سورة الفتح | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الطبري تفسير الصفحة 513 من المصحف
تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 513
514
512
الآية : 16
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قُل لّلْمُخَلّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىَ قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ اللّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلّوْاْ كَمَا تَوَلّيْتُمْ مّن قَبْلُ يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد للْمُخَلّفِينَ مِنَ الأْعْرَابِ عن المسير معك, سَتُدْعَوْنَ إلَى قتال قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ في القتال شَدِيدٍ.
واختلف أهل التأويل في هؤلاء الذين أخبر الله عزّ وجلّ عنهم أن هؤلاء المخلفين من الأعراب يُدْعَوْن إلى قتالهم, فقال بعضهم: هم أهل فارس. ذكر من قال ذلك:
24366ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن عبد الله بن أبي نجيح, عن عطاء بن أبي رباح, عن ابن عباس أُولي بأْسٍ شَدِيدٍ أهل فارس.
24367ـ حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاريّ, قال: أخبرنا داود بن الزبرقان, عن ثابت البُنَانيّ, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, في قوله: سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: فارس والروم.
24368ـ قال: أخبرنا داود, عن سعيد, عن الحسن, مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: قال الحسن, في قوله: سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: هم فارس والروم.
24369ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: هم فارس.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: قال الحسن: دُعُوا إلى فارس والروم.
24370ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: فارس والروم.
وقال آخرون: هم هَوازن بحُنين. ذكر من قال ذلك:
24371ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير وعكرمة, في قوله: سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: هوازن.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جُبَير وعكرِمة في هذه الآية سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: هوازن وثقيف.
24372ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أوْ يُسْلِمُونَ قال: هي هَوازن وغَطَفان يوم حُنين.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قُلْ للْمُخَلّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ فدُعُوا يوم حُنين إلى هوازن وثقيف فمنهم من أحسن الإجابة ورغب في الجهاد.
وقال آخرون: بل هم بنو حنيفة. ذكر من قال ذلك:
24373ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن الزهري أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال بنو حنيفة مع مُسَيلمة الكذّاب.
24374ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن هشيم, عن أبي بشر, عن سعيد بن جُبير وعكرِمة أنهما كانا فيه هوازن وبني حنيفة.
وقال آخرون: لم تأت هذه الآية بعد. ذكر من قال ذلك:
24375ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الزهري, عن أبي هريرة سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ لم تأت هذه الآية.
وقال آخرون: هم الروم. ذكر من قال ذلك:
24376ـ حدثني محمد بن عوف, قال: حدثنا أبو المغيرة, قال: حدثنا صفوان بن عمرو, قال: حدثنا الفرج بن محمد الكلاعي, عن كعب, قال: أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: الروم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المخلّفين من الأعراب أنهم سيدعون إلى قتال قوم أولي بأس في القتال, ونجدة في الحروب, ولم يوضع لنا الدليل من خبر ولا عقل على أن المعنيّ بذلك هوازن, ولا بنو حنيفة ولا فارس ولا الروم, ولا أعيان بأعيانهم, وجائز أن يكون عنى بذلك بعض هذه الأجناس, وجائز أن يكون عُنِي بهم غيرهم, ولا قول فيه أصحّ من أن يُقال كما قال الله جلّ ثناؤه: إنهم سيدعون إلى قوم أولي بأس شديد.
وقوله: تُقاتِلُونَهُمْ أوْ يُسْلِمُونَ يقول تعالى ذكره للمخلّفين من الأعراب: تقاتلون هؤلاء الذين تُدعون إلى قتالهم, أو يسلمون من غير حرب ولا قتال.
وقد ذُكر أن ذلك في بعض القراءات «تُقاتِلُونَهُمْ أوْ يُسْلمُوا», وعلى هذه القراءة وإن كانت على خلاف مصاحف أهل الأمصار, وخلافا لما عليه الحجة من القرّاء, وغير جائز عندي القراءة بها لذلك تأويل ذلك: تقاتلونهم أبدا إلا أن يسلموا, أو حتى يسلموا.
وقوله: فإنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُم اللّهُ أجْرا حَسَنا يقول تعالى ذكره فإن تطيعوا الله في إجابتكم إياه إذا دعاكم إلى قتال هؤلاء القوم الأولي البأس الشديد, فتجيبوا إلى قتالهم والجهاد مع المؤمنين يُؤْتِكُم اللّهُ أجْرا حَسَنا يقول: يعطكم الله على إجابتكم إياه إلى حربهم الجنة, وهي الأجر الحسن وَإنْ تَتَوَلّوْا كمَا تَوَلّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يقول: وإن تعصوا ربكم فتدبروا عن طاعته وتخالفوا أمره, فتتركوا قتال الأولي البأس الشديد إذا دُعيتم إلى قتالهم كمَا تَوَلّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يقول: كما عصيتموه في أمره إياكم بالمسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة, من قبل أن تُدعَوا إلى قتال أولي البأس الشديد يُعَذّبْكُمُ اللّهُ عَذَابا ألِيما يعني: وجيعا, وذلك عذاب النار على عصيانكم إياه, وترككم جهادهم وقتالهم مع المؤمنين.
الآية : 17
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {لّيْسَ عَلَى الأعْمَىَ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَن يَتَوَلّ يُعَذّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً }.
يقول تعالى ذكره: ليس على الأعمى منكم أيها الناس ضيق, ولا على الأعرج ضيق, ولا على المريض ضيق أن يتخلفوا عن الجهاد مع المؤمنين, وشهود الحرب معهم إذا هم لقوا عدوّهم, للعلل التي بهم, والأسباب التي تمنعهم من شهودها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24377ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة لَيْسَ على الأعْمَى حَرَجٌ وَلا على الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا على المَرِيضِ حَرَجٌ قال: هذا كله في الجهاد.
24378ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ثُمّ عذر الله أهل العذر من الناس, فقال: لَيْسَ على الأعْمَى حَرَجٌ وَلا على الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا على المَرِيضِ حَرَجٌ.
24379ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: لَيْسَ على الأعْمَى حَرَجٌ وَلا على الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا على المَرِيضِ حَرَجٌ قال: في الجهاد في سبيل الله.
24380ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: لَيْسَ على الأعْمَى حَرَجٌ... الآية, يعني في القتال.
