتك, وهي مكة, وأخرج الخبر عن القرية, والمراد به أهلها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24267ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وكأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أشَدّ قُوّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الّتي أخْرَجَتْكَ أهْلَكْناهُمْ قال: هي مكة.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة في قوله وكأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أشَدّ قُوّةً مِنْ قَرْيَتِكَ قال: قريته مكة.
24268ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه, عن حبيش, عن عكرمة, عن ابن عباس أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم, لما خرج من مكة إلى الغار, أراه قال: التفت إلى مكة, فقال: «أنْتِ أحَبّ بِلادِ اللّهِ إلى اللّهِ, وأنْتِ أحَبّ بِلادِ اللّهِ إليّ, فَلَوْ أنّ المُشْركِينَ لَمْ يُخْرِجُوني لَمْ أخْرُجْ مِنْكِ, فَأعْتَىَ الأعْداءِ مَنْ عَتا على اللّهِ في حَرَمِهِ, أوْ قَتَلَ غيرَ قاتِلِهِ, أوْ قَتَلَ بذُحُولِ الجاهِلِيّةِ», فأنزل الله تبارك وتعالى: وكأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أشَدّ قُوّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الّتي أخْرَجَتْكَ أهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ وقال جلّ ثناؤه: أخرجتك, فأخرج الخبر عن القرية, فلذلك أنّث, ثم قال: أهلكناهم, لأن المعنى في قوله أخرجتك, ما وصفت من أنه أريد به أهل القرية, فأخرج الخبر مرّة على اللفظ, ومرّة على المعنى.
وقوله: فَلا ناصِرَ لَهُمْ فيه وجهان من التأويل: أحدهما أن يكون معناه, وإن كان قد نصب الناصر بالتبرئة, فلم يكن لهم ناصر, وذلك أن العرب قد تضمر كان أحيانا في مثل هذا. والاَخر أن يكون معناه: فلا ناصر لهم الاَن من عذاب الله ينصرهم.
الآية : 14
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ عَلَىَ بَيّنَةٍ مّن رّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوَءُ عَمَلِهِ وَاتّبَعُوَاْ أَهْوَاءَهُمْ }.
يقول تعالى ذكره: أَفَمَنْ كَانَ على برهان وحجة وبيان مِنْ أمر رَبّهِ والعلم بوحدانيته, فهو يعبده على بصيرة منه, بأن له ربّا يجازيه على طاعته إياه الجنة, وعلى إساءته ومعصيته إياه النار, كمَنْ زُيّنَ لَه سُوءُ عَمَلِهِ يقول: كمن حسّن له الشيطان قبيح عمله وسيئته, فأراه جميلاً, فهو على العمل به مقيم, واتّبَعُوا أهْوَاءَهُمْ واتبعوا ما دعتهم إليه أنفسهم من معصية الله, وعبادة الأوثان من غير أن يكون عندهم بما يعملون من ذلك برهان وحجة. وقيل: إن الذي عُني بقوله: أفمَنْ كانَ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّهِ نبينا عليه الصلاة والسلام, وإن الذي عُنِي بقوله: كمَنْ زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ هم المشركون.
الآية : 15
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {مّثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مّن مّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لّبَنٍ لّمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لّذّةٍ لّلشّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مّنْ عَسَلٍ مّصَفّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مّن رّبّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطّعَ أَمْعَآءَهُمْ }.
يقول تعالى ذكره: صفة الجنة التي وعدها المتقون, وهم الذين اتقوا في الدنيا عقابه بأداء فرائضه, واجتناب معاصيه فِيهَا أنهَارٌ مِنْ ماءٍ غَيرِ آسِنٍ يقول تعالى ذكره في هذه الجنة التي: ذكرها أنهار من ماء غير متغير الريح, يقال منه: قد أَسِنَ ماء هذه البئر: إذا تغيرت ريح مائها فأنتنت, فهو يأْسَن أَسَنا, وكذلك يُقال للرجل إذا أصابته ريح منتنة: قد أَسِن فهو يأْسَن. وأما إذا أَجَن الماء وتغير, فإنه يقال له: أسِن فهو يأسَن, ويأسِن أسونا, وماء آسن. وبنحو الذي قلنا في معنى قوله مِنْ ماءٍ غَيرِ آسِنٍ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24269ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله: فِيها أنهارٌ مِنْ ماءٍ غيرِ آسِنٍ يقول: غير متغير.
24270ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: أنهارٌ مِنْ ماءٍ غيرِ آسِنٍ قال: من ماء غير مُنْتن.
24271ـ حدثني عيسى بن عمرو, قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد, قال: حدثنا مصعب بن سلام, عن سعد بن طريف, قال: سألت أبا إسحاق عن ماءٍ غيرِ آسِنٍ قال: سألت عنها الحارث, فحدثني أن الماء الذي غير آسن تسنيم, قال: بلغني أنه لا تمسه يد, وأنه يجيء الماء هكذا حتى يدخل في فيه.
وقوله: وأنهارٌ مِنْ لَبنٍ لَمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ يقول تعالى ذكره: وفيها أنهار من لبن لم يتغير طعمه لأنه لم يحلب من حيوان فيتغير طعمه بالخروج من الضروع, ولكنه خلقه الله ابتداء في الأنهار, فهو بهيئته لم يتغير عما خلقه عليه.
وقوله: وأنهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذّةٍ للشّارِبِينَ يقول: وفيها أنهار من خمر لذة للشاربين يلتذّون بشربها. كما:
24272ـ حدثني عيسى, قال: حدثنا إبراهيم بن محمد, قال: حدثنا مصعب, عن سعد بن طريف, قال: سألت عنها الحارث, فقال: لم تدسه المجوس, ولم ينفخ فيه الشيطان, ولم تؤذها شمس, ولكنها فَوْحاء, قال: قلت لعكرِمة: ما الفوحاء: قال: الصفراء. وكما:
24273ـ حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: حدثنا حفص بن عمر, قال: حدثنا الحكم بن أبان, عن عكرِمة, في قوله: مِنْ لَبن لَمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ قال: لم يحلب, وخُفِضت اللذّة على النعت للخمر, ولو جاءت رفعا على النعت للأنهار جاز, أو نصبا على يتلذّذ بها لذّة, كما يقال: هذا لك هبة. كان جائزا فأما القراءة فلا أستجيزها فيها إلا خفضا لإجماع الحجة من القرّاء عليها.
وقوله: وأنهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّى يقول: وفيها أنهار من عسل قد صُفّي من القَذى, وما يكون في عسل أهل الدنيا قبل التصفية, وإنما أعلم تعالى ذكره عباده بوصفه ذلك العسل بأنه مصفى أنه خلق في الأنهار ابتداء سائلاً جاريا سيل الماء واللبن المخلوقين فيها, فهو من أجل ذلك مصّفى, قد صفاه الله من الأقذاء التي تكون في عسل أهل الدنيا الذي لا يصفو من الأقذاء إلا بعد التصفية, لأنه كان في شمع فصُفي منه.
وقوله: ولَهُمْ فِيها مِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ يقول تعالى ذكره: ولهؤلاء المتقين في هذه الجنة من هذه الأنهار التي ذكرنا من جميع الثمرات التي تكون على الأشجار وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبّهِمْ يقول: وعفو من الله لهم عن ذنوبهم التي أذنبوها في الدنيا, ثم تابوا منها, وصَفْحٌ منه لهم عن العقوبة عليها.
وقوله: كمَنْ هُوَ خالِدٌ في النّارِ يقول تعالى ذكره: أمّن هو في هذه الجنة التي صفتها ما وصفنا, كمن هو خالد في النار. وابُتدىء الكلام بصفة الجنة, فقيل: مثل الجنة التي وُعد المتقون, ولم يقل: أمّن هو في الجنة. ثم قيل بعد انقضاء الخبر عن الجنة وصفتها كمَنْ هُوَ خالِدٌ في النّارِ. وإنما قيل ذلك كذلك, استغناء بمعرفة السامع معنى الكلام, ولدلالة قوله: كمَنْ هُوَ خالِدٌ في النّارِ على معنى قوله: مَثَلُ الجَنّةِ التي وُعِدَ المُتّقُونَ.
وقوله: وَسُقُوا ماءً حَمِيما يقول تعالى ذكره: وسُقي هؤلاء الذين هم خلود في النار ماء قد انتهى حرّه فقطع ذلك الماء من شدّة حرّه أمعاءهم. كما:
24274ـ حدثني محمد بن خلف العَسْقلانيّ, قال: حدثنا حَيْوة بن شُريح الحِمصِيّ, قال: حدثنا بقية, عن صفوان بن عمرو, قال: ثني عبيد الله بن بشر, عن أبي أُمامة الباهلي, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: وَيُسْقَى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرّعُهُ قال: «يُقَرّبُ إلَيْهِ فَيَتَكَرّهُهُ, فإذَا أُدْنَى مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ, وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رأْسِهِ, فإذا شَرِبَ قَطّعَ أمْعاءَهُ حتى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ». قال: يقول الله وَسُقُوا ماءً حَمِيما, فَقَطّعَ أمْعاءَهُمْ يقول الله عزّ وجلّ يَشْوِي الوُجُوهَ, بِئْسَ الشّرَابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقا.
