تفسير الطبري تفسير الصفحة 55 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 55
056
054
 الآية : 38
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيّا رَبّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِي مِن لّدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعَآءِ }
أما قوله: {هُنَالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبّهُ} فمعناه: عند ذلك, أي عند رؤية زكريا ما رأى عند مريـم من رزق الله الذي رزقها, وفضله الذي آتاها من غير تسبب أحد من الاَدميـين فـي ذلك لها, ومعاينته عندها الثمرة الرطبة التـي لا تكون فـي حين رؤيته إياها عندها فـي الأرض¹ طمع فـي الولد مع كبر سنه من الـمرأة العاقر, فرجا أن يرزقه الله منها الولد مع الـحال التـي هما بها, كما رزق مريـم علـى تـخـلـيها من الناس ما رزقها, من ثمرة الصيف فـي الشتاء, وثمرة الشتاء فـي الصيف, وإن لـم يكن مثله مـما جرت بوجوده فـي مثل ذلك الـحين العادات فـي الأرض, بل الـمعروف فـي الناس غير ذلك, كما أن ولادة العاقر غير الأمر الـجارية به العادات فـي الناس, فرغب إلـى الله جل ثناؤه فـي الولد, وسأله ذريّة طيبة. وذلك أن أهل بـيت زكريا فـيـما ذكر لنا, كانوا قد انقرضوا فـي ذلك الوقت. كما:
5587ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: فلـما رأى زكريا من حالها ذلك يعنـي فـاكهة الصيف فـي الشتاء, وفـاكهة الشتاء فـي الصيف, قال: إن ربّـا أعطاها هذا فـي غير حينه, لقادر علـى أن يرزقنـي ذرّية طيبة. ورغب فـي الولد, فقام فصلـى, ثم دعا ربه سرّا, فقال: {رَبّ إِنّـي وَهَنَ العَظْمُ مِنّـي وَاشْتَعَلَ الرأسُ شَيْبـا وَلَـمْ أكُنْ بِدُعائِكَ رَبّ شَقِـيّا وَإنّـي خِفْتُ الـمَوَالـي مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأتـي عاقِرا فَهَبْ لِـي مِنْ لَدُنْكَ وَلَـيّا يَرِثُنِـي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّ}. وقوله: {رَب هَبْ لِـي مِنْ لَدُنْكَ ذُريّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعاءِ}. وقال: {رَبّ لا تَذَرْنِـي فَرْدا وأنْتَ خَيْرُ الوَارِثِـينَ}.
5588ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي يعلـى بن مسلـم عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: فلـما رأى ذلك زكريا ـ يعنـي فـاكهة الصيف فـي الشتاء, وفـاكهة الشتاء فـي الصيف عند مريـم ـ قال: إن الذي يأتـي بهذا مريـم فـي غير زمانه, قادر أن يرزقنـي ولدا! قال الله عزّ وجلّ: {هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبّهُ} قال: فذلك حين دعا.
5589ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي بكر, عن عكرمة, قال: فدخـل الـمـحراب, وغلق الأبواب, وناجى ربه, فقال: {رَبّ إِنّـي وَهَنَ العَظْمُ مِنّـي وَاشْتَعَلَ الرّأسُ شَيْب} إلـى قوله: {رَبّ رَضِيّ} {فَنَادَتْهُ الـمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّـي فِـي الـمِـحْرَابِ أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى مُصَدقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّهِ}... الاَية.
5590ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي بعض أهل العلـم, قال: فدعا زكريا عند ذلك بعد ما أسنّ, ولا ولد له, وقد انقرض أهل بـيته, فقال: {رَبّ هَبْ لِـي مِن لَدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعاءِ} ثم شكا إلـى ربه, فقال: {رَبّ إِنّـي وَهَنَ العَظْمُ مِنّـي وَاشْتَعَلَ الرّأسُ شَيْب}... إلـى: {وَاجْعَلْهُ رَب رَضِيّ} {فَنَادَتْهُ الـمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّـي فِـي الـمِـحْرَابِ}... الاَية.
وأما قوله: {رَب هَبْ لِـي مِنْ لَدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً} فإنه يعنـي بـالذرية: النسل, وبـالطيبة: الـمبـاركة. كما:
5591ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {قال رَبّ هَبْ لِـي مِنْ لَدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً} يقول: مبـاركة.
وأما قوله: {مِنْ لَدُنْكَ} فإنه يعنـي من عندك. وأما الذرية: فإنها جمع, وقد تكون فـي معنى الواحد, وهي فـي هذا الـموضع الواحد¹ وذلك أن الله عزّ وجلّ قال فـي موضع آخر مخبرا عن دعاء زكريا: {فَهَبْ لِـي مِنْ لَدُنْكَ وَلِـيّ} ولـم يقل «أولـياء», فدلّ علـى أنه سأل واحدا. وإنـما أنث طيبة لتأنـيث الذرية, كما قال الشاعر:
أبُوكَ خَـلِـيفَةٌ وَلَدَتْهُ أخْرَىوأنْتَ خَـلِـيفَةٌ, ذَاكَ الكمالُ
فقال: ولدته أخرى, فأنث, وهو ذكر لتأنـيث لفظ الـخـلـيفة, كما قال الاَخر:
كما يَزْدَرِي مِنْ حَيّةٍ جَبَلِـيّةٍسَكابِ إذا ما عَضّ لـيسَ بأدْرَدَا
فأنث الـجبلـية لتأنـيث لفظ الـحية, ثم رجع إلـى الـمعنى فقال: إذا ما عضّ لأنه كان أراد حية ذكرا, وإنـما يجوز هذا فـيـما لـم يقع علـيه فلان من الأسماء كالدابة والذرية والـخـلـيفة, فأما إذا سُمي رجل بشيء من ذلك, فكان فـي معنى فلان لـم يجز تأنـيث فعله ولا نعته.
وأما قوله: {إِنّكَ سَمِيعُ الدّعاءِ} فإن معناه: إن سامع الدعاء, غير أن سميع أمدح, وهو بـمعنى ذو سمع له, وقد زعم بعض نـحويـي البصرة أن معناه: إنك تسمع ما تدعي به.
فتأويـل الاَية: فعند ذلك دعا زكريا ربه فقال: ربّ هب لـي من عندك ولدا مبـاركا, إنك ذو سمع دعاء من دعاك.
الآية : 39
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي الْمِحْرَابِ أَنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَـىَ مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ اللّهِ وَسَيّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مّنَ الصّالِحِينَ }
اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة وبعض أهل الكوفة والبصرة: {فَنَادَتْهُ الـمَلائِكَةُ} علـى التأنـيث بـالتاء, يراد بها: جمع الـملائكة, وكذلك تفعل العرب فـي جماعة الذكور إذا تقدمت أفعالها أنثت أفعالها ولاسيـما الأسماء التـي فـي ألفـاظها التأنـيث كقولهم: جاءت الطلـحات.
وقد قرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بـالـياء, بـمعنى: فناداه جبريـل فذكروه للتأويـل, كما قد ذكرنا آنفـا أنهم يؤنثون فعل الذكر للفظ, فكذلك يذكّرون فعل الـمؤنث أيضا للفظ. واعتبروا ذلك فـيـما أرى بقراءة يذكر أنها قراءة عبد الله بن مسعود, وهو ما:
5592ـ حدثنـي به الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج, قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبـي حماد أن قراءة ابن مسعود: «فناداه جبريـل وهو قائم يصلـي فـي الـمـحراب».
وكذلك تأوّل قوله: {فَنَادَتْهُ الـمَلائِكَةُ} جَماعة مِنْ أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5593ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {فَنَادَتْهُ الـمَلائِكَةُ} وهو جبريـل ـ أو: قالت الـملائكة, وهو جبريـل ـ {أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى}.
فإن قال قائل: وكيف جاز أن يقال علـى هذا التأويـل: {فَنَادَتْهُ الـمَلائِكَةُ} والـملائكة جمع لا واحد؟ قـيـل: ذلك جائز فـي كلام العرب بأن تـخبر عن الواحد بـمذهب الـجمع, كما يقال فـي الكلام: خرج فلان علـى بغال البرد, وإنـما ركب بغلاً واحدا, وركب السفن, وإنـما ركب سفـينة واحدة, وكما يقال: مـمن سمعت هذا الـخبر؟ فـيقال: من الناس, وإنـما سمعه من رجل واحد¹ وقد قـيـل: إن منه قوله: {الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}, والقائل كان فـيـما ذكر واحدا, وقوله: {وَإذَا مَسّ النّاسَ ضُرّ}, والناس بـمعنى واحد, وذلك جائز عندهم فـيـما لـم يقصد فـيه قصد واحد.
وإنـما الصواب من القول عندي فـي قراءة ذلك أنهما قراءتان معروفتان, أعنـي التاء والـياء, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب, وذلك أنه لا اختلاف فـي معنى ذلك بـاختلاف القرائين, وهما جميعا فصيحتان عند العرب, وذلك أن الـملائكة إن كان مرادا بها جبريـل كما روي عن عبد الله فإن التأنـيث فـي فعلها فصيح فـي كلام العرب للفظها إن تقدمها الفعل, وجائز فـيه التذكير لـمعناها. وإن كان مرادا بها جمع الـملائكة فجائز فـي فعلها التأنـيث, وهو من قبلها للفظها, وذلك أن العرب إذا قدمت علـى الكثـير من الـجماعة فعلها أنثته, فقالت: قالت النساء, وجائز التذكير فـي فعلها بناء علـى الواحد إذا تقدم فعله, فـيقال: قال الرجال.
وأما الصواب من القول فـي تأويـله, فأن يقال: إن الله جلّ ثناؤه, أخبر أن الـملائكة نادته, والظاهر من ذلك أنها جماعة من الـملائكة دون الواحد وجبريـل واحد, فلن يجوز أن يحمل تأويـل القرآن إلا علـى الأظهر الأكثر من الكلام الـمستعمل فـي ألسن العرب, دون الأقلّ ما وجد إلـى ذلك سبـيـل, ولـم يضطرنا حاجة إلـى صرف ذلك إلـى أنه بـمعنى واحد, فـيحتاج له إلـى طلب الـمخرج بـالـخفـيّ من الكلام والـمعانـي.
وبـما قلنا فـي ذلك من التأويـل قال جماعة من أهل العلـم, منهم قتادة والربـيع بن أنس وعكرمة ومـجاهد وجماعة غيرهم. وقد ذكرنا ما قالوا من ذلك فـيـما مضى.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَهُوَ قائمٌ يُصَلّـي فِـي الـمِـحْرَابِ أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى}.
وتأويـل قوله {وَهُوَ قائِمٌ}: فنادته الـملائكة فـي حال قـيامه مصلـيا. فقوله: {وَهُوَ قَائِمٌ} خبر عن وقت نداء الـملائكة زكريا¹ وقوله: {يُصَلّـي} فـي موضع نصب علـى الـحال من القـيام, وهو رفع بـالـياء. وأما الـمـحراب: فقد بـينا معناه, وأنه مقدم الـمسجد.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: {أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ}, فقرأته عامّة القرّاء: {أنّ اللّهَ} بفتـح الألف من «أن» بوقوع النداء علـيها بـمعنى فنادته الـملائكة بذلك. وقرأه بعض قرّاء أهل الكوفة: «إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ» بكسر الألف بـمعنى: قالت الـملائكة: إن الله يبشرك, لأن النداء قول¹ وذكروا أنها فـي قراءة عبد الله: «فنادته الـملائكة وهو قائم يصلـي فـي الـمـحراب يا زكريا إن الله يبشرك»¹ قالوا: إذا بطل النداء أن يكون عاملاً فـي قوله: «يا زكريا», فبـاطل أيضا أن يكون عاملاً فـي «إن».
والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا: {أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ} بفتـح أن بوقوع النداء علـيه, بـمعنى: فنادته الـملائكة بذلك, ولـيست العلة التـي اعتلّ بها القارئون بكسر إن, من أن عبد الله كان يقرؤها كذلك, وذلك أن عبد الله إن كان قرأ ذلك كذلك, فإنـما قرأها بزعمهم. وقد اعترض بـ«يا زكريا» بـين «إن» وبـين قوله: «فنادته», وإذا اعترض به بـينهما, فإن العرب تعمل حينئذ النداء فـي «أنّ», وتبطله عنها. أما الإبطال, فإنه بطل عن العمل فـي الـمنادى قبله, فأسلكوا الذي بعده مسلكه فـي بطول عمله. وأما الإعمال, فلأن النداء فعل واقع كسائر الأفعال. وأما قراءتنا فلـيس نداء زكريا بـ«يا زكريا», معترضا به بـين «أن» وبـين قوله: «فنادته», وإذا لـم يكن ذلك بـينهما, فـالكلام الفصيح من كلام العرب إذ نصبت بقول: ناديت اسم الـمنادى, وأوقعوه علـيه أن يوقعوه كذلك علـى «أنّ» بعده وإن كان جائزا إبطال عمله, فقوله: «نادته», قد وقع علـى مكنـيّ زكريا¹ فكذلك الصواب أن يكون واقعا علـى «أنّ» وعاملاً فـيها, مع أن ذلك هو القراءة الـمستفـيضة فـي قراءة أمصار الإسلام, ولا يعترض بـالشاذّ علـى الـجماعة التـي تـجيء مـجيء الـحجة.
وما قوله: {يُبَشّرُكَ} فإن القرّاء اختلفت فـي قراءته, فقرأته عامة قراء أهل الـمدينة والبصرة: {أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ} بتشديد الشين وضمّ الـياء علـى وجه تبشير الله زكريا بـالولد, من قول الناس: بشّرت فلانا البشرى بكذا وكذا, أي أتته بشارات البشرى بذلك.
وقرأ ذلك جماعة من قرّاء الكوفة وغيرهم: «أنّ اللّهَ يَبْشُرُكَ» بفتـح الـياء وضمّ الشين وتـخفـيفها, بـمعنى: أن الله يسرّك بولد يهبه لك, من قول الشاعر:
بَشَرْتُ عِيالـي إذْ رأيْتُ صَحِيفَةًأتَتْكَ مِنَ الـحَجّاجِ يُتْلَـى كِتابُها وقد قـيـل: إن «بَشَرت» لغة أهل تهامة من كنانة وغيرهم من قريش, وأنهم يقولون: بَشَرت فلانا بكذا فأنا أَبْشُرُه بَشْرا, وهل أنت بـاشرٌ بكذا؟ وينشد لهم البـيت فـي ذلك: وإذَا رأيْتُ البـاهِشِينَ إلـى العُلاغُبْرا أكُفّهُمْ بقاعٍ مُـمْـحِلِ
فأعِنْهُمُ وَابْشَرْ بِـمَا بَشِرُوا بِهِوَإذَا هُمُ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فـانْزِلِ
فإذا صاروا إلـى الأمر, فـالكلام الصحيح من كلامهم بلا ألف, فـيقال: ابْشَرْ فلانا بكذا, ولا يكادون يقولون: بشّره بكذا, ولا أبْشِرْه.
وقد رُوي عن حميد بن قـيس أنه كان يقرأ: «يُبْشِركَ» بضم الـياء وكسر الشين وتـخفـيفها. وقد:
5594ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبـي حماد, عن معاد الكوفـي, قال: من قرأ «يبشّرهم» مثقلة, فإنه من البشارة, ومن قرأ «يَبْشُرُهم» مخففة بنصب الـياء, فإنه من السرور, يسرّهم.
والقراءة التـي هي القراءة عندنا فـي ذلك ضم الـياء وتشديد الشين, بـمعنى التبشير, لأن ذلك هي اللغة السائرة, والكلام الـمستفـيض الـمعروف فـي الناس, مع أن جميع قرّاء الأمصار مـجمعون فـي قراءة: {فبـم تبشّرون} علـى التشديد. والصواب فـي سائر ما فـي القرآن من نظائره أن يكون مثله فـي التشديد وضم الـياء.
وأما ما رُوي عن معاذ الكوفـي من الفرق بـين معنى التـخفـيف والتشديد فـي ذلك, فلـم نـجد أهل العلـم بكلام العرب يعرفونه من وجه صحيح, فلا معنى لـما حكي من ذلك عنه, وقد قال جرير بن عطية:
يا بِشْرُ حُقّ لِبشْرِكَ التّبْشِيرُهَلاّ غَضِبتَ لَنا وأنْتَ أمِيرُ
فقد علـم أنه أراد بقوله «التبشير»: الـجمال والنضارة والسرور, فقال «التبشير» ولـم يقل «البشر», فقد بـين ذلك أن معنى التـخفـيف والتثقـيـل فـي ذلك واحد.
5595ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة قوله: {أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى} قال: بشرته الـملائكة بذلك.
(وأما قوله: {بِـيَحْيَـى} فإنه اسم أصله يَفْعَل, من قول القائل: حي فلان فهو يحيا, وذلك إذا عاش فـيحيـى «يَفْعَل» من قولهم «حيـي». وقـيـل: إن الله جلّ ثناؤه سماه بذلك لأنه يتأوّل اسمه أحياه بـالإيـمان. ذكر من قال ذلك:
5596ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى} يقول: عبد أحياه الله بـالإيـمان.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن قتادة قوله: {أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى} قال: إنّـمَا سمي يحيـى, لأن الله أحياه بـالإيـمان.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّهِ}.
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: إن الله يبشرك يا زكريا بـيحيـى ابنا لك, {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ الله} يعنـي بعيسى ابن مريـم. ونصب قوله «مصدّقا» علـى القطع من يحيـى, لأن «مصدقا» نعت له وهو نكرة, و«يحيـى» غير نكرة.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5597ـ حدثنـي عبد الرحمن بن الأسود الطفـاوي, قال: حدثنا مـحمد بن ربـيعة, قال: حدثنا النضر بن عربـيّ, عن مـجاهد قال: قالت امرأة زكريا لـمريـم: إنـي أجد الذي فـي بطنـي يتـحرّك للذي فـي بطنك, قال: فوضعت امرأة زكريا يحيـى, ومريـم عيسى. ولذا قال: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّهِ} قال يحيـى: مصدّق بعيسى.
5598ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن الرقاشي فـي قول الله: {يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّهِ} قال: مصدّقا بعيسى ابن مريـم.
5599ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
5600ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا سلـيـمان, قال: حدثنا أبو هلال, قال: حدثنا قتادة فـي قوله: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّهِ} قال: مصدّقا بعيسى.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّهِ} يقول: مصدّق بعيسى ابن مريـم, وعلـى سننه ومنهاجه.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّهِ} يعنـي عيسى ابن مريـم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن قتادة: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّهِ} يقول: مصدّقا بعيسى ابن مريـم, يقول: علـى سننه ومنهاجه.
5601ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّهِ} قال: كان أوّل رجل صدّق عيسى وهو كلـمة من الله وروح.
5602ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّهِ} يصدّق بعيسى.
5603ـ حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّهِ} فإن يحيـى أوّل من صدّق بعيسى, وشهد أنه كلـمة من الله, وكان يحيـى ابن خالة عيسى, وكان أكبر من عيسى.
5604ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن إسرائيـل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عبـاس قوله: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّهِ} قال عيسى ابن مريـم: هو الكلـمة من الله اسمه الـمسيح.
5605ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: أخبرنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: قوله: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّهِ} قال: كان عيسى ويحيـى ابنـي خالة, وكانت أم يحيـى تقول لـمريـم: إنـي أجد الذي فـي بطنـي يسجد للذي فـي بطنك, فذلك تصديقه بعيسى, سجوده فـي بطن أمه, وهو أوّل من صدّق بعيسى وكلـمة عيسى, ويحيـى أكبر من عيسى.
5606ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّهِ} قال: الكلـمة التـي صدّق بها عيسى.
5607ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: لقـيَتْ أمّ يحيـى أمّ عيسى, وهذه حامل بـيحيـى وهذه حامل بعيسى, فقالت امرأة زكريا: يا مريـم استشعرت أنـي حبلـى, قالت مريـم: استشعرت أنـي أيضا حبلـى. قالت امرأة زكريا: فإنـي وجدت ما فـي بطنـي يسجد لـما فـي بطنك. فذلك قوله: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّهِ}.
5608ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد, عن الـحسن فـي قول الله: {إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّهِ} قال: مصدّقا بعيسى ابن مريـم.
وقد زعم بعض أهل العلـم بلغات العرب من أهل البصرة أن معنى قوله: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّهِ} بكتاب من الله, من قول العرب: أنشدنـي فلان كلـمة كذا, يراد به قصيدة كذا. جهلاً منه بتأويـل الكلـمة, واجتراءً علـى ترجمة القرآن برأيه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَسَيّد}.
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وَسَيّد}: وشريفـا فـي العلـم والعبـادة, ونصب «السيد» عطفـا علـى قوله «مصدّقا».
وتأويـل الكلام: إن الله يبشرك بـيحيـى مصدّقا بهذا وسيدا, والسيد: الفَـيْعِل, من قول القائل: ساد يسود. كما:
5609ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَسَيّد}: إي والله, لسيد فـي العبـادة والـحلـم والعلـم والورع.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مسلـم, قال: حدثنا أبو هلال, قال: حدثنا قتادة فـي قوله: {وَسَيّد} قال: السيد لا أعلـمه إلا قال فـي العلـم والعبـادة.
5610ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن قتادة, قال: السيد: الـحلـيـم.
5611ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن شريك, عن سالـم الأفطس, عن سعيد بن جبـير: {وَسَيّد} قال: الـحلـيـم.
5612ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحمانـي, قال: حدثنا شريك, عن سالـم, عن سعيد بن جبـير: {وَسَيّد} قال: السيد: التقـيّ.
5613ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ {وَسَيّد} قال: السيد: الكريـم علـى الله.
5614ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, قال: زعم الرقاشي أن السيد: الكريـم علـى الله.
5615ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن جويبر, عن الضحاك فـي قول الله عزّ وجلّ: {وَسَيّد} قال: السيد: الـحلـيـم التقـيّ.
حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَسَيّد} قال: يقول: تقـيا حلـيـما.
5616ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, عن سفـيان فـي قوله: {وَسَيد} قال: حلـيـما تقـيا.
5617ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, عن ابن زيد فـي قوله: {وَسَيّد} قال: السيد: الشريف.
5618ـ حدثنـي سعيد بن عمرو السكونـي, قال: حدثنا بقـية بن الولـيد, عن عبد الـملك, عن يحيـى بن سعيد, عن سعيد بن الـمسيب فـي قول الله عزّ وجلّ: {وَسَيّد} قال: السيد: الفقـيه العالـم.
5619ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {وَسَيّد} قال: يقول: حلـيـما تقـيا.
5620ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي بكر, عن عكرمة: {وَسَيّد} قال: السيد الذي لا يغلبه الغضب.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَحَصُورا وَنَبِـيّا مِنَ الصّالِـحِينَ}.
يعنـي بذلك: مـمتنعا من جماع النساء من قول القائل: حصرت من كذا أحصر: إذا امتنع منه¹ ومنه قولهم: حصر فلان فـي قراءته: إذا امتنع من القراءة فلـم يقدر علـيها, وكذلك حصر العدوّ: حبسهم الناس ومنعهم إياهم التصرّف, ولذلك قـيـل للذي لا يُخرِج مع ندمائه شيئا: حصور, كما قال الأخطل:
وَشارِبٍ مُرْبِحٍ بـالكأْسِ نادَمَنِـيلا بـالـحَصُورِ ولا فِـيها بسَوّارِ
ويروى «بسّار». ويقال أيضا للذي لا يخرج سرّه ويكتله حصور, لأنه يـمنع سرّه أن يظهر, كما قال جرير:
وَلَقَدْ تَسَقّطَنِـي الوُشاةُ فصادَفُواحَصِرا بِسِرّكِ يا أُمَيْـمَ ضَنِـينا
وأصل جميع ذلك واحد, وهو الـمنع والـحبس.
وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5621ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن خـلف, قال: حدثنا حماد بن شعيب, عن عاصم, عن زرّ, عن عبد الله فـي قوله: {وَسَيّدا وَحَصُور} قال: الـحصور: الذي لا يأتـي النساء.
5622ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن يحيـى بن سعيد, عن سعيد بن الـمسيب أنه قال ثنـي ابن العاص, أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كُلّ بَنِـي آدَمَ يَأْتِـي يَوْمَ القِـيامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ, إلاّ ما كانَ مِنْ يَحْيَـى بْنِ زَكَرِيّا», قال: ثم دلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلـى الأرض, فأخذ عويدا صغيرا, ثم قال: «وَذَلكَ أنّهُ لَـمْ يَكُنْ لَهُ ما للرّجالِ إلاّ مِثْلَ هَذَا العودِ, وبذلك سماه الله سيدا وحصورا».
5623ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا أنس بن عياض, عن يحيـى بن سعيد, قال: سمعت سعيد بن الـمسيب, يقول: لـيس أحد إلا يـلقـى الله يوم القـيامة ذا ذنب إلا يحيـى بن زكريا, كان حصورا, معه مثل الهدبة.
5624ـ حدثنا أحمد بن الولـيد القرشي, قال: حدثنا عمر بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن يحيـى بن سعيد, عن سعيد بن الـمسيب, قال: قال ابن العاص ـ إما عبد الله, وإما أبوه ـ: ما أحد يـلقـى الله إلا وهو ذو ذنب, إلا يحيـى بن زكريا. قال: وقال سعيد بن الـمسيب: {وَسَيّدا وَحَصُور} قال: الـحصور: الذي لا يغشى النساء, ولـم يكن ما معه إلا مثل هدبة الثوب.
حدثنـي سعيد بن عمرو السكونـي, قال: حدثنا بقـية بن الولـيد, عن عبد الـملك, عن يحيـى بن سعيد, عن سعيد بن الـمسيب فـي قوله: {وَحَصُور} قال: الـحصور¹ الذي لا يشتهي النساء, ثم ضرب بـيده إلا الأرض فأخذه نواة فقال: ما كان معه إلا مثل هذه.
5625ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير, قال: الـحصور: الذي لا يأتـي النساء.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن سعيد, مثله.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو, عن عطاء, عن سعيد, مثله.
5626ـ حدثنـي عبد الرحمن بن الأسود, قال: حدثنا مـحمد بن ربـيعة, قال: حدثنا النضر بن عربـي, عن مـجاهد: {وَحَصُور} قال: الذي لا يأتـي النساء.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: الـحصور: لا يقرب النساء.
5627ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, قال: زعم الرقاشي: الـحصور: الذي لا يقرب النساء.
5628ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: حدثنا هشيـم, عن جويبر, عن الضحاك: الـحصور: الذي لا يولد له, ولـيس له ماء.
حدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَحَصُور} قال: هو الذي لا ماء له.
