تفسير الطبري تفسير الصفحة 64 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 64
065
063
 الآية : 109
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِلَىَ اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: أنه يعاقب الذين كفروا بعد إيـمانهم بـما ذكر أنه معاقبهم به من العذاب العظيـم, وتسويد الوجوه, ويثـيب أهل الإيـمان به, الذين ثبتوا علـى التصديق والوفـاء بعهودهم التـي عاهدوا علـيها, بـما وصف أنه مثـيبهم به, من الـخـلود فـي جناته, من غير ظلـم منه لأحد الفريقـين فـيـما فعل, لأنه لا حاجة به إلـى الظلـم, وذلك أن الظالـم إنـما يظلـم غيره لـيزداد إلـى عزّته عزّة بظلـمه إياه, وإلـى سلطانه سلطانا, وإلـى ملكه ملكا, لنقصان فـي بعض أسبـابه, يتـمـم بـما ظلـم غيره فـيه ما كان ناقصا من أسبـابه عن التـمام, فأما من كان له جميع ما بـين أقطار الـمشارق والـمغارب, وما فـي الدنـيا والاَخرة, فلا معنى لظلـمه أحدا فـيجوز أن يظلـم شيئا, لأنه لـيس من أسبـابه شيء ناقص يحتاج إلـى تـمام, فـيتـمّ ذلك بظلـم غيره, تعالـى الله علوّا كبـيرا¹ ولذلك قال جلّ ثناؤه عقـيب قوله: {وَما اللّهُ يُرِيدُ ظُلْـما للْعالَـمِينَ} {ولِلّهِ ما فِـي السّمَوَاتِ وَما فِـي الأرْضِ وإلـى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ}.
واختلف أهل العربـية فـي وجه تكرير الله تعالـى ذكره اسمه مع قوله: {وإلـى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} ظاهرا وقد تقدم اسمه ظاهرا مع قوله: {وَلِلّهِ ما فِـي السّمَوَاتِ وَما فِـي الأرْضِ} فقال بعض أهل العربـية من أهل البصرة: ذلك نظير قول العرب: أما زيد فذهب زيد, وكما قال الشاعر:
لا أرَى الـموتَ يسبقُ الـموتَ شَيْءٌنَغّصَ الـمَوْتُ ذا الغنى والفقـيرا
فأظهر فـي موضع الإضمار. وقال بعض نـحويـي الكوفة: لـيس ذلك نظير هذا البـيت, لأن موضع الـموت الثانـي فـي البـيت موضع كناية, لأنه كلـمة واحدة, ولـيس ذلك كذلك فـي الاَية, لأن قوله: {وَلِلّهِ ما فِـي السّمَوَاتِ وَما فِـي الأرْضِ} خبر لـيس من قوله: {وإلـى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ} فـي شيء, وذلك أن كل واحدة من القصتـين مفـارق معناها معنى الأخرى, مكتفـية كل واحدة منهما بنفسها, غير مـحتاجة إلـى الأخرى, وما قال الشاعر: «لا أرى» الـموت مـحتاج إلـى تـمام الـخبر عنه.
وهذا القول الثانـي عندنا أولـى بـالصواب, لأن كتاب الله عزّ وجلّ لا يؤخذ معانـيه, وما فـيه من البـيان إلـى الشواذّ من الكلام والـمعانـي وله فـي الفصيح من الـمنطق والظاهر من الـمعانـي الـمفهوم وجه صحيح موجود.
وأما قوله: {وإلـى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} فإنه يعنـي تعالـى ذكره: إلـى الله مصير أمر جميع خـلقه الصالـح منهم, والطالـح والـمـحسن والـمسيء, فـيجازي كلاّ علـى قدر استـحقاقهم منه الـجزاء بغير ظلـم منه أحدا منهم.
الآية : 110
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }
اختلف أهل التأويـل فـي قوله: {كُنْتُـمْ خَيْرا أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} فقال بعضهم: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, من مكة إلـى الـمدينة, وخاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
6136ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن سماك, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال فـي: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} قال: هم الذين خرجوا معه من مكة.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن عطية, عن قـيس, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عبـاس: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} قال: هم الذين هاجروا من مكة إلـى الـمدينة.
6137ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ تَأْمُرُونَ بـالـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الـمُنْكِرِ} قال عمر بن الـخطاب: لو شاء الله لقال «أنتـم», فكنا كلنا, ولكن قال: {كُنْتُـمْ} فـي خاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن صنع مثل صنـيعهم, كانوا خير أمة أخرجت للناس, يأمرون بـالـمعروف, وينهون عن الـمنكر.
6138ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: قال عكرمة: نزلت فـي ابن مسعود, وسالـم مولـى أبـي حذيفة, وأبـيّ بن كعب, ومعاذ بن جبل.
6139ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا مصعب بن الـمقدام, عن إسرائيـل, عن السديّ, عمن حدثه, قال عمر: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} قال: تكون لأوّلنا, ولا تكون لاَخرنا.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا إسرائيـل, عن سماك بن حرب, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} قال: هم الذين هاجروا مع النبـيّ صلى الله عليه وسلم إلـى الـمدينة.
6140ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذكر لنا أن عمر بن الـخطاب قال فـي حجة حجها: ورأى من الناس رِعَة سيئة, فقرأ هذه: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ}... الاَية, ثم قال: يا أيها الناس, من سره أن يكون من تلك الأمة, فلـيؤدّ شرط الله منها.