الآية : 16
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتّىَ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ وَاتّبَعُوَاْ أَهْوَآءَهُمْ }.
يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء الكفار يا محمد من يَسْتَمِع إِلَيْكَ وهو المنافِق, فيستمع ما تقول فلا يعيه ولا يفهمه, تهاونا منه بما تتلو عليه من كتاب ربك, وتغافلاً عما تقوله, وتدعو إليه من الإيمان, حَتّى إِذَا خَرَجَوُا مِنْ عِنْدِكَ قالوا إعلاما منهم لمن حضر معهم مجلسك من أهل العلم بكتاب الله, وتلاوتك عليهم ما تلوت, وقِيلك لهم ما قلت إنهم لن يُصْغوا أسماعهم لقولك وتلاوتك ماذَا قالَ لنا محمد آنِفا؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24275ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِك هؤلاء المنافقون, دخل رجلان: رجل ممن عقل عن الله وانتفع بما سمع ورجل لم يعقل عن الله, فلم ينتفع بما سمع, كان يقال: الناس ثلاثة: فسامع عامل, وسامع غافل, وسامع تارك.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ قال: هم المنافقون. وكان يقال: الناس ثلاثة: سامع فعامل, وسامع فغافل, وسامع فتارك.
24276ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا يحيى بن آدم, قال: حدثنا شريك, عن عثمان أبي اليقظان, عن يحيى بن الجزّار, أو سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس, في قوله: حَتّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا للّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ ماذَا قالَ آنِفا قال ابن عباس: أنا منهم, وقد سُئِلت فيمن سُئِل.
24277ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ... إلى آخر الآية, قال: هؤلاء المنافقون, والذين أُوتُوا العلم: الصحابة رضي الله عنهم.
وقوله: أُولَئِكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ على قُلُوبِهِمْ يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم هم القوم الذين ختم الله على قلوبهم, فهم لا يهتدون للحقّ الذي بعث الله به رسوله عليه الصلاة والسلام, واتّبَعُوا أهْوَاءَهُمْ يقول: ورفضوا أمر الله, واتبعوا ما دعتهم إليه أنفسهم, فهم لا يرجعون مما هم عليه إلى حقيقة ولا برهان, وسوّى جلّ ثناؤه بين صفة هؤلاء المنافقين وبين المشركين, في أن جميعهم إنما يتبعون فيما هم عليه من فراقهم دين الله, الذي ابتعث به محمدا صلى الله عليه وسلم أهواءهم, فقال في هؤلاء المنافقين: أُولَئِكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ على قُلُوبِهِمْ وَاتّبَعُوا أهْوَاءَهُمْ وقال في أهل الكفر به من أهل الشرك, كَمَنْ زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ, واتّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ.
الآية : 17-18
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَالّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ * فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ السّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنّىَ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ }.
يقول تعالى ذكره: وأما الذين وفّقهم الله لاتباع الحقّ, وشرح صدورهم للإيمان به وبرسوله من الذين استمعوا إليك يا محمد, فإن ما تلوته عليهم, وسمعوه منك زَادَهُمْ هُدىً يقول: زادهم الله بذلك إيمانا إلى إيمانهم, وبيانا لحقيقة ما جئتهم به من عند الله إلى البيان الذي كان عندهم. وقد ذُكر أن الذي تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن, فقال أهل النفاق منهم لأهل الإيمان, ماذا قال آنفا, وزاد الله أهل الهدى منهم هدىً, كان بعض ما أنزل الله من القرآن ينسخ بعض ما قد كان الحكم مضى به قبل. ذكر من قال ذلك:
24278ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَالّذِينَ اهْتَدوْا زَادَهُمْ هُدىً وآتاهُمْ تَقْوَاهُمْ قال: لما أنزل الله القرآن آمنوا به, فكان هدى, فلما تبين الناسخ والمنسوخ زادهم هدى.
وقوله: وآتاهُمْ تَقْوَاهُمْ يقول تعالى ذكره: وأعطى الله هؤلاء المهتدين تقواهم, وذلك استعماله إياهم تقواهم إياه.
وقوله: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ السّاعَةَ أنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أشْرَاطُها يقول تعالى ذكره: فهل ينظر هؤلاء المكذّبون بآيات الله من أهل الكفر والنفاق إلا الساعة التي وعد الله خلقه بعثهم فيها من قبورهم أحياء, أن تجيئهم فجأة لا يشعرون بمجيئها. والمعنى: هل ينظرون إلا الساعة, هل ينظرون إلا أن تأتيهم بغتة. وأنْ من قوله: إلاّ أنْ في موضع نصب بالردّ على الساعة, وعلى فتح الألف من أنْ تَأْتِيَهُمْ ونصب تأتِيَهم بها قراءة أهل الكوفة. وقد:
24279ـ حُدثت عن الفرّاء, قال: حدثني أبو جعفر الرّؤاسيّ, قال: قلت لأبي عمرو بن العلاء: ما هذه الفاء التي في قوله: فَقَدْ جاءَ أشْرَاطُها قال: جواب الجزاء, قال: قلت: إنها إن تأتيهم, قال: فقال: معاذ الله, إنما هي «إنْ تَأْتِهِمْ» قال الفرّاء: فظننت أنه أخذها عن أهل مكة, لأنه عليهم قرأ, قال الفرّاء: وهي أيضا في بعض مصاحف الكوفيين بسنة واحدة «تَأتِهِمْ» ولم يقرأ بها أحد منهم.
وتأويل الكلام على قراءة من قرأ ذلك بكسر ألف «إن» وجزم «تأتهم» فهل ينظرون إلا الساعة؟ فيجعل الخبر عن انتظار هؤلاء الكفار الساعة متناهيا عند قوله: إلاّ السّاعَةَ, ثم يُبْتدأ الكلام فيقال: إن تأتهم الساعة بغتة فقد جاء أشراطها, فتكون الفاء من قوله: فَقَدْ جاءَ بجواب الجزاء.
وقوله: فَقَدْ جاءَ أشْرَاطُها يقول: فقد جاء هؤلاء الكافرين بالله الساعة وأدلتها ومقدّماتها, وواحد الأشراط: شَرَط, كما قال جرير:
تَرَى شَرَطَ المِعْزَى مُهورَ نِسائهِمْوفي شُرَطِ المِعْزَى لهُنّ مُهُورُا
ويُرَوى: «ترى قَزَم المِعْزَى», يقال منه: أشرط فلان نفسَه: إذا علمها بعلامة, كما قال أوس بن حجر:
فأَشْرَطَ فِيها نَفْسَهُ وَهْوَ مُعْصِمٌوألْقَى بأسْبابٍ لَهُ وَتَوَكّلا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24280ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, فَقَدْ جاءَ أشْرَاطُها يعني: أشراط الساعة.
24281ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ السّاعَةَ أنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً قد دنت الساعة ودنا من الله فراغ العباد.
24282ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فَقَدْ جاءَ أشْرَاطُها قال: أشراطها: آياتها.
وقوله: فأنى لَهُمْ إذَا جآءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ يقول تعالى ذكره: فمن أيّ وجه لهؤلاء المكذّبين بآيات الله ذكرى ما قد ضيّعوا وفرّطوا فيه من طاعة الله إذا جاءتهم الساعة, يقول: ليس ذلك بوقت ينفعهم التذكر والندم, لأنه وقت مجازاة لا وقت استعتاب ولا استعمال. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24283ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فأنّى لَهُمْ إذَا جاءَتْهُم ذِكْراهُمْ يقول: إذا جاءتهم الساعة أنى لهم أن يتذكروا ويعرفوا ويعقلوا؟
حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة فأنى لَهُمْ إذَا جاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ قال: أنى لهم أن يتذكروا أو يتوبوا إذا جاءتهم الساعة.
24284ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فأنّى لَهُمْ إذَا جاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ قال: الساعة, لا ينفعهم عند الساعة ذكراهم, والذكرى في موضع رفع بقوله: فأنّى لَهُمْ لأن تأويل الكلام: فأنى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة.
الآية : 19
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلَـَهَ إِلا اللّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فاعلم يا محمد أنه لا معبود تنبغي أو تصلح له الألوهة, ويجوز لك وللخلق عبادته, إلا الله الذي هو خالق الخلق, ومالك كلّ شيء, يدين له بالربوبية كلّ ما دونه وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وسل ربك غفران سالف ذنوبك وحادثها, وذنوب أهل الإيمان بك من الرجال والنساء وَاللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلّبَكُمْ وَمَثْوَاكُم يقول: فإن الله يعلم متصرّفكم فيما تتصرّفون فيه في يقظتكم من الأعمال, ومثواكم إذا ثويتم في مضاجعكم للنوم ليلاً, لا يخفى عليه شيء من ذلك, وهو مجازيكم على جميع ذلك. وقد:
24285ـ حدثنا أبو كُريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا إبراهيم بن سليمان, عن عاصم الأحول, عن عبد الله بن سرجس, قال: أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقلت: غفر الله لك يا رسول الله, فقال رجل من القوم: أستغفر لك يا رسول الله, قال: «نَعَمْ وَلكَ», ثم قرأ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وللْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