تفسير الطبري تفسير الصفحة 54 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 54
055
053
 الآية : 30
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ويحذّركم الله نفسه, فـي يوم تـجد كل نفس ما عملت من خير مـحضرا موفرا, وما عملت من سوء {تودّ لو أنّ بَـيْنَها وبَـيْنَهُ أَمَدا بَعِيد}: يعنـي: غاية بعيدة, فإن مصيركم أيها القوم يومئذٍ إلـيه, فـاحذوره علـى أنفسكم من ذنوبكم. وكان قتادة يقول فـي معنى قوله: {مُـحْضَر} ما:
5507ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {يَوْمَ تَـجِدُ كُلّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُـحْضَر} يقول موفّرا.
وقد زعم أهل العربـية أن معنى ذلك: واذكر يوم تـجد, وقال: إن ذلك إنـما جاء كذلك, لأن القرآن إنـما نزل للأمر والذكر, كأنه قـيـل لهم: اذكروا كذا وكذا, لأنه فـي القرآن فـي غير موضع, واتقوا يوم كذا وحين كذا. وأما «ما» التـي مع عملت فبـمعنى الذي, ولا يجوز أن تكون جزاء لوقوع «تـجد» علـيه.
وأما قوله: {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} فإنه معطوف علـى قوله: «ما» الأولـى, و«عملت» صلة بـمعنى الرفع, لـمّا قـيـل «تود». فتأويـل الكلام: يوم تـجد كل نفس الذي عملت من خير مـحضرا, والذي عملت من سوء, تودّ لو أن بـينها وبـينه أمدا. والأمد: الغاية التـي ينتهي إلـيها, ومنه قول الطرماح:
كلّ حَيّ مُسْتَكْمِلٌ عِدّةَ العُمْـ
ـرِ ومُودٍ إذَا انْقَضَى أمَدُهْ
يعنـي: غاية أجله. وقد:
5508ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي قوله: {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدّ لَوْ أنّ بَـيْنَها وَبَـيْنَهُ أمَدا بَعِيد} مكانا بعيدا.
5509ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: {أمَدا بَعِيد} قال: أجلاً.
5510ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, قال: حدثنا عبـاد بن منصور, عن الـحسن فـي قوله: {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدّ لَوْ أنّ بَـيْنَهَا وَبَـيْنَهُ أمَدا بَعِيد} قال: يسرّ أحدهم أن لا يـلقـى عمله ذاك أبدا يكون ذلك مناه, وأما فـي الدنـيا فقد كانت خطيئته يستلذّها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ويُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَءُوفٌ بِـالعِبَـادِ}. يقول جلّ ثناؤه: ويحذّركم الله نفسه أن تسخطوها علـيكم بركوبكم ما يسخطه علـيكم, فتوافونه, يوم تـجد كل نفسه ما عملت من خير مـحضرا, وما عملت من سوء تودّ لو أنّ بـينها وبـينه أمدا بعيدا, وهو علـيكم ساخط, فـينالكم من ألـيـم عقابه ما لا قبل لكم به. ثم أخبر عزّ وجلّ أنه رءوف بعبـاده رحيـم بهم, ومن رأفته بهم تـحذيره إياهم نفسه, وتـخويفهم عقوبته, ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معاصيه. كما:
5511ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن ابن عيـينة, عن عمرو بن الـحسن فـي قوله: {وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَءُوفٌ بِـالعِبـادِ} قال: من رأفته بهم أن حذّرهم نفسه.
الآية : 31
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ }
اختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي أنزلت هذه الاَية فـيه, فقال بعضهم: أنزلت فـي قوم قالوا علـى عهد النبـيّ صلى الله عليه وسلم: إنا نـحبّ ربنا, فأمر الله جلّ وعزّ نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: «إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ فِـيـما تَقُولُونَ فـاتّبِعُونِـي, فَـإِنّ ذَلِكَ عَلامَةُ صِدْقِكُمْ فِـيـما قُلْتُـمْ مِنْ ذَلِكَ». ذكر من قال ذلك:
5512ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله, عن بكر بن الأسود, قال: سمعت الـحسن يقول: قال قوم علـى عهد النبـيّ صلى الله عليه وسلم: يا مـحمد إنا نـحبّ ربنا! فأنزل الله عزّ وجلّ: {قُلْ إِنْ كُنْتُـمْ تُـحِبّونَ اللّهَ فَـاتّبِعُونِـي يُحْبِبْكُمْ اللّهَ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فجعل اتبـاع نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم علـما لـحبه, وعذاب من خالفه.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا علـيّ بن الهيثم, قال: حدثنا عبد الوهاب, عن أبـي عبـيدة, قال: سمعت الـحسن, يقول: قال أقوام علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا مـحمد إنا لنـحبّ ربنا! فأنزل الله جلّ وعزّ بذلك قرآنا: {قُلْ إِنْ كُنْتُـمْ تُـحِبّونَ اللّهَ فَـاتّبِعُونِـي يُحْبِبْكُمْ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فجعل الله اتبـاع نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم علـما لـحبه, وعذاب من خالفه.
5513ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج قوله: {إِنْ كُنْتُـمْ تُـحِبّونَ اللّهَ فـاتّبِعُونِـي يُحْبِبْكُمُ اللّهَ} قال: كان قوم يزعمون أنهم يحبون الله, يقولون: إنا نـحبّ ربنا, فأمرهم الله أن يتبعوا مـحمدا صلى الله عليه وسلم, وجعل اتبـاع مـحمد علـما لـحبه.
حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, قال: حدثنا عبـاد بن منصور, عن الـحسن فـي قوله: {إِنْ كُنْتُـمْ تُـحِبّونَ اللّهَ}... الاَية, قال: إن أقواما كانوا علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يزعمون أنهم يحبون الله, فأراد الله أن يجعل لقولهم تصديقا من عمل, فقال: {إِنْ كُنْتُـمْ تُـحِبّونَ اللّهَ}... الاَية. كان اتبـاع مـحمد صلى الله عليه وسلم تصديقا لقولهم.
وقال آخرون: بل هذا أمر من الله نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لوفد نـجران الذين قدموا علـيه من النصارى: إن كان الذي يقولونه فـي عيسى من عظيـم القول إنـما يقولونه تعظيـما لله وحبـا له, فـاتبعوا مـحمدا صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
5514ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير. {قُلْ إِنْ كُنْتُـمْ تُـحِبّونَ اللّهَ} أي إن كان هذا من قولكم ـ يعنـي فـي عيسى ـ حبـا لله وتعظيـما له {فَـاتّبِعُونِـي يُحبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي ما مضى من كفركم {وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيـمٌ}.