6141ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك فـي قوله: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} قال: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة, يعنـي وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله الـمسلـمين بطاعتهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: كنتـم خير أمة أخرجت للناس, إذ كنتـم بهذه الشروط التـي وصفهم جلّ ثناؤه بها. فكان تأويـل ذلك عندهم: كنتـم خير أمة تأمرون بـالـمعروف, وتنهون عن الـمنكر, وتؤمنون بـالله أُخرِجوا للناس فـي زمانكم. ذكر من قال ذلك:
6142ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} يقول: علـى هذا الشرط أن تأمروا بـالـمعروف, وتنهوا عن الـمنكر, وتؤمنوا بـالله, يقول: لـمن أنتـم بـين ظهرانـيه, كقوله: {وَلَقَدْ اخْتَرْناهُمْ عَلـى عِلْـمٍ عَلـى العالَـمِينَ}.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد قوله: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} قال: يقول: كنتـم خير الناس للناس, علـى هذا الشرط, أن تأمروا بـالـمعروف, وتنهوا عن الـمنكر, وتؤمنوا بـالله, يقول لـمن بـين ظهريه كقوله: {وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلـى عِلْـمٍ عَلـى العالَـمِينَ}.
6143ـ وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن ميسرة, عن أبـي حازم, عن أبـي هريرة: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} قال: كنتـم خير الناس للناس, تـجيئون بهم فـي السلاسل, تدخـلونهم فـي الإسلام.
6144ـ حدثنا عبـيد بن أسبـاط, قال: حدثنا أبـي, عن فضيـل بن مرزوق, عن عطية فـي قوله: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} قال: خير الناس للناس.
وقال آخرون: إنـما قـيـل: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} لأنهم أكثر الأمـم استـجابة للإسلام. ذكر من قال ذلك:
6145ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قوله: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ تَأمُرُونَ بـالـمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ الـمُنْكَرِ} قال: لـم تكن أمة أكثر استـجابة فـي الإسلام من هذه الأمة, فمن ثم قال: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ}.
وقال بعضهم: عنى بذلك أنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس. ذكر من قال ذلك:
6146ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد, عن الـحسن فـي قوله: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ تَأْمُرُونَ بـالـمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ الـمُنْكَرِ} قال: قد كان ما تسمع من الـخير فـي هذه الأمة:
6147ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعد عن قتادة قال: كان الـحسن يقول: نـحن آخرها وأكرمها علـى الله.
قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الاَية ما قال الـحسن, وذلك أن:
6148ـ يعقوب بن إبراهيـم حدثنـي قال: حدثنا ابن علـية, عن بهز بن حكيـم, عن أبـيه, عن جده, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا إنّكُمْ وَفّـيْتُـمْ سَبْعِينَ أُمّةً أنْتُـمْ آخِرُها وأكْرَمُها علـى اللّهِ».
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن بهز بن حكيـم, عن أبـيه, عن جده, أنه سمع النبـيّ صلى الله عليه وسلم يقول فـي قوله: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} قال: «أنْتُـمْ تُتِـمّونَ سَبْعِينَ أُمّةً أنْتُـمْ خَيْرُها وأكْرَمُها علـى اللّهِ».
6149ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم, وهو مسند ظهره إلـى الكعبة: «نَـحْنُ نُكَمّلُ يَوْمَ القِـيامَةِ سَبْعينَ أُمّةً نَـحْنُ آخرُها وخَيْرُها».
وأما قوله: {تَأْمُرُونَ بـالـمَعْرُوفِ} فإنه يعنـي: تأمرون بـالإيـمان بـالله ورسوله, والعمل بشرائعه, {وَتَنْهَوْنَ عَنِ الـمُنْكَر} يعنـي: وتنهون عن الشرك بـالله, وتكذيب رسوله, وعن العمل بـما نهى عنه. كما:
6150ـ حدثنا علـيّ بن داود, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} يقول: تأمرونهم بـالـمعروف أن يشهدوا أن لا إله إلا الله, والإقرار بـما أنزل الله, وتقاتلونهم علـيه, ولا إله إلا الله هو أعظم الـمعروف, وتنهونهم عن الـمنكر والـمنكر: هو التكذيب, وهو أنكر الـمنكر.
وأصل الـمعروف: كل ما كان معروفـا ففعله جميـل مستـحسن غير مستقبح فـي أهل الإيـمان بـالله. وإنـما سميت طاعة الله معروفـا, لأنه مـما يعرفه أهل الإيـمان ولا يستنكرون فعله. وأصل الـمنكر ما أنكره الله, ورأوه قبـيحا فعله, ولذلك سميت معصية الله منكرا, لأن أهل الإيـمان بـالله يستنكرون فعلها, ويستعظمون ركوبها. وقوله: {وَتؤْمِنُونَ بـاللّهِ} يعنـي: تصدّقون بـالله, فتـخـلصون له التوحيد والعبـادة.
فإن سأل سائل فقال: وكيف قـيـل: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ} وقد زعمت أن تأويـل الاَية أن هذه الأمة خير الأمـم التـي مضت, وإنـما يقال: كنتـم خير أمة, لقوم كانوا خيارا فتغيروا عما كانوا علـيه؟ قـيـل: إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت إلـيه, وإنـما معناه: أنتـم خير أمة, كما قـيـل: {وَاذْكُرُوا إذْ أنْتُـمْ قَلِـيـلٌ} وقد قال فـي موضع آخر: {وَاذْكُرُوا إذْ كُنْتُـمْ قَلِـيلاً فَكَثّرَكُمْ} فإدخال «كان» فـي مثل هذا وإسقاطها بـمعنى واحد, لأن الكلام معروف معناه. ولو قال أيضا فـي ذلك قائل: كنتـم بـمعنى التـمام, كان تأويـله: خـلقتـم خير أمة, أو وجدتـم خير أمة, كان معنى صحيحا, وقد زعم بعض أهل العربـية أن معنى ذلك: كنتـم خير أمة عند الله فـي اللوح الـمـحفوظ أخرجت للناس, والقولان الأوّلان اللذان قلنا, أشبه بـمعنى الـخبر الذي رويناه قبل.
وقال آخرون معنى ذلك: كنتـم خير أهل طريقة, وقال: الأمة: الطريقة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتابِ لَكانَ خَيْرا لَهْمُ مِنْهُمُ الـمُؤْمِنُونَ وأكْثَرُهُم الفـاسِقونَ}.
يعنـي بذلك تعالـى ذكره: ولو صدّق أهل التوراة والإنـجيـل من الـيهود والنصارى بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وما جاءهم به من عند الله, لكان خيرا لهم عند الله فـي عاجل دنـياهم, وآجل آخرتهم. {مِنْهُمُ الـمُؤْمِنُونَ} يعنـي من أهل الكتاب من الـيهود والنصارى, الـمؤمنون الـمصدّقون رسول الله صلى الله عليه وسلم فـيـما جاءهم به من عند الله, وهم عبد الله بن سلام, وأخوه, وثعلبة بن سَعْيَة وأخوه, وأشبـاههم مـمن آمنوا بـالله, وصدّقوا برسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم, واتبعوا ما جاءهم به من عند الله. {وأكْثَرُهُمُ الفـاسِقُونَ} يعنـي: الـخارجون عن دينهم, وذلك أن من دين الـيهود اتبـاع ما فـي التوراة, والتصديق بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, ومن دين النصارى اتبـاع ما فـي الإنـجيـل, والتصديق به وبـما فـي التوراة, وفـي كلا الكتابـين صفة مـحمد صلى الله عليه وسلم ونعته, ومبعثه, وأنه نبـيّ الله, وكلتا الفرقتـين, أعنـي الـيهود والنصارى مكذبة, فذلك فسقهم وخروجهم عن دينهم الذي يدّعون أنهم يدينون به الذي قال جلّ ثناؤه {وأكْثَرُهُمُ الفـاسِقُونَ}. وقال قتادة بـما:
6151ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {مِنْهُمُ الـمُؤمِنونَ وأكْثَرُهُمُ الفـاسِقُونَ}: ذمّ الله أكثر الناس.
الآية : 111
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَن يَضُرّوكُمْ إِلاّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلّوكُمُ الأدُبَارَ ثُمّ لاَ يُنصَرُونَ }
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: لن يضركم يا أهل الإيـمان بـالله ورسوله, هؤلاء الفـاسقون من أهل الكتاب بكفرهم, وتكذيبهم نبـيكم مـحمدا صلى الله عليه وسلم شيئا إلا أذى, يعنـي بذلك ولكنهم يؤذونكم بشركهم, وإسماعكم كفرهم, وقولهم فـي عيسى وأمه وعزير, ودعائهم إياكم إلـى الضلالة, ولا يضرّونكم بذلك, وهذا من الاستثناء الـمنقطع, الذي هو مخالف معنى ما قبله, كما قـيـل ما اشتكى شيئا إلا خيرا, وهذه كلـمة مـحكية عن العرب سماعا.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
6152ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {لَنْ يَضُرّوكمْ إلاّ أذًى} يقول: لن يضرّوكم إلا أذى تسمعونه منهم.
6153ـ حُدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قوله: {لَنْ يَضُرّوكُمْ إلاّ أذًى} قال: أذى تسمعونه منهم.
6154ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: {لَنْ يَضُرّوكُمْ إلاّ أذًى} قال: إشراكهم فـي عُزَير وعيسى والصلـيب.
6155ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, عن عبـاد, عن الـحسن فـي قوله: {لَنْ يَضُرّوكُمْ إلاّ أذًى}... الاَية, قال: تسمعون منهم كذبـا علـى الله, يدعونكم إلـى الضلالة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلّوكُمُ الأدْبـارَ ثُمّ لا يُنْصَرُونَ}.
يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وإن يقاتلكم أهل الكتاب من الـيهود والنصارى, يهزموا عنكم, فـيولوكم أدبـارهم انهزاما, فقوله: {يُوَلّوكُمُ الأدْبـارَ} كناية عن انهزامهم, لأن الـمنهزم يحوّل ظهره إلـى جهة الطالب هربـا إلـى ملـجأ, وموئل يئل إلـيه منه, خوفـا علـى نفسه, والطالب فـي أثره, فدبر الـمطلوب حينئذٍ يكون مـحاذي وجه الطالب الهازمة. {ثُمّ لا يُنْصَرُونَ} يعنـي: ثم لا ينصرهم الله أيها الـمؤمنون علـيكم لكفرهم بـالله ورسوله, وإيـمانكم بـما آتاكم نبـيكم مـحمد صلى الله عليه وسلم, لأن الله عزّ وجلّ قد ألقـى الرعب فـي قلوب كائدكم أيها الـمؤمنون بنصركم. وهذا وعد من الله تعالـى ذكره نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم وأهل الإيـمان نصرهم علـى الكفرة من أهل الكتاب. وإنـما رفع قوله: {ثُمّ لا يُنْصَرُونَ} وقد جزم قوله: {يُوَلّوكم الأدْبـارَ} علـى جواب الـجزاء ائتنافـا للكلام, لأن رءوس الاَيات قبلها بـالنون, فألـحق هذه بها, قال: {وَلا يُؤذَنُ لَهُمْ فَـيَعْتَذِرُونَ} رفعا, وقد قال فـي موضع آخر: {لا يُقْضَى علَـيْهِمْ فَـيَـمُوتُو} إذ لـم يكن رأس آية.
الآية : 112
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوَاْ إِلاّ بِحَبْلٍ مّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مّنَ النّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }
يعنـي بقول جلّ ثناؤه {ضُرِبَتْ عَلَـيْهِمْ الذّلّةُ} ألزموا الذلة, والذلة: الفعلة من الذلّ, وقد بـينا ذلك بشواهده فـي غير هذا الـموضع. {أيْنَـما ثُقِـفُو} يعنـي: حيثما لقوا. يقول جلّ ثناؤه: ألزم الـيهود الـمكذّبون بـمـحمد صلى الله عليه وسلم الذلة أينـما كانوا من الأرض, وبأيّ مكان كانوا من بقاعها من بلاد الـمسلـمين والـمشركين, إلا بحبل من الله, وحبل من الناس كما:
6156ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا هوذة, قال: حدثنا عوف, عن الـحسن فـي قوله: {ضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ أيْنَـما ثُقـفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَاللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ وَضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الـمَسْكَنَةُ} قال: أدركتهم هذه الأمة, وإن الـمـجوس لتـجبـيهم الـجزية.