وقوله: وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ يقول تعالى ذكره: ومن يُطعِ الله ورسوله فيجيب إلى حرب أعداء الله من أهل الشرك, وإلى القتال مع المؤمنين ابتغاء وجه الله إذا دعي إلى ذلك, يُدخله الله يوم القيامة جنّات تجري من تحتها الأنهار وَمَنْ يَتَوَلّ يقول: ومن يعص الله ورسوله, فيتخلّف عن قتال أهل الشرك بالله إذا دعي إليه, ولم يستجب لدعاء الله ورسوله يعذّبه عذابا موجعا, وذلك عذاب جهنم يوم القيامة.)
الآية : 18-19
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {لّقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }.
يقول تعالى ذكره: لقد رضي الله يا محمد عن المؤمنين إذْ يُبايِعُونَكَ تحْتَ الشّجَرَةِ يعني بيعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله بالحديبية حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب, وعلى أن لا يفرّوا, ولا يولوهم الدبر تحت الشجرة, وكانت بيعتهم إياه هنالك فيما ذكر تحت شجرة.
وكان سبب هذه البيعة ما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه برسالته إلى الملإ من قريش, فأبطأ عثمان عليه بعض الإبطاء, فظنّ أنه قد قتل, فدعا أصحابه إلى تجديد البيعة على حربهم على ما وصفت, فبايعوه على ذلك, وهذه البيعة التي تسمى بيعة الرضوان, وكان الذين بايعوه هذه البيعة فيما ذُكر في قول بعضهم: ألفا وأربع مئة, وفي قول بعضهم: ألفا وخمس مئة, وفي قول بعضهم: ألفا وثلاث مئة. ذكر الرواية بما وصفنا من سبب هذه البيعة:
24381ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, قال: ثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي, فبعثه إلى قريش بمكة, وحمله على جمل له يقال له الثعلب, ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له, وذلك حين نزل الحديبية, فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأرادوا قتله, فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله, حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
24382ـ قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: فحدثني من لا أتهم, عن عكرِمة مولى ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة, فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له, فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي, وليس بمكة من بني عديّ بن كعب أحد يمنعني, وقد عرفت قريش عداوتي إياها, وغلظتي عليهم, ولكني أدلك على رجل هو أعزّ بها مني عثمان بن عفان, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان, فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب, وإنما جاء زائرا لهذا البيت, معظما لحرمته, فخرج عثمان إلى مكة, فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها, فنزل عن دابته, فحمله بين يديه, ثم ردفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش, فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به, فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به, قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاحتبسته قريش عندها, فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قُتل.
24383ـ قال: ثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, قال: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن عثمان قد قتل, قال: «لا نَبْرَحُ حتى نُناجِزَ القَوْمَ», ودعا الناس إلى البيعة, فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة, فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت فكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعنا على الموت, ولكنه بايعنا على أن لا نفر, فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس, ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة, كان جابر بن عبد الله يقول: لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته, قد اختبأ إليها, يستتر بها من الناس, ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذُكر من أمر عثمان باطل.
24384ـ حدثنا محمد بن عمارة الأسديّ, قال: حدثنا عبيد الله بن موسى, قال: أخبرنا موسى بن عبيدة, عن إياس بن سلمة, قال: قال سلمة: بينما نحن قائلون زمن الحديبية, نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس البيعة البيعة, نزل روح القدس صلوات الله عليه, قال: فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو تحت شجرة سمرة, قال: فبايعناه, وذلك قول الله: لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ.
24385ـ حدثنا عبد الحميد بن بيان اليشكري, قال: حدثنا محمد بن يزيد, عن إسماعيل, عن عامر, قال: كان أوّل من بايع بيعة الرضوان رجل من بني أسد يقال له أبو سنان بن وهب.
24386ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا يحيى بن حماد, قال: حدثنا همام, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, قال: كان جديّ يقال له حَزْن, وكان ممن بايع تحت الشجرة, فأتيناها من قابل, فعُميّت علينا.
24387ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا يحيى بن حماد, قال: ثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني عمرو بن الحارث, عن بُكير بن الأشجّ أنه بلغه أن الناس بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَلَى ما اسْتَطَعْتُمْ». والشجرة التي بُويع تحتها بفج نحو مكة, وزعموا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة, فقال: أين كانت, فجعل بعضهم يقول هنا, وبعضهم يقول: ههنا, فلما كثر اختلافهم قال: سيروا هذا التكلف فذهبت الشجرة وكانت سَمُرة إما ذهب بها سيل, وإما شيء سوى ذلك. ذكر عدد الذين بايعوا هذه البيعة:
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في عددهم, ونذكر الروايات عن قائلي المقالات التي ذكرناها إن شاء الله تعالى. ذكر من قال: عددهم ألف وأربع مئة:
24388ـ حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي, قال: حدثنا أبي, عن أبيه, عن جده, عن الأعمش, عن أبي سفيان عن جابر, قال: كنا يوم الحُديبية ألفا وأربع مئة, فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفرّ, ولم نبايعه على الموت, قال: فبايعناه كلنا إلا الجدّ بن قيس اختبأ تحت إبط ناقته.
24389ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, أخبرني القاسم بن عبد الله بن عمرو, عن محمد بن المنكدر, عن جابر بن عبد الله «أنهم كانوا يوم الحُديبية أربع عشرة مئة, فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بيده تحت الشجرة, وهي سمرة, فبايعنا غير الجدّ بن قيس الأنصاريّ, اختبأ تحت إبط بعيره, قال جابر: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفرّ ولم نبايعه على الموت».
حدثنا يوسف بن موسى القطان, قال: حدثنا هشام بن عبد الملك وسعيد بن شرحبيل المصري, قالا: حدثنا ليث بن سعد المصري, قال: حدثنا أبو الزبير, عن جابر, قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربع مئة, فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة, فبايعناه على أن لا نفرّ, ولم نبايعه على الموت, يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم.
24390ـ حدثنا ابن بشار وابن المثنى, قالا: حدثنا ابن أبي عديّ, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, أنه قيل له: إن جابر بن عبد الله يقول: إن أصحاب الشجرة كانوا ألفا وخمس مئة, قال سعيد: نسي جابر هو قال لي كانوا ألفا وأربع مئة.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: ثني محمد بن إسحاق, عن الأعمش, عن أبي سفيان, عن جابر قال: كنا أصحاب الحُديبية أربع عشرة مئة.
ذكر من قال: كان عدتهم ألفا وخمس مئة وخمسة وعشرين:
24391ـ حدثنا محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ قال: كان أهل البيعة تحت الشجرة ألفا وخمس مئة وخمسة وعشرين.