قال أبو جعفر: وأولـى القولـين بتأويـل الاَية, قول مـحمد بن جعفر بن الزبـير, لأنه لـم يجز لغير وفد نـجران فـي هذه السورة, ولا قبل هذه الاَية ذكر قوم ادّعوا أنهم يحبون الله, ولا أنهم يعظمونه, فـيكون قوله: {إِنْ كُنْتُـمْ تُـحِبّونَ اللّهَ فَـاتّبِعُونِـي} جوابـا لقولهم علـى ما قاله الـحسن.
وأما ما روى الـحسن فـي ذلك مـما قد ذكرناه, فلا خبر به عندنا يصحّ, فـيجوز أن يقال: إن ذلك كذلك, وإن لـم يكن فـي السورة دلالة علـى أنه كما قال إلا أن يكون الـحسن أراد بـالقوم الذين ذكر أنهم قالوا ذلك علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نـجران من النصارى, فـيكون ذلك من قوله نظير إخبـارنا, فإذا لـم يكن بذلك خبر علـى ما قلنا, ولا فـي الاَية دلـيـل علـى ما وصفنا, فأولـى الأمور بنا أن نلـحق تأويـله بـالذي علـيه الدلالة من آي السورة, وذلك هو ما وصفنا, لأن ما قبل هذه الاَية من مبتدإ هذه السورة وما بعدها خبر عنهم, واحتـجاج من الله لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم, ودلـيـل علـى بطول قولهم فـي الـمسيح, فـالواجب أن تكون هي أيضا مصروفة الـمعنى إلـى نـحو ما قبلها, ومعنى ما بعدها.
فإذ كان الأمر علـى ما وصفنا, فتأويـل الاَية: قل يا مـحمد للوفد من نصارى نـجران: إن كنتـم تزعمون أنك تـحبون الله, وأنكم تعظمون الـمسيح وتقولون فـيه ما تقولون, حبـا منكم ربكم, فحققوا قولكم الذي تقولونه, إن كنتـم صادقـين بـاتبـاعكم إياي, فإنكم تعلـمون أنـي لله رسول إلـيكم, كما كان عيسى رسولاً إلـى من أرسل إلـيه, فإنه إن اتبعتـمونـي وصدقتـمونـي علـى ما أتـيتكم به من عند الله, يغفر لكم ذنوبكم, فـيصفح لكم عن العقوبة علـيها ويعفو لكم عما مضى منها, فإنه غفور لذنوب عبـاده الـمؤمنـين رحيـم بهم وبغيرهم من خـلقه.
الآية : 32
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرّسُولَ فإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْكَافِرِينَ }
يعنـي بذلك جل ثناؤه: قل يا مـحمد لهؤلاء الوفد من نصارى نـجران: اطيعوا الله والرسول مـحمدا, فإنكم قد علـمتـم يقـينا أنه رسولـي إلـى خـلقـي ابتعثته بـالـحق تـجدونه مكتوبـا عندكم فـي الإنـجيـل, {فإنْ تَوَلّوْ} فـاستدبروا عما دعوتهم إلـيه من ذلك, وأعرضوا عنه, فأعلـمهم أن الله لا يحب من كفر بجحد ما عرف من الـحق, وأنكره بعد علـمه, وأنهم منهم بجحودهم نبوّتك وإنكارهم الـحقّ الذي أنت علـيه بعد علـمهم بصحة أمرك وحقـيقة نبوّتك. كما:
5515ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {قُلْ أطِيعُوا اللّهَ وَالرّسُولَ} فأنتـم تعرفونه ـ يعنـي الوفد من نصارى نـجران ـ وتـجدونه فـي كتابكم. {فَـإِنْ تَوَلّوْ} علـى كفرهم, {فـإِنّ اللّهَ لا يحِبّ الْكَافِرِينَ}.
الآية : 33
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{إِنّ اللّهَ اصْطَفَىَ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ }
يعنـي بذلك جل ثناؤه: إن الله اجتبى آدم ونوحا, واختارهما لدينهما, {وآلَ إِبْرَاهِيـمَ وآلَ عِمْرَانَ} لدينهم الذي كانوا علـيه, لأنهم كانوا أهل الإسلام. فأخبر الله عزّ وجلّ أنه اختار دين من ذكرنا علـى سائر الأديان التـي خالفته. وإنـما عنى بآل إبراهيـم وآل عمران الـمؤمنـين.
وقد دللنا علـى أن آل الرجل أتبـاعه وقومه ومن هو علـى دينه. وبـالذي قلنا فـي ذلك روي القول عن ابن عبـاس أنه كان يقوله.
5516ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس قوله: {إِنّ اللّهَ اصْطَفَـى آدَمَ وَنُوحا وآلَ إِبْرَاهِيـمَ وَآلَ عِمْرَانَ علـى العَالَـمِينَ} قال: هم الـمؤمنون من آل إبراهيـم وآل عمران وآل ياسين وآل مـحمد, يقول الله عزّ وجلّ: {إِنّ أوْلـى النّاسِ بِـإِبْرَاهِيـمَ للّذِينَ اتّبَعُوهُ} وهم الـمؤمنون.
5517ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {إِنّ اللّهَ اصْطَفَـى آدَمَ وَنُوحا وآلَ إِبْرَاهِيـمَ وَآلَ عِمْرَانَ علـى العَالَـمِينَ} رجلان نبـيان اصطفـاهما الله علـى العالـمين.
5518ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {إِنّ اللّهَ اصْطَفَـى آدَمَ وَنُوحا وآلَ إِبْرَاهِيـمَ وَآلَ عِمْرَانَ علـى العَالَـمِينَ} قال: ذكر الله أهل بـيتـين صالـحين ورجلـين صالـحين ففضلهم علـى العالـمين, فكان مـحمد من آل إبراهيـم.
5519ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, قال: حدثنا عبـاد, عن الـحسن فـي قوله: {إِنّ اللّهَ اصْطَفَـى آدَمَ وَنُوحا وآلَ إِبْرَاهِيـمَ} إلـى قوله: {وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ} قال: فضلهم الله علـى العالـمين بـالنبوة علـى الناس كلهم كانوا هم الأنبـياء الأتقـياء الـمطيعين لربهم.
الآية : 34
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
يعنـي بذلك: أن الله اصطفـى آل إبراهيـم وآل عمران {ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} فـالذرّية منصوبة علـى القطع من آل إبراهيـم وآل عمران: لأن «الذرّية» نكرة, و«آل عمران» معرفة, ولو قـيـل نصبت علـى تكرير الاصطفـاء لكان صوابـا, لأن الـمعنى: اصطفـى ذرّية بعضها من بعض. وإنـما جعل «بعضهم من بعض» فـي الـموالاة فـي الدين والـموازرة علـى الإسلام والـحق, كما قال جلّ ثناؤه: {وَالـمُوءْمِنُونَ وَالـمُوءْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أوْلِـياءُ بَعْضٍ} وقال فـي موضع آخر: {الـمُنَافِقُونَ وَالـمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} يعنـي أن دينهم واحد وطريقتهم واحدة, فكذلك قوله: {ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} إنـما معناه: ذرّية دين بعضها دين بعض, وكلـمتهم واحدة, وملتهم واحدة فـي توحيد الله وطاعته. كما:
5520ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {ذُرّيّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ} يقول: فـي النـية والعمل والإخلاص والتوحيد له.