5629ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا سويد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَحَصُور} كنا نـحدّث أن الـحصور الذي لا يقرب النساء.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا سلـيـمان, قال: حدثنا أبو هلال, قال: حدثنا قتادة فـي قوله: {وَسَيّدا وَحَصُور} قال: الـحصور: الذي لا يأتـي النساء.
حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن قتادة, مثله.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.
5630ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن قابوس, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: الـحصور: الذي لا ينزل الـماء.
5631ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, عن ابن زيد: {وَحَصُور} قال: الـحصور: الذي لا يأتـي النساء.
5632ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {وَحَصُور} قال: الـحصور: الذي لا يريد النساء.
5633ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد, عن الـحسن: {وَحَصُور} قال: لا يقرب النساء.
وأما قوله: {وَنَبِـيّا مِنَ الصالِـحِينَ} فإنه يعنـي: رسولاً لربه إلـى قومه, ينبئهم عنه بأمره ونهيه, وحلاله وحرامه, ويبلغهم عنه ما أرسله به إلـيهم. ويعنـي بقوله: {مِنَ الصّالِـحِينَ} من أنبـيائه الصالـحين. وقد دللنا فـيـما مضى علـى معنى النبوّة وما أصلها بشواهد ذلك, والأدلة الدالة علـى الصحيح من القول فـيه بـما أغنى عن إعادته.
الآية : 40
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{قَالَ رَبّ أَنّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ }
يعنـي أن زكريا قال إذ نادته الـملائكة: {أن اللّهَ يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّهِ وَسَيّدا وَحَصُورا وَنَبِـيّا مِنَ الصّالِـحِينَ}: {أنّى يَكُونُ لِـي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِـي الكِبَرْ} يعنـي: من بلغ من السنّ ما بلغت لـم يولد له¹ {وَامْرَأتِـي عاقِرٌ} والعاقر من النساء: التـي لا تلد, يقال منه: امرأة عاقر, ورجل عاقر, كما قال عامر بن الطفـيـل:
لَبِئْسَ الفَتَـى أنْ كُنْتُ أعْوَرَ عَاقِراجبَـانا فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلّ مـحْضَرِ
وأما الكِبر: فمصدر كَبِرَ فلان فهو يَكْبَرُ كبرا. وقـيـل: «بلغنـي الكبر», وقد قال فـي موضع آخر: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ} لأن ما بلغك فقد بلغته, وإنـما معناه: قد كبرت, وهو كقول القائل: وقد بلغنـي الـجهد بـمعنى: أنـي فـي جهد.
فإن قال قائل: وكيف قال زكريا وهو نبـيّ الله: {رَبّ أنّى يَكُونُ لـي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِـي الكِبَرُ وَامْرَأَتِـي عاقِرٌ} وقد بشرته الـملائكة بـما بشرته به, عن أمر الله إياها به؟ أشك فـي صدقهم؟ فذلك ما لا يجوز أن يوصف به أهل الإيـمان بـالله, فكيف الأنبـياء والـمرسلون؟ أم كان ذلك منه استنكارا لقدرة ربه؟ فذلك أعظم فـي البلـية! قـيـل: كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم علـى غير ما ظننت, بل كان قـيـله ما قال من ذلك, كما:
5634ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: لـما سمع النداء ـ يعنـي زكريا لـما سمع نداء الـملائكة بـالبشارة بـيحيـى ـ جاءه الشيطان فقال له: يا زكريا إن الصوت الذي سمعت لـيس هو من الله, إنـما هو من الشيطان يسخر بك, ولو كان من الله أوحاه إلـيك, كما يوحي إلـيك فـي غيره من الأمر! فشكّ مكانه, وقال: {أنّى يَكُونُ لـي غُلامٌ} ذَكَرٌ, يقول: ومن أين {وَقَدْ بَلَغَنِـي الكِبَرُ وَامْرَأتـي عاقِرٌ}.
5635ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي بكر, عن عكرمة, قال: فأتاه الشيطان, فأراد أن يكدر علـيه نعمة ربه, فقال: هل تدري من ناداك؟ قال: نعم, نادانـي ملائكة ربـي, قال: بل ذلك الشيطان, لو كان هذا من ربك لأخفـاه إلـيك كما أخفـيت نداءك, فقال: {رَبّ اجْعَلْ لـي آيَة}.
فكان قوله ما قال من ذلك, ومراجعته ربه فـيـما راجع فـيه بقوله: {أنّى يَكُونُ لـي غُلامٌ}, للوسوسة التـي خالطت قلبه من الشيطان, حتـى خيـلت إلـيه أن النداء الذي سمعه كان نداء من غير الـملائكة, فقال: {رَبّ أنّى يَكُونُ لـي غُلامٌ} مستثبتا فـي أمره لتقرّر عنده بآية, يريه الله فـي ذلك أنه بشارة من الله علـى ألسن ملائكته, ولذلك قال: {رَبّ اجْعَلْ لـي آيَة}. وقد يجوز أن يكون قـيـله ذلك مسألة منه ربه: من أيّ وجه يكون الولد الذي بشر به, أمن زوجته فهي عاقر, أم من غيرها من النساء؟ فـيكون ذلك علـى غير الوجه الذي قاله عكرمة والسديّ, ومن قال مثل قولهما.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ}.
يعنـي جل ثناؤه بقوله: {كَذَلِكَ اللّهُ} أي هو ما وصف به نفسه, أنه هين علـيه أن يخـلق ولدا من الكبـير الذي قد يئس من الولد, ومن العاقر التـي لا يرجى من مثلها الولادة, كما خـلقك يا زكريا من قبلُ خـلقَ الولد منك ولـم تك شيئا, لأنه الله الذي لا يتعذّر علـيه خـلق شيء أراده, ولا يـمتنع علـيه فعل شيء شاءه, لأن قدرته القدرة التـي لا يشبهها قدرة. كما:
5636ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: {كَذَلِكَ اللّهُ يفْعَلُ ما يَشاءُ} وقد خـلقتك من قبل ولـم تك شيئا.
الآية : 41
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{قَالَ رَبّ اجْعَلْ لّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً وَاذْكُر رّبّكَ كَثِيراً وَسَبّحْ بِالْعَشِيّ وَالإِبْكَارِ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه خبرا عن زكريا, قال زكريا: يا ربّ إن كان هذا النداء الذي نوديته, والصوت الذي سمعته صوت ملائكتك, وبشارة منك لـي, فـاجعل لـي آية! يقول: علامة أن ذلك كذلك, لـيزول عنـي ما قد وسوس إلـيّ الشيطان فألقاه فـي قلبـي, من أن ذلك صوت غير الـملائكة, وبشارة من عند غيرك. كما:
5637ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {قالَ رَبّ اجْعَلْ لـي آيَةً} قال: قال ـ يعنـي زكريا ـ: يا ربـيّ فإن كان هذا الصوت منك, فـاجعل لـي آية.
وقد دللنا فـيـما مضى علـى معنى الاَية, وأنها العلامة, بـما أغنء عن إعادته.
وقد اختلف أهل العربـية فـي سبب ترك العرب همزها, ومن شأنها همز كل ياء جاءت بعد ألف ساكنة, فقال بعضهم: ترك همزها لأنها كانت أيّة, فثقل علـيهم التشديد, فأبدلوه ألفـا لانفتاح ما قبل التشديد, كما قالوا: أيْـما فلان فأخزاه الله.
وقال آخرون منهم: بل هي فـاعلة منقوصة. فسألوا, فقـيـل لهم, فما بـال العرب تصغرها أُيَـيّةٍ, ولـم يقولوا أُوَيّة؟ فقالوا: قـيـل ذلك كما قـيـل فـي فـاطمة: هذه فطيـمة, فقـيـل لهم: فإنهم يصغرون فـاعلة علـى فُعَيـلة إذا كان اسما فـي معنى فلان وفلانة, فأما فـي غير ذلك, فلـيس من تصغيرهم فـاعلة علـى فعيـلة.
وقال آخرون: إنه فعلة, صيرت ياؤها الأولـى ألفـا, كما فعل بحاجة وقامة, فقـيـل لهم: إنـما تفعل العرب ذلك فـي أولاد الثلاثة, وقال من أنكر ذلك من قـيـلهم: لو كان كما قالوا لقـيـل فـي نواة: ناية, وفـي حياة: حاية.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْز}. فعاقبه الله فـيـما ذكر لنا بـمسألته الاَية, بعد مشافهة الـملائكة إياه بـالبشارة, فجعل آيته علـى تـحقـيق ما سمع من البشارة من الـملائكة بـيحيـى أنه من عند الله آية من نفسه, جمع تعالـى ذكره بها العلامة التـي سألها ربه علـى ما يبـين له حقـيقة البشارة أنها من عند الله, وتـمـحيصا له من هفوته, وخطأ قـيـله ومسألته.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5638ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {رَبّ اجْعَلْ لـي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْز} إنـما عوقب بذلك لأن الـملائكة شافهته مشافهة بذلك فبشرته بـيحيـى, فسأل الاَية بعد كلام الـملائكة إياه, فأخذ علـيه بلسانه, فجعل لا يقدر علـى الكلام إلا ما أومأ وأشار, فقال الله تعالـى ذكره كما تسمعون: {آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ إلاّ رَمْز}.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى مُصَدّق} قال: شافهته الـملائكة, فقال: {رَبّ اجْعَلْ لِـي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْز} يقول: إلا إيـماء, وكانت عقوبة عوقب بها, إذ سأل الاَية مع مشافهة الـملائكة إياه بـما بشرته به.