24392ـ حدثني بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة, فجعلت لهم مغانم خيبر كانوا يومئذ خمس عشرة مئة, وبايعوا على أن لا يفرّوا عنه.
ذكر من قال ذلك: كانوا ألفا وثلاث مئة:
24393ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن عمرو بن مرّة, قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول: كانوا يوم الشجرة ألفا وثلاث مئة, وكانت أسلم يومئذ من المهاجرين.
وقوله: فَعَلِمَ ما في قُلُوبِهِم يقول تعالى ذكره: فعلم ربك يا محمد ما في قلوب المؤمنين من أصحابك إذ يبايعونك تحت الشجرة, من صدق النية, والوفاء بما يبايعونك عليه, والصبر معك فأَنْزَل السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ يقول: فأنزل الطمأنينة, والثبات على ما هم عليه من دينهم وحُسن بصيرتهم بالحقّ الذي هداهم الله له. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24394ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله فَعَلِمَ ما في قُلُوبِهِم, فأنْزَلَ السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ: أي الصبر والوقار.
وقوله: وأثابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا يقول: وعوّضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة بقتالهم أهلها فتحا قريبا, وذلك فيما قيل: فتح خيبر. ذكر من قال ذلك:
24395ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن الحكم, عن ابن أبي ليلى وأثابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا قال: خيبر.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وأثابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا وهي خيبر.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قوله: وأثابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا قال: بلغني أنها خيبر.
وقوله: وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يأْخُذُوَنها يقول تعالى ذكره: وأثاب الله هؤلاء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة, مع ما أكرمهم به من رضاه عنهم, وإنزاله السكينة عليهم, وإثابته إياهم فتحا قريبا, معه مغانم كثيرة يأخذونها من أموال يهود خيبر, فإن الله جعل ذلك خاصة لأهل بيعة الرضوان دون غيرهم.
وقوله: وكانَ اللّهُ عَزِيزا حَكِيما يقول: وكان الله ذا عزّة في انتقامه ممن انتقم من أعدائه, حكيما في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم فيما شاء من قضائه.
الآية : 20-21
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجّلَ لَكُمْ هَـَذِهِ وَكَفّ أَيْدِيَ النّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً * وَأُخْرَىَ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللّهُ بِهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيراً }.
يقول تعالى ذكره لأهل بيعة الرضوان: وَعَدَكُمُ اللّهُ أيها القوم مَغانِمَ كَثِيرَةً تأْخُذُونَها.
اختلف أهل التأويل في هذه المغانم التي ذكر الله أنه وعدها هؤلاء القوم أيّ المغانم هي, فقال بعضهم: هي كل مغنم غنمها الله المؤمنين به من أموال أهل الشرك من لدن أنزل هذه الآية على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
24396ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغانِمَ كَثيرَةً تَأْخُذُونَها قال: المغانم الكثيرة التي وعدوا: ما يأخذونها إلى اليوم.
وعلى هذا التأويل يحتمل الكلام أن يكون مرادا بالمغانم الثانية المغانمَ الأولى, ويكون معناه عند ذلك, فأثابهم فتحا قريبا, ومغانم كثيرة يأخذونها, وعدكم الله أيها القوم هذه المغانم التي تأخذونها, وأنتم إليها واصلون عدة, فجعل لكم الفتح القريب من فتح خيبر. ويُحتمل أن تكون الثانية غير الأولى, وتكون الأولى من غنائم خيبر, والغنائم الثانية التي وعدهموها من غنائم سائر أهل الشرك سواهم.
وقال آخرون: هذه المغانم التي وعد الله هؤلاء القوم هي مغانم خيبر. ذكر من قال ذلك:
24397ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها قال: يوم خيبر, قال: كان أبي يقول ذلك.
وقوله: فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ اختلف أهل التأويل في التي عجلت لهم, فقال جماعة: غنائم خيبر والمؤخرة سائر فتوح المسلمين بعد ذلك الوقت إلى قيام الساعة. ذكر من قال ذلك:
24398ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ قال: عجل لكم خيبر.
24399ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ وهي خيبر.
وقال آخرون: بل عنى بذلك الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش. ذكر من قال ذلك:
24400ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ قال: الصلح.
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب ما قاله مجاهد, وهو أن الذي أثابهم الله من مسيرهم ذلك مع الفتح القريب المغانم الكثيرة من مغانم خيبر, وذلك أن المسلمين لم يغنموا بعد الحديبية غنيمة, ولم يفتحوا فتحا أقرب من بيعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية إليها من فتح خيبر وغنائمها.
وأما قوله: وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً فهي سائر المغانم التي غنمهموها الله بعد خيبر, كغنائم هوازن, وغطفان, وفارس, والروم.
وإنما قلنا ذلك كذلك دون غنائم خيبر, لأن الله أخبر أنه عجّل لهم هذه التي أثابهم من مسيرهم الذي ساروه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة, ولما علم من صحة نيتهم في قتال أهلها, إذ بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, على أن لا يفرّوا عنه, ولا شكّ أن التي عجّلت لهم غير التي لم تُعجّل لهم.
وقوله: وكَفّ أيْدِيَ النّاسِ عَنْكُمْ يقول تعالى ذكره لأهل بيعة الرضوان: وكفّ الله أيدي المشركين عنكم.
ثم اختلف أهل التأويل في الذين كفّت أيديهم عنهم من هم؟ فقال بعضهم: هم اليهود كفّ الله أيديهم عن عيال الذين ساروا من المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة. ذكر من قال ذلك:
24401ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وكَفّ أيْدِيَ النّاسِ عَنْكُمْ: عن بيوتهم, وعن عيالهم بالمدينة حين ساروا إلى الحديبية وإلى خيبر, وكانت خيبر في ذلك الوجه.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: وكَفّ أيْدِي النّاس عَنْكُمْ قال: كفّ أيدي الناس عن عيالهم بالمدينة.
وقال آخرون: بل عنى بذلك أيدي قريش إذ حبسهم الله عنهم, فلم يقدروا له على مكروه.
والذي قاله قتادة في ذلك عندي أشبه بتأويل الآية, وذلك أن كفّ الله أيدي المشركين من أهل مكة عن أهل الحُديبية قد ذكره الله بعد هذه الآية في قوله: وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيْدِيَكُم عَنْهُمْ بِبَطْن مَكّةَ فعلم بذلك أن الكفّ الذي ذكره الله تعالى في قوله: وكَفّ أيْدِيِ النّاسِ عَنْكُمْ غير الكفّ الذي ذكر الله بعد هذه الآية في قوله: وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُم عَنْكُمْ, وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْن مَكّةَ.
وقوله: وَلِتَكُونَ آيَةً للْمُؤْمِنِينَ يقول: وليكون كفه تعالى ذكره أيديهم عن عيالهم آية وعبرة للمؤمنين به فيعلموا أن الله هو المتولي حياطتهم وكلاءتهم في مشهدهم ومغيبهم, ويتقوا الله في أنفسهم وأموالهم وأهليهم بالحفظ وحُسن الولاية ما كانوا مقيمين على طاعته, منتهين إلى أمره ونهيه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24402ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ يقول: وذلك آية للمؤمنين, كفّ أيدي الناس عن عيالهم ويَهْدِيَكُمْ صِرَاطا مُسْتَقِيما يقول: ويسدّدكم أيها المؤمنون طريقا واضحا لا اعوجاج فيه, فيبينه لكم, وهو أن تثقوا في أموركم كلها بربكم, فتتوكلوا عليه في جميعها, ليحوطكم حياطته إياكم في مسيركم إلى مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنفسكم وأهليكم وأموالكم, فقد رأيتم أثر فعل الله بكم, إذ وثقتم في مسيركم هذا.
وقوله: وأُخْرَى لم تَقْدِروا عليها قَدْ أحاطَ اللّهُ بِهَا يقول تعالى ذكره ووعدكم أيها القوم ربكم فتح بلدة أخرى لم تقدروا على فتحها, قد أحاط الله بها لكم حتى يفتحها لكم.
واختلف أهل التأويل في هذه البلدة الأخرى, والقرية الأخرى التي وعدهم فتحها, التي أخبرهم أنه محيط بها, فقال بعضهم: هي أرض فارس والروم, وما يفتحه المسلمون من البلاد إلى قيام الساعة. ذكر من قال ذلك:
24403ـ حدثنا ابن المثنى,قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ, قال: حدثنا شعبة, عن سِماك الحنفيّ, قال: سمعت ابن عباس يقول: وأُخْرَى لم تَقْدِرُوا عَلَيْها فارس والروم.
24404ـ قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن الحكم, عن ابن أبي ليلى أنه قال في هذه الآية: وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قال: فارس والروم.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي, قال: حدثنا زيد بن حباب, قال: حدثنا شعبة بن الحَجاج, عن الحكم, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مثله.
24405ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أحاطَ اللّهُ بِها قال: حُدّث عن الحسن, قال: هي فارس والروم.
24406ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها ما فتحوا حتى اليوم.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن الحكم, عن عبد الرحمن بن أبي لَيلى, في قوله: وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قال: فارس والروم.
وقال آخرون: بل هي خيبر. ذكر من قال ذلك:
24407ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها... الآية, قال: هي خيبر.
24408ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ, يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك, يقول في قوله: وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أحاطَ اللّهُ بِها يعني خيبر, بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ, فقال: «لا تُمَثّلُوا وَلا تَغُلّوا, وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدا».
24409ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أحاطَ اللّهُ بِها قال: خيبر, قال: لم يكونوا يذكرونها ولا يرجونها حتى أخبرهم الله بها.
24410ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها يعني أهل خيبر.
وقال آخرون: بل هي مكة. ذكر من قال ذلك:
24411ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أحاطَ اللّهُ بِها كنا نحدّث أنها مكة.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قال: بلغنا أنها مكة.
وهذا القول الذي قاله قتادة أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل, وذلك أن الله أخبر هؤلاء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة, أنه محيط بقرية لم يقدروا عليها, ومعقولٌ أنه لا يقال لقوم لم يقدروا على هذه المدينة, إلا أن يكونوا قد راموها فتعذّرت عليهم, فأما وهم لم يروموها فتتعذّر عليهم فلا يقال: إنهم لم يقدروا عليها.
فإذ كان ذلك كذلك, وكان معلوما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقصد قبل نزول هذه الآية عليه خيبر لحرب, ولا وجه إليها لقتال أهلها جيشا ولا سرية, علم أن المعنيّ بقوله: وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها غيرها, وأنها هي التي قد عالجها ورامها, فتعذّرت فكانت مكة وأهلها كذلك, وأخبر الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه أحاط بها وبأهلها, وأنه فاتحها عليهم, وكان الله على كلّ ما يشاء من الأشياء ذا قُدرة, لا يتعذّر عليه شيء شاءه.
الآية : 22-23
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الّذِينَ كفَرُواْ لَوَلّوُاْ الأدْبَارَ ثُمّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * سُنّةَ اللّهِ الّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً }.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أهل بيعة الرضوان: وَلَوْ قاتَلَكُم الّذِينَ كَفَرُوا بالله أيها المؤمنون بمكة لَوَلّوُا الأدْبارَ يقول: لانهزموا عنكم, فولوكم أعجازهم, وكذلك يفعل المنهزم من قرنه في الحرب ثُمّ لا يَجدُونَ وَلِيّا وَلا نَصِيرا يقول: ثم لا يجد هؤلاء الكفار المنهزمون عنكم, المولوكم الأدبار, وليا يواليهم على حربكم, ولا نصيرا ينصرهم عليكم, لأن الله تعالى ذكره معكم, ولن يُغْلَبَ حِزْبٌ اللّهُ ناصِرُهُ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24412ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الّذِين كَفَرُوا لَوَلّوُا الأَدْبار يعني كفار قريش, قال الله: ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا ينصرهم من الله.
وقوله: سُنّةَ اللّهِ التي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ يقول تعالى ذكره: لو قاتلكم هؤلاء الكفار من قريش, لخذلهم الله حتى يهزمهم عنكم خذلانه أمثالهم من أهل الكفر به, الذين قاتلوا أولياءه من الأمم الذين مضوا قبلهم. وأخرج قوله: سُنّةَ اللّهِ نصبا من غير لفظه, وذلك أن في قوله: لَوَلّوُا الأدْبارَ ثُمّ لا يَجدُونَ وَلِيّا وَلا نَصِيرا معنى سننت فيهم الهزيمة والخذلان, فلذلك قيل: سُنّةَ اللّهِ مصدرا من معنى الكلام لا من لفظه, وقد يجوز أن تكون تفسيرا لما قبلها من الكلام.
وقوله: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولن تجد يا محمد لسنة الله التي سنها في خلقه تغييرا, بل ذلك دائم للإحسان جزاءه من الإحسان, وللإساءة والكفر العقاب والنكال
514
512
الآية : 16
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قُل لّلْمُخَلّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىَ قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ اللّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلّوْاْ كَمَا تَوَلّيْتُمْ مّن قَبْلُ يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد للْمُخَلّفِينَ مِنَ الأْعْرَابِ عن المسير معك, سَتُدْعَوْنَ إلَى قتال قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ في القتال شَدِيدٍ.
واختلف أهل التأويل في هؤلاء الذين أخبر الله عزّ وجلّ عنهم أن هؤلاء المخلفين من الأعراب يُدْعَوْن إلى قتالهم, فقال بعضهم: هم أهل فارس. ذكر من قال ذلك:
24366ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن عبد الله بن أبي نجيح, عن عطاء بن أبي رباح, عن ابن عباس أُولي بأْسٍ شَدِيدٍ أهل فارس.
24367ـ حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاريّ, قال: أخبرنا داود بن الزبرقان, عن ثابت البُنَانيّ, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, في قوله: سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: فارس والروم.
24368ـ قال: أخبرنا داود, عن سعيد, عن الحسن, مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: قال الحسن, في قوله: سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: هم فارس والروم.
24369ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: هم فارس.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: قال الحسن: دُعُوا إلى فارس والروم.
24370ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: فارس والروم.
وقال آخرون: هم هَوازن بحُنين. ذكر من قال ذلك:
24371ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير وعكرمة, في قوله: سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: هوازن.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جُبَير وعكرِمة في هذه الآية سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: هوازن وثقيف.
24372ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أوْ يُسْلِمُونَ قال: هي هَوازن وغَطَفان يوم حُنين.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قُلْ للْمُخَلّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ فدُعُوا يوم حُنين إلى هوازن وثقيف فمنهم من أحسن الإجابة ورغب في الجهاد.
وقال آخرون: بل هم بنو حنيفة. ذكر من قال ذلك:
24373ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن الزهري أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال بنو حنيفة مع مُسَيلمة الكذّاب.
24374ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن هشيم, عن أبي بشر, عن سعيد بن جُبير وعكرِمة أنهما كانا فيه هوازن وبني حنيفة.
وقال آخرون: لم تأت هذه الآية بعد. ذكر من قال ذلك:
24375ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الزهري, عن أبي هريرة سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ لم تأت هذه الآية.
وقال آخرون: هم الروم. ذكر من قال ذلك:
24376ـ حدثني محمد بن عوف, قال: حدثنا أبو المغيرة, قال: حدثنا صفوان بن عمرو, قال: حدثنا الفرج بن محمد الكلاعي, عن كعب, قال: أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: الروم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المخلّفين من الأعراب أنهم سيدعون إلى قتال قوم أولي بأس في القتال, ونجدة في الحروب, ولم يوضع لنا الدليل من خبر ولا عقل على أن المعنيّ بذلك هوازن, ولا بنو حنيفة ولا فارس ولا الروم, ولا أعيان بأعيانهم, وجائز أن يكون عنى بذلك بعض هذه الأجناس, وجائز أن يكون عُنِي بهم غيرهم, ولا قول فيه أصحّ من أن يُقال كما قال الله جلّ ثناؤه: إنهم سيدعون إلى قوم أولي بأس شديد.
وقوله: تُقاتِلُونَهُمْ أوْ يُسْلِمُونَ يقول تعالى ذكره للمخلّفين من الأعراب: تقاتلون هؤلاء الذين تُدعون إلى قتالهم, أو يسلمون من غير حرب ولا قتال.
وقد ذُكر أن ذلك في بعض القراءات «تُقاتِلُونَهُمْ أوْ يُسْلمُوا», وعلى هذه القراءة وإن كانت على خلاف مصاحف أهل الأمصار, وخلافا لما عليه الحجة من القرّاء, وغير جائز عندي القراءة بها لذلك تأويل ذلك: تقاتلونهم أبدا إلا أن يسلموا, أو حتى يسلموا.
وقوله: فإنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُم اللّهُ أجْرا حَسَنا يقول تعالى ذكره فإن تطيعوا الله في إجابتكم إياه إذا دعاكم إلى قتال هؤلاء القوم الأولي البأس الشديد, فتجيبوا إلى قتالهم والجهاد مع المؤمنين يُؤْتِكُم اللّهُ أجْرا حَسَنا يقول: يعطكم الله على إجابتكم إياه إلى حربهم الجنة, وهي الأجر الحسن وَإنْ تَتَوَلّوْا كمَا تَوَلّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يقول: وإن تعصوا ربكم فتدبروا عن طاعته وتخالفوا أمره, فتتركوا قتال الأولي البأس الشديد إذا دُعيتم إلى قتالهم كمَا تَوَلّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يقول: كما عصيتموه في أمره إياكم بالمسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة, من قبل أن تُدعَوا إلى قتال أولي البأس الشديد يُعَذّبْكُمُ اللّهُ عَذَابا ألِيما يعني: وجيعا, وذلك عذاب النار على عصيانكم إياه, وترككم جهادهم وقتالهم مع المؤمنين.
الآية : 17
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {لّيْسَ عَلَى الأعْمَىَ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَن يَتَوَلّ يُعَذّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً }.
يقول تعالى ذكره: ليس على الأعمى منكم أيها الناس ضيق, ولا على الأعرج ضيق, ولا على المريض ضيق أن يتخلفوا عن الجهاد مع المؤمنين, وشهود الحرب معهم إذا هم لقوا عدوّهم, للعلل التي بهم, والأسباب التي تمنعهم من شهودها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24377ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة لَيْسَ على الأعْمَى حَرَجٌ وَلا على الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا على المَرِيضِ حَرَجٌ قال: هذا كله في الجهاد.
24378ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ثُمّ عذر الله أهل العذر من الناس, فقال: لَيْسَ على الأعْمَى حَرَجٌ وَلا على الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا على المَرِيضِ حَرَجٌ.
24379ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: لَيْسَ على الأعْمَى حَرَجٌ وَلا على الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا على المَرِيضِ حَرَجٌ قال: في الجهاد في سبيل الله.
24380ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: لَيْسَ على الأعْمَى حَرَجٌ... الآية, يعني في القتال.