وقوله: {وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ} يعنـي بذلك: والله ذو سمع لقول امرأة عمران, وذو علـم بـما تضمره فـي نفسها, إذ نذرت له ما فـي بطنها مـحرّرا.
الآية : 35
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّراً فَتَقَبّلْ مِنّي إِنّكَ أَنتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ }
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {إذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إِنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّرا فَتَقَبّلْ مِنّـي} فـ«إذْ» من صلة «سميع». وأما امرأة عمران. فهي أمّ مريـم ابنة عمران أم عيسى ابن مريـم صلوات الله علـيه, وكان اسمها فـيـما ذكر لنا حنة ابنة فـاقوذ بن قتـيـل. كذلك:
5521ـ حدثنا به مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق فـي نسبه. وقال غير ابن حميد: ابنة فـاقود ـ بـالدال ـ ابن قتـيـل.
فأما زوجها فإنه عمران بن ياشهم بن آمنون بن منشا بن حزقـيا بن أحريق بن يويـم بن عزاريا بن أمصيا بن ياوش بن احريهو بن يازم بن يهفـاشاط بن اشابرابـان بن رحبعم بن سلـيـمان بن داود بن إيشا. كذلك:
5522ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, فـي نسبه.
وأما قوله: {رَبّ إنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطنِـي مُـحَرّر} فإن معناه: إنـي جعلت لك يا ربّ نذرا أن لك الذي فـي بطنـي مـحرّرا لعبـادتك, يعنـي بذلك: حبسته علـى خدمتك وخدمة قدسك فـي الكنـيسة, عتـيقة من خدمة كل شيء سواك, مفرغة لك خاصة. ونصب «مـحرّرا» علـى الـحال من «ما» التـي بـمعنى «الذي». {فَتَقَبّلْ مِنّـي} أي فتقبل منـي ما نذرت لك يا ربّ. {إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ العّلِـيـمُ} يعنـي: إنك أنت يا ربّ السميع لـما أقول وأدعو, العلـيـم لـما أنوي فـي نفسي وأريد, لا يخفـى علـيك سرّ أمري وعلانـيته. وكان سبب نذر حنة ابنة فـاقوذ امرأة عمران الذي ذكره الله فـي هذه الاَية فـيـما بلغنا, ما:
5523ـ حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق, قال: تزوّج زكريا وعمران أختـين, فكانت أمّ يحيـى عند زكريا, وكانت أمّ مريـم عند عمران, فهلك عمران وأمّ مريـم حامل بـمريـم, فهي جنـين فـي بطنها. قال: وكانت فـيـما يزعمون قد أمسك عنها الولد حتـى أسنّت, وكانوا أهل بـيت من الله جل ثناؤه بـمكان. فبـينا هي فـي ظلّ شجرة نظرت إلـى طائر يطعم فرخا له, فتـحرّكت نفسها للولد, فدعت الله أن يهب لها ولدا, فحملت بـمريـم وهلك عمران. فلـما عرفت أن فـي بطنها جنـينا, جعلته لله نذيرة¹ والنذيرة أن تعبّده لله, فتـجعله حبسا فـي الكنـيسة, لا ينتفع به بشيء من أمور الدنـيا.
5524ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير, قال: ثم ذكر امرأة عمران, وقولها: {رَبّ إنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّر} أي نذرته, تقول: جعلتُه عتـيقا لعبـادة الله لا ينتفع به بشيء من أمور الدنـيا. {فَتَقَبّلْ مِنّـي إنكَ أنتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ}.
5525ـ حدثنـي عبد الرحمن بن الأسود الطّفـاوي, قال: حدثنا مـحمد بن ربـيعة, قال: حدثنا النضر بن عربـي, عن مـجاهد فـي قوله: {مُـحَرّر} قال: خادما للبِـيعة.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا جابر بن نوح, عن النضر بن عربـي, عن مـجاهد, قال: خادما للكنـيسة.
5526ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا جابر بن نوح, قال: أخبرنا إسماعيـل, عن الشعبـي فـي قوله: {إِنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّر} قال: فرّغته للعبـادة.
حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا إسماعيـل بن أبـي خالد, عن الشعبـي فـي قوله: {إنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّر} قال: جعلته فـي الكنـيسة, وفرّغته للعبـادة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن إسماعيـل, عن الشعبـي, نـحوه.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {إِنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّر} قال: للكنـيسة يخدمها.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
5527ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن خصيف, عن مـجاهد: {إنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّر} قال: خالصا لا يخالطه شيء من أمر الدنـيا.
5528ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو, عن عطاء, عن سعيد بن جبـير: {إِنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّر} قال: للبـيعة والكنـيسة.
5529ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحمانـي, قال: حدثنا شريك, عن سالـم, عن سعيد: {إنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّر} قال: مـحرّرا للعبـادة.
5530ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: {إذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّر}... الاَية. كانت امرأة عمران حرّرت لله ما فـي بطنها, وكانوا إنـما يحررون الذكور, وكان الـمـحرر إذا حرّر جعل فـي الكنـيسة لا يبرحها, يقوم علـيها ويكنسها.
5531ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {إِنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّر} قال: نذرت ولدها للكنـيسة.
5532ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {إذْ قَالَتِ امْرأةُ عِمْرَانَ رَبّ إنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّرا فَتَقَبّلْ مِنّـي إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ} قال: وذلك أن امرأة عمران حملت, فظنت أن ما فـي بطنها غلام, فوهبته لله لا يعمل فـي الدنـيا.
5533ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: كانت امرأة عمران حرّرت لله ما فـي بطنها. قال: وكانوا إنـما يحرّرون الذكور, فكان الـمـحرّر إذا حرر جعل فـي الكنـيسة لا يبرحها, يقوم علـيها ويكنسها.
5534ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك فـي قوله: {إنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّر} قال: جعلت ولدها لله وللذين يدرسون الكتاب ويتعلـمونه.
5535ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن القاسم بن أبـي بزة أنه أخبره عن عكرمة وأبـي بكر, عن عكرمة: أن امرأة عمران كانت عجوزا عاقرا تسمى حنة, وكانت لا تلد. فجعلت تغبط النساء لأولادهن, فقالت: اللهمّ إن علـي نذرا شكرا إن رزقتنـي ولدا أن أتصدّق به علـى بـيت الـمقدس, فـيكون من سَدَنته وخدامه. قال: وقوله: {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّر} إنها للـحرّة ابنة الـحرائر مـحرّرا للكنـيسة يخدمها.
