تفسير الطبري تفسير الصفحة 86 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 86
087
085
 الآية : 46
القول في تأويل قوله تعالى: {مّنَ الّذِينَ هَادُواْ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدّينِ وَلَوْ أَنّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً }..
ولقوله جلّ ثناؤه: {مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ الكَلِمَ} وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون معناه: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا يحرّفون الكلم. فيكون قوله: {مِنَ الّذِينَ هادُو} من صلة «الذين». وإلى هذا القول كانت عامة أهل العربية من أهل الكوفة يوجهون. قوله: {مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ}. والاَخر منهما: أن يكون معناه: من الذين هادوا من يحرّف الكلم عن مواضعه. فتكون «من» محذوفة من الكلام اكتفاء بدلالة قوله: {مِنَ الّذِينَ هادُو} عليها, وذلك أن «مِن» لو ذكرت في الكلام كانت بعضا لـ «مَنْ», فاكتفى بدلالة «مِنْ» عليها, والعرب تقول: منا من يقول ذلك, ومنا لا يقوله, بمعنى: منا من يقول ذاك, ومنا من لا يقوله, فتحذف «من» اكتفاء بدلالة من عليه, كما قال ذو الرمة:
فَظَلّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سابِقٌ لَهُوآخَرُ يُذْرِي دَمْعَةَ العْينِ بالمَهْلِ
يعني: ومنهم من دمعه. وكما قال الله تبارك وتعالى: {وَما مِنّا إلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ}, وإلى هذا المعنى كانت عامة أهل العربية من أهل البصرة يوجهون تأويل قوله: {مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ الكَلِمَ} غير أنهم كانوا يقولون: المضمر في ذلك «القوم», كأن معناه عندهم: من الذين هادوا قوم يحرّفون الكلم, ويقولون: نظير قول النابغة:
كأنّكَ مِنْ جِمالِ بني أُقَيْشٍيُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيهِ بِشَنّ
يعني: كأنك جمل من جمال أقيشٍ.
فأما نحويو الكوفة, فينكرون أن يكون المضمر مع «مِن» إلا «مَن«أو ما أشبهها.
والقول الذي هو أولى بالصواب عندي في ذلك قول من قال قوله: {مِنَ الذِينَ هادُو} من صلة الذين أوتوا نصيبا من الكتاب, لأن الخبرين جميعا والصفتين من صفة نوع واحد من الناس, وهم اليهود الذين وصف الله صفتهم في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ}. وبذلك جاء تأويل أهل التأويل, فلا حاجة بالكلام إذ كان الأمر كذلك إلى أن يكون فيه متروك.
وأما تأويل قوله: {يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} فإنه يقول: يبدّلون معناها ويغيرونها عن تأويله, والكلم جماع كلمة. وكان مجاهد يقول: عنى بالكلم: التوراة.
7749ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: {يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}: تبديل اليهود التوراة.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
وأما قوله: {عَنْ مَوَاضِعِهِ} فإنه يعني: عن أماكنه ووجوهه التي هي وجوهه.
وأما تأويل قوله: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْن}.
يعني بذلك جلّ ثناؤه: من الذين هادوا يقولون: سمعنا يا محمد قولك, وعصينا أمرك. كما:
7750ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد, في قوله: {سَمِعْنا وَعَصَيْن} قال: قالت اليهود: سمعنا ما تقول, ولا نطيعك.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
7751ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {سَمعنا وَعَصَيْن} قالوا: قد سمعنا, ولكن لا نطيعك.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ}.
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن اليهود الذين كانوا حوالى مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره, أنهم كانوا يسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤذونه بالقبيح من القول, ويقولون له: اسمع منا غير مسمع, كقول القائل للرجل يسبه: اسمع لا أسمعك الله. كما:
7752ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ} قال: هذا قول أهل الكتاب يهود, كهيئة ما يقول الإنسان: اسمع لاسمعت, أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وشتما له واستهزاء.
7753ـ حُدثت عن المنجاب, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ} قال: يقولون لك: واسمع لاسمعت.
وقد رُوي عن مجاهد والحسن أنهما كانا يتأوّلان في ذلك بمعنى: واسمع غير مقبول منك. ولو كان ذلك معناه لقيل: واسمع غير مسموع, ولكن معناه: واسمع لاتسمع, ولكن قال الله تعالى ذكره: {لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ} فوصفهم بتحريف الكلام بألسنتهم والطعن في الدين بسبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأما القول الذي ذكرته عن مجاهد: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ} يقول: غير مقبول ما تقول, فهو كما:
7754ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ} قال: غير مستمع. قال ابن جريج عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ}: غير مقبول ما تقول.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
7755ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الحسن, في قوله: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ} قال: كما تقول: اسمع غير مسموع منك.
7756ـ وحدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: كان ناس منهم يقولون: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ} كقولك: اسمع غير صاغ.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَرَاعِنا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ}.
يعني بقوله: {وَرَاعِن}: أي راعنا سمعك, افهم عنا وأفهمنا. وقد بينا تأويل ذلك في سورة البقرة بأدلته بما فيه الكفاية عن إعادته.
ثم أخبر الله جلّ ثناؤه عنهم أنهم يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَيّا بألْسِنَتِهِمْ} يعني: تحريكا منهم بألسنتهم بتحريف منهم لمعناه إلى المكروه من معنييه, واستخفافا منهم بحقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم {وَطَعْنا فِي الدّين}. كما:
7757ـ حدثني الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, قال: قال قتادة: كانت اليهود يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم: راعنا سمعك! يستهزئون بذلك, فكانت اليهود قبيحة, فقال: راعنا سمعك ليّا بألسنتهم¹ والليّ: تحريكهم ألسنتهم بذلك, {وطَعْنا في الدّينِ}.
7758ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {رَاعِنا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ} كان الرجل من المشركين يقول: أرعني سمعك! يلوي بذلك لسانه, يعني: يحرّف معناه.
7759ـ حدثنا محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: {مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}... إلى: {وَطَعْنا فِي الدّينِ} فإنهم كانوا يستهزئون ويلوون ألسنتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويطعنون في الدين.
7760ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: {وَرَاعِنا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ} قال: «راعنا» طعنهم في الدين, وليهم بألسنتهم ليبطلوه ويكذبوه. قال: والراعن: الخطأ من الكلام.
7761ـ حُدثت عن المنجاب, قال: حدثنا بشر, أبو روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: {لَيّا بألْسِنَتِهِمْ} قال: تحريفا بالكذب.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أنّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وَاسمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأقُوَمَ}.
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ولو أن هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم قالوا لنبيّ لله: سمعنا يا محمد قولك, وأطعنا أمرك, وقبلنا ما جئتنا به من عند الله, واسمع منا, وانظرنا ما نقول, وانتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا, {لَكَانَ خَيْرا لَهُمْ وأَقْوَمَ} يقول: لكان ذلك خيرا لهم عند الله وأقوم, يقول: وأعدل وأصوب في القول. وهو من الاستقامة من قول الله: {وَأقْوَمَ قِيل} بمعنى: وأصوب قيلاً. كما:
7762ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {وَلَوْ أنّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وَاسمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْرا لَهُمْ} قال: يقولون: اسمع منا فإنا قد سمعنا وأطعنا, وانظرنا فلا تعجل علينا.
7763ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو تميلة, عن أبي حمزة, عن جابر, عن عكرمة ومجاهد, قوله: {وَانظُرْن} قال: اسمع منا.
7764ـ حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: {وَانْظُرْن} قال: أفهمنا.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {وَانْظُرْن} قال: أفهمنا.
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله مجاهد وعكرمة من توجيههما معنى: {وَانْظُرْن} إلى: اسمع منا, وتوجيه مجاهد ذلك إلى: أفهمنا, ما لا نعرف في كلام العرب, إلا أن يكون أراد بذلك من توجيهه إلى أفهمنا: انتظرنا نفهم ما تقول, أو انتظرنا نقل حتى تسمع منا, فيكون ذلك معنى مفهوما وإن كان غير تأويل الكلمة ولا تفسير لها, فلا نعرف «انظرنا» في كلام العرب إلا بمعنى: انتظرنا وانظر إلينا, فأما «انظرنا» بمعنى انتظرنا, فمنه قول الحطيئة:
وَقَدْ نَظَرْتُكُمْ لَوْ أنّ دِرّتَكُمْيَوْما يَجِيءُ بِها مَسْحِي وَإبْساسِي
وأما انظرنا بمعنى: انظر إلينا, فمنه قول عبد الله بن قيس الرقيات:
ظاهِرَاتُ الجَمالِ والحُسْنِ يَنْظُرْنَ كمَا يَنْظُرُ الأرَاكَ الظّباءُ
بمعنى كما ينظر إلى الأراك الظباء.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيل}.
يعني بذلك: ولكن الله تبارك وتعالى أخزى هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الاَية فأقصاهم وأبعدهم من الرشد, واتباع الحقّ بكفرهم, يعني بجحودهم نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, وما جاءهم به من عند ربهم من الهدى والبينات {فلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيل} يقول: فلا يصدّقون بمحمد صلى الله عليه وسلم, وما جاءهم به من عند ربهم, ولا يقرّون بنبوّته إلا قليلاً, يقول: لا يصدّقون بالحقّ الذي جئتهم به يا محمد إلا إيمانا قليلاً. كما:
7765ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: {فَلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيل} قال: لا يؤمنون هم إلا قليلاً.
وقد بينا وجه ذلك بعلله في سورة البقرة.
الآية : 47
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَآ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزّلْنَا مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ مّن قَبْلِ أَن نّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدّهَا عَلَىَ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنّآ أَصْحَابَ السّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ}: اليهود من بني إسرائيل الذين كانوا حوالي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال الله لهم: يا أيها الذين أنزل إليهم الكتاب فأعطوا العلم به, {آمِنُو} يقول: صدّقوا بما أنزلنا إلى محمد من الفرقان, {مُصَدّقا لما مَعَكُمْ} يعني: محققا للذي معكم من التوراة التي أنزلتها إلى موسى بن عمران, {مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِه}.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: طمسه إياه: محوه آثارها حتى تصير كالأقفاء. وقال آخرون: معنى ذلك: أن نطمس أبصارها فنصيرها عمياء, ولكن الخبر خرج بذكر الوجه, والمراد به بصره. {فَنُردّها على أدْبَارِهَ}: فنجعل أبصارها من قبل أقفائها. ذكر من قال ذلك:
7766ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: حدثنا عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: {يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُو}... إلى قوله: {مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوه} وطمسها أن تعمى فنردّها على أدبارها, يقول: أن نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقري ونجعل لأحدهم عينين في قفاه.
7767ـ حدثني أبو العالية إسماعيل بن الهيثم العبديّ, قال: حدثنا أبو قتيبة, عن فضيل بن مرزوق, عن عطية العوفي في قوله: {مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِه} قال: نجعلها في أقفائها فتمشي على أعقابها القهقرى.
حدثني محمد بن عمارة الأسدي, قال: حدثنا عبيد الله بن موسى, قال: حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية بنحوه, إلا أنه قال: طمسها أن يردّها على أقفائها.
7768ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: {فَنَرُدّها عَلى أدْبارِه} قال: نحوّل وجوهها قبل ظهورها.
وقال آخرون: معنى ذلك من قبل أن نعمي قوما عن الحقّ, فنردّها على أدبارها في الضلالة والكفر. ذكر من قال ذلك:
7769ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: {أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِه}: فنردّها عن الصراط الحقّ, {فَنَرُدّها عَلى أدْبارِه} قال: في الضلالة.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {أنْ نَطْمِسَ وُجُوه} عن صراط الحقّ, {فَنَرُدّها عَلى أدْبارِهَ} في الضلالة.
حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن المبارك قراءة عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله.
7770ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, قال الحسن: {نَطْمِسَ وُجُوه} يقول: نطمسها عن الحقّ, {فَنَرُدّها عَلى أدْبارِه}: على ضلالتها.
7771ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ}... إلى قوله: {كمَا لَعَنّا أصحَابَ السّبْتِ} قال: نزلت في مالك بن الصيّف ورفاعة بن زيد بن التابوت من بني قينقاع. أما {أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِه} يقول: فنعميها عن الحقّ, ونرجعها كفارا.
7772ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِه} يعني: أن نردّهم عن الهدى والبصيرة, فقد ردّهم على أدبارهم فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به.
وقال آخرون: معنى ذلك: من قبل أن نمحو آثارهم من وجوههم التي هم بها وناحيتهم التي هم بها, فنردّها على أدبارها من حيث جاءوا منه بدءا من الشام. ذكر من قال ذلك:
7773ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِه} قال: كان أبي يقول: إلى الشام.
وقال آخرون: معنى ذلك: من قبل أن نطمس وجوها فنمحو آثارها ونسوّيها, فنردّها على أدبارها بأن نجعل الوجوه منابت الشعر, كما وجوه القردة منابت للشعر, لأن شعور بني آدم في أدبار وجوههم, فقالوا: إذا أنبت الشعر في وجوههم, فقد ردّها على أدبارها بتصييره إياها كالأقفاء وأدبار الوجوه.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى قوله: {مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوه}: من قبل أن نطمس أبصارها ونمحو آثارها فنسوّيها كالأقفاء, فنردّها على أدبارها, فنجعل أبصارها في أدبارها, يعني بذلك: فنجعل الوجوه في أدبار الوجوه, فيكون معناه: فنحوّل الوجوه أقفاء, والأقفاء وجوها, فيمشون القهقري, كما قال ابن عباس وعطية ومن قال ذلك.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب, لأن الله جلّ ثناؤه خاطب بهذه الاَية اليهود الذين وصف صفتهم بقوله: {ألَمْ تَرَ إلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يَشْتَرُونَ الضّلالَةَ} ثم حذّرهم جلّ ثناؤه بقوله: {يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بمَا نَزّلْنا مُصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِه}... الاَية, بأَسه وسطوَتَه, وتعجيل عقابه لهم إن هم لم يؤمنوا بما أمرهم بالإيمان به, ولا شكّ أنهم كانوا لما أمرهم بالإيمان به يومئذ كفارا. وإذ كان ذلك كذلك, فبّين فساد قول من قال: تأويل ذلك أن نعميها عن الحقّ فنردّها في الضلالة, فما وجه ردّ من هو في الضلالة فيها؟ وإنما يرد في الشيء من كان خارجا منه, فأما من هو فيه فلا وجه لأن يقال: يردّه فيه. وإذ كان ذلك كذلك, وكان صحيحا أن الله قد تهدّد الذين ذكرهم في هذه الاَية بردّه وجوههم على أدبارهم, كان بينا فساد تأويل من قال: معنى ذلك يهدّدهم بردّهم في ضلالتهم.
وأما الذين قالوا: معنى ذلك: من قبل أن نجعل الوجوه منابت الشعر كهيئة وجوه القردة, فقول لقول أهل التأويل مخالف, وكفى بخروجه عن قول أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الخالفين على خطئه شاهدا.
وأما قول من قال: معناه: من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها فنردّهم إلى الشام من مساكنهم بالحجاز ونجد, فإنه وإن كان قولاً له وجهٌ كما يدلّ عليه ظاهر التنزيل بعيد, وذلك أن المعروف من الوجوه في كلام العرب التي هي خلاف الأقفاء, وكتاب الله يوجه تأويله إلى الأغلب في كلام من نزل بلسانه حتى يدلّ على أنه معنيّ به غير ذلك من الوجوه التي ذكرت دليل يجب التسليم له. وأما الطمس: فهو العفو والدثور في استواء¹ ومنه يقال: طمست أعلام الطريق تَطْمِسُ طُمُوسا, إذا دثرت وتعفت فاندفنت واستوت بالأرض, كما قال كعب بن زهير:
منْ كُلّ نَضّاخَةِ الذّفْرَى إذَا عَرقَتْعُرْضَتُها طامِسُ الأعْلامِ مَجْهُولُ
يعني بطامس الأعلام: داثر الأعلام مندفنها. ومن ذلك قيل للأعمى الذي قد تعفيّ غَرّ ما بين جفني عينيه فدثر: أعمى مطموس وطميس, كما قال الله جلّ ثناؤه: {وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا على أعْيُنهِمْ}.
قال أبو جعفر: الغَرّ: الشقّ الذي بين الجفنين.
فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما وصفت من تأويل الاَية, فهل كان ما توعدهم به؟ قيل: لم يكن لأنه آمن منهم جماعة, منهم عبد الله بن سلام, وثعلبة بن سعية, وأسد بن سعية, وأسد بن عبيد, ومخيرق, وجماعة غيرهم, فدفع عنهم بإيمانهم.
ومما يبين عن أن هذه الاَية نزلت في اليهود الذين ذكرنا صفتهم, ما:
7774ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة جميعا, عن ابن إسحاق, قال: ثني محمد بن أبي محمد, مولى زيد بن ثابت, قال: ثني سعيد بن جبير, أو عكرمة, عن ابن عباس, قال: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود, منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد, فقال لهم: «يا مَعْشَرَ يهود اتّقُوا الله وأسْلِمُوا! فوالله إنكم لَتَعْلَمُونَ أنّ الّذي جِئْتُكُمْ به لحقّ» فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد. وجحدوا ما عرفوا, وأصرّوا على الكفر, فأنزل الله فيهم: {يا أيّها الّذينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بمَا نَزّلْنا مُصَدّقا لمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِه}... الاَية.
7775ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا جابر بن نوح, عن عيسى بن المغيرة, قال: تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب, فقال: أسلم كعب في زمان عمر أقبل وهو يريد بيت المقدس, فمرّ على المدينة, فخرج إليه عمر, فقال: يا كعب أسلم! قال: ألستم تقرءون في كتابكم: {مَثَلُ الّذِينَ حُمّلُوا التّوْرَاةَ ثُمّ لَمْ يَحْمِلوها كمَثَل الحمارِ يَحْمِلُ أسْفار}؟ وأنا قد حملت التوراة. قال: فتركه ثم خرج حتى انتهى إلى حمص, قال: فسمع رجلاً من أهلها حزينا, وهو يقول: {يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بِمَا نَزّلْنا مُصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِه}... الاَية, فقال كعب: يا ربّ أسلمت! مخافة أن تصيبه الاَية, ثم رجع فأتى أهله باليمن, ثم جاء بهم مسلمين.
القول في تأويل قوله تعالى: {أوْ نَلْعَنَهُمْ كمَا لَعَنّا أصحَابَ السّبْتِ وكانَ أمْرُ اللّهِ مَفْعُول}.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {أوْ نَلْعَنَهُمْ}: أو نلعنكم, فنخزيكم, ونجعلكم قردة, {كما لَعَنّا أصْحَابَ السّبْتِ} يقول: كما أخزينا الذين اعتدوا في السبت من أسلافكم, قيل ذلك على وجه الخطاب في قوله: {آمِنُوا بمَا نَزّلْنا مُصَدّقا لمَا مَعَكُمْ} كما قال: {حتى إذَا كُنْتُمْ في الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهمْ بِريحٍ طَيّبَةٍ وَفَرِحُوا به}. وقد يحتمل أن يكون معناه: من قبل أن نطمس وجوها فنردّها على أدبارها أو نلعن أصحاب الوجوه, فجعل الهاء والميم في قوله: {أوْ نَلْعَنَهُمْ} من ذكر أصحاب الوجوه, إذ كان في الكلام دلالة على ذلك.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
7776ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ}... إلى قوله: {أوْ نَلْعَنَهُمْ كمَا لَعَنّا أصحَابَ السّبْتِ} أي نحوّلهم قردة.
7777ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الحسن: {أوْ نَلْعَنَهُمْ كمَا لَعَنّا أصحَابَ السّبْتِ} يقول: أو نجعلهم قردة.
7778ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {أوْ نَلْعَنَهُمْ كمَا لَعَنّا أصحَابَ السّبْتِ} إو نجعلهم قردة.
7779ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {أوْ نَلْعَنَهُمْ كمَا لَعَنّا أصحَابَ السّبْتِ} قال: هم يهود جميعا, نلعن هؤلاء كما لعنا الذين لعنا منهم من أصحاب السبت.
وأما قوله: {وكانَ أمْر الله مَفْعُول} فإنه يعني: وكان جميع ما أمر الله أن يكون كائنا مخلوقا موجودا, لا يمتنع عليه خلق شيء شاء خلقه. والأمر في هذا الموضع: المأمور, سمي أمر الله لأنه عن أمره كان وبأمره, والمعنى: وكان ما أمر الله مفعولاً.
الآية : 48
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَىَ إِثْماً عَظِيماً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا مصدّقا لمِا معكم, وإن الله لا يغفر أن يشرك به, فإن الله لا يغفر الشرك به والكفر, ويغفر ما دون ذلك الشرك لمن يشاء من أهل الذنوب والاَثام. وإذ كان ذلك معنى الكلام, فإن قوله: {أنْ يُشْركَ بهِ} في موضع نصب بوقوع يغفر عليها وإن شئت بفقد الخافض الذي كان يخفضها لو كان ظاهرا, وذلك أن يوجه معناه: إلى أن الله لا يغفر بأن يشرك به على تأويل الجزاء, كأنه قيل: إن الله لا يغفر ذنبا مع شرك أو عن شرك¹ وعلى هذا التأويل يتوجه أن تكون «أن» في موضع خفض في قول بعض أهل العربية. وذكر أن هذه الاَية نزلت في أقوام ارتابوا في أمر المشركين حين نزلت: {يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جمِيعا إنّهُ هُوَ الغَفُورُ الرّحِيمُ}. ذكر الخبر بذلك:
7780ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, قال: ثني محبر, عن عبد الله بن عمر, أنه قال: لما نزلت: {يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسهِمْ}... الاَية, قام رجل فقال: والشرك يا نبيّ الله. فكره ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: {إنّ اللّهِ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ باللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إثما عَظِيم}.
حُدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, في قوله: {إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} قال: أخبرني محبر, عن عبد الله بن عمر أنه قال: لما نزلت هذه الاَية: {يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ}... الاَية, قام رجل فقال: والشرك يا نبيّ الله. فكره ذلك النبيّ, فقال: {إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ}.
7781ـ حدثني محمد بن خلف العسقلاني, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا الهيثم بن حماد, قال: حدثنا بكر بن عبد الله المزني, عن ابن عمر, قال: كنا معشر أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لا نشكّ في قاتل النفس, وأكل مال اليتيم, وشاهد الزور, وقاطع الرحم, حتى نزلت هذه الاَية: {إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} فأمسكنا عن الشهادة.
وقد أبانت هذه الاَية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله, إن شاء عفا عنه, وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرة شركا بالله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكُ باللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إثما عَظِيم}.
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ومن يشرك بالله في عبادته غيره من خلقه, فقد افترى إثما عظيما, يقول: فقد اختلق إثما عظيما. وإنما جعله الله تعالى ذكره مفتريا, لأنه قال زورا وإفكا بجحوده وحدانية الله وإقراره بأن لله شريكا من خلقه وصاحبة أو ولدا, فقائل ذلك مفتر, وكذلك كلّ كاذب فهو مفتر في كذبه مختلق له.
الآية : 49
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ألم تر يا محمد بقلبك الذين يزكون أنفسهم من اليهود فيبرّئونها من الذنوب, ويطرونها.
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي كانت اليهود تزكي به أنفسها, فقال بعضهم: كانت تزكيتهم أنفسهم قولهم: {نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحِبّاؤُه}. ذكر من قال ذلك:
7782ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتيل} وهم أعداء الله اليهود زكوا أنفسهم بأمر لم يبلغوه, فقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه, وقالوا: لا ذنوب لنا.
7783ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الحسن في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ} قال: هم اليهود والنصارى, قالوا: {نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحِبّاؤُهُ} وقالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانع هُودا أوْ نَصَارَى}.
7784ـ وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو تميلة, عن عبيد بن سليمان, عن الضحاك, قال: قالت يهود: ليست لنا ذنوب إلا كذنوب أولادنا يوم يولدون, فإن كات لهم ذنوب, فإن لنا ذنوبا, فإنما نحن مثلهم, قال الله تعالى ذكره: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وكَفَى بِهِ إثما مُبِين}.
7785ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزكّونَ أنْفُسَهُمْ} قال: قال أهل الكتاب: {لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَن كانَ هُودا أوْ نَصَارَى} وقالوا: {نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحِبّاؤُهُ} وقالوا: نحن على الذي يحبّ الله. فقال تبارك وتعالى: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَنْ يَشاءُ} حين زعموا أنهم يدخلون الجنة, وأنهم أبناء الله وأحباؤه وأهل طاعته.
7786ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزكّونَ أنْفُسَهُم بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيل} نزلت في اليهود, قالوا: إنا نعّلم أبناءنا التوراة صغارا فلا تكون لهم ذنوب, وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا, ما عملنا بالنهار كُفّر عنا بالليل.
وقال آخرون: بل كانت تزكيتهم أنفسهم تقديمهم أطفالهم لإماتهم في صلاتهم زعما منها أنهم لا ذنوب لهم. ذكر من قال ذلك:
7787ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: {يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ} قال: يهود كانوا يقدّمون صبيانهم في الصلاة فيؤمونهم, يزعمون أنهم لا ذنوب لهم. فتلك التزكية.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن الأعرج, عن مجاهد, قال: كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم ويزعمون أنهم لا ذنوب لهم, فتلك تزكية. قال ابن جريج: هم اليهود والنصارى.
7788ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن حصين, عن أبي مالك في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكُونَ أنْفُسَهُمْ} قال: نزلت في اليهود كانوا يقدّمون صبيانهم يقولون: ليست لهم ذنوب.
7789ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن أبي مكين, عن عكرمة, في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ} قال: كان أهل الكتاب يقدمون الغلمان الذين لم يبلغوا الحنث يصلون بهم, يقولون ليس لهم ذنوب, فأنزل الله: {ألَمْ تَرع إلى الّذِينَ يُزَكُونَ أنْفُسَهُمْ}... الاَية.
وقال آخرون: بل تزكيتهم أنفسهم كات قولهم: إن أبناءنا سيشفعون لنا ويزكوننا. ذكر من قال ذلك:
7790ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ} وذلك أن اليهود قالوا: إن أبناءنا قد توفوا وهم لنا قربة عند الله, وسيشفعون ويزكوننا. فقال الله لمحمد: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ}... إلى {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيل}.
وقال آخرون: بل ذلك كان منهم تزكية من بعضهم لبعض. ذكر من قال ذلك:
7791ـ حدثني فيحيـى بن إبراهيم المسعودي, قال: حدثنا أبي, عن أبيه, عن الأعمش, عن قيس بن مسلم, عن طارق بن شهاب, قال: قال عبد الله: إن الرجل ليغدو بدينه, ثم يرجع وما معه منه شيء! يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرّا, فيقول: والله إنك لذيت وذيت, ولعلّه أن يرجع, ولم يحل من حاجته بشيء, وقد أسخط الله عليه. ثم قرأ: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ}... الاَية.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى تزكية القوم الذين وصفهم الله بأنهم يزكون أنفسهم وصفهم إياها بأنها لا ذنوب لها ولا خطايا, وأنهم لله أبناء وأحباء, كما أخبر الله عنهم أنهم كانوا يقولونه, لأنه ذلك هو أظهر معانيه لإخبار الله عنهم أنها إنما كانوا يزكون أنفسهم دون غيرها.
وأما الذين قالوا: معنى ذلك: تقديمهم أطفالهم للصلاة, فتأويل لا تدرك صحته إلا بخبر حجة يوجب العلم. وأما قوله جلّ ثناؤه: {بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَنْ يَشاءُ} فإنه تكذيب من الله المزكين أنفسهم من اليهود والنصارى, المبرئيها من الذنوب, يقول الله لهم: ما الأمر كما زعمتم أنه لا ذنوب لكم ولا خطايا, وإنكم برآء مما يكرهه الله, ولكنكم أهل فرية وكذب على الله, وليس المزكي من زكى نفسه, ولكنه الذي يزكيه الله, والله يزكي من يشاء من خلقه, فيطهره ويبرئه من الذنوب بتوفيقه لاجتناب ما يكرهه من معصاصيه إلى ما يرضاه من طاعته.
وإنما قلنا إن ذلك كذلك لقوله جلّ ثناؤه: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ} وأخبر أنهم يفترون على الله الكذب بدعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه, وأن الله قد طهرهم من الذنوب.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيل}.
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ولا يظلم الله هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يزكون أنفسهم ولا غيرهم من خلقه, فيبخسهم في تركه تزكيتهم, وتزكية من ترك تزكيته, وفي تزكية من زكى من خلقه شيئا من حقوقهم ولا يضع شيئا في غير موضعه, ولكنه يزكي من يشاء من خلقه, فيوفقه, ويخذل من يشاء من أهل معاصيه¹ كل ذلك إليه وبيده, وهو في كل ذلك غير ظالم أحدا ممن زكاه أو لم يزكه فتيلاً.
واختلف أهل التأويل في معنى «الفتيل», فقال بعضهم: هو ما خرج من بين الإصبعين والكفين من الوسخ إذا فتلت إحداهما بالأخرى. ذكر من قال ذلك:
7792ـ حدثني سليمان بن عبد الجبار, قال: حدثنا أبو كدينة, عن قابوس, عن أبيه, عن ابن عباس, قال: الفتيل: ما خرج من بين أصبعيك.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن أبي إسحاق الهمداني, عن التيمي, قال: سألت ابن عباس, عن قوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيل} قال: ما فتلت بين أصبعيك.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن زيد بن درهم أبي العلاء, قال: سمعت أبا العالية, عن ابن عباس: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيل} قال: الفتيل: هو الذي يخرج من بين إصبعي الرجل.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيل} والفتيل: هو أن تدلك بين أصبعيك, فما خرج بينهما فهو ذلك.
7793ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, قال: خبرنا حصين, عن أبي مالك, في قوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيل} قال: الفتيل: الوسخ الذي يخرج من بين الكفين.
7794ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: الفتيل: ما فتلت به يديك فخرج وسخ.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد, عن ابن عباس, في قوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيل} قال: ما تدلكه في يديك فيخرج بينهما.
وأناس يقولون: الذي يكون في بطن النواة. ذكر من قال ذلك:
7795ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس, قوله: {فَتِيل} قال: الذي في بطن النواة.
7796ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن طلحة بن عمرو, عن عطاء, قال: الفتيل: الذي في بطن النواة.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثني طلحة بن عمرو, أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول, فذكر مثله.
7797ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, قال: قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير, أنه سمع مجاهدا يقول: الفتيل: الذي في شقّ النواة.
7798ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا محمد بن سعيد, قال: حدثنا سفيان بن سعيد, عن منصور, عن مجاهد, قال: الفتيل: في النوى.
7799ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيل} قال: الفتيل: الذي في شقّ النواة.
7800ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول: الفتيل: شِقّ النواة.
7801ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: الفتيل: الذي في بطن النواة.
7802ـ حدثني يحيـى بن أبي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك, قال: الفتيل: الذي يكون في شقّ النواة.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيل}: فتيل النواة.
7803ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا قرّة, عن عطية, قال: الفتيل: الذي في بطن النواة.
قال أبو جعفر: وأصل الفتيل: المفتول, صرف من فمفعول إلى فعيل, كما قيل: صريع ودهين من مصروع ومدهون. وإذ كان ذلك كذلك, وكان الله جلّ ثناؤه إنما قصد بقوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيل} الخبر عن أنه لا يظلم عباده أقلّ الأشياء التي لا خطر لها, فكيف بما له خطر, وكان الوسخ الذي يخرج من بين أصبعي الرجل أو من بين كفيه إذا فتل إحداهما على الأخرى, كالذي هو في شقّ النواة وبطنها, وما أشبه ذلك من الأشياء التي هي مفتولة, مما لا خطر له ولا قيمة, فواجب أن يكون كل ذلك داخلاً في معنى الفتيل, إلا أن يخرج شيئا من ذلك ما يجب التسليم له مما دلّ عليه ظاهر التنزيل.
الآية : 50
القول في تأويل قوله تعالى: {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَىَ بِهِ إِثْماً مّبِيناً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: انظر يا محمد كيف يفتري هؤلاء الذين يزكون أنفسهم من أهل الكتاب القائلون: نحن أبناء الله وأحباؤه, وإنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى, الزاعمون أنه لا ذنوب لهم الكذب والزور من القول, فيختلفونه على الله. {وكَفَى بِهِ} يقول: وحسبهم بقيلهم ذلك الكذب والزور على الله {إثْما مُبِين} يعني: إنه يبين كذبهم لسامعيه, ويوضح لهم أنهم أفكة فجرة. كما:
7804ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ} قال: هم اليهود والنصارى {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ}.
الآية : 51
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ أَهْدَىَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً }..
يعني بذلك جل ثناؤه: ألم تر بقلبك يا محمد إلى الذين أعطوا حظا من كتاب الله فعلموه يؤمنون بالجبت والطاغوت, يعني: يصدّقون بالجبت والطاغوت ويكفرون بالله, وهم يعلمون أن الإيمان بهما كفر والتصديق بهما شرك.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الجبت والطاغوت, فقال بعضهم: هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله. ذكر من قال ذلك:
7805ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, قال: أخبرني أيوب, عن عكرمة أنه قال: الجبت والطاغوت: صنمان.
وقال آخرون: الجبت: الأصنام, والطاغوت: تراجمة الأصنام. ذكر من قال ذلك:
7806ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: {ألَمْ تَرَ إلَى الّذِينَ أُوتُو نَصِيبا مِن الكِتابِ يُؤمِنُونَ بالجِبْتِ وَالطّاغُوتِ} الجبت: الأصنام, والطاغوت: الذين يكونون بين أيدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس.
وزعم رجال أن الجبت: الكاهن والطاغوت: رجل من اليهود يدعى كعب بن الأشرف, وكان سيد اليهود.
وقال آخرون: الجبت: السحر, والطاغوت: الشيطان. ذكر من قال ذلك:
7807ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن أبي عديّ, عن شعبة, عن أبي إسحاق, عن حسان بن فائد, قال: قال عمر رضي الله عنه: الجبت: السحر, والطاغوت: الشيطان.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن حسان بن فائد العنسي, عن عمر مثله.
7808ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا عبد الملك, عمن حدثه, عن مجاهد, قال: الجبت: السحر, والطاغوت: الشيطان.
7809ـ حدثني يعقوب, قال: أخبرنا هشيم, قال: أخبرنا زكريا, عن الشعبي, قال: الجبت: السحر, والطاغوت: الشيطان.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: {يُؤْمِنُونَ بالجِبْتِ وَالطّاغُوتِ} قال: الجبت: السحر, والطاغوت: الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه, وهو صاحب أمرهم.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عبد الملك, عن قيس, عن مجاهد, قال: الجبت: السحر, والطاغوت: الشيطات والكاهن.
وقال آخرون: الجبت: الساحر, والطاغوت: الشيطان. ذكر من قال ذلك:
7810ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: كان أبي يقول: الجبت: الساحر, والطاغوت: الشيطان.
وقال آخرون: الجبت: الساحر, والطاغوت: الكاهن. ذكر من قال ذلك:
7811ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير في هذه الاَية: {الجبت والطاغوت», قال: الجبت: الساحر بلسان الحبشة, والطاغوت: الكاهن.
7812ـ حدثنا ابن المثنى, قال: عبد الأعلى, قال: حدثنا داود, عن رفيع, قال: الجبت: الساحر, والطاغوت: الكاهن.
7813ـ حدثنا ابن المثنى, قال: ثني عبد الأعلى, قال: حدثنا داود, عن أبي العالية, أنه قال: الطاغوت: الساحر, والجبت: الكاهن.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيم, عن داود, عن أبي العالية في قوله: {الجِبْتِ وَالطّاغُوتِ} قال: أحدهما السحر, والاَخر الشيطان.
وقال آخرون: الجبت: الشيطان, والطاغوت: الكاهن. ذكر من قال ذلك:
7814ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: قوله: {يُؤْمِنُونَ بالجِبْتِ وَالطّاغُوتِ} كنا نحدّث أن الجبت شيطان, والطاغوت الكاهن.
حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.
7815ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: الجبت: الشيطان, والطاغوت: الكاهن.
وقال آخرون: الجبت: الكاهن, والطاغوت: الشيطان. ذكر من قال ذلك:
7816ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن سعيد بن جبير, قال: الجبت: الكاهن: والطاغوت: الساحر.
7817ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا حماد بن مسعدة, قال: حدثنا عوف, عن محمد, قال في الجبت والطاغوت, قال: الجبت: الكاهن, والاَخر: الساحر.
وقال آخرون: الجبت: حيـي بن أخطب, والطاغوت: كعب بن الأشرف. ذكر من قال ذلك:
7818ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ, عن ابن عباس قوله: {يُؤْمِنُونَ بالجِبْتِ وَالطّاغُوتِ} الطاغوت: كعب بن الأشرف, والجبت: حيـي بن أخطب.
7819ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك, قال: الجبت: حيـي بن أخطب, والطاغوت: كعب بن الأشرف.
حدثني يحيـى بن أبي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك في قوله: {الجِبْتِ والطّاغُوتِ} قال: الجبت: حيـي بن أخطب, والطاغوت. كعب بن الأشرف.
وقال آخرون: الجبت: كعب بن الأشرف, والطاغوت: الشيطان. ذكر من قال ذلك:
7820ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد, قال: الجبت كعب بن الأشرف, والطاغوت: الشيطان كان في صورة إنسان.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل: {يُؤْمِنُونَ بالجبْتِ وَالطّاغُوتِ} أن يقال: يصدّقون بمعبودين من دون الله يعبدونهما من دون الله, ويتخذونهما إلهين. وذلك أن الجبت والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله, أو طاعة أو خضوع له, كائنا ما كان ذلك المعظم من حجر أو إنسان أو شيطان.
وإذ كان ذلك كذلك وكانت الأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها كانت معظمة بالعبادة من دون الله فقد كانت جبوتا وطواغيت, وكذلك الشياطين التي كانت الكفار تطيعها في معصية الله, وكذلك الساحر والكاهن اللذان كان مقبولاً منهما ما قالا في أهل الشرك بالله, وكذلك حيـي بن أخطب, وكعب بن الأشرف, لأنهما كانا مطاعين في أهل ملتهما من اليهود في معصية الله والكفر به وبرسوله, فكانا جبتين وطاغوتين. وقد بينت الأصل الذي منه قيل للطاغوت طاغوت, بما أغني عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ للّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدَى مِن الّذِينَ آمَنُوا سَبِيل}.
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ويقولون للذين جحدوا وحدانية الله ورسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {هَؤلاء} يعني بذلك: هؤلاء الذين وصفهم الله بالكفر {أهْدَى} يعني أقوم وأعدل {مِنَ الّذِينَ آمَنُو} يعني من الذين صدّقوا الله ورسوله وأقرّوا بما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم {سَبِيل} يعني: طريقا. وإنما ذلك مثل, ومعنى الكلام: إن الله وصف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من اليهود بتعظيمهم غير الله بالعبادة والإذعان له بالطاعة في الكفر بالله ورسوله ومعصيتهما, وأنهم قالوا: إن أهل الكفر بالله أولى بالحق من أهل الإيمان به, وإن دين أهل التكذيب لله ولرسوله أعدل وأصوب من دين أهل التصديق لله ولرسوله, وذكر أن ذلك من صفة كعب بن الأشرف, وأنه قائل ذلك. ذكر الاَثار الواردة بما قلنا:
7821ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا ابن أبي عديّ, عن داود, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة, قالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم؟ قال: نعم. قالوا: ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا, ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية؟ قال: أنتم خير منه. قال: فأنزلت: {إنّ شانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ}, وأنزلت: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بالجبْتِ والطّاغُوتِ}... إلى قوله: {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِير}.
7822ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا داود, عن عكرمة في هذه الاَية: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصيبا مِنَ الكِتاب} ثم ذكر نحوه.
وحدثني إسحاق بن شاهين, قال: أخبرنا خالد الواسطي, عن داود, عن عكرمة, قال: قدم كعب بن الأشرف مكة, فقال له المشركون: احكم بيننا وبين هذا الصنبور الأبتر, فأنت سيدنا وسيد قومك. فقال كعب: أنتم والله خير منه. فأنزل الله تبارك وتعالى: {ألَمْ تَرَ إلى الّذينَ أُوتُوا نَصيبا مِنَ الكِتاب}... إلى آخر الاَية.
حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, قال: أخبرنا أيوب, عن عكرمة: أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش, فاستجاشهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم, وأمرهم أن يغزوه, وقال: إنا معك نقاتله, فقالوا: إنكم أهل كتاب, وهو صاحب كتاب, ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم, فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما! ففعل. ثم قالوا: نحن أهدى أم محمد؟ فنحن ننحر الكوماء, ونسقي اللبن على الماء, ونصل الرحم, ونقري الضيف, ونطوف بهذا البيت, ومحمد قطع رحمه, وخرج من بلده. قال: بل أنتم خير وأهدى! فنزلت فيه: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُو نَصِيبا مِنَ الكِتاب يُؤْمِنُونَ بالجِبْتِ والطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ للّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيل}.
7823ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: لما كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واليهود بني النضير ما كان حين أتاهم يستعينهم في دية العامريين, فهمّوا به وبأصحابه, فأطلع الله ورسوله على ما همّوا به من ذلك, ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, فهرب كعب بن الأشرف حتى أتى مكة, فعاهدهم على محمد, فقال له أبو سفيان: يا أبا سعد, إنكم قوم تقرءون الكتاب, وتعلمون, ونحن قوم لا نعلم, فأخبرنا: ديننا خير أم دين محمد؟ قال كعب: اعرضوا عليّ دينكم! فقال أبو سفيان: نحن قوم ننحر الكوماء, ونسقي الحجيج الماء, ونقري الضيف, ونعمر بيت ربنا, ونعبد آلهتنا التي كان يعبد آباؤنا, ومحمد يأمرنا أن نترك هذا ونتبعه. قال: دينكم خير من دين محمد, فاثبتوا عليه! ألا ترون أن محمدا يزعم أنه بعث بالتواضع, وهو ينكح من النساء ما شاء؟ وما نعلم ملكا أعظم من ملك النساء! فذلك حين يقول: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنونَ بالجبتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيل}.
7824ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قال: نزلت في كعب بن الأشرف وكفار قريش قال: كفار قريش أهدى من محمد عليه الصلاة والسلام. قال ابن جريج: قدم كعب بن الأشرف, فجاءته قريش فسألته عن محمد فصغر أمره ويسره وأخبرهم أنه ضالّ. قال: ثم قالوا له: ننشدك الله نحن أهدى أم هو؟ فإنك قد علمت أنا ننحر الكوم, ونسقي الحجيج, ونعمر البيت, ونطعم ما هبّت الريح! قال: أنتم أهدى.
وقال آخرون: بل هذه الصفة جماعة من اليهود منهم حيـي بن أخطب, وهم الذين قالوا للمشركين ما أخبر الله عنهم أنهم قالوه لهم. ذكر الأخبار بذلك:
7825ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق عمن قاله, قال: أخبرني محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: كان الذين حزّبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حُيَـيّ بن أخطب, وسلام بن أي الحُقَيق, وأبو رافع, والربيع بن أبي الحُقَقيق, وأبو عامر, ووحْوح بن عامر, وهَوْذة بن قيس¹ فأما وحوح, وأبو عامر, وهوذة فمن بني وائل, وكان سائرهم من بني النضير. فلما قدموا على قريش, قالوا: هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأول, فاسألوهم أدينكم خير, أم دين محمد؟ فسألوهم, فقالوا: بل دينكم خير من دينه, وأنتم أهدى منه وممن اتبعه! فأنزل الله فيهم: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بالجِبْتِ والطّاغُوتِ}... إلى قوله: {وآتَيْناهُمْ مُلْكا عَظِيم}.
7826ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بالجِبْتِ والطّاغُوتِ}... الاَية, قال: ذكر لنا أن هذه الاَية أنزلت في كعب بن الأشرف وحيـي بن أخطب ورجلين من اليهود من بني النضير لقيا قريشا بموسم, فقال لهم المشركون: أنحن أهدى أم محمد وأصحابه؟ فإنا أهل السدانة والسقاية وأهل الحرم. فقالا: لا, بل أهدى من محمد وأصحابه! وهما يعلمان أنهما كاذبان, إنما حملهما على ذلك حسد محمد وأصحابه.
وقال آخرون: بل هذه صفة حيـي بن أخطب وحده, وإياه عني بقوله: {وَيقُولُونَ للّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيل}. ذكر من قال ذلك:
7827ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ}... إلى آخر الاَية, قال: جاء حيـي بن أخطب إلى المشركين, فقالوا: يا حيـي إنكم أصحاب كتب, فنحن خير أم محمد وأصحابه؟ نحن وأنتم خير منهم! فذلك قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ}... إلى قوله: {وَمَنْ يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِير}.
وأولى الأقوال بالصحة في ذلك قول من قال: إن ذلك خبر من الله جلّ ثناؤه عن جماعة من أهل الكتاب من اليهود, وجائز أن يكون كانت الجماعة الذين سماهم ابن عباس في الخبر الذي رواه محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعد أو يكون حييا وآخر معه, إما كعبا وإما غيره