وقوله: وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ يقول تعالى ذكره: ومن يُطعِ الله ورسوله فيجيب إلى حرب أعداء الله من أهل الشرك, وإلى القتال مع المؤمنين ابتغاء وجه الله إذا دعي إلى ذلك, يُدخله الله يوم القيامة جنّات تجري من تحتها الأنهار وَمَنْ يَتَوَلّ يقول: ومن يعص الله ورسوله, فيتخلّف عن قتال أهل الشرك بالله إذا دعي إليه, ولم يستجب لدعاء الله ورسوله يعذّبه عذابا موجعا, وذلك عذاب جهنم يوم القيامة.)
الآية : 18-19
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {لّقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }.
يقول تعالى ذكره: لقد رضي الله يا محمد عن المؤمنين إذْ يُبايِعُونَكَ تحْتَ الشّجَرَةِ يعني بيعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله بالحديبية حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب, وعلى أن لا يفرّوا, ولا يولوهم الدبر تحت الشجرة, وكانت بيعتهم إياه هنالك فيما ذكر تحت شجرة.
وكان سبب هذه البيعة ما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه برسالته إلى الملإ من قريش, فأبطأ عثمان عليه بعض الإبطاء, فظنّ أنه قد قتل, فدعا أصحابه إلى تجديد البيعة على حربهم على ما وصفت, فبايعوه على ذلك, وهذه البيعة التي تسمى بيعة الرضوان, وكان الذين بايعوه هذه البيعة فيما ذُكر في قول بعضهم: ألفا وأربع مئة, وفي قول بعضهم: ألفا وخمس مئة, وفي قول بعضهم: ألفا وثلاث مئة. ذكر الرواية بما وصفنا من سبب هذه البيعة:
24381ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, قال: ثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي, فبعثه إلى قريش بمكة, وحمله على جمل له يقال له الثعلب, ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له, وذلك حين نزل الحديبية, فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأرادوا قتله, فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله, حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
24382ـ قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: فحدثني من لا أتهم, عن عكرِمة مولى ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة, فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له, فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي, وليس بمكة من بني عديّ بن كعب أحد يمنعني, وقد عرفت قريش عداوتي إياها, وغلظتي عليهم, ولكني أدلك على رجل هو أعزّ بها مني عثمان بن عفان, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان, فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب, وإنما جاء زائرا لهذا البيت, معظما لحرمته, فخرج عثمان إلى مكة, فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها, فنزل عن دابته, فحمله بين يديه, ثم ردفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش, فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به, فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به, قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاحتبسته قريش عندها, فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قُتل.
24383ـ قال: ثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, قال: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن عثمان قد قتل, قال: «لا نَبْرَحُ حتى نُناجِزَ القَوْمَ», ودعا الناس إلى البيعة, فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة, فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت فكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعنا على الموت, ولكنه بايعنا على أن لا نفر, فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس, ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة, كان جابر بن عبد الله يقول: لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته, قد اختبأ إليها, يستتر بها من الناس, ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذُكر من أمر عثمان باطل.
24384ـ حدثنا محمد بن عمارة الأسديّ, قال: حدثنا عبيد الله بن موسى, قال: أخبرنا موسى بن عبيدة, عن إياس بن سلمة, قال: قال سلمة: بينما نحن قائلون زمن الحديبية, نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس البيعة البيعة, نزل روح القدس صلوات الله عليه, قال: فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو تحت شجرة سمرة, قال: فبايعناه, وذلك قول الله: لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ.
24385ـ حدثنا عبد الحميد بن بيان اليشكري, قال: حدثنا محمد بن يزيد, عن إسماعيل, عن عامر, قال: كان أوّل من بايع بيعة الرضوان رجل من بني أسد يقال له أبو سنان بن وهب.
24386ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا يحيى بن حماد, قال: حدثنا همام, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, قال: كان جديّ يقال له حَزْن, وكان ممن بايع تحت الشجرة, فأتيناها من قابل, فعُميّت علينا.
24387ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا يحيى بن حماد, قال: ثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني عمرو بن الحارث, عن بُكير بن الأشجّ أنه بلغه أن الناس بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَلَى ما اسْتَطَعْتُمْ». والشجرة التي بُويع تحتها بفج نحو مكة, وزعموا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة, فقال: أين كانت, فجعل بعضهم يقول هنا, وبعضهم يقول: ههنا, فلما كثر اختلافهم قال: سيروا هذا التكلف فذهبت الشجرة وكانت سَمُرة إما ذهب بها سيل, وإما شيء سوى ذلك. ذكر عدد الذين بايعوا هذه البيعة:
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في عددهم, ونذكر الروايات عن قائلي المقالات التي ذكرناها إن شاء الله تعالى. ذكر من قال: عددهم ألف وأربع مئة:
24388ـ حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي, قال: حدثنا أبي, عن أبيه, عن جده, عن الأعمش, عن أبي سفيان عن جابر, قال: كنا يوم الحُديبية ألفا وأربع مئة, فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفرّ, ولم نبايعه على الموت, قال: فبايعناه كلنا إلا الجدّ بن قيس اختبأ تحت إبط ناقته.
24389ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, أخبرني القاسم بن عبد الله بن عمرو, عن محمد بن المنكدر, عن جابر بن عبد الله «أنهم كانوا يوم الحُديبية أربع عشرة مئة, فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بيده تحت الشجرة, وهي سمرة, فبايعنا غير الجدّ بن قيس الأنصاريّ, اختبأ تحت إبط بعيره, قال جابر: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفرّ ولم نبايعه على الموت».
حدثنا يوسف بن موسى القطان, قال: حدثنا هشام بن عبد الملك وسعيد بن شرحبيل المصري, قالا: حدثنا ليث بن سعد المصري, قال: حدثنا أبو الزبير, عن جابر, قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربع مئة, فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة, فبايعناه على أن لا نفرّ, ولم نبايعه على الموت, يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم.
24390ـ حدثنا ابن بشار وابن المثنى, قالا: حدثنا ابن أبي عديّ, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, أنه قيل له: إن جابر بن عبد الله يقول: إن أصحاب الشجرة كانوا ألفا وخمس مئة, قال سعيد: نسي جابر هو قال لي كانوا ألفا وأربع مئة.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: ثني محمد بن إسحاق, عن الأعمش, عن أبي سفيان, عن جابر قال: كنا أصحاب الحُديبية أربع عشرة مئة.
ذكر من قال: كان عدتهم ألفا وخمس مئة وخمسة وعشرين:
24391ـ حدثنا محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ قال: كان أهل البيعة تحت الشجرة ألفا وخمس مئة وخمسة وعشرين.