5536ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد بن منصور, عن الـحسن فـي قوله: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ}... الاَية كلها, قال: نذرت ما فـي بطنها ثم سَيّبَتْها.
الآية : 36
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{فَلَمّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبّ إِنّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىَ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذّكَرُ كَالاُنْثَىَ وَإِنّي سَمّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيّتَهَا مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ }
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: {فَلَـمّا وَضَعَتْه} فلـما وضعت حنة النذيرة, ولذلك أنث. ولو كانت الهاء عائدة علـى «ما» التـي فـي قوله: {إنـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّر} لكان الكلام: فلـما وضعته قالت: ربّ إنـي وضعته أنثى. ومعنى قوله: {وَضَعْتُه} ولدتها, يقال منه: وضعت الـمرأة تضع وضعا. {قَالَتْ رَب إنـي وَضَعْتُها أُنْثَى} أي ولدت النذيرة أنثى¹ {وَاللّهُ أَعْلَـمُ بِـمَا وَضَعَتْ}.
واختلف القراء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة القراء: {وَضَعَتْ} خبرا من الله عزّ وجلّ عن نفسه أنه العالـم بـما وضعت من غير قـيـلها: {رَبّ إنـي وَضَعْتُها أُنْثَى}. وقرأ ذلك بعض الـمتقدمين: «وَاللّهُ أعْلَـمُ بِـمَا وَضَعْتُ» علـى وجه الـخبر بذلك عن أمّ مريـم أنها هي القائلة, والله أعلـم بـما ولدتُ منـي.
وأولـى القراءتـين بـالصواب ما نقلته الـحجة مستفـيضة فـيها قراءته بـينها لا يتدافعون صحتها, وذلك قراءة من قرأ: {وَاللّهُ أَعْلَـمُ بِـمَا وَضَعَتْ} ولا يعترض بـالشاذ عنها علـيها.
فتأويـل الكلام إذا: والله أعلـم من كل خـلقه بـما وضعت. ثم رجع جلّ ذكره إلـى الـخبر عن قولها, وأنها قالت اعتذارا إلـى ربها مـما كانت نذرت فـي حملها فحرّرته لـخدمة ربها: {وَلَـيْسَ الذّكَرُ كالأُنْثَى} لأن الذكر أقوى علـى الـخدمة وأقوم بها, وأن الأنثى لا تصلـح فـي بعض الأحوال لدخول القدْس والقـيام بخدمة الكنـيسة لـما يعتريها من الـحيض والنفـاس {وإنـي سَمّيْتُها مَرْيَـم}. كما:
5537ـ حدثنـي ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {فَلَـمّا وَضَعَتْها قَالَتْ رَبّ إنّـي وَضَعْتُها أُنْثَى وَاللّهُ أَعْلَـمُ بِـمَا وَضَعَتْ وَلَـيْسَ الذّكَرُ كالأُنْثَى} أي لـما جعلتها له مـحرّرة نذيرة.
5538ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي ابن إسحاق: {وَلَـيْسَ الذّكَرُ كالأُنْثَى} لأن الذكر هو أقوى علـى ذلك من الأنثى.
5539ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَلَـيْسَ الذّكَرُ كالأُنْثَى} كانت الـمرأة لا تستطيع أن يصنع بها ذلك, يعنـي أن تـحرّر للكنـيسة فتـجعل فـيها تقوم علـيها وتكنسها فلا تبرحها مـما يصيبها من الـحيض والأذى, فعند ذلك قالت: {وَلَـيْسَ الذّكَرُ كالأُنْثَى}.
5540ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: {قالتْ رَبّ إنّـي وَضَعْتُها أُنْثَى} وإنـما كانوا يحررون الغلـمان, قال: {وَلَـيْسَ الذّكَرُ كالأُنْثَى وَإِنْـي سَمّيْتُها مَرْيَـم}.
5541ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: كانت امرأة عمران حررت لله ما فـي بطنها, وكانت علـى رجاء أن يهب لها غلاما, لأن الـمرأة لا تستطيع ذلك ـ يعنـي القـيام علـى الكنـيسة لا تبرحها وتكنسها ـ لـما يصيبها من الأذى.
5542ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: أن امرأة عمران ظنت أن ما فـي بطنها غلام, فوهبته لله, فلـما وضعت إذا هي جارية, فقالت تعتذر إلـى الله: {رَبّ إنّـي وَضَعْتُها أُنْثَى... وَلَـيْسَ الذّكَرُ كالأُنْثَى} تقول: إنـما يحرّر الغلـمان. يقول الله: {وَاللّهْ أَعْلَـمُ بِـمَا وَضَعَتْ}, فقالت: {إِنّـي سَمَيْتُهَا مَرْيَـم}.
5543ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن القاسم بن أبـي بزة, أنه أخبره عن عكرمة, وأبـي بكر عن عكرمة: {فَلَـمّا وَضَعَتْها قَالَتْ رَبّ إِنّـي وَضَعْتُها أُنْثَى... وَلَـيْسَ الذّكَرُ كالأُنْثَى} يعنـي فـي الـمـحيض, ولا ينبغي لامرأة أن تكون مع الرجال¹ أمها تقول ذلك.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِنّـي أُعِيذُها بِكَ وَذُرّيّتَها مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيـمِ}.
تعنـي بقولها: {وَإِنّـي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيّتَه} وإنـي أجعل معاذها ومعاذ ذرّيتها من الشيطان الرجيـم بك. وأصل الـمعاذ: الـموئل والـملـجأ والـمعقل. فـاستـجاب الله لها فأعاذها الله وذرّيتها من الشيطان الرجيـم, فلـم يجعل له علـيها سبـيلاً.
5544ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عبدة بن سلـيـمان, عن مـحمد بن إسحاق, عن يزيد بن عبد الله بن قسيط, عن أبـي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ نَفْسِ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاّ وَالشّيْطَانُ يَنَالُ مِنْهُ تِلْكَ الطّعْنَةَ, وَبِهَا يَسْتَهِلّ الصّبِـيّ¹ إِلاّ مَا كَانَ مِنْ مَرْيَـمَ ابْنَةِ عِمْرَانَ فَـإِنّها لَـمّا وَضَعَتْها قَالَتْ: {رَبّ إِنّـي أُعِيذُها وَذُرّيّتَها مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيـمِ} فَضُرِبَ دُونَها حِجابٌ, فَطَعَنَ فِـيهِ».
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق, عن يزيد بن عبد الله بن قسيط, عن أبـي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلّ مَوْلُودٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ لَهُ طَعْنَةٌ مِنَ الشّيْطَانِ, وَبِها يَسْتَهِلّ الصّبِـيّ¹ إِلاّ مَا كَانَ مِنْ مَرْيَـمَ ابْنَةِ عِمْرَانَ وَوَلَدِها, فَـإِنّ أُمّها قَالَتْ حِينَ وَضَعَتْه: {إِنّـي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُريّتَها مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيـمِ} فَضُرِبَ دُونَهُما حِجابٌ فَطَعَنَ فِـي الـحِجابِ».
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق, عن يزيد بن عبد الله بن قسيط, عن أبـي هريرة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, بنـحوه.
5545ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا هارون بن الـمغيرة, عن عمرو, عن شعيب بن خالد, عن الزبـير, عن سعيد بن الـمسيب, قال: سمعت أبـا هريرة يقول: سمعت النبـيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «ما مِنْ بَنِـي آدَمَ مَوْلُودٌ يُولَدُ إِلاّ قَدْ مَسّهُ الشّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ, فَـيَسْتَهِلّ صَارِخا بِـمَسّهِ إيّاهُ¹ غَيْرَ مَرْيَـمَ وَابْنِها». فقال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتـم: {إِنّـي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيّتَهَا مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيـمِ}.
5546ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي ابن أبـي ذئب عن عجلان مولـى الـمشمعلّ, عن أبـي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلّ مَوْلُودٍ يُولَدُ مِنْ بَنِـي آدَمَ يَـمَسّهُ الشّيْطَانُ بـأُصْبُعِهِ, إِلاّ مَرْيَـمَ وَابْنَهَا».
حدثنـي أحمد بن عبد الرحمن بن وهب, قال: ثنـي عمي عبد الله بن وهب, قال: أخبرنـي عمرو بن الـحارث أن أبـا يونس سلـيـمان مولـى أبـي هريرة, حدثه عن أبـي هريرة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كُلّ بَنِـي آدَمَ يَـمَسّهُ الشّيْطَانُ يَوْمَ وَلَدتْهُ أُمّهُ, إِلاّ مَرْيَـمَ وَابْنَها».
حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي عمران أن أبـا يونس حدثه, عن أبـي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, مثله.
حدثنـي الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الزهري, عن ابن الـمسيب, عن أبـي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاّ يَـمَسّهُ الشّيْطَانُ فَـيَسْتَهِلّ صَارِخا مِنْ مَسّةِ الشّيْطَانِ إِلاّ مَرْيَـمَ وَابْنَها» ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتـم: {وَإِنّـي أُعِيذُها بِكَ وَذُريّتَها مِنَ الشّيْطَانِ الرجِيـمِ}.
5547ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحمانـي, قال: حدثنا قـيس, عن الأعمش, عن أبـي صالـح, عن أبـي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاّ وَقَدْ عَصَرَهُ الشّيْطَانُ عَصْرَةً أَوْ عَصْرَتَـيْنِ¹ إِلاّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ وَمَرْيَـمَ». ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنّـي أُعِيذُها بِكَ وَذُرّيّتَها مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيـمِ}.
5548ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا هارون بن الـمغيرة, عن عمرو بن أبـي قـيس, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: ما ولد مولود إلا وقد استهلّ, غير الـمسيح ابن مريـم لـم يسلط علـيه الشيطان ولـم يَنْهَزْه.
5549ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الـمنذر بن النعمان الأفطس, أنه سمع وهب بن منبه يقول: لـما ولد عيسى, أتت الشياطين إبلـيس, فقالوا: أصبحت الأصنام قد نكست رءوسها, فقال: هذا فـي حادث حدث! وقال: مكانكم! فطار حتـى جاء خافقـي الأرض, فلـم يجد شيئا, ثم جاء البحار فلـم يجد شيئا, ثم طار أيضا فوجد عيسى قد ولد عند مذود حمار, وإذا الـملائكة قد حفت حوله¹ فرجع إلـيهم فقال: إن نبـيا قد ولد البـارحة ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا أنا بحضرتها إلا هذه! فـأْيِسُوا أن تعبد الأصنام بعد هذه اللـيـلة, ولكن ائتوا بنـي آدم من قبل الـخفة والعجلة.
5550ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَإِنّـي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيّتَها مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيـمِ} وذكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «كُلّ بَنِـي آدَمَ طَعَنَ الشّيْطَانُ فِـي جَنْبِهِ إِلاّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ وَأُمّهُ, جُعِلَ بَـيْنَهُما وَبَـيْنَهُ حجابٌ, فأصَابَتِ الطّعْنَةُ الـحِجابَ وَلَـمْ يَنْفُذْ إِلَـيْهِمَا شَيْءً» وذكر لنا أنهما كانا لا يصيبـان الذنوب كما يصيبها سائر بنـي آدم. وذكر لنا أن عيسى كان يـمشي علـى البحر كما يـمشي علـى البرّ مـما أعطاه الله تعالـى من الـيقـين والإخلاص.
5551ـ حدثنـي الـمثنى, قال: ثنـي إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {وَإِنّـي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيّتَها مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيـمِ} قال: إن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: «كُلّ آدَمِيّ طَعَنَ الشّيْطَانُ فِـي جَنْبِهِ غَيْرَ عِيسَى وأُمّهِ, كانا لا يُصِيبـانِ الذّنُوبَ كَما يُصَيبُها بَنُو آدَمَ». قال: وقال عيسى صلى الله عليه وسلم فـيـما يثنـي علـى ربه: «وأعاذنـي وأمي من الشيطان الرجيـم فلـم يكن له علـينا سبـيـل».
5552ـ حدثنا الربـيع بن سلـيـمان, قال: حدثنا شعيب بن اللـيث, قال: حدثنا اللـيث, عن جعفر بن ربـيعة, عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلّ بَنِـي آدَمَ يَطْعُنُ الشّيْطَانُ فِـي جَنْبِهِ حِينَ تَلِدُهُ أُمّهُ, إِلاّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ ذَهَبَ يَطْعُنُ فَطَعَنَ فِـي الـحِجابِ».
5553ـ حدثنا الربـيع, قال: حدثنا شعيب, قال: أخبرنا اللـيث, عن جعفر بن ربـيعة, عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال: قال أبو هريرة: أرأيت هذه الصرخة التـي يصرخها الصبـيّ حين تلده أمه؟ فإنها منها.
5554ـ حدثنـي أحمد بن الفرج, قال: حدثنا بقـية بن الولـيد, قال: حدثنا الزبـيدي, عن الزهري, عن أبـي سلـمة, عن أبـي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِنْ بَنِـي آدَمَ مَوْلُودٌ إِلاّ يَـمَسّهُ الشّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ يَسْتَهِلّ صَارِخا».
الآية : 37
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{فَتَقَبّلَهَا رَبّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا كُلّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَمَرْيَمُ أَنّىَ لَكِ هَـَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
يعنـي بذلك جل ثناؤه: تقبل مريـم من أمها حنة بتـحريرها إياها للكنـيسة وخدمتها, وخدمة ربها بقبول حسن, والقبول: مصدر من قبلها ربها. فأخرج الـمصدر علـى غير لفظ الفعل, ولو كان علـى لفظه لكان: فتقبلها ربها تقبلاً حسنا, وقد تفعل العرب ذلك كثـيرا أن يأتوا بـالـمصادر علـى أصول الأفعال وإن اختلفت ألفـاظها فـي الأفعال بـالزيادة, وذلك كقولهم: تكلـم فلان كلاما, ولو أخرج الـمصدر علـى الفعل لقـيـل: تكلـم فلان تكلـما, ومنه قوله: {وأنْبَتَها نَبـاتا حَسَن} ولـم يقل: إنبـاتا حسنا. وذكر عن أبـي عمرو بن العلاء أنه قال: لـم نسمع العرب تضمّ القاف فـي قبول, وكان القـياس الضمّ لأنه مصدر مثل الدخول والـخروج, قال: ولـم أسمع بحرف آخر فـي كلام العرب يشبهه.
5555ـ حدثت بذلك عن أبـي عبـيد, قال: أخبرنـي الـيزيدي عن أبـي عمرو.
وأما قوله: {وأنْبَتَها نَبـاتا حَسَن} فإن معناه: وأنبتها ربها فـي غذائه ورزقه نبـاتا حسنا حتـى تـمت فكملت امرأة بـالغة تامة. كما:
5556ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال الله عزّ وجلّ: {فَتَقَبّلَهَا رَبّهَا بِقَبولٍ حَسَنٍ} قال: تقبل من أمها ما أرادت بها للكنـيسة وآجرها فـيها {وَأَنْبَتَهَ}, قال: نبتت فـي غذاء الله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَكَفّلَهَا زَكَرِيّ}.
اختلفت القراء فـي قراءة قوله: {وَكَفّلَهَ}, فقرأته عامة قراء أهل الـحجاز والـمدينة والبصرة: «وكَفَلَها» مخففة الفـاء بـمعنى: ضمها زكريا إلـيه, اعتبـارا بقول الله عزّ وجلّ: {يُـلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَـم}. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفـيـين: {وَكَفّلَها زَكَرِيّ} بـمعنى: وكفّلها الله زكريا.
وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك عندي قراءة من قرأ: {وكَفّلَه} مشددة الفـاء بـمعنى: وكفّلها الله زكريا, بـمعنى: وضمها الله إلـيه¹ لأن زكريا أيضا ضمها إلـيها بإيجاب الله له ضمها إلـيه بـالقرعة التـي أخرجها الله له, والاَية التـي أظهرها لـخصومه فـيها, فجعله بها أولـى منهم, إذ قرع فـيها من شاحّه فـيها. وذلك أنه بلغنا أن زكريا وخصومه فـي مريـم إذ تنازعوا فـيها أيهم تكون عنده, تساهموا بقداحهم فرموا بها فـي نهر الأدرن, فقال بعض أهل العلـم: رتَب قِدْحُ زكريا, فقام فلـم يجر به الـماء وجرى بقداح الاَخرين الـماء, فجعل الله ذلك لزكريا أنه أحقّ الـمتنازعين فـيها. وقال آخرون: بل صعد قدح زكريا فـي النهر, وانـحدرت قداح الاَخرين مع جرية الـماء وذهبت, فكان ذلك له علـما من الله فـي أنه أولـى القوم بها. وأيّ الأمرين كان من ذلك فلا شكّ أن ذلك كان قضاء من الله بها لزكريا علـى خصومه بأنه أولاهم بها, وإذا كان ذلك كذلك, فإنـما ضمها زكريا إلـى نفسه بضم الله إياها إلـيه بقضائه له بها علـى خصومه عند تشاحهم فـيها واختصامهم فـي أولاهم بها.
وإذا كان ذلك كذلك كان بـيّنا أن أولـى القراءتـين بـالصواب ما اخترنا من تشديد «كفلّها». وأما ما اعتلّ به القارئون ذلك بتـخفـيف الفـاء من قول الله: {أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَـم} وأن موجب صحة اختـيارهم التـخفـيف فـي قوله: {وَكَفّلَهَ} فحجة دالة علـى ضعف احتـيال الـمـحتـجّ بها. وذلك أنه غير مـمتنع ذو عقل من أن يقول قائل: كفل فلان فلانا فكفله فلان, فكذلك القول فـي ذلك: ألقـى القوم أقلامهم أيهم يكفل مريـم, بتكفـيـل الله إياه بقضائه الذي يقضي بـينهم فـيها عند إلقائهم الأقلام.
وكذلك اختلفت القراء فـي قراءة «زكريا», فقرأته عامة قراء الـمدينة بـالـمدّ, وقرأته عامة قراء الكوفة بـالقصر. وهما لغتان معروفتان وقراءتان مستفـيضتان فـي قراءة الـمسلـمين, ولـيس فـي القراءة بإحداهما خلاف لـمعنى القراءة الأخرى, فبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب.
غير أن الصواب عندنا إذا مدّ «زكريا», أن ينصب بغير تنوين, لأنه اسم من أسماء العجم لا يُجْرَى, ولأن قراءتنا فـي «كفّلها» بـالتشديد وتثقـيـل الفـاء, فزكرياء منصوب بـالفعل الواقع علـيه. وفـي زكريا لغة ثالثة لا تـجوز القراءة بها لـخلافها مصاحف الـمسلـمين وهو «زكريّ» بحذف الـمدّة والـياء الساكنة, تشبهه العرب بـالـمنسوب من الأسماء فتنوّنه, وتـجريه فـي أنواع الإعراب مـجاري ياء النسبة.
فتأويـل الكلام: وضمها الله إلـى زكريا, من قول الشاعر:
فَـهُـوَ لِـضُـلاّلِ الـهَـوَامِ كافِـلُ
يراد أنه لـما ضلّ من متفرّق النعم ومنتشره, ضامّ إلـى نفسه وجامعٌ. وقد رُوي:
فَـهُـوَ لِـضُـلاّلِ الـهَـوَافِـي كافِـلُ
بـمعنى أنه لـما ندّ فهرب من النعم ضامّ, من قولهم: هفـا الظلـيـم: إذا أسرع الطيران, يقال منه للرجل: ما لك تكفل كل ضالة؟ يعنـي به: تضمها إلـيك وتأخذها.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5557ـ حدثنـي عبد الرحمن بن الأسود الطفـاوي, قال: حدثنا مـحمد بن ربـيعة, عن النضر بن عربـي, عن عكرمة فـي قوله: {إِذْ يُـلْقُونَ أقْلاَمَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَـمَ} قال: ألقوا أقلامهم فجرت بها الـجِرْيَة إلا قلـم زكريا صاعدا, فكفلها زكريا.
5558ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: {وكَفّلَهَا زَكَرِيّ} قال: ضمها إلـيه. قال: ألقوا أقلامهم, يقول عصيهم. قال: فألقوها تلقاء جرية الـماء, فـاستقبلت عصا زكريا جرية الـماء فقرعهم.