6157ـ حدثنـي مـحمد بن سنان, قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي, قل: حدثنا عبـاد, عن الـحسن فـي قوله: {ضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ أيْنَـما ثُقِـفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} قال: أذلهم الله فلا منعة لهم وجعلهم الله تـحت أقدام الـمسلـمين.
وأما الـحبل الذي ذكره الله فـي هذا الـموضع, فإنه السبب الذي يأمنون به علـى أنفسهم من الـمؤمنـين, وعلـى أموالهم وذراريهم من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يثقـفوا فـي بلاد الإسلام. كما:
6158ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: {إلاّ بْحَبْلٍ مِنَ اللّهِ} قال: بعهد, {وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} قال: بعهدهم.
6159ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {ضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ أيْنَـما ثُقِـفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} يقول: إلا بعهد من الله, وعهد من الناس.
حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.
6160ـ حدثنا حميد بن مسعدة, قال: حدثنا يزيد, عن عثمان بن غياث, قال عكرمة: يقول: {إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} قال: بعهد من الله, وعهد من الناس.
6161ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} يقول: إلا بعهد من الله, وعهد من الناس.
6162ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قوله: {إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} يقول: إلا بعهد من الله, وعهد من الناس.
6163ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: {أيْنَـما ثُقِـفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} فهو عهد من الله, وعهد من الناس, كما يقول الرجل: ذمة الله, وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم, فهو الـميثاق.
6164ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج قال: قال مـجاهد: {أيْنَـما ثُقِـفُوا إلاّ بْحَبلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} قال: بعهد من الله, وعهد من الناس لهم. قال ابن جريج وقال عطاء: العهد: حبل الله.
6165ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: {أيْنَـما ثُقِـفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} قال: إلا بعهد وهم يهود, قال: والـحبل: العهد. قال: وذلك قول أبـي الهيثم بن التـيهان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتته الأنصار فـي العقبة: أيها الرجل إنا قاطعون فـيك حبـالاً بـيننا وبـين الناس, يقول: عهودا. قال: والـيهود لا يأمنون فـي أرض من أرض الله إلا بهذا الـحبل الذي الله قال عزّ وجلّ, وقرأ: {وَجاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلـى يَوْمِ القِـيامَةِ} قال: فلـيس بلد فـيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود فـي شرق ولا غرب هم فـي البلدان كلها مستذلون, قال الله: {وَقَطّعناهُمْ فِـي الأرْض أمـم} يهود.
6166ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك فـي قوله: {إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} بقول: بعهد من الله, وعهد من الناس.
حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك, مثله.
واختلف أهل العربـية فـي الـمعنى الذي جلب البـاء فـي قوله: {إلاّ بحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} فقال بعض نـحويـي الكوفة: الذي جلب البـاء فـي قوله: {بِحَبْلٍ} فعل مضمر قد ترك ذكره. قال: ومعنى الكلام: ضربت علـيهم الذلة أينـما ثقـفوا, إلا أن يعتصموا بحبل من الله, فأضمر ذلك. واستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر:
رأتْنِـي بِحَبْلَـيْها فَصَدّتْ مَخافَةًوفـي الـحَبْل رَوْعاءُ الفُؤاد فَرُوقُ
وقال: أراد: أقْبَلْتُ بحبلـيها. وبقول الاَخر:
حَنَتْنِـي حانِـياتُ الدّهْر حتـىكأنـي خاتِلٌ أحْنُو لِصَيْد
فأوجب إعمال فعل مـحذوف وإظهار صلته وهو متروك, وذلك فـي مذاهب العربـية ضعيف, ومن كلام العرب بعيد. وأما ما استشهد به لقوله من الأبـيات, فغير دالّ علـى صحة دعواه, لأن فـي قول الشاعر: «رأتنـي بحبلـيها», دلالة بـينة فـي أنها رأته بـالـحبل مـمسكا, ففـي إخبـاره عنها أنها رأته بحبلـيها إخبـار منه أنها رأته مـمسكا بـالـحبلـين, فكان فـيـما ظهر من الكلام مستغنى عن ذكر الإمساك, وكانت البـاء صلة لقوله: «رأتنـي», كما فـي قول القائل: أنا بـالله مكتف بنفسه, ومعرفة السامع معناه أن تكون البـاء مـحتاجة إلـى كلام يكون لها جالبـا غير الذي ظهر, وأن الـمعنى أنا بـالله مستعين.
وقال بعض نـحويـي البصرة: قوله: {إلاّ بَحَبْلٍ مِنَ اللّهِ} استثناء خارج من أوّل الكلام, قال: ولـيس ذلك بأشدّ من قوله: {لا يَسْمَعُونَ فِـيها لَغْوا إلاّ سَلام}.