5639ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {رَبّ اجْعَلْ لِـي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْز} قال: ذكر لنا والله أعلـم أنه عوقب لأن الـملائكة شافهته مشافهة, فبشرته بـيحيـى, فسأل الاَية بعد, فأخذ بلسانه.
حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: ذكر لنا والله أعلـم أنه عوقب لأن الـملائمة شافهته فبشرته بـيحيـى, قالت: {إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى}, فسأل بعد كلام الـملائكة إياه الاَية, فأخذ علـيه لسانه, فجعل لا يقدر علـى الكلام إلا رمزا, يقول: يومىء إيـماء.
5640ـ حدثنـي أبو عبـيد الرصافـي, قال: حدثنا مـحمد بن حمير, قال: حدثنا صفوان بن عمرو, عن جويبر بن نُفـير فـي قوله: {قالَ رَبّ اجْعَلْ لِـي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ إلاّ رَمْز} قال: ربـا لسانه فـي فـيه حتـى ملأه, ثم أطلقه الله بعد ثلاث.
وإنـما اختارت القرّاء النصب فـي قوله: {ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ} لأن معنى الكلام: قال: آيتك أن لا تكلـم الناس فـيـما يستقبل ثلاثة أيام, فكانت أن هي التـي تصحب الاستقبـال دون التـي تصحب الأسماء فتنصبها, ولو كان الـمعنى فـيه: آيتك أنك لا تكلـم الناس ثلاثة أيام: أي أنك علـى هذه الـحال ثلاثة أيام, كان وجه الكلام الرفع, لأن «أن» كانت تكون حينئذ بـمعنى الثقـيـلة خففت, ولكن لـم يكن ذلك جائزا لـما وصفت من أن ذلك بـالـمعنى الاَخر.
وأما الرمز, فإن الأغلب من معانـيه عند العرب: الإيـماء بـالشفتـين, وقد يستعمل فـي الإيـماء بـالـحاجبـين والعينـين أحيانا, وذلك غير كثـير فـيهم, وقد يقال للـخفـيّ من الكلام الذي هو مثل الهمس بخفض الصوت: الرمز, ومنه قول جؤية بن عائذ:
وكانَ يُكَلّـمُ الأبْطالَ رَمْزاوَهَمْهَمَةً لَهُمْ مِثْلَ الهَدِيرِ
يقال منه: رَمَزَ فلان فهو يَرْمِزُ وَيَرْمُزُ رَمْزا, ويترمز ترمّزا, ويقال: ضربه ضربة فـارتـمز منها: أي اضطرب للـموت, قال الشاعر:
خَرَرْتُ مِنـها لقـفـايَ أرْتَـمِـزْ
وقد اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي عنى الله عزّ وجلّ به فـي إخبـاره عن زكريا من قوله: {آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْز} وأيّ معانـي الرمز عنى بذلك؟ فقال بعضهم: عنى بذلك: آيتك أن لا تكلـم الناس ثلاثة أيام إلا تـحريكا بـالشفتـين, من غير أن ترمز بلسانك الكلام. ذكر من قال ذلك:
5641ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا جابر بن نوح, عن النضر بن عربـي, عن مـجاهد فـي قوله: {إلاّ رَمْز} قال: تـحريك الشفتـين.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْز} قال: إيـماؤه بشفتـيه.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك الإيـماء والإشارة. ذكر من قال ذلك:
5642ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سلـمة بن نبـيط, عن الضحاك: {إلاّ رَمْز} قال: الإشارة.
حدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {إلاّ رَمْز} قال: الرمز: أن يشير بـيده أو رأسه ولا يتكلـم.
5643ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {إلاّ رَمْز} قال: الرمز: أن أُخِذَ بلسانه, فجعل يكلـم الناس بـيده.
5644ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: {إلاّ رَمْز} قال: والرمز: الإشارة.
5645ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {رَبّ اجْعَلْ لـي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْز}... الاَية. قال: جعل آيته أن لا يكلـم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا, إلا أنه يذكر الله. والرمز: الإشارة, يشير إلـيهم.
5646ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: {إلاّ رَمْز} إلا إيـماء.
5647ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
5648ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {إلاّ رَمْز} يقول: إشارة.
5649ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال عبد الله بن كثـير: {إلاّ رَمْز}: إلا إشارة.
5650ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد, عن الـحسن, فـي قوله: {قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْز} قال: أُمسِكَ بلسانه, فجعل يومىء بـيده إلـى قومه: أن سبحوا بكرة وعشيا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاذْكُرْ رَبّكَ كَثِـيرا وَسَبّحْ بِـالعَشِيّ وَالإبْكارِ}.
يعنـي بذلك: قال الله جلّ ثناؤه لزكريا: يا زكريا آيتك أن لا تكلـم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا بغير خرس, ولا عاهة, ولا مرض {واذْكُرْ رَبّكَ كَثِـير} فإنك لا تـمنع ذكره, ولا يحال بـينك وبـين تسبـيحه وغير ذلك من ذكره. وقد:
5651ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي معشر, عن مـحمد بن كعب, قال: لو كان الله رخص لأحد فـي ترك الذكر لرخص لزكريا حيث قال: {آيَتُكَ أنْ لاَ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا وَاذْكُرْ رَبّكَ كَثِـير} أيضا.
وأما قوله: {وَسَبّحْ بِـالعَشِيّ} فإنه يعنـي: عظم ربك بعبـادته بـالعشيّ. والعشيّ: من حين تزول الشمس إلـى أن تغيب, كما قال الشاعر:
فلا الظلّ من بَرْدِ الضّحَى تَسْتَطِيعُهُولا الفَـيْءَ من بَرْدِ العَشِيّ تَذُوقُ
فـالفـيء إنـما تبتدىء أوبته عند زوال الشمس, وتتناهى بـمغيبها.
وأما الإبكار: فإنه مصدر من قول القائل: أبكر فلان فـي حاجة, فهو يُبْكِرُ إبكارا, وذلك إذا خرج فـيها من بـين مطلع الفجر إلـى وقت الضحى, فذلك إبكار, يقال فـيه: أبكر فلان, وبكر يَبْكُرُ بكورا. فمن الإبكار قول عمر بن أبـي ربـيعة:
أمِنْ آلِ نُعْـمٍ أنتَ غادٍ فمُبْكِـرُ
ومن البكور قول جرير:
ألا بَكَرَتْ سَلْـمَى فَجَدّ بُكُورُهاوَشَقّ العَصَا بعد اجتـماعٍ أميرُها
ويقال من ذلك: بكر النـخـل يبكُر بكورا, وأبكر يُبْكِر إبكارا, والبـاكور من الفواكه: أوّلها إدراكا.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5652ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {وَسَبّحْ بِـالعَشِيّ والإبْكارِ} قال: الإبكار: أوّل الفجر, والعشيّ, ميـل الشمس حتـى تغيب.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
الآية : 42
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَمَرْيَمُ إِنّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىَ نِسَآءِ الْعَالَمِينَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: والله سميع علـيـم {إذْ قالتِ امْرَأةُ عِمْرَانَ رَبّ إنّـي نَذَرْتُ لَكَ ما فِـي بَطْنِـي مُـحَرّر}, {وَإذْ قالَتِ الـمَلائِكَةُ يا مَرْيَـمُ إنّ اللّهَ اصْطَفـاكِ}.
ومعنى قوله: {اصْطَفـاكِ} اختارك واجتبـاك لطاعته, وما خصك به من كرامته. وقوله: {وَطَهّرَكِ} يعنـي: طهر دينك من الريب والأدناس التـي فـي أديان نساء بنـي آدم. {وَاصْطَفـاكِ علـى نِساءِ العَالَـمِينَ} يعنـي: اختارك علـى نساء العالـمين فـي زمَانك بطاعتك إياه, ففضلك علـيهم. كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خَيْرُ نِسائِها مَرْيَـمُ بِنْتُ عِمْرَانَ, وَخَيْرُ نِسائها خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْـلِدٍ» يعنـي بقوله: خير نسائها: خير نساء أهل الـجنة.
5653ـ حدثنـي بذلك الـحسين بن علـيّ الصدائي, قال: حدثنا مـحاضر بن الـمورّع, قال: حدثنا هشام بن عروة, عن أبـيه, عن عبد الله بن جعفر, قال: سمعت علـيا بـالعراق, يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خَيْرُ نِسائها مَرْيَـمُ بِنْتُ عِمْرَانَ, وَخَيْرُ نِسائها خَدِيجَةُ».
5654ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثنـي الـمنذر بن عبد الله الـخزامي, عن هشام بن عروة, عن أبـيه, عن عبد الله بن جعفر بن أبـي طالب, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «خَيْرُ نِساءِ الـجَنّةِ مَرْيَـمُ بِنْتُ عِمْرَانَ, وَخَيْرُ نِساءِ الـجَنّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْـلِدٍ».
5655ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {وَإذْ قالَتِ الـمَلائِكَةُ يا مَرْيَـمُ إنّ اللّهَ اصْطَفَـاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطفـاكِ علـى نِساءِ العالَـمِينَ} ذكر لنا أن نبـيّ الله, كان يقول: «حَسْبُكَ بِـمَرْيَـمَ بِنْتِ عِمْرَانَ, وَامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ, وَخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْـلِدٍ, وَفـاطِمَةَ بِنْتِ مُـحَمّدٍ مِنْ نِساءِ العالَـمِينَ». قال قتادة: ذكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ صَوَالِـحُ نِساءِ قُرَيْشٍ, أحْناهُ علـى وَلَدٍ فِـي صِغَرِهِ, وأرْعاهُ علـى زَوْجٍ فِـي ذَاتِ يَدِهِ». قال قتادة: وذكر لنا أنه كان يقول: «لَوْ عَلِـمْتُ أنّ مَرْيَـمَ رَكِبَتِ الإبِلَ ما فَضّلْتُ عَلَـيْهَا أحَدا».
5656ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: {يا مَرْيَـمُ إنّ اللّهَ اصْطَفَـاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفَـاكِ علـى نِساءِ العَالَـمِينَ} قال: كان أبو هريرة يحدّث أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ صُلّـحُ نِساءِ قُرَيْشٍ أحْناهُ علـى وَلَدٍ وأرْعاهُ لِزَوْجٍ فِـي ذَاتِ يَدِهِ» قال أبو هريرة: ولـم تركب مريـم بعيرا قط.
5657ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه قوله: {وَإذْ قالَتِ الـمَلائِكَةُ يا مَرْيَـمُ إنّ الله اصْطَفَـاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفَـاكِ علـى نِساءِ العالَـمِينَ} قال: كان ثابت البنانـي يحدّث عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خَيْرُ نِساءِ العالَـمِينَ أرْبَعٌ: مَرْيَـمُ بِنْتُ عِمْرَانَ, وآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ, وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْـلِدٍ, وَفَـاطِمَةُ بِنْتُ مُـحَمّدٍ».
5658ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم العسقلانـي, قال: حدثنا شعبة, قال: حدثنا عمرو بن مرّة, قال: سمعت مرّة الهمدانـي يحدّث عن أبـي موسى الأشعري, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَمُلَ مِنَ الرّجالِ كَثِـيرٌ, وَلَـمْ يَكْمُلْ مِنَ النّساءِ إلاّ مَرْيَـمُ وآسِيَةُ امْرأةُ فِرْعَوْنَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْـلِدٍ وَفـاطِمَةُ بِنْتُ مُـحَمّدٍ».
5659ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو الأسود الـمصري, قال: حدثنا ابن لهيعة, عن عمارة بن غزية, عن مـحمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن عثمان, أن فـاطمة بنت حسين بن علـيّ حدثته أن فـاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: دخـل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وأنا عند عائشة, فناجانـي, فبكيت, ثم ناجانـي, فضحكت, فسألتنـي عائشة عن ذلك, فقلت: لقد عجلتِ, أخبرك بسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم! فتركتنـي, فلـما توفـي رسول الله صلى الله عليه وسلم, سألتها عائشة, فقالت: نعم, ناجانـي فقال: «جِبْرِيـلُ كانَ يُعارِضُ القُرْآنَ كُلّ عامٍ مَرّةً, وَإنّهُ قَدْ عارَضَ القُرْآنَ مَرّتَـيْنِ, وَإنّهُ لَـيْسَ مِنْ نَبِـيّ إلاّ عُمّرَ نِصْفُ عُمْرِ الّذِي كَانَ قَبْلَهُ, وَإنّ عِيسىَ أخِي كانَ عُمْرُهُ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ, وَهَذِهِ لِـي سِتّونَ, وأحْسِبُنِـي مَيّتا فِـي عامِي هَذَا, وَإنّهُ لَـمْ تُرْزأ امْرأةٌ مِنْ نِساءِ العَالَـمِينَ بِـمِثْلِ مَا رُزِئْتِ, وَلا تَكُونِـي دُونَ امْرأةٍ صَبْرا». قالت: فبكيت, ثم قال: «أَنْتِ سَيّدَةُ نِساءِ أهْلِ الـجَنّةِ إلاّ مَرْيَـمَ البَتُولَ» فتُوفـي عامه ذلك.
5660ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو الأسود, قال: حدثنا ابن لهيعة, عن عمرو بن الـحارث, أن أبـا زياد الـحميريّ حدثه, أنه سمع عمار بن سعد يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فُضّلَتْ خَدِيجَةُ علـى نِساءِ أُمّتِـي كَما فُضّلَتْ مَرْيَـمُ عَلـى نِساءِ العَالَـمِينَ».
وبـمثل الذي قلنا فـي معنى قوله: {وَطَهّرَكِ}: أنه وطهر دينك من الدنس والريب, قال مـجاهد.
5661ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله الله: {إنّ اللّهَ اصْطَفـاكِ وَطَهّرَكِ} قال: جعلك طيبة إيـمانا.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
5662ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: {وَاصْطَفـاكِ علـى نِساءِ العالَـمِينَ} قال: ذلك للعالـمين يومئذ.
وكانت الـملائكة فـيـما ذكر ابن إسحاق تقول ذلك لـمريـم شفـاها.
5663ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي ابن إسحاق, قال: كانت مريـم حبـيسا فـي الكنـيسة, ومعها فـي الكنـيسة غلام اسمه يوسف, وقد كان أمه وأبوه جعلاه نذيرا حبـيسا, فكانا فـي الكنـيسة جميعا, وكانت مريـم إذا نفد ماؤها وماء يوسف, أخذا قلتـيهما فـانطلقا إلـى الـمفـازة التـي فـيها الـماء الذي يستعذبـان منه, فـيـملاَن قلتـيهما, ثم يرجعان إلـى الكنـيسة, والـملائكة فـي ذلك مقبلة علـى مريـم: {يا مَرْيَـمُ إنّ اللّهَ اصْطَفـاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفـاكِ علـى نِساءِ العَالَـمِينَ} فإذا سمع ذلك زكريا, قال: إن لابنة عمران لشأنا.
الآية : 43
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{يَمَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ }
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله خبرا عن قـيـل ملائكته لـمريـم: {يا مَرْيَـمُ اقْنُتِـي لِرَبّكَ} أخـلصي الطاعة لربك وحده. وقد دللنا علـى معنى القنوت بشواهده فـيـما مضى قبل.
واختلاف بـين أهل التأويـل فـيه فـي هذا الـموضع نـحو اختلافهم فـيه هنالك, وسنذكر قول بعضهم أيضا فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: معنى «اقنتـي»: أطيـلـي الركود. ذكر من قال ذلك:
5664ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {يا مَرْيَـمُ اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قال: أطيـلـي الركود, يعنـي: القنوت.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
5665ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج {اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قال: قال مـجاهد: أطيـلـي الركود فـي الصلاة, يعنـي: القنوت.
5666ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن إدريس, عن لـيث, عن مـجاهد, قال: لـما قـيـل لها: {يا مَرْيَـمُ اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قامت حتـى ورم كعبـاها.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا عبد الله بن إدريس, عن لـيث, عن مـجاهد, قال: لـما قـيـل لها: {يا مَرْيَـمُ اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قامت حتـى ورمت قدماها.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن ابن أبـي لـيـلـى, عن مـجاهد: {اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قال: أطيـلـي الركود.
5667ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {يا مَرْيَـمُ اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قال: القنوت: الركود, يقول: قومي لربك فـي الصلاة, يقول: اركدي لربك, أي انتصبـي له فـي الصلاة, واسجدي واركعي مع الراكعين.
حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو عاصم, عن سفـيان, عن لـيث, عن مـجاهد: {يا مَرْيَـمُ اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قال: كانت تصلـي حتـى ترم قدماها.
5668ـ حدثنـي ابن البرقـي, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا الأوزاعي: {يا مَرْيَـمُ اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قال: كانت تقوم حتـى يسيـل القـيح من قدميها.
وقال آخرون: معناه: أخـلصي لربك. ذكر من قال ذلك:
5669ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحمانـي, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, عن شريك, عن سالـم, عن سعيد: {يا مَرْيَـمُ اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قال: أخـلصي لربك.
وقال آخرون: معناه: أطيعي ربك. ذكر من قال ذلك:
5670ـ حدثنـي الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قال: أطيعي ربك.
5671ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {اقْنُتِـي لِرَبكِ} أطيعي ربك.
5672ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا مـحمد بن حرب, قال: حدثنا ابن لهيعة, عن دراج, عن أبـي الهيثم, عن أبـي سعيد الـخدري, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «كُلّ حَرْفٍ يُذْكَرُ فِـيهِ القُنُوتُ مِنَ القُرْآنِ, فَهُوَ طاعَةٌ لِلّهِ».