24392ـ حدثني بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة, فجعلت لهم مغانم خيبر كانوا يومئذ خمس عشرة مئة, وبايعوا على أن لا يفرّوا عنه.
ذكر من قال ذلك: كانوا ألفا وثلاث مئة:
24393ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن عمرو بن مرّة, قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول: كانوا يوم الشجرة ألفا وثلاث مئة, وكانت أسلم يومئذ من المهاجرين.
وقوله: فَعَلِمَ ما في قُلُوبِهِم يقول تعالى ذكره: فعلم ربك يا محمد ما في قلوب المؤمنين من أصحابك إذ يبايعونك تحت الشجرة, من صدق النية, والوفاء بما يبايعونك عليه, والصبر معك فأَنْزَل السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ يقول: فأنزل الطمأنينة, والثبات على ما هم عليه من دينهم وحُسن بصيرتهم بالحقّ الذي هداهم الله له. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24394ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله فَعَلِمَ ما في قُلُوبِهِم, فأنْزَلَ السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ: أي الصبر والوقار.
وقوله: وأثابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا يقول: وعوّضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة بقتالهم أهلها فتحا قريبا, وذلك فيما قيل: فتح خيبر. ذكر من قال ذلك:
24395ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن الحكم, عن ابن أبي ليلى وأثابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا قال: خيبر.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وأثابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا وهي خيبر.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قوله: وأثابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا قال: بلغني أنها خيبر.
وقوله: وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يأْخُذُوَنها يقول تعالى ذكره: وأثاب الله هؤلاء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة, مع ما أكرمهم به من رضاه عنهم, وإنزاله السكينة عليهم, وإثابته إياهم فتحا قريبا, معه مغانم كثيرة يأخذونها من أموال يهود خيبر, فإن الله جعل ذلك خاصة لأهل بيعة الرضوان دون غيرهم.
وقوله: وكانَ اللّهُ عَزِيزا حَكِيما يقول: وكان الله ذا عزّة في انتقامه ممن انتقم من أعدائه, حكيما في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم فيما شاء من قضائه.
الآية : 20-21
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجّلَ لَكُمْ هَـَذِهِ وَكَفّ أَيْدِيَ النّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً * وَأُخْرَىَ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللّهُ بِهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيراً }.
يقول تعالى ذكره لأهل بيعة الرضوان: وَعَدَكُمُ اللّهُ أيها القوم مَغانِمَ كَثِيرَةً تأْخُذُونَها.
اختلف أهل التأويل في هذه المغانم التي ذكر الله أنه وعدها هؤلاء القوم أيّ المغانم هي, فقال بعضهم: هي كل مغنم غنمها الله المؤمنين به من أموال أهل الشرك من لدن أنزل هذه الآية على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
24396ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغانِمَ كَثيرَةً تَأْخُذُونَها قال: المغانم الكثيرة التي وعدوا: ما يأخذونها إلى اليوم.
وعلى هذا التأويل يحتمل الكلام أن يكون مرادا بالمغانم الثانية المغانمَ الأولى, ويكون معناه عند ذلك, فأثابهم فتحا قريبا, ومغانم كثيرة يأخذونها, وعدكم الله أيها القوم هذه المغانم التي تأخذونها, وأنتم إليها واصلون عدة, فجعل لكم الفتح القريب من فتح خيبر. ويُحتمل أن تكون الثانية غير الأولى, وتكون الأولى من غنائم خيبر, والغنائم الثانية التي وعدهموها من غنائم سائر أهل الشرك سواهم.
وقال آخرون: هذه المغانم التي وعد الله هؤلاء القوم هي مغانم خيبر. ذكر من قال ذلك:
24397ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها قال: يوم خيبر, قال: كان أبي يقول ذلك.
وقوله: فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ اختلف أهل التأويل في التي عجلت لهم, فقال جماعة: غنائم خيبر والمؤخرة سائر فتوح المسلمين بعد ذلك الوقت إلى قيام الساعة. ذكر من قال ذلك:
24398ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ قال: عجل لكم خيبر.
24399ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ وهي خيبر.
وقال آخرون: بل عنى بذلك الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش. ذكر من قال ذلك:
24400ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ قال: الصلح.
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب ما قاله مجاهد, وهو أن الذي أثابهم الله من مسيرهم ذلك مع الفتح القريب المغانم الكثيرة من مغانم خيبر, وذلك أن المسلمين لم يغنموا بعد الحديبية غنيمة, ولم يفتحوا فتحا أقرب من بيعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية إليها من فتح خيبر وغنائمها.
وأما قوله: وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً فهي سائر المغانم التي غنمهموها الله بعد خيبر, كغنائم هوازن, وغطفان, وفارس, والروم.
وإنما قلنا ذلك كذلك دون غنائم خيبر, لأن الله أخبر أنه عجّل لهم هذه التي أثابهم من مسيرهم الذي ساروه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة, ولما علم من صحة نيتهم في قتال أهلها, إذ بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, على أن لا يفرّوا عنه, ولا شكّ أن التي عجّلت لهم غير التي لم تُعجّل لهم.
وقوله: وكَفّ أيْدِيَ النّاسِ عَنْكُمْ يقول تعالى ذكره لأهل بيعة الرضوان: وكفّ الله أيدي المشركين عنكم.
ثم اختلف أهل التأويل في الذين كفّت أيديهم عنهم من هم؟ فقال بعضهم: هم اليهود كفّ الله أيديهم عن عيال الذين ساروا من المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة. ذكر من قال ذلك:
24401ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وكَفّ أيْدِيَ النّاسِ عَنْكُمْ: عن بيوتهم, وعن عيالهم بالمدينة حين ساروا إلى الحديبية وإلى خيبر, وكانت خيبر في ذلك الوجه.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: وكَفّ أيْدِي النّاس عَنْكُمْ قال: كفّ أيدي الناس عن عيالهم بالمدينة.
وقال آخرون: بل عنى بذلك أيدي قريش إذ حبسهم الله عنهم, فلم يقدروا له على مكروه.
والذي قاله قتادة في ذلك عندي أشبه بتأويل الآية, وذلك أن كفّ الله أيدي المشركين من أهل مكة عن أهل الحُديبية قد ذكره الله بعد هذه الآية في قوله: وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيْدِيَكُم عَنْهُمْ بِبَطْن مَكّةَ فعلم بذلك أن الكفّ الذي ذكره الله تعالى في قوله: وكَفّ أيْدِيِ النّاسِ عَنْكُمْ غير الكفّ الذي ذكر الله بعد هذه الآية في قوله: وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُم عَنْكُمْ, وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْن مَكّةَ.
وقوله: وَلِتَكُونَ آيَةً للْمُؤْمِنِينَ يقول: وليكون كفه تعالى ذكره أيديهم عن عيالهم آية وعبرة للمؤمنين به فيعلموا أن الله هو المتولي حياطتهم وكلاءتهم في مشهدهم ومغيبهم, ويتقوا الله في أنفسهم وأموالهم وأهليهم بالحفظ وحُسن الولاية ما كانوا مقيمين على طاعته, منتهين إلى أمره ونهيه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24402ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ يقول: وذلك آية للمؤمنين, كفّ أيدي الناس عن عيالهم ويَهْدِيَكُمْ صِرَاطا مُسْتَقِيما يقول: ويسدّدكم أيها المؤمنون طريقا واضحا لا اعوجاج فيه, فيبينه لكم, وهو أن تثقوا في أموركم كلها بربكم, فتتوكلوا عليه في جميعها, ليحوطكم حياطته إياكم في مسيركم إلى مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنفسكم وأهليكم وأموالكم, فقد رأيتم أثر فعل الله بكم, إذ وثقتم في مسيركم هذا.
وقوله: وأُخْرَى لم تَقْدِروا عليها قَدْ أحاطَ اللّهُ بِهَا يقول تعالى ذكره ووعدكم أيها القوم ربكم فتح بلدة أخرى لم تقدروا على فتحها, قد أحاط الله بها لكم حتى يفتحها لكم.
واختلف أهل التأويل في هذه البلدة الأخرى, والقرية الأخرى التي وعدهم فتحها, التي أخبرهم أنه محيط بها, فقال بعضهم: هي أرض فارس والروم, وما يفتحه المسلمون من البلاد إلى قيام الساعة. ذكر من قال ذلك:
24403ـ حدثنا ابن المثنى,قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ, قال: حدثنا شعبة, عن سِماك الحنفيّ, قال: سمعت ابن عباس يقول: وأُخْرَى لم تَقْدِرُوا عَلَيْها فارس والروم.
24404ـ قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن الحكم, عن ابن أبي ليلى أنه قال في هذه الآية: وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قال: فارس والروم.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي, قال: حدثنا زيد بن حباب, قال: حدثنا شعبة بن الحَجاج, عن الحكم, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مثله.
24405ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أحاطَ اللّهُ بِها قال: حُدّث عن الحسن, قال: هي فارس والروم.
24406ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها ما فتحوا حتى اليوم.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن الحكم, عن عبد الرحمن بن أبي لَيلى, في قوله: وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قال: فارس والروم.
وقال آخرون: بل هي خيبر. ذكر من قال ذلك:
24407ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها... الآية, قال: هي خيبر.
24408ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ, يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك, يقول في قوله: وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أحاطَ اللّهُ بِها يعني خيبر, بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ, فقال: «لا تُمَثّلُوا وَلا تَغُلّوا, وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدا».
24409ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أحاطَ اللّهُ بِها قال: خيبر, قال: لم يكونوا يذكرونها ولا يرجونها حتى أخبرهم الله بها.
24410ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها يعني أهل خيبر.
وقال آخرون: بل هي مكة. ذكر من قال ذلك:
24411ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أحاطَ اللّهُ بِها كنا نحدّث أنها مكة.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قال: بلغنا أنها مكة.
وهذا القول الذي قاله قتادة أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل, وذلك أن الله أخبر هؤلاء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة, أنه محيط بقرية لم يقدروا عليها, ومعقولٌ أنه لا يقال لقوم لم يقدروا على هذه المدينة, إلا أن يكونوا قد راموها فتعذّرت عليهم, فأما وهم لم يروموها فتتعذّر عليهم فلا يقال: إنهم لم يقدروا عليها.
فإذ كان ذلك كذلك, وكان معلوما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقصد قبل نزول هذه الآية عليه خيبر لحرب, ولا وجه إليها لقتال أهلها جيشا ولا سرية, علم أن المعنيّ بقوله: وأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها غيرها, وأنها هي التي قد عالجها ورامها, فتعذّرت فكانت مكة وأهلها كذلك, وأخبر الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه أحاط بها وبأهلها, وأنه فاتحها عليهم, وكان الله على كلّ ما يشاء من الأشياء ذا قُدرة, لا يتعذّر عليه شيء شاءه.
الآية : 22-23
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الّذِينَ كفَرُواْ لَوَلّوُاْ الأدْبَارَ ثُمّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * سُنّةَ اللّهِ الّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً }.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أهل بيعة الرضوان: وَلَوْ قاتَلَكُم الّذِينَ كَفَرُوا بالله أيها المؤمنون بمكة لَوَلّوُا الأدْبارَ يقول: لانهزموا عنكم, فولوكم أعجازهم, وكذلك يفعل المنهزم من قرنه في الحرب ثُمّ لا يَجدُونَ وَلِيّا وَلا نَصِيرا يقول: ثم لا يجد هؤلاء الكفار المنهزمون عنكم, المولوكم الأدبار, وليا يواليهم على حربكم, ولا نصيرا ينصرهم عليكم, لأن الله تعالى ذكره معكم, ولن يُغْلَبَ حِزْبٌ اللّهُ ناصِرُهُ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
24412ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الّذِين كَفَرُوا لَوَلّوُا الأَدْبار يعني كفار قريش, قال الله: ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا ينصرهم من الله.
وقوله: سُنّةَ اللّهِ التي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ يقول تعالى ذكره: لو قاتلكم هؤلاء الكفار من قريش, لخذلهم الله حتى يهزمهم عنكم خذلانه أمثالهم من أهل الكفر به, الذين قاتلوا أولياءه من الأمم الذين مضوا قبلهم. وأخرج قوله: سُنّةَ اللّهِ نصبا من غير لفظه, وذلك أن في قوله: لَوَلّوُا الأدْبارَ ثُمّ لا يَجدُونَ وَلِيّا وَلا نَصِيرا معنى سننت فيهم الهزيمة والخذلان, فلذلك قيل: سُنّةَ اللّهِ مصدرا من معنى الكلام لا من لفظه, وقد يجوز أن تكون تفسيرا لما قبلها من الكلام.
وقوله: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولن تجد يا محمد لسنة الله التي سنها في خلقه تغييرا, بل ذلك دائم للإحسان جزاءه من الإحسان, وللإساءة والكفر العقاب والنكال
الصفحة رقم 513 من المصحف تحميل و استماع mp3