وقال آخرون من نـحويـي الكوف: هو استثناء متصل. والـمعنى: ضربت علـيهم الذلة أينـما ثقـفوا: أي بكلّ مكان, إلا بـموضع حبل من الله, كما تقول: ضربت علـيهم الذلة فـي الأمكنة إلا فـي هذا الـمكان, وهذا أيضا طلب الـحقّ, فأخطأ الـمفصل, وذلك أنه زعم أنه استثناء متصل, ولو كان متصلاً كما زعم لوجب أن يكون القوم إذا ثقـفوا بحبل من الله وحبل من الناس غير مضروبة علـيهم الـمسكنة, ولـيس ذلك صفة الـيهود لأنهم أينـما ثقـفوا بحبل من الله وحبل من الناس, أو بغير حبل من الله عزّ وجلّ, وغير حبل من الناس, فـالذلة مضروبة علـيهم علـى ما ذكرنا عن أهل التأويـل قبل. فلو كان قوله: {إلاّ بحَبْلٍ مِنَ الله وَحَبْلٍ مِنَ النّاس} استثناء متصلاً لوجب أن يكون القوم إذا ثقـفوا بعهد وذمة, أن لا تكون الذلة مضروبة علـيهم. وذلك خلاف ما وصفهم الله به من صفتهم, وخلاف ما هم به من الصفة, فقد تبـين أيضا بذلك فساد قول هذا القائل أيضا. ولكن القول عندنا أن البـاء فـي قوله: {إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ} أدخـلت لأن الكلام الذي قبل الاستثناء مقتض فـي الـمعنى البـاء, وذلك أن معنى قولهم: {ضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةَ أيْنَـما ثُقِـفُو}: ضربت علـيهم الذلة بكل مكان ثقـفوا, ثم قال: {إلاّ بَحْبلٍ مِنَ اللّهِ وَحبْلٍ مِنَ النّاسِ} علـى غير وجه الاتصال بـالأول, ولكنه علـى الانقطاع عنه, ومعناه: ولكن يثقـفون بحبل من الله وحبل من الناس, كما قـيـل: {وَما كانَ لـمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَط} فـالـخطأ وإن كان منصوبـا بـما عمل فـيـما قبل الاستنثاء, فلـيس قوله بـاستثناء متصل بـالأوّل بـمعنى إلا خطأ, فإن له قتله كذلك, ولكن معناه: ولكن قد يقتله خطأ, فكذلك قوله: {أيْنَـما ثُقِـفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ} وإن كان الذي جلب البـاء التـي بعد إلا الفعل الذي يقتضيها قبل إلا, فلـيس الاستثناء بـالاستثناء الـمتصل بـالذي قبله بـمعنى أن القوم إذا لقوا, فـالذلة زائلة عنهم, بل الذلة ثابتة بكلّ حال, ولكن معناه ما بـينا آنفـا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَبـاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الـمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِـياءَ بِغَيْرِ حَقّ}.
يعنـي تعالـى ذكره: {وَبـاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ}: وتـحملوا غضب الله, فـانصرفوا به مستـحقـيه. وقد بـينا أصل ذلك بشواهده, ومعنى الـمسكنة, وأنها ذلّ الفـاقة والفقر وخشوعهما, ومعنى الغضب من الله فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
وقوله: {ذَلِكَ بأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ} يعنـي جلّ ثناؤه بقوله ذلك: أي بَؤؤُهم الذي بـاءوا به من غضب الله, وضرب الذلة علـيهم, بدل مـما كانوا يكفرون بآيات الله, يقول: مـما كانوا يجحدون أعلام الله وأدلته علـى صدق أنبـيائه, وما فرض علـيهم من فرائضه. {وَيَقْتُلُونَ الأنْبِـياءَ بِغَيْرِ حَقّ} يقول: وبـما كانوا يقتلون أنبـياءهم ورسل الله إلـيهم, اعتداء علـى الله, وجراءة علـيه بـالبـاطل, وبغير حقّ استـحقوا منهم القتل.
فتأويـل الكلام: ألزموا الذلة بأيّ مكان لقوا, إلا بذمة من الله وذمة من الناس, وانصرفوا بغضب من الله متـحملـيه, وألزموا ذلّ الفـاقة, وخشوع الفقر, بدلاً مـما كانوا يجحدون بآيات الله, وأدلته وحججه, ويقتلون أنبـياءه بغير حقّ ظلـما واعتداء.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكَ بِـمَا عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ}.
يقول تعالـى ذكره: فعلنا بهم ذلك بكفرهم, وقتلهم الأنبـياء, ومعصيتهم ربهم, واعتدائهم أمر ربهم. وقد بـينا معنى الاعتداء فـي غير موضع فـيـما مضى من كتابنا بـما فـيه الكفـاية عن إعادته. فأعلـم ربنا جلّ ثناؤه عبـاده, ما فعل بهؤلاء القوم من أهل الكتاب, من إحلال الذلة والـخزي بهم فـي عاجل الدنـيا, مع ما ادّخر لهم فـي الاَجل من العقوبة والنكال, وألـيـم العذاب, إذ تعدّوا حدود الله, واستـحلوا مـحارمه, تذكيرا منه تعالـى ذكره لهم, وتنبـيها علـى موضع البلاء الذي من قبله أتوا لـينـيبوا ويذّكروا, وعظة منه لأمتنا, أن لا يستنوا بسنتهم, ويركبوا منهاجهم, فـيسلك بهم مسالكهم, ويحلّ بهم من نقم الله ومثلاته ما أحلّ بهم. كما:
6167ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {ذَلِكَ بِـمَا عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ} اجتنبوا الـمعصية والعدوان, فإن بهما أهلك من أهلك قبلكم من الناس
الآية : 113
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَيْسُواْ سَوَآءً مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَآءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ }
يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {لَـيْسُوا سَوَاءً} لـيس فريقا أهل الكتاب, أهل الإيـمان منهم والكفر سواء, يعنـي بذلك: أنهم غير متساوين, يقول: لـيسوا متعادلـين, ولكنهم متفـاوتون فـي الصلاح والفساد والـخير والشرّ. وإنـما قـيـل: لـيسوا سواء, لأن فـيه ذكر الفريقـين من أهل الكتاب اللذين ذكرهما الله فـي قوله: {وَلَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتابِ لَكانَ خَيْرَا لَهُمْ مِنْهُمُ الـمُؤْمِنُونَ وأكْثَرُهُمُ الفـاسِقُونَ} ثم أخبر جلّ ثناؤه عن حال الفريقـين عنده, الـمؤمنة منهما والكافرة, فقال: {لَـيْسُوا سَوَاء}: أي لـيس هؤلاء سواء, الـمؤمنون منهم والكافرون. ثم ابتدأ الـخبر جلّ ثناؤه عن صفة الفرقة الـمؤمنة من أهل الكتاب ومدحهم, وأثنى علـيهم بعد ما وصف الفرقة الفـاسقة منهم بـما وصفها به من الهلع ونَـخْب الـجَنان, ومـحالفة الذلّ والصغار, وملازمة الفـاقة والـمسكنة, وتـحمل خزي الدنـيا وفضيحة الاَخرة, فقال: {مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللّـيْـلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}... الاَيات الثلاث, إلـى قوله: {واللّهُ عَلِـيـمٌ بـالـمُتّقِـينَ} فقوله: «أمة قائمة» مرفوعة بقوله: «من أهل الكتاب».
وقد توهم جماعة من نـحويـي الكوفة والبصرة والـمقدّمين منهم فـي صناعتهم, أن ما بعد سواء فـي هذا الـموضع من قوله: {أُمّةٌ قائمَةٌ} ترجمة عن سواء, وتفسير عنه بـمعنى: لا يستوي من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء اللـيـل, وأخرى كافرة, وزعموا أن ذكر الفرقة الأخرى ترك اكتفـاء بذكر إحدى الفرقتـين, وهي الأمة القائمة, ومثّلوه بقول أبـي ذؤيب:
عَصَيْتُ إلَـيْها القَلْبَ إنـي لأمْرِهاسَمِيعٌ فَما أدْرِي أرُشْدٌ طِلابُها
ولـم يقل: «أم غير رشد» اكتفـاء بقوله: «أرشد» من ذكر «أم غير رشد». وبقول الاَخر:
أزَالُ فلا أدْري أهَمّ هَمَـمْتَهُوذو الهَمّ قِدْما خاشِعٌ مُتَضَائِلُ
وهو مع ذلك عندهم خطأ قول القائل الـمريد أن يقول: سواء أقمت أم قعدت, سواء أقمت حتـى يقول أم قعدت, وإنـما يجيزون حذف الثانـي فـيـما كان من الكلام مكتفـيا بواحد دون ما كان ناقصا عن ذلك, وذلك نـحو ما أبـالـي أو ما أدري, فأجازوا فـي ذلك ما أبـالـي أقمت, وهم يريدون: ما أبـالـي أقمت أم قعدت, لاكتفـاء ما أبـالـي بواحد, وكذلك فـي ما أدري, وأبوا الإجازة فـي سواء من أجل نقصانه, وأنه غير مكتف بواحد, فأغفلوا فـي توجيههم قوله: {لَـيْسُوا سَوَاءً مِنْ أهْل الكِتاب أُمّةٌ قائمَةٌ} علـى ما حكينا عنهم إلـى ما وجهوه إلـيه مذاهبهم فـي العربـية, إذ أجازوا فـيه من الـحذف ما هو غير جائز عندهم فـي الكلام مع سواء, وأخطئوا تأويـل الاَية, فسواء فـي هذا الـموضع بـمعنى التـمام والاكتفـاء, لا بـالـمعنى الذي تأوله من حكينا قوله. وقد ذكر أن قوله: {مِنْ أهْل الكِتاب أُمّةٌ قائمَةٌ}... الاَيات الثلاث, نزلت فـي جماعة من الـيهود أسلـموا, فحسن إسلامهم. ذكر من قال ذلك:
6168ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن مـحمد, عن عكرمة أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: لـما أسلـم عبد الله بن سلام, وثعلبة بن سعية, وأسيد بن سعية, وأسد بن عبـيد, ومن أسلـم من يهود معهم, فآمنوا وصدّقوا ورغبوا فـي الإسلام ومنـحوا فـيه, قالت: أحبـار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بـمـحمد ولا تبعه إلا أشرارنا, ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبـائهم, وذهبوا إلـى غيره, فأنزل الله عزّ وجلّ فـي ذلك من قولهم: {لَـيْسُوا سَوَاءً مِنْ أهْل الكتاب أُمّةٌ قائمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ} إلـى قوله: {وأُولَئِكَ مِنَ الصّالِـحينَ}.
حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير, عن مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, قال: ثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, بنـحوه.
6169ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {لَـيْسُوا سَواءً مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ}... الاَية, يقول: لـيس كل القوم هلك, قد كان لله فـيهم بقـية.
6170ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: {أُمّةٌ قائمَةٌ}: عبد الله بن سلام, وثعلبة بن سلام أخوه, وسعية ومبشر, وأسيد وأسد ابنا كعب.
وقال آخرون: معنى ذلك: لـيس أهل الكتاب وأمة مـحمد القائمة بحقّ الله سواء عند الله. ذكر من قال ذلك:
6171ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن الـحسن بن يزيد العجلـي, عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول فـي قوله: {لَـيْسُوا سَوَاءً مِن أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ} قال: لا يستوي أهل الكتاب, وأمة مـحمد صلى الله عليه وسلم.
6172ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: {لَـيْسُوا سَوَاءً مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ}... الاَية, يقول: لـيس هؤلاء الـيهود كمثل هذه الأمة التـي هي قائمة.
وقد بـينا أن أولـى القولـين بـالصواب فـي ذلك قول من قال: قد تـمت القصة عند قوله: {لَـيْسُوا سَوَاءً} عن إخبـار الله بأمر مؤمنـي أهل الكتاب, وأهل الكفر منهم, وأن قوله: {مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ}. خبر مبتدأ عن مدح مؤمنـيهم, ووصفهم بصفتهم, علـى ما قاله ابن عبـاس وقتادة وابن جريج. ويعنـي جلّ ثناؤه بقوله: {أُمّةٌ قائمَةٌ}: جماعة ثابتة علـى الـحقّ. وقد دللنا علـى معنى الأمة فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته.
وأما القائمة, فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله, فقال بعضهم: معناها: العادلة. ذكر من قال ذلك:
6173ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: {أُمَة قائمَةٌ} قال: عادلة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنها قائمة علـى كتاب الله وما أمر به فـيه. ذكر من قال ذلك:
6174ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فـي قوله: {أَمّةٌ قائمَةٌ} يقول: قائمة علـى كتاب الله وفرائضه وحدوده.
6175ـ حُدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قوله: {أُمّةٌ قائِمَةٌ} يقول: قائمة علـى كتاب الله وحدوده وفرائضه.
