تفسير الطبري تفسير الصفحة 56 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 56
057
055
 الآية : 46
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِحِينَ }
أما قوله: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ} فإن معناه: أن الله يبشرك بكلـمة منه اسمه الـمسيح عيسى ابن مريـم, وجيها عند الله, ومكلـما الناس فـي الـمهد. فـ«يكلّـم» وإن كان مرفوعا, لأنه فـي صورة «يَفْعَلُ» بـالسلامة من العوامل فـيه, فإنه فـي موضع نصب, وهو نظير قول الشاعر:
بِتّ أُعَشّيها بِعَضْبٍ بـاتِرِيَقْصِدُ فـي أسْوُقِها وَجائِرِ
وأما الـمهد: فإنه يعنـي به مضجع الصبـيّ فـي رضاعه. كما:
5690ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: {وَيُكَلّـمُ النّاسِ فِـي الـمَهْدِ} قال: مضجع الصبـيّ فـي رضاعه.
وأما قوله: {وَكَهْل} فإندده ومـحتَنِكا فوق الغلومة ودون الشيخوخة, يقال منه: رجل كهل, وامرأة كهلة, كما قال الراجز:
وَلا أَعُودُ بَعْدَهَا كَرِيّاأُمَارِسُ الكَهْلَةَ وَالصّبِـيّا
وإنـما عنى جلّ ثناؤه بقوله: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وَكَهْل}: ويكلـم الناس طفلاً فـي الـمهد, دلالة علـى براءة أمه مـما قذفها به الـمفترون علـيها, وحجة له علـى نبوّته, وبـالغا كبـيرا بعد احتناكه بوحي الله الذي يوحيه إلـيه, وأمره ونهيه, وما تقوّل علـيه من كتابه. وإنـما أخبر الله عزّ وجلّ عبـاده بذلك من أمر الـمسيح, وأنه كذلك كان, وإن كان الغالب من أمر الناس أنهم يتكلـمون كهولاً وشيوخا, احتـجاجا به علـى القائلـين فـيه من أهل الكفر بـالله من النصارى بـالبـاطل, وأنه كان فـي معاناة أشياء مولودا طفلاً, ثم كهلاً يتقلّب فـي الأحداث, ويتغير بـمرور الأزمنة علـيه والأيام, من صغر إلـى كبر, ومن حال إلـى حال, وأنه لو كان كما قال الـملـحدون فـيه, كان ذلك غير جائز علـيه, فكذب بذلك ما قاله الوفد من أهل نـجران, الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فـيه, واحتـجّ به علـيهم لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم, وأعلـمهم أنه كان كسائر بنـي آدم, إلا ما خصه الله به من الكرامة التـي أبـانه بها منهم. كما:
5691ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِـحِينَ} يخبرهم بحالاته التـي يتقلب بها فـي عمره كتقلب بنـي آدم فـي أعمارهم صغارا وكبـارا, إلا أن الله خصه بـالكلام فـي مهده آية لنبوّته, وتعريفـا للعبـاد مواقع قدرته.
5692ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِـحِينَ} يقول: يكلـمهم صغيرا وكبـيرا.
5693ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وَكَهْل} قال: يكلـمهم صغيرا وكبـيرا.
5694ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِـحِينَ} قال: الكهل: الـحلـيـم.
5695ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: كلـمهم صغيرا وكبـيرا وكهلاً. وقال ابن جريج, وقال مـجاهد: الكهل: الـحلـيـم.
5696ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد, عن الـحسن فـي قوله: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وَكَهْل} قال: كلـمهم فـي الـمَهْدِ صَبِـيّا, وكلـمهم كبـيرا.
وقال آخرون: معنى قوله: {وَكَهْل}: أنه سيكلـمهم إذا ظهر. ذكر من قال ذلك:
5697ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سمعته ـ يعنـي ابن زيد ـ يقول فـي قوله: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وَكَهْل} قال: قد كلـمهم عيسى فـي الـمهد, وسيكلـمهم إذا قتل الدجال, وهو يومئذٍ كهل.
ونصب كهلاً عطفـا علـى موضع: ويكلـم الناس. وأما قوله: {وَمِنَ الصّالِـحِينَ} فإنه يعنـي: من عدادهم وأولـيائهم لأن أهل الصلاح بعضهم من بعض فـي الدين والفضل.
الآية : 47
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{قَالَتْ رَبّ أَنّىَ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: قالت مريـم ـ إذ قالت لها الـملائكة: إن الله يبشرك بكلـمة منه ـ: ربّ أنى يكون لـي ولد: من أي وجه يكون لـي ولد؟ أمن قِبَل زوج أتزوّجه وبعل أنكحه؟ أو تبتدىء فـي خـلقه من غير بعل ولا فحل, ومن غير أن يـمسنـي بشر؟ فقال الله لها: {كَذَلِك اللّهُ يَخْـلُقُ ما يَشاءُ} يعنـي: هكذا يخـلق الله منك ولدا لك من غير أن يـمسك بشر, فـيجعله آية للناس وعبرة, فإنه يخـلق ما يشاء, ويصنع ما يريد, فـيعطي الولد من شاء من غير فحل ومن فحل, ويحرم ذلك من يشاء من النساء وإن كانت ذات بعل, لأنه لا يتعذّر علـيه خـلق شيء أراد خـلقه, إنـما هو أن يأمر إذا أراد شيئا ما أراد, فـيقول له كن فـيكون ما شاء مـما يشاء, وكيف شاء. كما:
5698ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {قَالَتْ رَبّ أنّى يَكُونُ لِـي وَلَدٌ وَلَـمْ يَـمْسَسْنِـي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْـلُقُ مَا يَشَاءُ}: يصنع ما أراد ويخـلق ما يشاء من بشر أو غير بشر: أي إذا قضى أمرا فإنـما يقول له كن فـيكون, مـما يشاء, وكيف يشاء, فـيكون ما أراد.
الآية : 48
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ }
اختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قراء الـحجاز والـمدينة وبعض قراء الكوفـيـين: {وَيُعَلّـمُهُ} بـالـياء ردّا علـى قوله: {كَذَلِكِ اللّهُ يَخْـلُقُ مَا يَشاءُ وَيُعَلّـمُهُ الكِتابَ} فألـحقوا الـخبر فـي قوله: {وَيُعَلّـمُهُ}, بنظير الـخبر فـي قوله: {يَخْـلُقُ مَا يَشاءُ}, وقوله: {فَـإِنّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ}. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفـيـين وبعض البصريـين: «وَنُعَلّـمُهُ» بـالنون عطفـا به علـى قوله: {نُوحِيهِ إِلَـيْكَ} كأنه قال: ذلك من أنبـاء الغيب نوحيه إلـيك, ونعلـمه الكتاب. وقالوا: ما بعد «نوحيه» فـي صلته, إلـى قوله: «كن فـيكون», ثم عطف بقوله: «ونعلـمه علـيه».