5673ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد بن منصور, عن الـحسن, فـي قوله: {يَا مَرْيَـمُ اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قال: يقول: اعبدي ربك.
قال أبو جعفر: وقد بـينا أيضا معنى الركوع والسجود بـالأدلة الدالة علـى صحته, وأنهما بـمعنى الـخشوع لله والـخضوع له بـالطاعة والعبودية.
فتأويـل الاَية إذا: يا مريـم أخـلصي عبـادة ربك لوجهه خالصا, واخشعي لطاعته وعبـادته, مع من خشع له من خـلقه, شكرا له علـى ما أكرمك به من الاصطفـاء والتّطهير من الأدناس والتفضيـل علـى نساء عالـم دهرك.
الآية : 44
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{ذَلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }
يعنـي جل ثناؤه بقوله: ذلك الأخبـار التـي أخبر بها عبـاده عن امرأة عمران وابنتها مريـم وزكريا, وابنه يحيـى, وسائر ما قصّ فـي الاَيات من قوله: {إنّ اللّهَ اصْطَفَـى آدَمَ وَنُوح} ثم جمع جميع ذلك تعالـى ذكره بقوله ذلك, فقال: هذه الأنبـاء من أنبـاء الغيب: أي من أخبـار الغيب. ويعنـي بـالغيب, أنها من خفـيّ أخبـار القوم التـي لـم تطلع أنت يا مـحمد علـيها ولا قومك, ولـم يعلـمها إلا قلـيـل من أحبـار أهل الكتابـين ورهبـانهم ثم أخبر تعالـى ذكره نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم أنه أوحى ذلك إلـيه حجة علـى نبوّته, وتـحقـيقا لصدقه, وقطعا منه به عذر منكري رسالته من كفـار أهل الكتابـين الذين يعلـمون أن مـحمدا لـم يصل إلـى علـم هذه الأنبـاء مع خفـائها ولـم يدرك معرفتها مع خمولها عند أهلها إلا بإعلام الله ذلك إياه, إذ كان معلوما عندهم أنه مـحمدا صلى الله عليه وسلم أمي لا يكتب فـيقرأ الكتب فـيصل إلـى علـم ذلك من قِبَل الكتب, ولا صاحب أهل الكتب فـيأخذ علـمه من قِبَلهم.
وأما الغيب: فمصدر من قول القائل: غاب فلان عن كذا, فهو يغيب عنه غَيْبـا وغيبةً.
وأما قوله: {نُوحيهِ إِلَـيْكَ} فإن تأويـله: ننزله إلـيك, وأصل الإيحاء: إلقاء الـموحي إلـى الـموحَى إلـيه, وذلك قد يكون بكتاب وإشارة وإيـماء وبإلهام وبرسالة, كما قال جلّ ثناؤه: {وَأوْحَى رَبّكَ إلـى النّـحْلِ} بـمعنى: ألقـى ذلك إلـيها فألهمها, وكما قال: {وَإذْ أوْحَيْتُ إلـى الـحَوارِيّـينَ} بـمعنى: ألقـيت إلـيهم علـم ذلك إلهاما, وكما قال الراجز:
وْحَـى لَـهَـا الـقَـرَارَ فـاسْـتَـقَـرّتِ
بـمعنى: ألقـى إلـيها ذلك أمرا, وكما قال جلّ ثناؤه: {فأوْحَى إلَـيْهِمْ أنْ سَبّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّ} بـمعنى: فألقـى ذلك إلـيهم أيضا, والأصل فـيه ما وصفت من إلقاء ذلك إلـيهم. وقد يكون إلقاؤه ذلك إلـيهم إيـماء, ويكون بكتاب, ومن ذلك قوله: {وَإنّ الشّياطِينَ لَـيُوحُونَ إلـى أوْلِـيائِهِمْ} يـلقون إلـيهم ذلك وسوسة, وقوله: {وأُوحِيَ إلـيّ هَذَا القُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}: ألقـي إلـيّ بـمـجيء جبريـل علـيه السلام به إلـيّ من عند الله عزّ وجلّ. وأما الوحي: فهو الواقع من الـموحِي إلـى الـموحَى إلـيه, ولذلك سمت العرب الـخط والكتاب وحيا, لأنه واقع فـيـما كتب ثابت فـيه, كما قال كعب بن زهير:
أتَـى العُجْمَ والاَفـاقَ منهُ قَصائِدٌبَقِـينَ بَقاءَ الوَحْيِ فِـي الـحَجَرِ الأَصَمّ
يعنـي به الكتاب الثابت فـي الـحجر. وقد يقال فـي الكتاب خاصة إذا كتبه الكاتب وَحَى, بغير ألف, ومنه قول رؤبة:
كأنّهُ بَعْدَ رِياح تَدْهَمَهُوَمُرْثَعِنّاتِ الدّجُونِ تَثِمُهْ
إنـجيـلُ أحْبـارٍ وَحَـى مُنَـمْنِـمُهْ
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُـلْقُونَ أقْلاَمَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَـمَ}.
يعنـي جل ثناؤه بقوله: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ}: وما كنت يا مـحمد عندهم, فتعلـم ما نعلـمكه من أخبـارهم التـي لـم تشهدها, ولكنك إنـما تعلـم ذلك فتدرك معرفته بتعريفناكه.
ومعنى قوله {لَدَيْهِمْ}: عندهم, ومعنى قوله {إذْ يُـلْقُونَ}: حين يـلقون أقلامهم. وأما أقلامهم فسهامهم التـي استهم بها الـمتسهمون من بنـي إسرائيـل علـى كفـالة مريـم, علـى ما قد بـينا قبل فـي قوله: {وَكَفّلَها زِكَرِيّ}.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5674ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا هشام بن عمرو, عن سعيد, عن قتادة فـي قوله: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ} يعنـي مـحمدا صلى الله عليه وسلم.
5675ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {يُـلْقُونَ أقْلامَهُمْ}: زكريا وأصحابه استهموا بأقلامهم علـى مريـم حين دخـلت علـيهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
5676ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُـلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَـمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ}: كانت مريـم ابنة إمامهم وسيدهم, فتشاحّ علـيها بنو إسرائيـل, فـاقترعوا فـيها بسهامهم أيهم يكفلها, فقرعهم زكريا, وكان زوج أختها, فكفلها زكريا, يقول: ضمها إلـيه.
5677ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {يُـلْقُونَ أقْلاَمَهُمْ} قال: تساهموا علـى مريـم أيهم يكفلها, فقرعهم زكريا.
5678ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُـلْقُونَ أقْلاَمَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَـمَ}, وإن مريـم لـما وضعت فـي الـمسجد, اقترع علـيها أهل الـمصلـى, وهم يكتبون الوحي, فـاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها, فقال الله عزّ وجلّ لـمـحمد صلى الله عليه وسلم: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُـلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَـمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ}.
5679ـ حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {إذْ يُـلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَـمَ}: اقترعوا بأقلامهم أيهم يكفل مريـم, فقرعهم زكريا.
5680ـ حدثنا مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد, عن الـحسن, فـي قوله: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُـلْقُونَ أقْلامَهُمْ} قال: حيث اقترعوا علـى مريـم, وكان غيبـا عن مـحمد صلى الله عليه وسلم حين أخبره الله.
وإنـما قـيـل: {أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَـمَ} لأن إلقاء الـمستهمين أقلامهم علـى مريـم إنـما كان لـينظروا أيهم أولـى بكفـالتها وأحقّ, ففـي قوله عزّ وجلّ: {إذْ يُـلْقُونَ أقْلامَهُمْ} دلالة علـى مـحذوف من الكلام, وهو: «لـينظروا أيهم يكفل, ولـيتبـينوا ذلك ويعلـموه».
فإن ظنّ ظانّ أن الواجب فـي «أيهم» النصب, إذ كان ذلك معناه, فقد ظنّ خطأ¹ وذلك أن النظر والتبـين والعلـم مع أيّ يقتضي استفهاما واستـخبـارا, وحظّ «أيّ» فـي الاستـخبـار الابتداء, وبطول عمل الـمسألة والاستـخبـار عنه. وذلك أن معنى قول القائل: لأنظرنّ أيهم قام, لأستـخبرنّ الناس أيهم قام¹ وكذلك قولهم: لأعلـمنّ. وقد دللنا فـيـما مضى قبل أن معنى يكفُل يضمّ, بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وما كنت يا مـحمد عند قوم مريـم, إذ يختصمون فـيها أيهم أحقّ بها وأولـى, وذلك من الله عزّ وجلّ وإن كان خطابـا لنبـيه صلى الله عليه وسلم, فتوبـيخ منه عزّ وجلّ للـمكذّبـين به من أهل الكتابـين, يقول: كيف يشكّ أهل الكفر بك منهم, وأنت تنبئهم هذه الأنبـاء ولـم تشهدها, ولـم تكن معهم يوم فعلوا هذه الأمور, ولست مـمن قرأ الكتب فعلـم نبأهم, ولا جالس أهلها فسمع خبرهم. كما:
5681ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ} أي ما كنت معهم إذ يختصمون فـيها يخبره بخفـيّ ما كتـموا منه من العلـم عندهم, لتـحقـيق نبوّته والـحجة علـيهم, لـما يأتـيهم به مـما أخفوا منه.