6176ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: {مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ} يقول: أمة مهتدية قائمة علـى أمر الله, لـم ننزع عنه وتتركه كما تركه الاَخرون وضيعوه.
وقال آخرون: بل معنى قائمة: مطيعة. ذكر من قال ذلك:
6177ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {أُمّةٌ قائمَةٌ} الاَية, يقول: لـيس هؤلاء الـيهود, كمثل هذه الأمة التـي هي قانتة لله والقانتة: الـمطيعة.
وأولـى هذه الأقوال بـالصواب فـي تأويـل ذلك ما قاله ابن عبـاس وقتادة, ومن قال بقولهما علـى ما روينا عنهم, وإن كان سائر الأقال الأخر متقاربة الـمعنى من معنى ما قاله ابن عبـاس وقتادة فـي ذلك. وذلك أن معنى قوله: {قائمةٌ} مستقـيـمة علـى الهدى, وكتاب الله وفرائضه, وشرائع دينه, بـالعدل والطاعة, وغير ذلك من أسبـاب الـخير من صفة أهل الاستقامة علـى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونظير ذلك الـخبر الذي رواه النعمان بن بشير, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَثَلُ القائِمِ علـى حُدُودِ اللّهِ وَالوَاقِعِ فِـيها, كَمَثَلِ قَوْمٍ رَكِبُوا سَفِـينَةً, ثُمّ ضَرَبَ لهُمْ مَثَلاً» فـالقائمُ علـى حُدُودِ اللّهِ هُوَ الثّابِت عَلـى التّـمَسّكِ بِـما أمَرَهُ اللّهُ بهِ وَاجْتِنابِ ما نَهاهُ اللّهُ عَنْهُ.
فتأويـل الكلام: من أهل الكتاب جماعة معتصمة بكتاب الله, متـمسكة به, ثابتة علـى العمل بـما فـيه, وما سنّ له رسوله صلى الله عليه وسلم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللّـيْـلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}.
يعنـي بقوله: {يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ}: يقرءون كتاب الله آناء اللـيـل, ويعنـي بقوله: {آياتِ اللّهِ}: ما أنزل فـي كتابه من العبر والـمواعظ, يقول: يتلون ذلك آناء اللـيـل, يقول: فـي ساعات اللـيـل, فـيتدبرونه ويتفكرون فـيه. وأما {آناءَ اللّـيْـلِ}: فساعات اللـيـل, واحدها: إِنْـيٌ, كما قال الشاعر:
حُلوٌ ومُرّ كعْطفِ القِدْحِ مِرّتَهُفـي كُلّ إنْـيٍ قَضَاهُ اللّـيْـلُ يَنْتَعِلُ
وقد قـيـل إن واحد الاَناء: إِنى مقصور, كما واحد الأمعاء: مِعًى.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: تأويـله: ساعات اللـيـل, كما قلنا. ذكر من قال ذلك:
6178ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللّـيْـلِ}: أي ساعات اللـيـل.
6179ـ حُدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: {آناءَ اللّـيْـلِ}: ساعات اللـيـل.
6180ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال عبد الله بن كثـير: سمعنا العرب تقول: {آناءَ اللّـيْـلِ}: ساعات اللـيـل.
وقال آخرون {آناءَ اللّـيْـلِ}: جوف اللـيـل. ذكر من قال ذلك:
6181ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: {يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللّـيْـلِ} أما آناء اللـيـل: فجوف اللـيـل.
وقال آخرون: بل عنـي بذلك قوم كانوا يصلون العشاء الأخيرة. ذكر من قال ذلك:
6182ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن الـحسن بن يزيد العجلـي, عن عبد الله بن مسعود فـي قوله: {يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللّـيْـلِ}: صلاة العتـمة, هم يصلونها, ومن سواهم من أهل الكتاب لا يصلـيها.
6183ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثنـي يحيـى بن أيوب, عن عبـيد الله صلى الله عليه وسلم ذات لـيـلة كان عند بعض أهله ونسائه, فلـم يأتنا لصلاة العشاء حتـى ذهب لـيـلٌ, فجاء ومنا الـمصلـي ومنا الـمضطجع, فبشرنا وقال: «إنه لا يُصَلّـي هذه الصّلاة أحَدٌ مِنْ أَهْلِ الكِتابِ», فأنزل الله: {لَـيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ اناءَ اللّـيْـلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}.
6184ـ حدثنـي يونس, قال: ثنا, علـيّ بن معبد, عن أبـي يحيـى الـخراسانـي, عن نصر بن طريف, عن عاصم, عن زر بن حبـيش, عن عبد الله بن مسعود, قال: خرج علـينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونـحن ننتظر العشاء ـ يريد العتـمة ـ فقال لنا: «ما علـى الأرْضِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأدْيَانِ يَنْتَظِرُ هذه الصّلاةَ فـي هذا الوَقْتِ غَيْرُكُمْ» قال: فنزلت: {لَـيْسُوا سَوَاءً مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللّـيْـلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}.
وقال آخرون: بل عنـي بذلك قوم كانوا يصلون فـيـما بـين الـمغرب والعشاء. ذكر من قال ذلك:
6185ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن منصور, قال: بلغنـي أنها نزلت: {لَـيْسُوا سَوَاءً مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناء اللّـيْـلِ وَهُمْ يَسْجُدونَ} فـيـما بـين الـمغرب والعشاء.
وهذه الأقوال التـي ذكرتها علـى اختلافها متقاربة الـمعانـي, وذلك أن الله تعالـى ذكره, وصف هؤلاء القوم, بأنهم يتلون آيات الله فـي ساعات اللـيـل, وهي آناؤه, وقد يكون تالـيها فـي صلاة العشاء تالـيا لها آناء اللـيـل, وكذلك من تلاها فـيـما بـين الـمغرب والعشاء, ومن تلاها جوف اللـيـل, فكلّ تال له ساعات اللـيـل.
غير أن أولـى الأقوال بتأويـل الاَية, قول من قال: عنـي بذلك: تلاوة القرآن فـي صلاة العشاء, لأنها صلاة لا يصلـيها أحد من أهل الكتاب, فوصف الله أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم بأنهم يصلونها دون أهل الكتاب الذين كفروا بـالله ورسوله.
وأما قوله: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} فإن بعض أهل العربـية زعم أن معنى السجود فـي هذا الـموضع اسم الصلاة لا السجود, لأن التلاوة لا تكون فـي السجود ولا فـي الركوع, فكان معنى الكلام عنده: يتلون آيات الله آناء اللـيـل وهم يصلون, ولـيس الـمعنى علـى ما ذهب إلـيه, وإنـما معنى الكلام: من أهل الكتاب أمة قائمة, يتلون آيات الله آناء اللـيـل فـي صلاتهم, وهم مع ذلك يسجدون فـيها, فـالسجود هو السجود الـمعروف فـي الصلاة.
الآية : 114-115
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـَئِكَ مِنَ الصّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتّقِينَ }
يعنـي بقوله جلّ وعزّ: {يُؤْمِنُونَ بـاللّهِ وَالـيَوْمِ الاَخِرِ}: يصدّقون بـالله, وبـالبعث بعد الـمـمات, ويعلـمون أن الله مـجازيهم بأعمالهم¹ ولـيسوا كالـمشركين الذين يجحدون وحدانـية الله, ويعبدون معه غيره, ويكذّبون بـالبعث بعد الـمـمات, وينكرون الـمـجازاة علـى الأعمال والثواب والعقاب. وقوله: {وَيأْمُرُونَ بـالـمَعْرُوفِ} يقول: يأمرون الناس بـالإيـمان بـالله ورسوله, وتصديق مـحمد صلى الله عليه وسلم, وما جاءهم به. {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الـمُنْكَرِ} يقول: وينهون الناس عن الكفر بـالله, وتكذيب مـحمد, وما جارهم به من عند الله: يعنـي بذلك: أنهم لـيسوا كالـيهود والنصارى, الذي يأمرون الناس بـالكفر, وتكذيب مـحمد فـيـما جارهم به, وينهونهم عن الـمعروف من الأعمال, وهو تصديق مـحمد فـيـما أتاهم به من عند الله: {وَيسارِعونَ فِـي الـخَيْراتِ} يقول: ويبتدرون فعل الـخيرات خشية أن يفوتهم ذلك قبل معاجلتهم مناياهم. ثم أخبر جلّ ثناؤه أن هؤلاء الذين هذه صفتهم من أهل الكتاب هم من عداد الصالـحين, لأن من كان منهم فـاسقا قد بـاء بغضب من الله, لكفره بـالله وآياته, وقتلهم الأنبـياء بغير حقّ, وعصيانه ربه, واعتدائه فـي حدوده. القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
اختلف القراء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قراء الكوفة: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْر فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} جميعا, ردّا علـى صفة القوم الذين وصفهم جلّ ثناؤه بأنهم يأمرون بـالـمعروف وينهون عن الـمنكر. وقرأته عامة قراء الـمدينة والـحجاز وبعض قراء الكوفة بـالتاء فـي الـحرفـين جميعا: {وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفُرُوهُ} بـمعنى: وما تفعلوا أنتـم أيها الـمؤمنون من خير فلن يكفركموه ربكم. وكان بعض قراء البصرة يرى القراءتـين فـي ذلك جائزا بـالـياء والتاء فـي الـحرفـين.
والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا: {وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} بـالـياء فـي الـحرفـين كلـيهما, يعنـي بذلك الـخبر عن الأمة القائمة, التالـية آيات الله. وإنـما اخترنا ذلك, لأن ما قبل هذه الاَية من الاَيات خبر عنهم, فإلـحاق هذه الاَية إذ كان لا دلالة فـيها تدلّ علـى الانصراف عن صفتهم بـمعانـي الاَيات قبلها أولـى من صرفها عن معانـي ما قبلها. وبـالذي اخترنا من القراءة كان ابن عبـاس يقرأ.
6186ـ حدثنـي أحمد بن يوسف, قال: حدثنا القاسم بن سلام, قال: حدثنا حجاج, عن هارون, عن أبـي عمرو بن العلاء, قال: بلغنـي عن ابن عبـاس أنه كان يقرؤها جميعا بـالـياء.
فتأويـل الاَية إذًا علـى ما اخترنا من القراءة: وما تفعل هذه الأمة من خير, وتعمل من عمل لله فـيه رضا فلن يكفرهم الله ذلك¹ يعنـي بذلك: فلن يبطل الله ثواب عملهم ذلك, ولا يدعهم بغير جزاء منه لهم علـيه, ولكنه يجزل لهم الثواب علـيه, ويُسنـي لهم الكرامة والـجزاء.
وقد دللنا علـى معنى الكفر مضى قبل بشواهده, وأن أصله تغطية الشيء, فكذلك ذلك فـي قوله: {فَلَنْ يُكْفَرُوهُ}: فلن يغطي علـى ما فعلوا من خير, فـيتركوا بغير مـجازاة, ولكنهم يشكرون علـى ما فعلوا من ذلك, فـيجزل لهم الثواب فـيه.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك من التأويـل تأوّل ذلك من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
6187ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفَرُوهُ» يقول: لن يضلّ عنكم.
6188ـ حُدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, بـمثله.
وأما قوله: {وَاللّهُ عَلـيـمٌ بـالـمُتّقِـينَ} فإنه يقول تعالـى ذكره: والله ذو علـم بـمن اتقاه بطاعته, واجتناب معاصيه, وحافظ أعمالهم الصالـحة حتـى يثـيبهم علـيها, ويجازيهم بها. تبشيرا منه لهم جلّ ذكره فـي عاجل الدنـيا, وحضّا لهم علـى التـمسك بـالذي هم علـيه من صالـح الأخلاق التـي ارتضاها لهم