والصواب من القول فـي ذلك عندنا, أنهما قراءتان مختلفتان غير مختلفتـي الـمعانـي, فبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب الصواب فـي ذلك لاتفـاق معنى القراءتـين فـي أنه خبر عن الله بأنه يعلـم عيسى الكتاب, وما ذكر أنه يعلـمه, وهذا ابتداء خبر من الله عزّ وجلّ لـمريـم ما هو فـاعل بـالولد الذي بشرها به من الكرامة, ورفعة الـمنزلة والفضيـلة, فقال: كذلك الله يخـلق منك ولدا, من غير فحل ولا بعل, فـيعلـمه الكتاب, وهو الـخط الذي يخطه بـيده, والـحكمة: وهي السنة التـي نوحيها إلـيه فـي غير كتاب, والتوراة: وهي التوراة التـي أنزلت علـى موسى, كانت فـيهم من عهد موسى, والإنـجيـل: إنـجيـل عيسى, ولـم يكن قبله, ولكن الله أخبر مريـم قبل خـلق عيسى أنه موحيه إلـيه, وإنـما أخبرها بذلك, فسماه لها, لأنها قد كانت علـمت فـيـما نزل من الكتب أن الله بـاعث نبـيا يوحى إلـيه كتابـا اسمه الإنـجيـل, فأخبرها الله عزّ وجلّ أن ذلك النبـيّ صلى الله عليه وسلم الذي سمعت بصفته الذي وعد أنبـياءه من قبل أنه منزل علـيه الكتاب الذي يسمى إنـجيلاً, هو الولد الذي وهبه لها, وبشرها به.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك, قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5699ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: «وَنُعَلّـمُهُ الكِتابَ» قال: بـيده.
5700ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: «وَنُعَلّـمُهُ الكِتابَ والـحِكْمَةَ» قال: الـحكمة: السنة.
5701ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر¹ عن أبـيه, عن قتادة, فـي قوله: «وَنُعَلّـمُهُ الكِتابَ وَالـحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْـجِيـلَ» قال: الـحكمة: السنة, {وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْـجِيـل} قال: كان عيسى يقرأ التوراة والإنـجيـل.
5702ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: «وَنُعَلّـمُهُ الكِتابَ وَالـحِكْمَةَ» قال: الـحكمة: السنة.
5703ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير, قال: أخبرها ـ يعنـي: أخبر الله مريـم ما يريد به ـ فقال: «وَنُعَلّـمُهُ الكِتابَ وَالـحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ» التـي كانت فـيهم من عهد موسى {وَالإِنْـجِيـلَ} كتابـا آخر أحدثه إلـيه, لـم يكن عندهم علـمه إلا ذكره أنه كائن من الأنبـياء قبله.
الآية : 49
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَرَسُولاً إِلَىَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ أَنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رّبّكُمْ أَنِيَ أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَىَ بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّكُمْ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ }
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وَرَسُول}: ونـجعله رسولاً إلـى بنـي إسرائيـل, فترك ذكر «ونـجعله», لدلالة الكلام علـيه, كما قال الشاعر:
ورأيتِ زَوْجَكِ فـي الوَغَىمُتَقَلّدا سَيْفـا وَرُمْـحا
وقوله: {أنّـي قَدْ جِئْتُكُمْ بآيَةٍ مِنْ رَبّكُمْ} بـمعنى: ونـجعله رسولاً إلـى بنـي إسرائيـل بأنه نبـيّ وبشير ونذير¹ وحجتـي عن صدقـي علـى ذلك, أنـي قد جئتكم بآية من ربكم, يعنـي بعلامة من ربكم تـحقق قولـي وتصدّق خبري, أنـي رسول من ربكم إلـيكم. كما:
5704ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَرَسُولاً إلـى بَنِـي إِسْرَائِيـلَ أنّـي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبْكُمْ} أي تـحقق بها نبوّتـي, وأنـي رسول منه إلـيكم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أنّـي أخْـلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأنْفُخُ فِـيهِ فَـيَكُونُ طَيْرا بِإذْنِ اللّهِ}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ورسولاً إلـى بنـي إسرائيـل أنـي قد جئتكم بآية من ربكم. ثم بـين عن الاَية ما هي, فقال: {أنّـي أخْـلُقُ لَكُمْ}. فتأويـل الكلام: ورسولاً إلـى بنـي إسرائيـل بأنـي قد جئتكم بآية من ربكم بأن أخـلق لكم من الطين كهيئة الطير. والطير جمع طائر.
واختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأه بعض أهل الـحجاز: «كهيئة الطائر فأنفخ فـيه فـيكون طائرا», علـى التوحيد. وقرأه آخرون: {كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَـأَنْفُخُ فِـيهِ فَـيَكُونُ طَيْر} علـى الـجماع كلـيهما.
وأعجب القراءات إلـيّ فـي ذلك قراءة من قرأ: {كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَـأَنْفُخُ فِـيهِ فَـيَكُونُ طَيْر}, علـى الـجماع فـيهما جميعا, لأن ذلك كان من صفة عيسى أنه يفعل ذلك بإذن الله, وأنه موفق لـخط الـمصحف, واتبـاع خط الـمصحف مع صحة الـمعنى, واستفـاضة القراءة به أعجب إلـيّ من خلاف الـمصحف.
وكان خـلق عيسى: ما كان يخـلق من الطير. كما:
5705ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنا ابن إسحاق: أن عيسى صلوات الله علـيه, جلس يوما مع غلـمان من الكتاب, فأخذ طينا, ثم قال: أجعل لكم من هذا الطين طائرا؟ قالوا: وتستطيع ذلك؟ قال: نعم بإذن ربـي! ثم هيأه حتـى إذا جعله فـي هيئة الطائر نفخ فـيه, ثم قال: كن طائرا بإذن الله! فخرج يطير بـين كفـيه, فخرج الغلـمان بذلك من أمره فذكروه لـمعلـمهم, فأفشوه فـي الناس. وترعرع. فهمّت به بنو إسرائيـل, فلـما خافت أمه علـيه حملته علـى حُمَيّر لها ثم خرجت به هاربة.
وذكر أنه لـما أراد أن يخـلق الطير من الطين سألهم: أيّ الطير أشدّ خـلقا؟ فقـيـل له الـخفـاش. كما:
5706ـ حدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قوله: {أنّـي أخْـلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ} قال: أيّ الطير أشدّ خـلقا؟ قالوا: الـخفـاش إنـما هو لـحم, قال ففعل.
فإن قال قائل: وكيف قـيـل: {فأنْفُخُ فِـيهِ} وقد قـيـل: {أنّـي أخْـلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ}؟ قـيـل: لأن معنى الكلام: فأنفخ فـي الطير. ولو كان ذلك: فأنفخ فـيها, كان صحيحا جائزا, كما قال فـي الـمائدة: «فأنْفُخُ فِـيها» يريد: فأنفخ فـي الهيئة, وقد ذكر أن ذلك فـي إحدى القراءتـين: «فأنفخها», بغير «فـي», وقد تفعل العرب مثل ذلك فتقول: ربّ لـيـلة قد بتها وبتّ فـيها, قال الشاعر:
ما شُقّ جَيْبٌ ولا قَامَتْكَ نائحةٌولا بكَتْكَ جِيادٌ عندَ أسْلابِ
بـمعنى: ولا قامت علـيك. وكما قال الاَخر:
إحْدَى بَنِـي عَيّذِ اللّهِ اسْتَـمَرّ بِهَاحُلْوُ العُصَارَةِ حتـى يُنْفَخَ الصّورُ
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وأُبْرِىءُ الأكْمَه وَالأبْرَصَ}.
يعنـي بقوله: {وأبْرِىءُ}: وأشفـي, يقال منه: أبرأ الله الـمريض: إذا شفـاه منه, فهو يبرئه إبراءً, وبرأ الـمريض فهو يبرأ برءا, وقد يقال أيضا: برىء الـمريض فهو يبرأ, لغتان معروفتان.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى الأكمه, فقال بعضهم: هو الذي لا يبصر بـاللـيـل, ويبصر بـالنهار. ذكر من قال ذلك:
5707ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {وأُبْرِىءُ الأكْمَهَ} قال: الأكمه: الذي يبصر بـالنهار, ولا يبصر بـاللـيـل, فهو يَتَكَمّهُ.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
وقال آخرون: هو الأعمى الذي ولدته أمه كذلك. ذكر من قال ذلك:
5708ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كنا نـحدّث أن الأكمه الذي ولد وهو أعمى مضموم العينـين.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن قتادة, فـي قوله: {وأُبْرِىءُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ} قال: كنا نـحدّث أن الأكمه الذي ولد وهو أعمى مضموم العينـين.
5709ـ حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر, عن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس قال: الأكمه: الذي يولد وهو أعمى.
وقال آخرون: بل هو الأعمى. ذكر من قال ذلك:
5710ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {وأُبْرِىءُ الأكمَهَ}: هو الأعمى.
5711ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاح, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: الأعمى.
5712ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: {وأُبْرِىءُ الأكْمَهَ} قال: الأكمه: الأعمى.
5713ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد بن منصور, عن الـحسن فـي قوله: {وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ} قال: الأعمى.
وقال آخرون: هو الأعمش. ذكر من قال ذلك:
5714ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا حفص بن عمر, عن الـحكم بن أبـان, عن عكرمة فـي قوله: {وأُبْرِىءُ الأكْمَهَ} قال: الأعمش.
والـمعروف عند العرب من معنى الكَمَهِ: العمى, يقال منه: كَمِهَتْ عينه, فهي تَكْمَهُ كمَهَا, وأكمهتها أنا: إذا أعميتها, كما قال سويد بن أبـي كاهل:
كمِهَتْ عَيْناهُ حتـى ابْـيَضّتافَهُوَ يَـلْـحَى نَفْسَهُ لـما نَزَعْ
ومنه قول رؤبة:
هَرّجْتُ فـارْتَدّ ارْتدادَ الأكْمَهِفـي غائلاتِ الـحائِرِ الـمُتَهْتَهِ
وإنـما أخبر الله عزّ وجلّ عن عيسى صلوات الله علـيه, أنه يقول ذلك لبنـي إسرائيـل, احتـجاجا منه بهذه العِبر والاَيات علـيهم فـي نبوّته, وذلك أن الكَمَه والبَرَص لا علاج لهما, فـيقدر علـى إبرائه ذو طبّ بعلاج, فكان ذلك من أدلته علـى صدق قـيـله, إنه لله رسول, لأنه من الـمعجزات مع سائر الاَيات التـي أعطاه الله إياها دلالة علـى نبوّته. فأما ما قال عكرمة, من أن الكمه: العمش, وما قاله مـجاهد: من أنه سوء البصر بـاللـيـل, فلا معنى لهما, لأن الله لا يحتـجّ علـى خـلقه بحجة تكون لهم السبـيـل إلـى معارضته فـيها, ولو كان مـما احتـجّ به عيسى علـى بنـي إسرائيـل فـي نبوّته أنه يبرىء الأعمش, أو الذي يبصر بـالنهار ولا يبصر بـاللـيـل لقدروا علـى معارضته بأن يقولوا: وما فـي هذا لك من الـحجة, وفـينا خـلق مـما يعالـج ذلك ولـيسوا لله أنبـياء ولا رسلاً, ففـي ذلك دلالة بـينة علـى صحة ما قلنا من أن الأكمه: هو الأعمى الذي لا يبصر شيئا لا لـيلاً ولا نهارا, وهو بـما قال قتادة: من أنه الـمولود كذلك أشبه, لأن علاج مثل ذلك لا يدّعيه أحد من البشر, إلا من أعطاه الله مثل الذي أعطى عيسى, وكذلك علاج الأبرص.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وأُحْيِـي الـمَوْتَـى بإذْنِ اللّهِ وأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ}. وكان إحياء عيسى الـموتـى بدعاء الله, يدعو لهم, فـيستـجيب له. كما:
5715ـ حدثنـي مـحمد بن سهل بن عسكر, قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم, قال: ثنـي عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: لـما صار عيسى ابن اثنتـي عشرة سنة, أوحى الله إلـى أمه وهي بأرض مصر, وكانت هربت من قومها حين ولدته إلـى أرض مصر أن اطلعي به إلـى الشام, ففعلت الذي أمرت به فلـم تزل بـالشام حتـى كان ابن ثلاثـين سنة, وكانت نبوّته ثلاث سنـين, ثم رفعه الله إلـيه. قال: وزعم وهب أنه ربـما اجتـمع علـى عيسى من الـمرضى فـي الـجماعة الواحدة خمسون ألفـا, من أطاق منهم أن يبلغه بلغه, ومن لـم يطق منهم ذلك أتاه عيسى يـمشي إلـيه, وإنـما كان يداويهم بـالدعاء إلـى الله.
وأما قوله: {وأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ} فإنه يعنـي: وأخبركم بـما تأكلونه مـما لـم أعاينه وأشاهده معكم فـي وقت أكْلِكُمُوهُ. {وما تَدّخِرُونَ}. يعنـي بذلك: وما ترفعونه فتـخبئونه ولا تأكلونه, يعلـمهم أن من حجته أيضا علـى نبوّته ـ مع الـمعجزات التـي أعلـمهم أنه يأتـي بها حجة علـى نبوّته وصدقه فـي خبره, أن الله أرسله إلـيهم: من خـلق الطير من الطين, وإبراء الأكمه والأبرص, وإحياء الـموتـى بإذن الله, التـي لا يطيقها أحد من البشر, إلا من أعطاه الله ذلك, علـما له علـى صدقه, وآية له علـى حقـيقة قوله من أنبـيائه ورسله, ومن أحبّ من خـلقه ـ إنبـاءَه عن الغيب الذي لا سبـيـل لأحد من البشر الذين سبـيـلهم سبـيـله علـيه.
فإن قال قائل: وما كان فـي قوله لهم: {وأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ} من الـحجة له علـى صدقه, وقد رأينا الـمتنـجمة والـمتكهنة تـخبر بذلك كثـيرا فتصيب؟ قـيـل: إن الـمتنـجم والـمتكهن معلوم منهما عند من يخبره بذلك أنهما ينبئان به عن استـخراج له ببعض الأسبـاب الـمؤدية إلـى علـمه, ولـم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله علـيه, ومن سائر أنبـياء الله ورسله, وإنـما كان عيسى يخبر به عن غير استـخراج ولا طلب لـمعرفته بـاحتـيال, ولكن ابتداءً بـاعلام الله إياه من غير أصل تقدّم ذلك¹ احتذاه, أو بنى علـيه أو فزع إلـيه, كما يفزع الـمتنـجم إلـى حسابه, والـمتكهن إلـى رئيّه, فذلك هو الفصل بـين علـم الأنبـياء بـالغيوب وإخبـارهم عنها, وبـين علـم سائر الـمتكذبة علـى الله, أو الـمدّعية علـم ذلك. كما:
5716ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: لـما بلغ عيسى تسع سنـين أو عشرا أو نـحو ذلك, أدخـلته أمه الكتاب فـيـما يزعمون, فكان عند رجل من الـمكتبـين يعلـمه كما يعلـم الغلـمان, فلا يذهب يعلـمه شيئا مـما يعلـمه الغلـمان إلا بدره إلـى علـمه قبل أن يعلـمه إياه, فـيقول: ألا تعجبون لابن هذه الأرملة, ما أذهب أعلـمه شيئا إلا وجدته أعلـم به منـي.
5717ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: لـما كبر عيسى أسلـمته أمه يتعلـم التوراة, فكان يـلعب مع الغلـمان, غلـمان القرية التـي كان فـيها, فـيحدّث الغلـمان بـما يصنع آبـاؤهم.
5718ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا إسماعيـل بن سالـم, عن سعيد بن جبـير فـي قوله: {وأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ} قال: كان عيسى ابن مريـم إذ كان فـي الكُتّاب يخبرهم بـما يأكلون فـي بـيوتهم وما يدّخرون.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا إسماعيـل بن سالـم, قال: سمعت سعيد بن جبـير يقول: {وأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ} قال: إن عيسى ابن مريـم كان يقول للغلام فـي الكتاب: يا فلان إن أهلك قد خبأوا لك كذا وكذا من الطعام فتطعمنـي منه؟
فهكذا فعل الأنبـياء وحججها إنـما تأتـي بـما أتت به من الـحجيج بـما قد يوصل إلـيه من ذلك الوجه بحيـلة إلا من قبل الله.
وبنـحو ما قلنا فـي تأويـل قوله: {وأُنَبّئُكُمُ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ} قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5719ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: {وأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ} قال: بـما أكلتـم البـارحة, وما خبأتـم منه¹ عيسى ابن مريـم يقوله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
5720ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال عطاء بن أبـي ربـاح يعنـي قوله: {وَأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَما تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ} قال: الطعام والشيء يدّخرونه فـي بـيوتهم غيبـا علـمه الله إياه.
5721ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: {وَأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ} قال: ما تأكلون: ما أكلتـم البـارحة من طعام, وما خبأتـم منه.
5722ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: كان ـ يعنـي عيسى ابن مريـم ـ يحدّث الغلـمان وهو معهم فـي الكتاب بـما يصنع آبـاؤهم, وبـما يرفعون لهم, وبـما يأكلون ويقول للغلام: انطلق فقد رفع لك أهلك كذا وكذا, وهم يأكلون كذا وكذا, فـينطلق الصبـيّ فـيبكي علـى أهله حتـى يعطوه ذلك الشيء, فـيقولون له: من أخبرك بهذا؟ فـيقول: عيسى, فذلك قول الله عزّ وجلّ: {وَأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ} فحبسوا صبـيانهم عنه, وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر, فجمعوهم فـي بـيت, فجاء عيسى يطلبهم, فقالوا: لـيس هم ههنا, فقال: ما فـي هذا البـيت؟ فقالوا: خنازير, قال عيسى: كذلك يكونون! ففتـحوا عنهم فإذا هم خنازير, فذلك قوله: {عَلَـى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيَسى ابْنِ مَرْيَـمَ}.
5723ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد, عن الـحسن فـي قوله: {وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ} قال: ما تـخبئون مخافة الذي يـمسك أن لا يخـلفه شيء.
وقال آخرون: إنـما عنى بقوله: {وأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ}: ما تأكلون من الـمائدة التـي تنزل علـيكم, وما تدخرون منها. ذكر من قال ذلك:
5724ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ} فكان القوم لـما سألوا الـمائدة, فكانت جرابـا ينزل علـيه أينـما كانوا ثمرا من ثمار الـجنة, فأمر القوم أن لا يخونوا فـيه, ولا يخبئوا, ولا يدّخروا لغد, بلاء ابتلاهم الله به, فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئا أنبأهم به عيسى ابن مريـم, فقال: {وأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ}.
5725ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: {وأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ} قال: أنبئكم بـما تأكلون من الـمائدة, وما تدّخرون منها. قال: فكان أخذ علـيهم فـي الـمائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا, فـادّخروا وخانوا, فجعلوا خنازير حين ادّخروا وخانوا, فذلك قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَـإِنّـي أُعَذّبُهُ عَذَابـا لا أُعَذّبُهُ أحَدا مِنَ العَالَـمِينَ}. قال ابن يحيـى: قال عبد الرزاق: قال معمر, عن قتادة, عن خلاس بن عمرو, عن عمار بن ياسر ذلك.
وأصل يدّخرون من الفعل يَفْتَعِلون, من قول القائل: ذخرت الشيء بـالذال, فأنا أذخره, ثم قـيـل: يدّخر كما قـيـل: يدّكر, من ذكرت الشيء, يراد به يذتـخر, فلـما اجتـمعت الذال والتاء وهما متقاربتا الـمخرج, ثقل إظهارهما علـى اللسان, فأدغمت إحداهما فـي الأخرى وصيرتا دالاً مشددة صيروها عدلاً بـين الذال والتاء, ومن العرب من يغلب الذال علـى التاء فـيدغم التاء فـي الذال, فـيقول: وما تذّخرون وهو مذّخر لك, وهو مذّكر, واللغة التـي بها القراءة الأولـى, وذلك إدغام الذال فـي التاء, وإبدالهما دالاً مشددة لا يجوز القراءة بغيرها لتظاهر النقل من القراء بها, وهو اللغة الـجُودَى, كما قال زهير:
إِنّ الكَرِيـمَ الذي يُعْطيكَ نائلَهُعَفْوا وَيُظْلَـمُ أحْيانا فَـيَظّلِـمُ
يروى بـالظاء, يريد: فـيفتعل من الظلـم, ويروى بـالطاء أيضا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ فِـي ذَلِكَ لاَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُـمْ مُوءْمِنِـينَ}.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: إن فـي خـلقـي من الطين الطير بإذن الله, وفـي إبرائي الأكمه والأبرص, وإحيائي الـموتـى, وإنبـائي إياكم بـما تأكلون, وما تدخرون فـي بـيوتكم, ابتداء من غير حساب وتنـجيـم, ولا كهانة وعرافة, لعبرة لكم, ومتفكرا تتفكرون فـي ذلك, فتعتبرون به أنـي مـحقّ فـي قولـي لكم: إنـي رسول من ربكم إلـيكم, وتعلـمون به أنـي فـيـما أدعوكم إلـيه من أمر الله ونهيه صادق, إن كنتـم مؤمنـين, يعنـي: إن كنتـم مصدّقـين حجج الله وآياته, مقرّين بتوحيده ونبـيه موسى, والتوراة التـي جاءكم بها.
الآية : 50-51
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ وَلاُحِلّ لَكُم بَعْضَ الّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رّبّكُمْ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـَذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وبأنـي قد جئتكم بآية من ربكم, وجئتكم مصدّقا لـما بـين يديّ من التوراة, ولذلك نصب «مصدّقا» علـى الـحال من جئتكم. والذي يدلّ علـى أنه نصب علـى قوله وجئتكم دون العطف علـى قوله: «وجيها», قوله: {لِـمَا بَـيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ} ولو كان عطفـا علـى قوله: «وجيها», لكان الكلام: ومصدّقا لـما بـين يديه من التوراة, ولـيحلّ لكم بعض الذي حرّم علـيكم. وإنـما قـيـل: {ومُصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ} لأن عيسى صلوات الله علـيه كان مؤمنا بـالتوراة مقرّا بها, وأنها من عند الله, وكذلك الأنبـياء كلهم يصدّقون بكل ما كان قبلهم من كتب الله ورسله, وإن اختلف بعض شرائع أحكامهم لـمخالفة الله بـينهم فـي ذلك, مع أن عيسى كان فـيـما بلغنا عاملاً بـالتوراة, لـم يخالف شيئا من أحكامها إلا ما خفف الله عن أهلها فـي الإنـجيـل مـما كان مشدّدا علـيهم فـيها. كما:
5726ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الكريـم, قال: ثنـي عبد الصمد بن معقل, أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن عيسى كان علـى شريعة موسى صلى الله عليه وسلم, وكان يسبت ويستقبل بـيت الـمقدس, فقال لبنـي إسرائيـل: إنـي لـم أدعكم إلـى خلاف حرف مـما فـي التوراة إلا لأحلّ لكم بعض الذي حرّم علـيكم, وأضع عنكم من الاَصار.
5727ـ حدثنـي بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَمُصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ وَلأُحِلّ لَكُمْ بَعْضَ الذِي حُرّمَ عَلَـيْكُمْ} كان الذي جاء به عيسى ألـين مـما جاء به موسى, وكان قد حرّم علـيهم فـيـما جاء به موسى لـحوم الإبل والثروب, وأشياء من الطير والـحيتان.
5728ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, فـي قوله: {وَمُصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ وَلأُحِلّ لَكُمْ بَعْضَ الّذِي حُرّمَ عَلَـيْكُمْ} قال: كان الذي جاء به عيسى ألـين من الذي جاء به موسى, قال: وكان حرّم علـيهم فـيـما جاء به موسى من التوراة لـحوم الإبل والثروب فأحلها لهم علـى لسان عيسى, وحرّمت علـيهم الشحوم, وأحلت لهم فـيـما جاء به عيسى, وفـي أشياء من السمك, وفـي أشياء من الطير مـما لا صِيصِيَةَ له, وفـي أشياء حرّمها علـيهم, وشدّدها علـيهم, فجاءهم عيسى بـالتـخفـيف منه فـي الإنـجيـل, فكان الذي جاء به عيسى ألـين من الذي جاء به موسى, صلوات الله علـيه.
5729ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: {ولأُحِلّ لَكُمْ بَعْضَ الّذِي حُرّمَ عَلَـيْكُمْ} قال: لـحوم الإبل والشحوم لـما بعث عيسى أحلها لهم, وبعث إلـى الـيهود فـاختلفوا وتفرّقوا.
5730ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَمُصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ} أي لـما سبقنـي منها, {ولأُحِلّ لَكُمْ بَعْضَ الّذِي حُرّمَ عَلَـيْكُمْ} أي أخبركم أنه كان حراما علـيكم, فتركتـموه, ثم أحله لكم تـخفـيفـا عنكم, فتصيبون يسره وتـخرجون من تِبَـاعته.
5731ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد, عن الـحسن: {وَلأُحِلّ لَكُمْ بَعْضَ الّذِي حُرّمَ عَلَـيْكُمْ} قال: كان حرّم علـيهم أشياء, فجاءهم عيسى لـيحلّ لهم الذي حرّم علـيهم, يبتغي بذلك شكرهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَجِئْتُكُمْ بآيَةٍ مِنْ رَبّكُمْ}.
يعنـي بذلك: وجئتكم بحجة وعبرة من ربكم, تعلـمون بها حقـيقة ما أقول لكم. كما:
5732ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيج, عن مـجاهد: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبّكُمْ} قال: ما بـيّن لهم عيسى من الأشياء كلها, وما أعطاه ربه.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبّكُمْ}: ما بـين لهم عيسى من الأشياء كلها.
ويعنـي بقوله: {مِنْ رَبّكُمْ}: من عند ربكم .
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فـاتّقُوا اللّهَ وأطِيعُونِ إِنّ اللّهَ رَبّـي وَرَبّكُمْ فـاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِـيـمٌ}.
يعنـي بذلك: وجئتكم بآية من ربكم, تعلـمون بها يقـينا صدقـي فـيـما أقول, فـاتقوا الله يا معشر بنـي إسرائيـل فـيـما أمركم به, ونهاكم عنه فـي كتابه الذي أنزله علـى موسى فأوفوا بعهده الذي عاهدتـموه فـيه, وأطيعون فـيـما دعوتكم إلـيه من تصديقـي فـيـما أرسلنـي به إلـيكم, ربـي وربكم فـاعبدوه, فإنه بذلك أرسلنـي إلـيكم, وبإحلال بعض ما كان مـحرّما علـيكم فـي كتابكم, وذلك هو الطريق القويـم, والهدى الـمتـين الذي لا اعوجاج فـيه.) كما:
5733ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {فـاتّقُوا اللّهَ وَأطِيعُونِ إِنّ اللّهَ رَبّـي وَرَبّكُمْ} تبريا من الذي يقولون فـيه, يعنـي ما يقول فـيه النصارى واحتـجاجا لربه علـيهم, فـاعبدوه, و{هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِـيـمٌ} أي الذي هذا قد حملتكم علـيه وجئتكم به.
واختلفت القراء فـي قراءة قوله: {إِنّ اللّهَ رَبّـي وَرَبّكُمْ فـاعْبُدُوهُ} فقرأته عامة قرّاء الأمصار: {إِنّ اللّهَ رَبّـي وَرَبّكُمْ فَـاعْبُدُوهُ} بكسر ألف «إنّ» علـى ابتداء الـخبر, وقرأه بعضهم: «أنّ اللّهَ رَبّـي وَرَبّكُمْ» بفتـح ألف «أن» بتأويـل: وجئتكم بآية من ربكم أن الله ربـي وربكم, علـى ردّ أن علـى الاَية, والإبدال منها.
والصواب من القراءة عندنا ما علـيه قراء الأمصار, وذلك كسر ألف «إن» علـى الابتداء, لإجماع الـحجة من القراء علـى صحة ذلك, وما اجتـمعت علـيه فحجة, وما انفرد به الـمنفرد عنها فرأي, ولا يعترض بـالرأي علـى الـحجة. وهذه الاَية, وإن كان ظاهرها خبرا, ففـيه الـحجة البـالغة من الله لرسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم علـى الوفد الذين حاجوه من أهل نـجران بإخبـار الله عزّ وجلّ, عن أن عيسى كان بريئا مـما نسبه إلـيه من نسبه, غير الذي وصف به نفسه, من أنه لله عبد كسائر عبـيده من أهل الأرض إلا ما كان الله جل ثناؤه خصه به من النبوّة والـحجج التـي آتاه دلـيلاً علـى صدقه, كما آتـى سائر الـمرسلـين غيره من الأعلام والأدلة علـى صدقهم, والـحجة علـى نبوّتهم.
الآية : 52
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{فَلَمّآ أَحَسّ عِيسَىَ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيَ إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللّهِ آمَنّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ }
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {فَلَـمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ} فلـما وجد عيسى منهم الكفر. والإحساس: هو الوجود, ومنه قول الله عزّ وجلّ: {هَلْ تُـحِسّ مِنْهُمْ مِنْ أحَدٍ}. فأما الـحسّ بغير ألف, فهو الإفناء والقتل, ومنه قوله: {إذْ تَـحُسّونَهُمْ بِإذْنِهِ} والـحسّ أيضا: العطف والرقة. ومنه قول الكميت:
هَلْ مَنْ بَكَى الدّارَ رَاجٍ أنْ تَـحِسّ لَهُأوْ يُبْكِيَ الدّارَ ماءُ العَبْرَة الـخَضِلُ
يعنـي بقوله: أن تـحسّ له: أن ترق له.
فتأويـل الكلام: فلـما وجد عيسى من بنـي إسرائيـل الذين أرسله الله إلـيهم جحودا لنبوّته, وتكذيبـا لقوله, وصدّا عما دعاهم إلـيه من أمر الله, قال: {مَنْ أنْصَارِي إلـى اللّهِ} يعنـي بذلك: قال عيسى: من أعوانـي علـى الـمكذّبـين بحجة الله, والـمولـين عن دينه, والـجاحدين نبوّة نبـيه إلـى الله عزّ وجلّ, ويعنـي بقوله {إلـى اللّه}: مع الله, وإنـما حسن أن يقال إلـى الله, بـمعنى: مع الله, لأن من شأن العرب إذا ضموا الشيء إلـى غيره, ثم أرادوا الـخبر عنهما بضمّ أحدهما مع الاَخر إذا ضمّ إلـيه جعلوا مكان مع إلـى أحيانا, وأحيانا تـخبر عنهما بـمع, فتقول الذود إلـى الذود إبل, بـمعنى: إذا ضمـمت الذود إلـى الذود صارت إبلاً, فأما إذا كان الشيء مع الشيء لـم يقولوه بإلـى ولـم يجعلوا مكان مع إلـى غير جائز أن يقال: قدم فلان وإلـيه مال, بـمعنى: ومعه مال.
وبـمثل ما قلنا فـي تأويـل قوله: {مَنْ أنْصَارِي إلـى اللّهِ} قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
5734ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي قوله: {مَنْ أنْصَارِي إلـى اللّهِ} يقول: مع الله.
5735ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: {مَنْ أنْصَارِي إلـى اللّهِ} يقول: مع الله.
وأما سبب استنصار عيسى علـيه السلام من استنصر من الـحواريـين, فإن بـين أهل العلـم فـيه اختلافـا, فقال بعضهم: كان سبب ذلك ما:
5736ـ حدثنـي به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: لـما بعث الله عيسى, فأمره بـالدعوة, نفته بنو إسرائيـل وأخرجوه, فخرج هو وأمه يسيحون فـي الأرض, فنزل فـي قرية علـى رجل, فضافهم وأحسن إلـيهم, وكان لتلك الـمدينة ملك جبـار معتد, فجاء ذلك الرجل يوما وقد وقع علـيه همّ وحزن, فدخـل منزله ومريـم عند امرأته, فقالت مريـم لها: ما شأن زوجك أراه حزينا؟ قالت: لا تسألـي, قالت: أخبرينـي لعلّ الله يفرّج كربته, قالت: فإن لنا ملكا يجعل علـى كل رجل منا يوما يطعمه هو وجنوده, ويسقـيهم من الـخمر, فإن لـم يفعل عاقبه, وإنه قد بلغت نوبته الـيوم الذي يريد أن نصنع له فـيه, ولـيس لذلك عندنا سعة, قالت: فقولـي له: لا يهتـمّ, فإنـي آمر ابنـي فـيدعو له, فـيكفـى ذلك, قالت مريـم لعيسى فـي ذلك, قال عيسى: يا أمه إنـي إن فعلت كان فـي ذلك شرّ, قالت: فلا تبـال, فإنه قد أحسن إلـينا وأكرمنا, قال عيسى: فقولـي له: إذا اقترب ذلك فـاملأ قدورك وخوابـيك ماء ثم أعلـمنـي, قال: فلـما ملأهنّ أعلـمه, فدعا الله, فتـحوّل ما فـي القدور لـحما ومرقا وخبزا, وما فـي الـخوابـي خمرا لـم ير الناس مثله قط وإياه طعاما¹ فلـما جاء الـملك أكل, فلـما شرب الـخمر سأل من أين هذه الـخمر؟ قال له: هي من أخرى كذا وكذا, قال الـملك: فإن خمري أوتـي بها من تلك الأرض فلـيس هي مثل هذه, قال: هي من أرض أخرى¹ فلـما خـلط علـى الـملك اشتدّ علـيه, قال: فأنا أخبرك عندي غلام لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه, وإنه دعا الله, فجعل الـماء خمرا, قال الـملك, وكان له ابن يريد أن يستـخـلفه, فمات قبل ذلك بأيام, وكان أحبّ الـخـلق إلـيه, فقال: إن رجلاً دعا الله حتـى جعل الـماء خمرا, لـيستـجابنّ له حتـى يحيـي ابنـي, فدعا عيسى فكلـمه, فسأله أن يدعو الله فـيحيـي ابنه, فقال عيسى: لا تفعل, فإنه إن عاش كان شرّا, فقال الـملك: لا أبـالـي, ألـيس أراه, فلا أبـالـي ما كان, فقال عيسى علـيه السلام: فإن أحيـيته تتركونـي أنا وأمي نذهب أينـما شئنا, قال الـملك: نعم, فدعا الله, فعاش الغلام¹ فلـما رآه أهل مـملكته قد عاش, تنادوا بـالسلاح, وقالوا: أكلنا هذا حتـى إذا دنا موته يريد أن يستـخـلف ابنه فـيأكلنا كما أكلنا أبوه, فـاقتتلوا, وذهب عيسى وأمه, وصحبهما يهودي, وكان مع الـيهودي رغيفـان, ومع عيسى رغيف, فقال له عيسى: شاركنـي, فقال الـيهودي: نعم, فلـما رأى أنه لـيس مع عيسى إلا رغيب ندم¹ فلـما نام جعل الـيهودي يريد أن يأكل الرغيف, فلـما أكل لقمة قال له عيسى: ما تصنع؟ فـيقول: لا شيء, فـيطرحها, حتـى فرغ من الرغيف كله¹ فلـما أصبحا قال له عيسى: هلـم طعامك, فجاء برغيف, فقال له عيسى: أين الرغيف الاَخر؟ قال: ما كان معي إلا واحد, فسكت عنه عيسى, فـانطلقوا, فمرّوا براعي غنـم, فنادى عيسى, يا صاحب الغنـم أجزرنا شاة من غنـمك, قال: نعم, أرسل صاحبك يأخذها, فأرسل عيسى الـيهودي, فجاء بـالشاة, فذبحوها وشووها, ثم قال للـيهودي: كل ولا تكسرنّ عظما! فأكلا, فلـما شبعوا قذف عيسى العظام فـي الـجلد, ثم ضربها بعصاه وقال: قومي بإذن الله, فقامت الشاة تثغو, فقال: يا صاحب الغنـم خذ شاتك, فقال له الراعي: من أنت؟ قال: أنا عيسى ابن مريـم, قال: أنت الساحر, وفرّ منه. قال عيسى للـيهودي: بـالذي أحيا هذه الشاة بعد ما أكلناها كم كان معك رغيفـا؟ فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد, فمرّوا بصاحب بقر, فنادى عيسى, فقال: يا صاحب البقر أجزرنا من بقرك هذه عجلاً! قال: ابعث صاحبك يأخذه, قال: انطلق يا يهودي فجىء به, فـانطلق فجاء به, فذبحه وشواه, وصاحب البقر ينظر, فقال له عيسى: كل ولا تكسرنّ عظما. فلـما فرغوا قذف العظام فـي الـجلد, ثم ضربه بعصاه, وقال: قم بإذن الله! فقام وله خوار, قال: خذ عجلك, قال: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى, قال: أنت السحّار. ثم فرّ منه, قال الـيهودي: يا عيسى أحيـيته بعد ما أكلناه, قال عيسى: فبـالذي أحيا الشاة بعد ما أكلناها, والعجل بعد ما أكلناه, كم كان معك رغيفـا؟ فحلف بـالله ما كان معه إلا رغيف واحد¹ فـانطلقا حتـى نزلا قرية, فنزل الـيهودي أعلاها, وعيسى فـي أسفلها, وأخذ الـيهودي عصا مثل عصا عيسى, وقال: أنا الاَن أحيـي الـموتـى, وكان ملك تلك الـمدينة مريضا شديد الـمرض, فـانطلق الـيهودي ينادي: من يبتغي طبـيبـا؟ حتـى أتـى ملك تلك القرية, فأخبر بوجعه, فقال: أدخـلونـي علـيه فأنا أبرئه, وإن رأيتـموه قد مات فأنا أحيـيه, فقـيـل له: إن وجع الـملك قد أعيا الأطبـاء قبلك, لـيس من طبـيب يداويه, ولا يُفـيءُ دواؤه شيئا إلا أمر به فصلب, قال: أدخـلونـي علـيه فإنـي سأبرئه, فأدخـل علـيه, فأخذ برجل الـملك فضربه بعصاه حتـى مات, فجعل يضربه بعصاه وهو ميت, ويقول: قم بإذن الله, فأخذ لـيصلب, فبلغ عيسى, فأقبل إلـيه وقد رفع علـى الـخشبة, فقال: أرأيتـم إن أحيـيت لكم صاحبكم أتتركون لـي صاحبـي؟ قالوا: نعم, فأحيا الله الـملك لعيسى, فقام وأنزل الـيهودي, فقال: يا عيسى أنت أعظم الناس علـيّ منة, والله لا أفـارقك أبدا, قال عيسى ـ فـيـما حدثنا به مـحمد بن الـحسين بن موسى, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل قال أسبـاط, عن السدي ـ للـيهودي: أنشدك بـالذي أحيا الشاة والعجل بعد ما أكلناهما, وأحيا هذا بعد ما مات, وأنزلك من الـجذع بعد ما رفعت علـيه لتصلب كم كان معك رغيفـا, قال: فحلف بهذا كله ما كان معه إلا رغيف واحد, قال: لا بأس, فـانطلقا حتـى مرّا علـى كنز قد حفرته السبـاع والدوابّ, فقال الـيهودي يا عيسى: لـمن هذا الـمال, قال عيسى: دعه, فإن له أهلاً يهلكون علـيه, فجعلت نفس الـيهودي تطلع إلـى الـمال, ويكره أن يعصي عيسى, فـانطلق مع عيسى ومرّ بـالـمال أربعة نفر¹ فلـما رأوه, اجتـمعوا علـيه, فقال اثنان لصاحبـيهما: انطلقا فـابتاعا لنا طعاما وشرابـا ودوابّ نـحمل علـيها هذا الـمال, فـانطلق الرجلان فـابتاعا دوابّ وطعاما وشرابـا, وقال أحدهما لصاحبه: هل لك أن نـجعل لصاحبـينا فـي طعامهما سما, فإذا أكلا ماتا, فكان الـمال بـينـي وبـينك, فقال الاَخر نعم, ففعلا, وقال الاَخران: إذا ما أتـيانا بـالطعام, فلـيقم كل واحد إلـى صاحبه فـيقتله, فـيكون الطعام والدوابّ بـينـي وبـينك, فلـما جاءا بطعامهما قاما فقتلاهما, ثم قعدا علـى الطعام, فأكلا منه فماتا, وأُعلـم ذلك عيسى, فقال للـيهودي: أخرجه حتـى نقتسمه, فأخرجه فقسمه عيسى بـين ثلاثة, فقال الـيهودي: يا عيسى اتق الله ولا تظلـمنـي, فإنـما هو أنا وأنت, ما هذه الثلاثة؟ قال له عيسى هذا لـي, وهذا لك, وهذا الثلث لصاحب الرغيف, قال الـيهودي: فإن أخبرتك بصاحب الرغيف تعطينـي هذا الـمال؟ فقال عيسى: نعم, قال أنا هو, قال: عيسى: خذ حظي وحظك وحظّ صاحب الرغيف, فهو حظك من الدنـيا والاَخرة¹ فلـما حمله مشى به شيئا, فخسف به, وانطلق عيسى ابن مريـم, فمرّ بـالـحواريـين وهم يصطادون السمك, فقال: ما تصنعون؟ فقالوا: نصطاد السمك, فقال: أفلا تـمشون حتـى نصطاد الناس؟ قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى ابن مريـم, فآمنوا به, وانطلقوا معه, فذلك قول الله عزّ وجلّ: {مَنْ أنْصَارِي إلـى اللّهِ قَالَ الـحَوَارِيّونَ نَـحْنُ أنْصَارُ اللّهِ آمَنّا بـاللّهِ وَاشْهَدْ بِأنّا مُسْلِـمُونَ}.
5737ـ حدثنا مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي من عبـاد بن منصور, عن الـحسن فـي قوله: {فَلَـمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ قَالَ مَنْ أنْصَارِي إلـى اللّهِ}... الاَية, قال: استنصر فنصره الـحواريون وظهر علـيهم.
وقال آخرون: كان سبب استنصار عيسى من استنصر, لأن من استنصر الـحواريـين علـيه كانوا أرادوا قتله. ذكر من قال ذلك:
5738ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: {فَلَـمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ} قال: كفروا وأرادوا قتله, فذلك حين استنصر قومه, قال: {مَنْ أنْصَارِي إلـى اللّهِ قالَ الـحَوارِيّونَ نَـحْنُ أنْصَارُ اللّهِ}.
والأنصار: جمع نصير, كما الأشراف جمع شريف, والأشهاد جمع شهيد. وأما الـحواريون, فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي السبب الذي من أجله سموا حواريـين, فقال بعضهم: سموا بذلك لبـياض ثـيابهم. ذكر من قال ذلك:
5739ـ حدثنـي مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـي, قال: مـما روى أبـي, قال: حدثنا قـيس بن الربـيع, عن ميسرة, عن الـمنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبـير, قال: إنـما سموا الـحواريـين ببـياض ثـيابهم.
وقال آخرون: سموا بذلك لأنهم كانوا قصارين يبـيضون الثـياب. ذكر من قال ذلك:
5740ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن أبـي أرطاة, قال: الـحواريون: الغسالون, الذين يحوّرون الثـياب يغسلونها.
وقال آخرون: هم خاصة الأنبـياء وصفوتهم. ذكر من قال ذلك:
5741ـ حدثنا يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, عن روح بن القاسم, أن قتادة ذكر رجلاً من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: كان من الـحواريـين, فقـيـل له: من الـحواريون؟ قال: الذين تصلـح لهم الـخلافة.
5742ـ حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا بشر, عن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك فـي قوله: {إِذْ قَالَ الـحَوَارِيّونَ} قال: أصفـياء الأنبـياء.
وأشبه الأقوال التـي ذكرنا فـي معنى الـحواريـين قول من قال: سموا بذلك لبـياض ثـيابهم, ولأنهم كانوا غسالـين, وذلك أن الـحور عند العرب: شدة البـياض, ولذلك سمي الـحُوّارَى من الطعام حُوّارَى لشدة بـياضه, ومنه قـيـل للرجل الشديد البـياض مقلة العينـين أحور, وللـمرأة حوراء, وقد يجوز أن يكون حواريو عيسى كانوا سموا بـالذي ذكرنا من تبـيـيضهم الثـياب, وأنهم كانوا قصارين, فعرفوا بصحبة عيسى واختـياره إياهم لنفسه أصحابـا وأنصارا, فجرى ذلك الاسم لهم واستعمل, حتـى صار كل خاصة للرجل من أصحابه وأنصاره حواريه¹ ولذلك قال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «لِكُلّ نَبِـيّ حَوَارِيّ, وَحَوَارِيّ الزّبَـيْرُ» يعنـي خاصته. وقد تسمي العرب النساء اللواتـي مساكنهن القرى والأمصار حواريات, وإنـما سمين بذلك لغلبة البـياض علـيهن, ومن ذلك قول أبـي جَلْدَةَ الـيشكُرِي:
فَقُلْ للْـحَوَارِيّاتِ يَبْكِينَ غَيْرَناوَلاَ تَبْكِنَا إِلاّ الكِلابُ النَوَابِحُ
ويعنـي بقوله: {قالَ الـحَوَارِيّونَ} قال: هؤلاء الذين صفتهم ما ذكرنا من تبـيـيضهم الثـياب: آمنا بـالله, صدّقنا بـالله, واشهد أنت يا عيسى بأننا مسلـمون. وهذا خبر من الله عزّ وجلّ أن الإسلام دينه الذي ابتعث به عيسى والأنبـياء قبله, لا النصرانـية ولا الـيهودية, وتبرئة من الله لعيسى مـمن انتـحل النصرانـية ودان بها, كما برأ إبراهيـم من سائر الأديان غير الإسلام, وذلك احتـجاج من الله تعالـى ذكره لنبـيه صلى الله عليه وسلم علـى وفد نـجران. كما:
5743ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير {فَلَـمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ} والعدوان, {قَالَ مَنْ أنْصَارِي إلـى اللّهِ قالَ الـحَوَارِيّونَ نَـحْنُ أنْصَارُ اللّهِ آمَنّا بِـاللّهِ} وهذا قولهم الذي أصابوا به الفضل من ربهم, واشهد بأنا مسلـمون, لا كما يقول هؤلاء الذين يحاجونك فـيه, يعنـي وفد نصارى نـجران