5559ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال الله عزّ وجلّ: {فَتَقَبَلّهَا رَبّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وأنْبَتَهَا نَبـاتا حَسَن} فـانطلقت بها أمها فـي خِرَقها ـ يعنـي أمّ مريـم ـ بـمريـم حين ولدتها إلـى الـمـحراب ـ وقال بعضهم: انطلقت حين بلغت إلـى الـمـحراب ـ وكان الذين يكتبون التوراة إذا جاءوا إلـيهم بإنسان يجربونه اقترعوا علـيه أيهم يأخذه فـيعلـمه, وكان زكريا أفضلهم يومئذٍ وكان بـينهم, وكانت خالة مريـم تـحته. فلـما أتوا بها اقترعوا علـيها, وقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها تـحتـي خالتها, فأبوا. فخرجوا إلـى نهر الأردن, فألقوا أقلامهم التـي يكتبون بها, أيهم يقوم قلـمه فـيكفلها. فجرت الأقلام وقام قلـم زكريا علـى قُرْنَته كأنه فـي طين, فأخذ الـجارية¹ وذلك قول الله عزّ وجلّ: {وَكَفَلَهَا زَكَرِيّ} فجعلها زكريا معه فـي بـيته, وهو الـمـحراب.
5560ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَكَفّلَهَا زَكَرِيّ} يقول: ضمها إلـيه.
5561ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {وَكَفّلَهَا زَكَرِيّ} قال: سهمهم بقلـمه.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, نـحوه.
5562ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن قتادة, قال: كانت مريـم ابنة سيدهم وإمامهم. قال: فتشاحّ علـيها أحبـارهم, فـاقترعوا فـيها بسهامهم أيهم يكفلها. قال قتادة: وكان زكريا زوج أختها فكفلها, وكانت عنده وحضنها.
5563ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن القاسم بن أبـي بزة أنه أخبره, عن عكرمة, وأبـي بكر عن عكرمة, قال: ثم خرجتْ بها ـ يعنـي أمّ مريـم بـمريـم ـ فـي خِرَقها تـحملها إلـى بتـي الكاهن بن هارون أخي موسى بن عمران, قال: وهم يومئذٍ يـلون من بـيت الـمقدس ما يـلـي الـحجبة من الكعبة, فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فإنـي حررتها وهي ابنتـي, ولا يدخـل الكنـيسة حائض, وأنا لا أردّها إلـى بـيتـي! فقالوا: هذه ابنة إمامنا ـ وكان عمران يؤمهم فـي الصلاة ـ وصاحب قربـانهم. فقال زكريا: ادفعوها إلـيّ فإن خالتها عندي! قالوا: لا تطيب أنفسنا هي ابنة إمامنا. فذلك حين اقترعوا فـاقترعوا بأقلامهم علـيها, بـالأقلام التـي يكتبون بها التوراة, فقرعهم زكريا فكفلها.
5564ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي يعلـى بن مسلـم, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: جعلها زكريا معه فـي مـحرابه, قال الله عزّ وجلّ: {وَكَفّلَهَا زَكَرِيّ}. قال حجاج: قال ابن جريج: الكاهن فـي كلامهم: العالـم.
5565ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَكَفّلَهَا زَكَرِيّ} بعد أبـيها وأمها, يذكرها بـالـيتـم. ثم قصّ خبرها وخبر زكريا.
5566ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا الـحمانـي, قال: حدثنا شريك, عن عطاء, عن سعيد بن جبـير قوله: {وَكَفّلَهَا زَكَرِيّ} قال: كانت عنده.
حدثنـي علـيّ بن سهل, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن يعلـى بن مسلـم, عن سعيد بن جبـير قوله: {وَكَفّلَهَا زَكَرِيّ} قال: جعلها زكريا معه فـي مـحرابه.
5567ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد, عن الـحسن فـي قوله: {فَتَقَبَلّهَا رَبّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وأنْبَتَهَا نَبـاتا حَسَن} وتقارعها القوم, فقرع زكريا, فكفلها زكريا.
وقال آخرون: بل كان زكريا بعد ولادة حنة ابنتها مريـم كفلها بغير اقتراعٍ ولا استهامٍ علـيها ولا منازعة أحد إياه فـيها. وإنـما كفلها لأن أمها ماتت بعد موت أبـيها وهي طفلة, وعند زكريا خالتها إيشاع ابنة فـاقوذ¹ وقد قـيـل: إن اسم أم يحيـى خالة عيسى: أشيع.
5568ـ حدثنا بذلك القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي وهب بن سلـيـمان, عن شعيب الـجبئي أن اسم أمّ يحيـى: أشيع.
فضمها إلـى خالتها أمّ يحيـى, فكانت إلـيهم ومعهم, حتـى إذا بلغت أدخـلوها الكنـيسة لنذر أمها التـي نذرت فـيها. قالوا: والاقتراع فـيها بـالأقلام, إنـما كان بعد ذلك بـمدة طويـلة لشدة إصابتهم ضعف زكريا عن حمل مؤنتها, فتدافعوا حمل مؤنتها, لا رغبة منهم, ولا تنافسا علـيها وعلـى احتـمال مؤنتها. وسنذكر قصتها علـى قول من قال ذلك إذا بلغنا إلـيها إن شاء الله تعالـى.
5569ـ حدثنا بذلك ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق.
فعلـى هذا التأويـل تصحّ قراءة من قرأ: «وَكَفَلَها زَكَرِيّا» بتـخفـيف الفـاء لو صحّ التأويـل. غير أن القول متظاهر من أهل التأويـل بـالقول الأول إن استهام القوم فـيها كان قبل كفـالة زكريا إياها, وأن زكريا إنـما كفلها بإخراج سهمه منها فـالـجا علـى سهام خصومه فـيها, فلذلك كانت قراءته بـالتشديد عندنا أولـى من قراءته بـالتـخفـيف.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كُلّـمَا دَخَـلَ عَلَـيْهَا زَكَرِيّا الـمِـحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْق}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: أن زكريا كان كلـما دخـل علـيها الـمـحراب بعد إدخاله إياها الـمـحراب, وجد عندها رزقا من الله لغذائها. فقـيـل: إن ذلك الرزق الذي كان يجده زكريا عندها فـاكهة الشتاء فـي الصيف, وفـاكهة الصيف فـي الشتاء. ذكر من قال ذلك:
5570ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا الـحسن بن عطية, عن شريك, عن عطاء, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: {وَجَدَ عِنْدَها رِزْق} قال: وجد عندها عنبـا فـي مِكْتَلٍ فـي غير حينه.
5571ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو, عن عطاء, عن سعيد فـي قوله: {كُلّـمَا دَخَـلَ عَلَـيْهَا زَكَرِيّا الـمِـحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْق} قال: العنب فـي غير حينه.
5572ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا مغيرة, عن إبراهيـم فـي قوله: {وَجَدَ عِنْدَها رِزْق} قال: فـاكهة فـي غير حينها.
5573ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا أبو إسحاق الكوفـي, عن الضحاك: أنه كان يجد عندها فـاكهة الصيف فـي الشتاء وفـاكهة الشتاء فـي الصيف, يعنـي فـي قوله: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْق}.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سلـمة بن نبـيط, عن الضحاك, مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو, قال: أخبرنا هشيـم, عن بعض أشياخه, عن الضحاك, مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: أخبرنا هشيـم, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك, مثله.
5574ـ حدثنا يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا من سمع الـحكم بن عتـيبة يحدّث, عن مـجاهد, قال: كان يجد عندها العنب فـي غير حينه.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْق} قال: عنبـا وجده زكريا عند مريـم فـي غير زمانه.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, نـحوه.
5575ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, قال: حدثنا النضر بن عربـي, عن مـجاهد فـي قوله: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْق} قال: فـاكهة الصيف فـي الشتاء, وفـاكهة الشتاء فـي الصيف.
5576ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فـي قوله: {كُلّـما دَخَـلَ عَلَـيْهَا زَكَرِيّا الـمِـحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْق} قال: كنا نـحدّث أنها كانت تؤتـى بفـاكهة الشتاء فـي الصيف, وفـاكهة الصيف فـي الشتاء.
5577ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: {وَجَدَ عِنْدَها رِزْق} قال: وجد عندها ثمرة فـي غير زمانها.
5578ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: جعل زكريا دونها علـيها سبعة أبواب, فكان يدخـلها علـيها, فـيجد عندها فـاكهة الشتاء فـي الصيف, وفـاكهة الصيف فـي الشتاء.
5579ـ حدثنـي موسى بن عبد الرحمن, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: جعلها زكريا معه فـي بـيت وهو الـمـحراب, فكان يدخـل علـيها فـي الشتاء, فـيجد عندها فـاكهة الصيف, ويدخـل فـي الصيف فـيجد عندها فـاكهة الشتاء.
حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْق} قال: كان يجد عندها فـاكهة الصيف فـي الشتاء.
5580ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي يعلـى بن مسلـم, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: {كُلّـما دَخَـلَ عَلَـيْهَا زَكَرِيّا الـمِـحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْق} قال: وجد عندها ثمار الـجنة, فـاكهة الصيف فـي الشتاء وفـاكهة الشتاء فـي الصيف.
5581ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي بعض أهل العلـم: أن زكريا كان يجد عندها ثمرة الشتاء فـي الصيف, وثمرة الصيف فـي الشتاء.
5582ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد, عن الـحسن, قال: كان زكريا إذا دخـل علـيها ـ يعنـي علـى مريـم ـ الـمـحراب وجد عندها رزقا من السماء من الله, لـيس من عند الناس. وقالوا: لو أن زكريا كان يعلـم أن ذلك الرزق من عنده لـم يسألها عنه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن زكريا كان إذا دخـل إلـيها الـمـحراب وجد عندها من الرزق فضلاً عما كان يأتـيها به الذي كان يـمونها فـي تلك الأيام. ذكر من قال ذلك:
5583ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق, قال: كفلها بعد هلاك أمها, فضمها إلـى خالتها أم يحيـى, حتـى إذا بلغت, أدخولها الكنـيسة لنذر أمها الذي نذرت فـيها, فجعلت تنبت وتزيد, قال: ثم أصابت بنـي إسرائيـل أزمة, وهي علـى ذلك من حالها حتـى ضعف زكريا عن حملها, فخرج علـى بنـي إسرائيـل, فقال: يا بنـي إسرائيـل أتعلـمون, والله لقد ضعفت عن حمل ابنة عمران! فقالوا: ونـحن لقد جهدنا وأصابنا من هذه السنة ما أصابكم. فتدافعوها بـينهم, وهم لا يرون لهم من حملها بدّا. حتـى تقارعوا بـالأقلام, فخرج السهم بحملها علـى رجل من بنـي إسرائيـل نـجار يقال له جريج, قال: فعرفت مريـم فـي وجهه شدة مؤنة ذلك علـيه, فكانت تقول له: يا جريج أحسن بـالله الظنّ, فإن الله سيرزقنا! فجعل جريج يرزق بـمكانها, فـيأتـيها كل يوم من كسبه بـما يصلـحها, فإذا أدخـلها علـيها وهي فـي الكنـيسة أنـماه الله وكثره, فـيدخـل علـيها زكريا فـيرى عندها فضلاً من الرزق ولـيس بقدر ما يأتـيها به جريج, فـيقول: يا مريـم أنى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله, إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
وأما الـمـحراب: فهو مقدم كل مـجلس ومصلـى, وهو سيد الـمـجالس وأشرفها وأكرمها, وكذلك هو من الـمساجد, ومنه قول عديّ بن زيد:
كَدُمَى العاجِ فـي الـمَـحارِيب أو كالْــبَـيْضِ فـي الروضِ زهره مُسْتنـيرُ
والـمـحاريب جمع مـحراب, وقد يجمع علـى مـحارب.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ يَا مَرْيَـمُ أَنّى لَكَ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: قال زكريا يا مريـم: أنى لك هذا؟ من أيّ وجه لك هذا الذي أرى عندك من الرزق, قالت مريـم مـجيبة له: هو من عند الله, تعنـي أن الله هو الذي رزقها ذلك فساقه إلـيها وأعطاها, وإنـما كان زكريا يقول ذلك لها لأنه كان فـيـما ذكر لنا يغلق علـيها سبعة أبواب, ويخرج ثم يدخـل علـيها, فـيجد عندها فـاكهة الشتاء فـي الصيف, وفـاكهة الصيف فـي الشتاء, فكان يعجب مـما يرى من ذلك, ويقول لها تعجبـا مـما يرى: أنى لك هذا؟ فتقول: من عند الله.
5584ـ حدثنـي بذلك الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع.
5585ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي بعض أهل العلـم, فذكر نـحوه.
5586ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: {يا مَرْيَـمُ أنّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ} قال: فإنه وجد عندها الفـاكهة الغضة حين لا توجد الفـاكهة عند أحد, فكان زكريا يقول: يا مريـم أنى لك هذا؟
وأما قوله: {إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِساب} فخبر من الله أنه يسوق إلـى من يشاء من خـلقه رزقه بغير إحصاء ولا عدد يحاسب علـيه عبده, لأنه جل ثناؤه لا ينقص سوقه ذلك إلـيه, كذلك خزائنه, ولا يزيد إعطاؤه إياه, ومـحاسبته علـيه فـي ملكه, وفـيـما لديه شيئا, ولا يعزب عنه علـم ما يرزقه, وإنـما يحاسب من يعطي ما يعطيه من يخشى النقصان من ملكه, بخروج ما خرج من عنده بغير حساب معروف ومن كان جاهلاً بـما يعطى علـى غير حساب