الآية : 45
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَمَرْيَمُ إِنّ اللّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرّبِينَ }
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {إذْ قَالَتِ الـمَلائِكَةُ} وما كنت لديهم إذ يختصمون, وما كنت لديهم أيضا إذ قالت الـملائكة: يا مريـم إن الله يبشرك. والتبشير: إخبـار الـمرء بـما يسرّه من خبر. وقوله: {بِكَلِـمَةٍ مِنْهُ} يعنـي: برسالة من الله, وخبر من عنده, وهو من قول القائل: ألقـى فلان إلـيّ كلـمة سرّنـي بها, بـمعنى: أخبرنـي خبرا فرحت به, كما قال جلّ ثناؤه: {وَكَلِـمَتُهُ ألْقاها إلـى مَرْيَـمَ} يعنـي بشرى الله مريـم بعيسى ألقاها إلـيها.
فتأويـل الكلام: وما كنت يا مـحمد عند القوم إذ قالت الـملائكة لـمريـم: يا مريـم إن الله يبشرك ببشرى من عنده, هي ولد لك, اسمه الـمسيح عيسى ابن مريـم.
وقد قال قوم, وهو قول قتادة: إن الكلـمة التـي قال الله عزّ وجلّ بكلـمة منه, هو قوله: «كن».
5682ـ حدثنا بذلك الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة قوله: {بِكَلِـمَةٍ مِنْهُ} قال: قوله: «كن».
فسماه الله عزّ وجلّ كلـمته, لأنه كان عن كلـمته, كما يقال لـما قدر الله من شيء: هذا قدر الله وقضاؤه, يعنـي به: هذا عن قدر الله وقضائه حدث, وكما قال جلّ ثناؤه: {وَكانَ أمْرُ اللّهِ مَفْعُول} يعنـي به: ما أمر الله به, وهو الـمأمور الذي كان عن أمر الله عزّ وجلّ.
وقال آخرون: بل هي اسم لعيسى سماه الله بها كما سمى سائر خـلقه بـما شاء من الأسماء. ورُوي عن ابن عبـاس رضي الله عنه أنه قال: الكلـمة: هي عيسى.
5683ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن إسرائيـل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عبـاس فـي قوله: {إذْ قالَتِ الـمَلاَئِكَةُ يا مَرْيَـمُ إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِكَلِـمَةٍ مِنْهُ} قال: عيسى هو الكلـمة من الله.
وأقرب الوجوه إلـى الصواب عندي القول الأول: وهو أن الـملائكة بشرت مريـم بعيسى عن الله عزّ وجلّ برسالته وكلـمته التـي أمرها أن تلقـيها إلـيها, أن الله خالق منها ولدا من غير بعل ولا فحل, ولذلك قال عزّ وجلّ: {اسْمُهُ الـمَسِيحُ} فذكّر, ولـم يقل اسمها فـيؤنث, والكلـمة مؤنثة, لأن الكلـمة غير مقصود بها قصد الاسم الذي هو بـمعنى فلان, وإنـما هي بـمعنى البشارة, فذكرت كنايتها, كما تذكر كناية الذرّية والدابة والألقاب, علـى ما قد بـيناه قبل فـيـما مضى.
فتأويـل ذلك كما قلنا آنفـا, من أن معنى ذلك: إن الله يبشركِ ببشرى, ثم بـين عن البشرى, أنها ولد اسمه الـمسيح.
وقد زعم بعض نـحويـي البصرة, أنه إنـما ذكّر فقال: {اسْمُهُ الـمَسِيحُ}, وقد قال: {بِكَلِـمَةٍ مِنْهُ} والكلـمة عنده: هي عيسى, لأنه فـي الـمعنى كذلك, كما قال جلّ ثناؤه: {أنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَت}, ثم قال: {بَلَـى قَدْ جاءَتْكَ آياتِـي فَكَذّبْتَ بِه} وكما يقال: ذو الثدية, لأن يده كانت قصيرة قريبة من ثديـيه, فجعلها كأن اسمها ثَدْيَة, ولولا ذلك لـم تدخـل الهاء فـي التصغير.
وقال بعض نـحويـي الكوفة نـحو قول من ذكرنا من نـحويـي البصرة, فـي أن الهاء من ذكر الكلـمة, وخالفه فـي الـمعنى الذي من أجله ذكر قوله {اسْمُهُ}, والكلـمة متقدمة قبله, فزعم أنه إنـما قـيـل اسمه, وقد قدمت الكلـمة, ولـم يقل اسمها, لأن من شأن العرب أن تفعل ذلك فـيـما كان من النعوت والألقاب والأسماء التـي لـم توضع لتعريف الـمسمى به كفلان وفلان, وذلك مثل الذرّية والـخـلـيفة والدابة, ولذلك جاز عنده أن يقال: ذرّية طيبة, وذرّية طيبـا¹ ولـم يجز أن يقال: طلـحة أقبلت, ومغيرة قامت. وأنكر بعضهم اعتلال من اعتلّ فـي ذلك بذي الثدية, وقالوا: إنـما أدخـلت الهاء فـي ذي الثدية لأنه أريد بذلك: القطعة من الثدي, كما قـيـل: كنا فـي لـحمة ونبـيذة, يراد به: القطعة منه. وهذا القول نـحو قولنا الذي قلناه فـي ذلك.
وأما قوله: {اسْمُهُ الـمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَـمَ} فإنه جلّ ثناؤه أنبأ عبـاده عن نسبة عيسى, وأنه ابن أمه مريـم, ونفـى بذلك عنه ما أضاف إلـيه الـملـحدون فـي الله جلّ ثناؤه من النصارى, من إضافتهم بنوته إلـى الله عزّ وجلّ, وما قَذَفَت أُمّهُ به الـمفتريةُ علـيها من الـيهود. كما:
5684ـ حدثنـي به ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {إذْ قالَتِ الـمَلائِكَةُ يا مَرْيَـمُ إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِكَلِـمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الـمَسِيحُ عيسَى ابْنُ مَرْيَـمَ وَجِيها فِـي الدّنْـيَا وَالاَخِرَةِ وَمِنَ الـمُقَرّبِـينَ}: أي هكذا كان أمره, لا ما يقولون فـيه.
وأما الـمسيح, فإنه فَعِيـل, صرّف من مفعول إلـى فعيـل, وإنـما هو مـمسوح, يعنـي: مسحه الله فطهره من الذنوب, ولذلك قال إبراهيـم: الـمسيح الصديق....
5685ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي عن سفـيان, عن منصور, عن إبراهيـم, مثله.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, عن سفـيان, عن منصور, عن إبراهيـم, مثله.
وقال آخرون: مسح بـالبركة.
5686ـ حدثنا ابن البرقـي, قال: حدثنا عمرو بن أبـي سلـمة, قال: قال سعيد: إنـما سمي الـمسيح, لأنه مسح بـالبركة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَجِيها فِـي الدّنْـيا وَالاَخِرَةِ وَمِنَ الـمُقَرّبِـينَ}.
يعنـي بقوله «وجيها»: ذا وجه ومنزلة عالـية عند الله وشرف وكرامة, ومنه يقال للرجل الذي يشرف وتعظمه الـملوك والناس: وجيه¹ يقال منه: ما كان فلان وجيها, ولقد وَجُهَ وجاهةً, وإن له لَوَجْها عند السلطان, وجاها ووجاهة. والـجاه: مقلوب قلبت واوه من أوّله إلـى موضع العين منه, فقـيـل جاه, وإنـما هو وجه وفعل من الـجاه: جَاهَ يَجُوهُ, مسموع من العرب: أخاف أن يجوهنـي بأكثر من هذا, بـمعنى: أن يستقبلنـي فـي وجهي بأعظم منه. وأما نصب الوجيه فعلـى القطع من عيسى, لأن عيسى معرفة, ووجيه نكرة, وهو من نعته, ولو كان مخفوضا علـى الردّ علـى الكلـمة كان جائزا.
وكما قلنا من أن تأويـل ذلك وجيها فـي الدنـيا والاَخرة عند الله, قال فـيـما بلغنا مـحمد بن جعفر.
5687ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَجِيه} قال: وجيها فـي الدنـيا والاَخرة عند الله.
وأما قوله: {وَمِنَ الـمُقَرّبِـينَ} فإنه يعنـي: أنه مـمن يقرّبه الله يوم القـيامة, فـيسكنه فـي جواره, ويدنـيه منه. كما:
5688ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَمِنَ الـمُقَرّبِـينَ} يقول: من الـمقرّبـين عند الله يوم القـيامة.
5689ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قوله: {وَمِنَ الـمُقَرّبِـينَ} يقول: من الـمقرّبـين عند الله يوم القـيامة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله