تفسير الطبري تفسير الصفحة 88 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 88
089
087
 الآية : 60
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوَاْ إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوَاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشّيْطَانُ أَن يُضِلّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ألم تر يا محمد بقلبك فتعلم إلى الذين يزعمون أنهم صدّقوا بما أنزل إليك من الكتاب, وإلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قلبك من الكتب: {يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاَكَمُو} في خصومتهم {إلى الطّاغُوتِ} يعني: إلى من يعظمونه, ويصدرون عن قوله, ويرضون بحكمه من دون حكم الله. {وَقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ} يقول: وقد أمرهم الله أن يكذّبوا بما جاءهم به الطاغوت الذي يتحاكون إليه, فتركوا أمر الله, واتبعوا أمر الشيطان. {وَيُريدُ الشّيْطانُ أنْ يُضِلّهُمْ ضَلالاً بَعِيد} يعني أن الشيطان يريد أن يصدّ هؤلاء المتحاكمين إلى الطاغوت عن سبيل الحق والهدى, فيضلهم عنها ضلالاً بعيدا, يعني: فيجوز بهم عنها جورا شديدا. وقد ذكر أن هذه الاَية نزلت في رجل من المنافقين دعا رجلاً من اليهود في خصومة كانت بينهما إلى بعض الكهان ليحكم بينهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم. ذكر من قال ذلك:
7900ـ حدثني محمد بن المثنى, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا داود, عن عامر في هذه الاَية: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ} قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة, فكان المنافق يدعو إلى اليهود لأنه يعلم أنهم يقبلون الرشوة, وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين لأنه يعلم أنهم لا يقبلون الرشوة, فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جُهينة, فأنزل الله فيه هذه الاَية: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ}... حتى بلغ: {وَيُسّلمُوا تَسْلِيم}.
7901ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا عبد الأعلى, قال: حدثنا داود, عن عامر في هذه الاَية: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزَعمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ} فذكر نحوه, وزاد فيه: فأنزل الله {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعَمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ} يعني المنافقين {وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} يعني اليهود {يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ} يقول: إلى الكاهن {وَقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ} أمر هذا في كتابه, وأمر هذا في كتابه أن يكفر بالكاهن.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن علية, عن داود, عن الشعبي, قال: كانت بين رجل ممن يزعم أنه مسلم, وبين رجل من اليهود خصومة, فقال اليهودي: أحاكمك إلى أهل دينك, أو قال: إلى النبيّ¹ لأنه قد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأخذ الرشوة في الحكم. فاختلفا, فاتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة, قال: فنزلت: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ} يعني: الذي من الأنصار {وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} يعني: اليهودي {يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكمُوا إلى الطّاغُوتِ} إلى الكاهن {وَقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ} يعني: أمر هذا في كتابه, وأمر هذا في كتابه. وتلا: {ويُرِيدُ الشّيْطانُ أنْ يُضِلّهُمْ ضَلالاً بَعِيد}, وقرأ: {فَلاَ وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ} إلى: {وَيُسَلّمُلأا تَسْلِيم}.
7902ـ حدثنا محمد بن الأعلى, قال: حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه, قال: زعم حضرميّ أن رجلاً من اليهود كان قد أسلم, فكانت بينه وبين رجل من اليهود مدارأة في حقّ, فقال اليهودي له: انطلق إلى نبيّ الله! فعرف أنه سيقضي عليه. قال: فأبى, فانطلقا إلى رجل من الكهان, فتحاكما إليه. قال الله: {ألَمَ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ}.
7903ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعَمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}... الاَية, حتى بلغ: {ضَلالاً بَعِيد} ذكر لنا أن هذه الاَية نزلت في رجلين: رجل من الأنصار يقال له بشر, وفي رجل من اليهود في مدارأة كان بيهما في حقّ, فتدارءا بينهما فيه, فتنافرا إلى كاهن بالمدينة يحكم بينهما, وتركا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم. فعاب الله عزّ وجلّ ذلك. وذُكر لنا أن اليهودي كان يدعوه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما, وقد علم أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لن يجور عليه, فجعل الأنصاري يأبي عليه وهو يزعم أنه مسلم ويدعوه إلى الكاهن, فأنزل الله تبارك وتعالى ما تسمعون, فعاب ذلك على الذي زعم أنه مسلم, وعلى اليهودي الذي هو من أهل الكتاب, فقال: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ}... إلى قوله: {صُدُود}.
7904ـ حدثنا محمد بن السحين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكمُوا إلى الطّاغُوتِ} قال: كان ناس من اليهود قد أسلموا ونافق بعضهم, وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قُتل الرجل من بني النضير قتلته بنو قريظة قتلوا به منهم, فإذا قُتل الرجل من بني قريظة قتلته النضير, أعطوا دينه ستين وَسْقا من تمر. فلما أسلم ناس من بني قريظة والنضير, قتل رجل من بني النضير رجلاً من بني قريظة, فتحاكموا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقال النضيري: يا رسول الله إنا كنا نعطيهم في الجاهلية الدية, فنحن نعطيهم اليوم ذلك. فقالت قريظة: لا, ولكنا إخوانكم في النسب والدين, ودماؤنا مثل دمائكم, ولكنكم كنتم تغلبوننا في الجاهلية, فقد جاء الله بالإسلام فأنزل الله يعيرهم بما فعلوا. فقال: {وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ} فعيرهم, ثم ذكر قول النضيري: كنا نعطيهم في الجاهلية ستين وسقا ونقتل منهم ولا يقتلون, فقال: {أفحُكْمَ الجَاهِليّةِ يَبْغُونَ}. وأخذ النضيريّ فقتله بصاحبه. فتفاخرت النضير وقريظة, فقالت النضير: نحن أكرم منكم, وقالت قريظة: نحن أكرم منكم, ودخلوا المدينة إلى أبي برزة الكاهن الأسلميّ, فقال المنافق من قريظة والنضير: انطلقوا إلى أبي برزة ينفّر بيننا! وقال المسلمون من قريظة والنضير: لا, بل النبي صلى الله عليه وسلم ينفر بيننا, فتعالوا إليه! فأبي المنافقون, وانطلقا إلى أبي برزة فسألوه, فقال: أعظموا اللقمة! يقول: أعظموا الخطر. فقالوا: لك عشرة أوساق, قال: لا, بل مائة وسق ديتي, فإني أخاف أن أنفر النضير تقتلني قريظة, أو أنفر قريظة فتقتلني النضير. فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوساق, وأبي أن يحكم بينهم, فأنزل الله عزّ وجلّ: {يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ} وهو أبو برزة, وقد أمروا أن يكفروا به, إلى قوله: {وَيُسَلّمُوا تَسْلِيم}.
وقال آخرون: الطاغوت في هذا الموضع: هو كعب بن الأشرف. ذكر من قال ذلك:
7905ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: {يُريدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوت وَقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ} والطاغوت: رجل من اليهود كان يقال له كعب بن الأشرف, وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا: بل نحاكمكم إلى كعب¹ فذلك قوله: {يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوت}... الاَية.
7906ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} قال: تنازع رجل من المنافقين ورجل من اليهود, فقال المنافق: اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف! وقال اليهودي: اذهب بنا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم! فقال الله تبارك وتعالى: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ}... الاَية والتي تليها فيهم أيضا.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ} فذكر مثله, إلا أنه قال: وقال اليهودي: اذهب بنا إلى محمد.
7907ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا إسحاق, حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}... إلى قوله: {ضَلالاً بَعِيد} قال: كان رجلان من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما خصومة, أحدهم مؤمن, والاَخر منافق. فدعاه المؤمن إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم, ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف, فأنزل الله: {وَإذا قِيلَ لَهُمْ تَعالُوْا إلى ما أنْزَلَ اللّهُ وَإلى الّرسُولِ رأيْتُ المُنافِقِينَ يَصُدّونَ عَنْكَ صُدُود}.
7908ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ} قال: تنازع رجل من المؤمنين ورجل من اليهود, فقال اليهودي: اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف, وقال المؤمن: اذهب بنا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقال الله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ}... إلى قوله: {صُدُود}. قال ابن جريج: يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك, قال: القرآن, وما أنزل من قبلك, قال: التوراة. قال: يكون بين المسلم والمنافق الحقّ, فيدعوه المسلم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليحاكمه إليه, فيأبي المنافق ويدعوه إلى الطاغوت. قال ابن جريج: قال مجاهد: الطاغوت: كعب بن الأشرف.
7909ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ} هو كعب بن الأشرف.
وقد بينا معنى الطاغوت في غير هذا الموضع, فكرهنا إعادته.
الآية : 61
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدّونَ عَنكَ صُدُوداً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ألم تر يا محمد إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك من المنافقين, وإلى الذي يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قبلك من أهل الكتاب, يريدون أن يتحاكموا إلى الطّاغوت, {وإذَا قِيلَ لهم تَعَالوْا إلى ما أَنْزَلَ الله} يعني بذلك: وإذا قيل لهم: تعالوا هلموا إلى حكم الله الذي أنزله في كتابه, {وإلى الرّسُولِ} ليحكم بيننا, {رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدّونَ عَنْكَ} يعني بذلك: يمتنعون من المصير إليك لتحكم بينهم, ويمنعون من المصير إليك كذلك غيرهم صدودا.
وقال ابن جريج في ذلك بما:
7910ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إلى ما أنْزَلَ اللّهُ وَإلى الّرسُولِ} قال: دعا المسلم المنافق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم, قال: رأيت المنافقين يصدّون عنك صدودا.
وأما على تأويل قول من جعل الداعي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم اليهوديّ والمدعو إليه المنافق على ما ذكرت من أقوال من قال ذلك في تأويل قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ} فإنه على ما بينت قبل.
الآية : 62
القول في تأويل قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مّصِيبَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: فكيف بهؤلاء الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت, وهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك {إذَا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} يعني: إذا نزلت بهم نقمة من الله, {بِمَا قَدّمَتْ أيْدِيهِمْ} يعني: بذنوبهم التي سلفت منهم, {ثُمّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بالله} يقول: ثم جاءوك يحلفون بالله كذبا وزُورا, {إنْ أَرَدْنا إلاّ إحْسَانا وَتَوْفِيق}. وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين أنهم لا يردعهم عن النفاق العبر والنقم, وأنهم وإن تأتهم عقوبة من الله على تحاكمهم إلى الطاغوت, لم يُنيبوا ولم يتوبوا, ولكنهم يحلفون بالله كذبا وجرأة على الله ما أردنا باحتكامنا إليه إلا الإحسان من بعضنا إلى بعض, والصواب فيما احتكمنا فيه إليه.
الآية : 63
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَـَئِكَ الّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لّهُمْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {أولئك} هؤلاء المنافقون الذين وصفت لك يا محمد صفتهم, يعلم الله مّا في قلوبهم ـ في احتكامهم إلى الطاغوت, وتركهم الاحتكام إليك, وصدودهم عنك من النفاق والزيغ, وإن حلفوا بالله ما أردنا إلا إحسانا وتوفيقا, {فأعْرِضْ عَنْهُمْ وعِظْهُمْ} يقول: فدعهم فلا تعاقبهم في أبدانهم وأجسامهم, ولكن عظهم بتخويفك إياهم بأس الله أن يحلّ بهم, وعقوبته أن تنزل بدارهم, وحَذّرْهُمْ من مكروه ما هم عله من الشكّ في أمر الله وأمر رسوله. {وقُلْ لَهُمْ في أَنْفُسَهِمْ قَوْلاً بَلِيغ} يقول: مرهم باتقاء الله والتصديق به وبرسوله ووعده ووعيده.
الآية : 64
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ أِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنّهُمْ إِذ ظّلَمُوَاْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوّاباً رّحِيماً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: لم نرسل يا محمد رسولاً إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه, يقول تعالى ذكره: فأنت يا محمد من الرسل الذين فرضت طاعتهم على من أرسلته إليه. وإنما هذا من الله توبيخ للمحتكمين من المنافقين الذين كانوا يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما اختصموا فيه إلى الطاغوت, صدودا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول لهم تعالى ذكره: ما أرسلت رسولاً إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه, فمحمد صلى الله عليه وسلم من أولئك الرسل, فمن ترك طاعته والرضا بحكمه واحتكم إلى الطاغوت, فقد خالف أمري وضيع فرضي. ثم أخبر جلّ ثناؤه أن من أطاع رسله, فإنما يطيعهم بإذنه, يعني بتقديره ذلك وقضائه السابق في علمه ومشيئته. كما:
7911ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح عن مجاهد, في قول الله: {إلاّ لِيُطاعَ بإذْنِ اللّهِ} واجب لهم أن يطيعه من شاء الله, ولا يطيعهم أحد إلا بإذن الله.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
وإنما هذا تعريض من الله تعالى ذكره لهؤلاء المنافقين بأن تركهم طاعة الله وطاعة رسوله والرضا بحكمه, إنما هو للسابق لهم من خذلانه وغلبة الشقاء عليهم, ولولا ذلك لكانوا ممن أذن له في الرضا بحكمه والمسارعة إلى طاعته.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أنّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ جاءُوكَ فاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّابا رَحِيم}.
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ولو أن هؤلاء المنافقين الذين وصف صفتهم في هاتين الاَيتين, الذين إذا دعوا إلى حكم الله وحكم رسوله صدّوا صدودا, إذ ظلموا أنفسهم باكتسابهم إياها العظيم من الإثم في احتكامهم إلى الطاغوت وصدودهم عن كتاب الله وسنة رسوله, إذا دعوا إليها جاءوك يا محمد حين فعلوا ما فعلوا من مصيرهم إلى الطاغوت راضين بحكمه دون حكمك, جاءوك تائبين منيبين, فسألوا الله أن يصفح لهم عن عقوبة ذنبهم بتغطيته عليهم, وسأل لهم الله رسوله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. وذلك هو معنى قوله: {فاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ}.
وأما قوله: {لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّابا رَحِيم} فإنه يقول: لو كانوا فعلوا ذلك فتابوا من ذنوبهم لوجدوا الله توّابا, يقول: راجعا لهم مما يكرهون إلى ما يحبون, رحيما بهم في تركه عقوبتهم على ذنبهم الذي تابوا منه. وقال مجاهد: عني بذلك: اليهودي والمسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف.
7912ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: {ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ}... إلى قوله: {وَيُسَلّمُوا تَسْلِيم} قال: إن هذا في الرجل اليهودي والرجل المسلم اللذين تحاكما إلى كعب بن الأشرف.
الآية : 65
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُواْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً }..
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {فل} فليس الأمر كما يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إليك, وهم يتحاكمون إلى الطاغوت, ويصدّون عنك إذا دعو إليك يا محمد. واستأنف القسَمَ جلّ ذكره, فقال: {وَربّكَ} يا محمد {لا يُؤْمِنُونَ} أي لا يصدّقون بي وبك, وبما أنزل إليك, {حَتّى يُحَكّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ} يقول: حتى يجعلوك حكما بينهم فيما اختلط بينهم من أمورهم, فالتبس عليهم حكمه, يقال: شَجَرَ يشجُر شُجُورا وشَجْرا, وتشاجر القوم إذا اختلفوا في الكلام والأمر مشاجرة وشِجَارا {ثُم لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجا مما قَضَيْتَ} يقول: لا يجدوا في أنفسهم ضيقا مما قضيت, وإنما معناه: ثم لا تحرج أنفسهم مما قضيت: أي لا تأثم بإنكارها ما قضيت وشكها في طاعتك وأن الذي قضيت به بينهم حق لا يجوز لهم خلافه. كما:
7913ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {حَرَجا مما قَضَيْتَ} قال: شكّا.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد في قوله: {حَرَجا مما قَضَيْتَ} يقول: شَكّا.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
7914ـ حدثنا يحيـى بن أبي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك, في قوله: {ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسهِمْ حَرَجا مِمّا قَضَيْتَ} قال: إثما {وَيُسَلّمُوا تَسْلِيم} يقول: ويسلموا لقضائك وحكمك, إذعانا منهم بالطاعة, وإقرارا لك بالنبوّة تسليما.
واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الاَية وفيمن نزلت, فقال بعضهم: نزلت في الزبير بن العوّام وخصم له من الأنصار, اختصما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور. ذكر الرواية بذلك:
7915ـ حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني يونس والليث بن سعد, عن ابن شهاب, أن عروة بن الزبير حدثه, أن عبد الله بن الزبير حدثه, عن الزبير بن العوّام: أنه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرّة كانا يسقيان به كلاهما النخل, فقال الأنصاريّ: سرّح الماء يمرّ! فأبي عليه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسْق يا زُبَيْرُ ثُمّ أرْسِل المَاءَ إلى جاركَ!» فغضب الأنصاريّ وقال: يا رسول الله, أن كان ابن عمتك؟ فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال: «اسْق يا زُبَيْرُ ثُمّ احْبِسِ المَاءَ حتى يَرْجِعَ إلى الجَدْرِ ثُمّ أرْسِلِ المَاءَ إلى جارِكَ!» واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه قال أبو جعفر: والصواب: «استوعب». وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه الشفقة له وللأنصاريّ, فلما أحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصاري استوعب للزبير حقه في صريح الحكم. قال: فقال الزبير: ما أحسب هذه الاَية نزلت إلا في ذلك: {فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ}... الاَية.
7916ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم, عن عبد الرحمن بن إسحاق, عن الزهري, عن عروة, قال: خاصم الزبير رجل من الأنصار في شرج من شراج الحرّة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا زُبَيْرُ, اشْرَبْ ثُمّ خَلّ سَبِيلَ المَاءِ!» فقال الذي من الأنصار: اعدل يا نبيّ الله وإن كان ابن عمتك! قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف أن قد ساءه ما قال, ثم قال: «يا زُبَيْرُ احْبِس المَاءَ إلى الجُدُر أوْ إلى الكَعْبَيْن, ثُمّ خَلّ سَبِيلَ المَاء!», قال: ونزلت: {فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ}.
7917ـ حدثني عبد الله بن عمير الرازي, قال: حدثنا عبد الله بن الزبير, قال: حدثنا سفيان, قال: حدثنا عمرو بن دينار, عن سلمة رجل من ولد أمّ سلمة, عن أمّ سلمة: أن الزبير خاصم رجلاً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقضى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير, فقال الرجل لما قضى للزبير: أن كان ابن عمتك؟ فأنزل الله: {فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسهِمْ حَرَجا ممّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيم}.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الاَية في المنافق واليهودي اللذين وصف الله صفتهما في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكع يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ}. ذكر من قال ذلك:
7918ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: {فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ حَرَجا مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيم} قال: هذا الرجل اليهودي والرجل المسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
7919ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن علية, عن داود, عن الشعبي بنحوه, إلا أنه قال: إلى الكاهن.
قال أبو جعفر: وهذا القول ـ أعني قول من قال: عني به المحتكمان إلى الطاغوت اللذان وصف الله شأنهما في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} أولى بالصواب, لأن قوله¹ {فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ} في سياق قصة الذين ابتدأ اللّه الخبر عنهم بقوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ}, ولا دلالة تدلّ على انقطاع قصتهم, فإلحاق بعض ذلك ببعض ما لم تأت دلالة على انقطاعه أَوْلَى.
فإن ظنّ ظانّ أن في الذي رُوي عن الزبير وابن الزبير من قصته وقصة الأنصاري في شراج الحرّة, وقول من قال في خبرهما, فنزلت: {فَلا ورَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ما ينبيء عن انقطاع حكم هذه الاَية وقصتها من قصة الاَيات قبلها, فإنه غير مستحيل أن تكون الاَية نزلت في حصة المحتكمين إلى الطاغوت, ويكون فيها بيان ما احتكم فيه الزبير وصاحبه الأنصاريّ, إذ كانت الاَية دالة على ذك. وإذ كان ذلك غير مستحيل, كان إلحاق معنى بعض ذلك ببعض أولى ما دام الكلام متسقة معانيه على سياق واحد, إلا أن تأتي دلالة على انقطاع بعض ذلك من بعض, فيعدل به عن معنى ما قبله. ـ وأما قوله: {وَيُسَلّمُو} فإنه منصوب عطفا على قوله: {ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ}. قوله: {ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ} نصب عطفا على قوله: {حتى يُحكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهمْ}