تفسير الآية - القول في معنى قوله تعالى : الم ..

  1. تفسير السعدي
  2. تفسير البغوي
  3. التفسير الوسيط
  4. تفسير ابن كثير
  5. تفسير الطبري
الفسير الوسيط | التفسير الوسيط للقرآن الكريم للطنطاوي | تأليف شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي (المتوفى: 1431هـ) : ويعتبر هذا التفسير من التفاسير الحديثة و القيمة لطلاب العلم و الباحثين في تفسير القرآن العظيم بأسلوب منهجي سهل و عبارة مفهومة, تفسير الآية 1 من سورة البقرة - التفسير الوسيط .
  
   

معنى و تفسير الآية 1 من سورة البقرة : الم .


تفسير الجلالين التفسير الميسر تفسير السعدي
تفسير البغوي التفسير الوسيط تفسير ابن كثير
تفسير الطبري تفسير القرطبي إعراب الآية

تفسير السعدي : الم


الحروف المقطعة في أوائل السور, الأسلم فيها, السكوت عن التعرض لمعناها [من غير مستند شرعي], مع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثا بل لحكمة لا نعلمها.

تفسير البغوي : مضمون الآية 1 من سورة البقرة


سورة البقرة مدنية وهي مائتان وثمانون وسبع آيات: ( الم ) قال الشعبي وجماعة : الم وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه وهي سر القرآن .
فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله تعالى .
وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها .
قالأبو بكر الصديق : في كل كتاب سر وسر الله تعالى في القرآن أوائل السور وقال علي : لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف ( التهجي ) وقال داود بن أبي هند : كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور فقال يا داود إن لكل كتاب سرا وإن سر القرآن فواتح السور فدعها وسل عما سوى ذلك .
وقال جماعة هي معلومة المعاني فقيل كل حرف منها مفتاح اسم من أسمائه كما قال ابن عباس في كهيعص الكاف من كافي والهاء من هادي والياء من حكيم والعين من عليم والصاد من صادق .
وقيل في المص أنا الله الملك الصادق وقال الربيع بن أنس في الم الألف مفتاح اسمه الله واللام مفتاح اسمه اللطيف والميم مفتاح اسمه المجيد .
وقال محمد بن كعب : الألف آلاء الله واللام لطفه والميم ملكه وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال معنى الم أنا الله أعلم ومعنى المص أنا الله أعلم وأفضل ومعنى الر أنا الله أرى ومعنى المر أنا الله أعلم وأرى .
قال الزجاج : وهذا حسن فإن العرب تذكر حرفا من كلمة تريدها كقولهمقلت لها قفي لنا قالت قافأي : وقفت وعن سعيد بن جبير قال هي أسماء الله تعالى ( مقطعة ) لو علم الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم .
ألا ترى أنك تقول الر وحم ، ون فتكون الرحمن وكذلك سائرها إلا أنا لا نقدر على وصلها وقال قتادة : هذه الحروف أسماء القرآن .
وقال مجاهد وابن زيد : هي أسماء ( السور ) وبيانه أن القائل إذا قال قرأت المص عرف السامع أنه قرأ السورة التي افتتحت بالمص .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها أقسام وقال الأخفش إنما أقسم الله بهذه الحروف لشرفها وفضلها لأنها ( مبادئ ) كتبه المنزلة ومباني أسمائه الحسنى .

التفسير الوسيط : الم


سورة البقرة أطول سورة في القرآن الكريم، فقد استغرقت جزءين ونصف جزء تقريبا من ثلاثين جزءا قسم إليها القرآن.
وتبلغ آياتها ستا وثمانين ومائتي آية.
وقيل سبع وثمانون ومائتا آية.
وسميت بذلك لأنها انفردت بذكر قصة البقرة التي كلف قوم موسى بذبحها بعد أن قتل فيهم قتيل ولم يعرفوا قاتله.
وهي مدنية بإجماع الآراء، وقد ابتدأ نزولها بعد هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وقد نزل معظمها في السنوات الأولى من الهجرة، واستمر نزولها إلى قبيل وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم بفترة قليلة.
وكانت آخر آية من القرآن نزولا منها، هي قوله-تبارك وتعالى-:وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
مناسبتها لسورة الفاتحة: هناك مناسبة ظاهرة بين السورتين، لأن سورة الفاتحة قد اشتملت على أحكام الألوهية والعبودية وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم اشتمالا إجماليا، فجاءت سورة البقرة ففصلت تلك المقاصد، ووضحت ما اشتملت عليه سورة الفاتحة من هدايات وتوجيهات.
فضلها: وقد ورد في فضل سورة البقرة أحاديث متعددة، وآثار متنوعة منها ما جاء في مسند أحمد وصحيح مسلّم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لا تجعلوا بيوتكم قبورا، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان.
وروى ابن حبان في صحيحه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم {إن لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة، وإن من قرأها في بيته لم يدخله الشيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام} .
وروى الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة قال: {بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثا، وهم ذوو عدد فاستقرأ كل واحد منهم عما معه من القرآن، فأتى على رجل من أحدثهم سنا فقال:ما معك يا فلان؟ فقال: معي كذا وكذا وسورة البقرة.
فقال: أمعك سورة البقرة؟ قال:نعم.
قال.
اذهب فأنت أميرهم.
فقال رجل من أشرافهم: والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا أنى خشيت ألا أقوم بها.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اقرءوا القرآن وتعلموه، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب أوكي أي أغلق- على مسك.
}
قال القرطبي: وهذه السورة فضلها عظيم، وثوابها جسيم، ويقال لها فسطاط القرآن، وذلك لعظمها وبهائها وكثرة أحكامها ومواعظها «1» .
مقاصدها: عند ما نفتح كتاب الله فنطالع فيه سورة البقرة بتدبر وعناية، نراها في مطلعها تنوه بشأن القرآن الكريم، وتصرح بأنه حق لا ريب فيه، وتبين لنا أن الناس أمام هدايته على ثلاثة أقسام:قسم آمن به وانتفع بهداياته فكانت عاقبته السعادة والفلاح.
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقسم جحد واستكبر واستحب العمى على الهدى، فأصبح لا يرجى منه خير ولا إيمان، فكانت عاقبته الحرمان والخسران.
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
ثم فصلت السورة الحديث عن قسم ثالث هو شر ما تبتلى به الأمم وهم المنافقون الذين يظهرون خلاف ما يبطنون.
وقد تحدثت السورة عنهم في ثلاث عشرة آية، كشفت فيها عن خداعهم، وجبنهم، ومرض قلوبهم، وبينت ما أعده الله لهم من سوء المصير، ثم زادت في فضيحتهم وهتك سرائرهم فضربت مثلين لحيرتهم واضطرابهم، قال-تبارك وتعالى-:وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ.
إلى أن يقول: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ثم وجهت السورة نداء إلى الناس جميعا دعتهم فيه إلى عبادة الله وحده وأقامت لهم الأدلة الساطعة على صدق هذه القضية، وتحدتهم- إن كانوا في ريب من القرآن- أن يأتوا بسورة من مثله.
وبينت لهم أنهم لن يستطيعوا ذلك لا في الحاضر ولا في المستقبل.
ثم ختم الربع الأول منها ببشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، جمعت لذائذ المادة والروح، وهم فيها خالدون.
ثم قررت السورة الكريمة أن الله-تبارك وتعالى- لا يمتنع عن ضرب الأمثال بما يوضح ويبين دون نظر إلى قيمة الممثل به في ذاته أو عندالناس، كما قررت أن المؤمنين يقابلون هذه الأمثال بالإيمان والإذعان، أما الكافرون فيقابلونها بالاستهزاء والإنكار.
وقد وبخت السورة بعد ذلك أولئك الكافرين على كفرهم، مع وضوح الدلائل على وحدانية الله في أنفسهم وفي الآفاق فقالت:كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
ثم ذكرت السورة بعد ذلك جانبا من قصة آدم، وقد حدثتنا فيه عن خلافة آدم في الأرض، وعما كان من الملائكة من استفسار بشأنه- وعن سكن آدم وزوجه الجنة، ثم عن خروجهما منها بسبب أكلهما من الشجرة المحرمة.
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قالَ: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ.. إلخ الآيات الكريمة.
هذا، وقد عرفنا قبل ذلك أن سورة البقرة نزلت بالمدينة بعد أن هاجر المسلمون إليها، وأصبحت لهم بها دولة فتية، وكان يجاورهم فيها عدد كبير من اليهود الذين كان أحبارهم يبشرون.
بمبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم.
فأخذت السورة الكريمة تتحدث عنهم- في أكثر من مائة آية- حديثا طويلا متشعبا..فنراها في أواخر الربع الثاني توجه إليهم نداء محببا إلى نفوسهم، تدعوهم فيه إلى الوفاء بعهودهم، وإلى الإيمان بنبي الله محمد صلّى الله عليه وسلّم فتقول:يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ.
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ.
ثم تذكرهم في الربع الثالث بنعم الله عليهم، وبموقفهم الجحودي من هذه النعم، تذكرهم بنعمة تفضيلهم على عالمي زمانهم، وبنعمة إنجائهم من عدوهم، وبنعمة فرق البحر بهم، وبنعمة عفو الله عنهم مع تكاثر ذنوبهم، وبنعمة بعثهم من بعد موتهم، وبنعمة تظليلهم بالغمام، وبنعمة إنزال المن والسلوى عليهم.
إلخ.
ولقد كان موقف بني إسرائيل من هذه النعم يمثل الجحود والعناد والبطر، فكانت نتيجة ذلك أن.
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ.
ثم تحدثت السورة بعد ذلك حديثا مستفيضا عن رذائلهم وقبائحهم ودعواهم الباطلة، والعقوبات التي حلت بهم جزاء كفرهم وجحودهم.
فنراها في الربع الرابع تذكر لنا تنطعهم في الدين وإلحافهم في المسألة عند ما قال لهم نبيهم موسى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً.
ثم تذكر قسوة قلوبهم فتقول على سبيل التوبيخ لهم:ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ.
وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
ونراها في الربع الخامس تحدثنا عن تحريفهم للكلم عن مواضعه عن تعمد وإصرار، وتتوعدهم على ذلك بسوء المصير:فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ.
ثم تحدثنا عن قولهم الباطل: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً.
وترد عليهم بما يبطل حجتهم، وعن نقضهم لعهودهم ومواثيقهم مع الله ومع الناس ومع أنفسهم، وعن عدائهم لرسول الله، وعن جحودهم للحق بدافع الحسد والعناد فتقول:وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ.
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً، أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ.
ثم نراها في الربع السادس تحكي لنا نماذج من مزاعمهم الباطلة، ومن ذلك زعمهم أن الجنة خالصة لهم من دون الناس، ثم ترد عليهم بما يخرس ألسنتهم، وبصور جبنهم وحرصهم المشين على أية حياة حتى لو كانت ملطخة بالذل والهوان.
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك بأسلوبه البليغ فيقول:قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ، وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ.
ثم تسوق لنا نماذج من سوء أدبهم مع الله، وعداوتهم لملائكته ونبذهم كتاب الله، واتباعهم للسحر والأوهام.
ثم نراها في الربع السابع تقص علينا بعض الصور من المجادلات الدينية، والمخاصمات الكلامية، التي استعملوها مع النبي صلّى الله عليه وسلّم لحرب الدعوة الاسلامية، كجدالهم في قضية النسخ، وفي كون الجنة لن يدخلها لا من كان هودا أو نصارى، وفي كون القرآن ليس معجزة- في زعمهم- وإنما هم يريدون معجزة كونية.. إلخ.
وقد رد القرآن عليهم بما يزهق باطلهم، ويزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم.
وكما ابتدأ القرآن الحديث معهم ابتداء محببا إلى نفوسهم يا بَنِي إِسْرائِيلَ، فقد اختتمه- أيضا- بالنداء نفسه، لكي يستحثهم على الإيمان فقال:يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ.
وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ، وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.
ثم أخذت السورة بعد ذلك في الربع الثامن منها تحدثنا عن الكلمات التي اختبر الله بها نبيه إبراهيم، وعن قصة بناء البيت الحرام، وعن تلك الدعوات الخاشعات التي كان إبراهيم وإسماعيل يتضرعان بها إلى خالقهما وهما يقومان بهذا العمل الجليل.
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، وَأَرِنا مَناسِكَنا، وَتُبْ عَلَيْنا، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
ثم أخذت تقيم الحجج الباهرة، والأدلة الساطعة على أن إبراهيم ما كان يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما، وعلى أن يعقوب قد وصى ذريته من بعده أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا.
ثم ختمت تلك المحاورات والمجادلات التي أبطلت بها دعاوى أهل الكتاب الباطلة، ببيان سنة من سنن الله في خلقه، هذه السنة تتلخص في بيان أن كل إنسان سيجازى بحسب عمله يوم القيامة، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وأن اتكال اليهود- أو غيرهم- على أنهم من نسل الأنبياء أو الصالحين دون أن يعملوا بعملهم لن ينفعهم شيئا.
فقال-تبارك وتعالى-:تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ، وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.
ثم عادت السورة في الربع التاسع منها إلى الحديث عن الشبهات التي أثارها اليهود عند تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وقد رد القرآن عليهم بما يدحض هذه الشبهات، ويهوى باليهود ومن حذا حذوهم في مكان سحيق، قال-تبارك وتعالى-:سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها، قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إلى أن يقول: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ، إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي، وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد فصلت الحديث عن بني إسرائيل تفصيلا يحمل المسلمين على العظة والاعتبار، ويعرفهم طبيعة أولئك القوم الذين خسروا أنفسهم حتى يأخذوا حذرهم منهم، وينفروا من التشبه بهم.
أما المقدار الباقي من السورة الكريمة- وهو أكثر من نصفها بقليل- فعند ما نراجعه بتفكر وتدبر، نراه زاخرا بالتشريعات الحكيمة، والآداب العالية، والتوجيهات السامية.
نرى السورة الكريمة في هذا المقدار منها تحدثنا في الربع العاشر منها عن بعض شعائر الله التي تتعلق بالحج، وعن الأدلة على وحدانية الله.
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ.
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ، وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
ثم بعد أن تصور لنا بأسلوب بليغ مؤثر حسرة المشركين يوم القيامة وهم يتبادلون التهم، ويتبرأ بعضهم من بعض، بعد كل ذلك توجه نداء عاما إلى الناس، تأمرهم فيه أن يقيدوا أنفسهم بما أحل الله.. وأن يبتعدوا عن محارمه فتقول:يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ.
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ.
فإذا ما وصلنا إلى الربع الحادي عشر منها، رأيناها تسوق لنا في مطلعه آية جامعة لألوان البر، وأمهات المسائل الاعتقادية والعملية وهي قوله-تبارك وتعالى-:لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ.
إلخ.
ثم أتبعت ذلك بالحديث عن القصاص، وعن الوصية، وعن الصيام وحكمته، وعن الدعاء وآدابه، ونهت المسلمين في ختامها عن مقارفة الحرام في شتى صوره وألوانه فقالت:وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ، لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
وفي مطلع الربع الثاني عشر حكت بعض الأسئلة التي كان المسلمون يوجهونها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأجابت عنها بطريقة حكيمة تدعوهم إلى التدبر والاتعاظ، ثم حضت المسلمين على الجهاد في سبيل الله، ونهتهم عن البغي والاعتداء.
استمع إلى القرآن وهو يحرض المؤمنين على القتال ويرسم لهم حدوده وآدابه فيقول:وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ.
كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ.
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ.
ثم فصلت السورة الحديث عن الحج، فتحدثت عن جانب من آدابه وأحكامه، وحضت المسلمين على الإكثار من ذكر الله، وأن يتجنبوا التفاخر بالأحساب والأنساب، وأن يرددوا في دعائهم قوله-تبارك وتعالى-:رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ.
وفي الربع الثالث عشر نراها تبين لنا ألوان الناس في هذه الحياة، وأن منهم من يسعى في الإفساد وإهلاك الحرث والنسل، فإذا ما نصح أخذته العزة بالإثم، وتمادى في طغيانه وإفساده، وأن منهم من يبيع نفسه عن طواعية واختيار ابتغاء مرضاة الله.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ، وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ.
ثم تبين لنا بأن الناس جميعا كانوا أمة واحدة، وأن هذه الحياة مليئة بالمصائب والمحن والفتن، وأن العاقل هو الذي يقابل كل ذلك بإيمان عميق، وصبر جميل، حتى يفوز برضى الله يوم القيامة، ويظفر بنصره في الحياة الدنيا.
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.
ثم تحدثنا السورة الكريمة في الربعين الرابع عشر والخامس عشر حديثا جامعا عن النكاح ثم حذرت السورة بعد ذلك المؤمنين من التعامل بالربا، ووصفت آكليه بصفات تنفر منها القلوب، وتعافها النفوس، ووجهت إلى المؤمنين نداء أمرتهم فيه بتقوى الله، وأنذرتهم بحرب من الله لهم إن لم يتوبوا عن التعامل بالربا فقالت:يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ.
ثم تحدثت بعد ذلك عن الديون والرهون، فصاغت للمؤمنين دستورا هو أدق الدساتير المدنية في حفظ الحقوق وضبطها وتوثيقها بمختلف الوسائل، ثم ختمت السورة حديثها الجامع عن العقائد والشرائع والآداب والمعاملات، بذلك الدعاء الخاشع:رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا، أَنْتَ مَوْلانا، فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
تلك هي سورة البقرة، أرأيت وحدتها في كثرتها؟ أعرفت اتجاه خطوطها في لوحتها؟ أرأيت كيف التحمت لبناتها وارتفعت سماؤها بغير عمد تسندها؟ أرأيت كيف ينادى كل عضو فيها بأنه قد أخذ مكانه المقسوم وفقا لخط جامع مرسوم، رسمه مربي النفوس ومزكيها، ومنور العقول وهاديها ومرشد الأرواح وحاديها.
فتالله لو أن هذه السورة رتبت بعد تمام نزولها، لكان جمع أشتاتها على هذه الصورة معجزة، فكيف وكل نجم منها كان يوضع في رتبته من فور نزوله، وكان يحفظ لغيره مكانه انتظارا لحلوله.
وهكذا كان ما ينزل منها معروف الرتبة، محدد الموقع قبل أن ينزل.
لعمري لئن كانت للقرآن في بلاغة تعبيره معجزات، وفي أساليب ترتيبه معجزات، وفي نبوءاته الصادقة معجزات، وفي تشريعاته الخالدة معجزات، وفي كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونية معجزات لعمري إنه في ترتيب آياته على هذا الوجه لهو معجزة المعجزات .
وبعد: فهذا عرض سريع لأهم مقاصد سورة البقرة، قدمناه بين يديها لنعطي القارئ الكريم صورة متميزة عنها.
ومن هذا العرض نرى أنها بجانب احتوائها على أصول العقائد، وعلى كثير من أدلة التوحيد، قد وجهت عنايتها إلى أمرين اقتضتهما حالة المسلمين، بعد أن أصبحت لهم دولة بالمدينة يجاورهم فيها عدد كبير من اليهود.
أما الأمر الأول فهو توجيه الدعوة إلى بني إسرائيل، ومناقشتهم فيما كانوا يثيرونه حول الرسالة الإسلامية من مؤامرات.
وإماطة اللثام عن تاريخهم المظلم، وأخلاقهم المرذولة حتى يحذرهم المسلمون.
وأما الأمر الثاني فهو التشريع للدولة الإسلامية الفتية، وقد رأينا أن سورة البقرة في النصف الثاني منها قد تحدثت عن تلك الجوانب التشريعية حديثا مفصلا منوعا تناول أحكام القصاص، والوصية، والصيام والاعتكاف والحج، والعمرة، والقتال، والنكاح، والإنفاق في سبيل الله.
والمعاملات المالية.
إلى غير ذلك من التشريعات التي سبق الحديث عنها.
والآن فلنبدأ في تفسير السورة الكريمة فنقول- وبالله التوفيق-.
سورة البقرة من السور التي ابتدئت ببعض حروف التهجي .
وقد وردت هذه الفواتح تارة مفردة بحرف واحد ، وتارة مركبة من حرفين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة .
فالسور التي بدأت بحرف واحد ثلاثة وهي سورة ص ، ق ، ن .
والسورة التي بدأت بحرفين تسعة وهي : طه ، يس ، طس ، { وحم } في ست سور هي : غافر ، فصلت ، الزخرف ، الجاثية ، الأحقاف .
والسورة التي بدأت بثلاثه أحرف ثلاث عشرة سورة وهي : { ألم } في ست سور : البقرة ، وآل عمران ، العنكبوت ، الروم ، لقمان ، السجدة و { الر } في خمس سور هي : يونس ، هود ، يوسف ، الحجر ، إبراهيم { طسم } في سورتين هما : الشعراء ، القصص .
وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما .
الرعد ، { المر } ، والأعراف ، { المص } وسورتان - أيضاً - بدئنا بخمسة أحرف وهما : مريم { كهيعص } والشورى { حم عسق } .
فيكون مجموع السور التي افتتحت بالحروف المقطعة تسعا وعشرين سورة .
هذا ، وقد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ويمكن إجمال خلافهم في رأيين رئيسين :الرأي الأول يرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها غير معروف ، فهي من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه .
وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس - في إحدى رواياته - كما ذهب إليه الشعبي ، وسفيان الثوري ، وغيرهم من العلماء ، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال : إن لكل كتاب سراً ، وإن سر هذا القرآن في فواتح السور .
ويروى عن ابن عباس أنه قال : عجزت العلماء عن إدراكها .
وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال : " إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي؟ .
وفي رواية أخرى عن الشعبي أنه قال : " سر الله فلا تطلبوه " .
ومن الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الرأي ، أنه كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس ، لأنه من المتشابه ، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل ، أو مثله كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها .
وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإفهام عنها عند كل الناس ، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يفهم المراد منها ، وكذلك بعض أصحابه المقربين - ولكن الذي ننفيه أن يكون الناس جميعاً فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة في أوائل بعض السور .
وهناك مناقشات أخرى للعلماء حول هذا الرأي يضيق المجال عن ذكرها .
أما الرأي الثاني فيرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها معلوم ، وأنها ليست من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه .
وأصحاب هذا الرأي قد اختلفوا فيما بينهم في تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة ، من أهمها ما يأتي :1- أن هذه الحروف أسماء للسور ، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم" من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح " وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها كسورة ولا يخلو هذا القول من الضعف ، لأن كثيراً من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح ، والغرض من التسمية رفع الاشتباه .
2- وقيل إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى .
3 - وقيل : إنها حروف مقطعة ، بعضها من أسماء الله - تعالى - وبعضها من صفاته ، فمثلاً { الاما } أصلها : أنا الله أعلم .
4 - وقيل : إنها اسم الله الأعظم .
إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تخلو من مقال ، والتي أوصلها السيوطي في " الإتقان " إلى أكثر من عشرين قولا .
5 - ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال : إن هذه الحروف المقطعة قد وردت في افتتاح بعض السور للإشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها ، ويقدرون على تأليف الكلام منها ، فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله ، فذلك لبلوغه في الفصاحة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة ، وفضلا عن ذلك فإن تصدير السور بمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإنصات والتدبر ، لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم ، وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها ، فيستمعوا حكما وحججاً قد يكون سبباً في هدايتهم واستجابتهم للحق .
هذه خلاصة لأراء العلماء في الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ومن أراد مزيداً لذلك فليرجع - مثلاً - إلى كتاب " الإتقان " للسيوطي ، وإلى كتاب " البرهان " للزركشي ، وإلى تفسير الألوسي .

تفسير ابن كثير : شرح الآية 1 من سورة البقرة


خمسة وعشرون ألفا وخمسمائة حرف ، وستة آلاف ومائة وعشرون كلمة ، ومائتان وستة وثمانون آية في عدد الكوفي وعدد علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
ذكر ما ورد في فضلها :
قال الإمام أحمد : حدثنا عارم ، حدثنا معتمر ، عن أبيه ، عن رجل ، عن أبيه ، عن معقل بن يسار ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : البقرة سنام القرآن وذروته ، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا ، واستخرجت : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [ البقرة : 255 ] من تحت العرش ، فوصلت بها ، أو فوصلت بسورة البقرة ، و " يس " : قلب القرآن ، لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له ، واقرءوها على موتاكم ، انفرد به أحمد .
وقد رواه أحمد - أيضا - عن عارم ، عن عبد الله بن المبارك ، عن سليمان التيمي عن أبي عثمان - وليس بالنهدي - عن أبيه ، عن معقل بن يسار ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرءوها على موتاكم يعني : يس .
فقد بينا بهذا الإسناد معرفة المبهم في الرواية الأولى . وقد أخرج هذا الحديث على هذه الصفة في الرواية الثانية أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه .
وقد روى الترمذي من حديث حكيم بن جبير ، وفيه ضعف ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لكل شيء سنام ، وإن سنام القرآن البقرة ، وفيها آية هي سيدة آي القرآن : آية الكرسي .
وفي مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي ، من حديث سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تجعلوا بيوتكم قبورا ، فإن البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثني ابن أبي مريم ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سنان بن سعد ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه .
سنان بن سعد ، ويقال بالعكس ، وثقه ابن معين واستنكر حديثه أحمد بن حنبل وغيره .
وقال أبو عبيد : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، يعني ابن مسعود ، قال : إن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع فيه سورة البقرة . ورواه النسائي في اليوم والليلة ، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث شعبة ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .
وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا أبو إسماعيل الترمذي ، حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال ، حدثني أبو بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عن محمد بن عجلان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ألفين أحدكم يضع إحدى رجليه على الأخرى يتغنى ، ويدع سورة البقرة يقرؤها ، فإن الشيطان يفر من البيت تقرأ فيه سورة البقرة ، وإن أصفر البيوت ، الجوف الصفر من كتاب الله .
وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة ، عن محمد بن نصر ، عن أيوب بن سليمان ، به .
وروى الدارمي في مسنده عن ابن مسعود قال : ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط . وقال : إن لكل شيء سناما ، وإن سنام القرآن سورة البقرة ، وإن لكل شيء لبابا ، وإن لباب القرآن المفصل . وروى - أيضا - من طريق الشعبي قال : قال عبد الله بن مسعود : من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة ، أربع من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث آيات من آخرها وفي رواية : لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه ولا يقرآن على مجنون إلا أفاق .
وعن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لكل شيء سناما ، وإن سنام القرآن البقرة ، من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال ، ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام .
رواه أبو القاسم الطبراني ، وأبو حاتم ، وابن حبان في صحيحه .
وقد روى الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث عبد الحميد بن جعفر ، عن سعيد المقبري ، عن عطاء مولى أبي أحمد ، عن أبي هريرة ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وهم ذوو عدد ، فاستقرأهم فاستقرأ كل واحد منهم ، يعني ما معه من القرآن ، فأتى على رجل من أحدثهم سنا ، فقال : ما معك يا فلان ؟ قال : معي كذا وكذا وسورة البقرة ، فقال : أمعك سورة البقرة ؟ قال : نعم . قال : اذهب فأنت أميرهم فقال رجل من أشرافهم : والله ما منعني أن أتعلم البقرة إلا أني خشيت ألا أقوم بها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تعلموا القرآن واقرءوه ، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب محشو مسكا يفوح ريحه في كل مكان ، ومثل من تعلمه ، فيرقد وهو في جوفه ، كمثل جراب أوكي على مسك .
هذا لفظ رواية الترمذي ، ثم قال : هذا حديث حسن . ثم رواه من حديث الليث ، عن سعيد ، عن عطاء مولى أبي أحمد مرسلا فالله أعلم .
قال البخاري : وقال الليث : حدثني يزيد بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أسيد بن حضير قال : بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة ، وفرسه مربوطة عنده ، إذ جالت الفرس ، فسكت ، فسكنت ، فقرأ فجالت الفرس ، فسكت ، فسكنت ، ثم قرأ فجالت الفرس ، فانصرف ، وكان ابنه يحيى قريبا منها . فأشفق أن تصيبه ، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها ، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اقرأ يا ابن حضير . قال : فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى ، وكان منها قريبا ، فرفعت رأسي وانصرفت إليه ، فرفعت رأسي إلى السماء ، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح ، فخرجت حتى لا أراها ، قال : وتدري ما ذاك ؟ . قال : لا . قال : تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم .
وهكذا رواه الإمام العالم أبو عبيد القاسم بن سلام ، في كتاب فضائل القرآن ، عن عبد الله بن صالح ، ويحيى بن بكير ، عن الليث به .
وقد روي من وجه آخر عن أسيد بن حضير ، كما تقدم ، والله أعلم .
وقد وقع نحو من هذا لثابت بن قيس بن شماس - رضي الله عنه - وذلك فيما رواه أبو عبيد [ القاسم ] : حدثنا عباد بن عباد ، عن جرير بن حازم ، عن جرير بن يزيد : أن أشياخ أهل المدينة حدثوه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قيل له : ألم تر ثابت بن قيس بن شماس ؟ لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح ، قال : فلعله قرأ سورة البقرة . قال : فسئل ثابت ، فقال : قرأت سورة البقرة .
وهذا إسناد جيد ، إلا أن فيه إبهاما ، ثم هو مرسل ، والله أعلم .
[ ذكر ] ما ورد في فضلها مع آل عمران
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا بشير بن مهاجر حدثني عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، قال : كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول : تعلموا سورة البقرة ، فإن أخذها بركة ، وتركها حسرة ، ولا تستطيعها البطلة . قال : ثم سكت ساعة ، ثم قال : تعلموا سورة البقرة ، وآل عمران ، فإنهما الزهراوان ، يظلان صاحبهما يوم القيامة ، كأنهما غمامتان أو غيايتان ، أو فرقان من طير صواف ، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب ، فيقول له : هل تعرفني ؟ فيقول : ما أعرفك . فيقول : أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر ، وأسهرت ليلك ، وإن كل تاجر من وراء تجارته ، وإنك اليوم من وراء كل تجارة . فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، ويكسى والداه حلتين ، لا يقوم لهما أهل الدنيا ، فيقولان : بم كسينا هذا ؟ فيقال : بأخذ ولدكما القرآن ، ثم يقال : اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها ، فهو في صعود ما دام يقرأ هذا كان أو ترتيلا .
وروى ابن ماجه من حديث بشير بن المهاجر بعضه ، وهذا إسناد حسن على شرط مسلم ، فإن بشيرا هذا أخرج له مسلم ، ووثقه ابن معين ، وقال النسائي : ليس به بأس ، إلا أن الإمام أحمد قال فيه : هو منكر الحديث ، قد اعتبرت أحاديثه فإذا هي تجيء بالعجب . وقال البخاري : يخالف في بعض حديثه . وقال أبو حاتم الرازي : يكتب حديثه ولا يحتج به . وقال ابن عدي : روى ما لا يتابع عليه . وقال الدارقطني : ليس بالقوي .
قلت : ولكن لبعضه شواهد ؛ فمن ذلك حديث أبي أمامة الباهلي ؛ قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا هشام ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلام ، عن أبي أمامة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اقرءوا القرآن فإنه شافع لأهله يوم القيامة ، اقرءوا الزهراوين : البقرة وآل عمران ، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان ، أو كأنهما غيايتان ، أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أهلهما ثم قال : اقرءوا البقرة فإن أخذها بركة ، وتركها حسرة ، ولا تستطيعها البطلة .
وقد رواه مسلم في الصلاة من حديث معاوية بن سلام ، عن أخيه زيد بن سلام ، عن جده أبي سلام ممطور الحبشي ، عن أبي أمامة صدي بن عجلان [ الباهلي ] ، به .
الزهراوان : المنيران ، والغياية : ما أظلك من فوقك . والفرق : القطعة من الشيء ، والصواف : المصطفة المتضامة . والبطلة السحرة ، ومعنى لا تستطيعها أي: لا يمكنهم حفظها ، وقيل : لا تستطيع النفوذ في قارئها ، والله أعلم .
ومن ذلك حديث النواس بن سمعان . قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن محمد بن مهاجر ، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي ، عن جبير بن نفير ، قال : سمعت النواس بن سمعان الكلابي ، يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به ، تقدمهم سورة البقرة وآل عمران . وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد ، قال : كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق ، أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما .
ورواه مسلم ، عن إسحاق بن منصور ، عن يزيد بن عبد ربه ، به .
والترمذي ، من حديث الوليد بن عبد الرحمن الجرشي ، به . وقال : حسن غريب .
وقال أبو عبيد : حدثنا حجاج ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الملك بن عمير ، قال : قال حماد : أحسبه عن أبي منيب ، عن عمه ؛ أن رجلا قرأ البقرة وآل عمران ، فلما قضى صلاته قال له كعب : أقرأت البقرة وآل عمران ؟ قال : نعم . قال : فوالذي نفسي بيده ، إن فيهما اسم الله الذي إذا دعي به استجاب . قال : فأخبرني به . قال : لا والله لا أخبرك ، ولو أخبرتك لأوشكت أن تدعوه بدعوة أهلك فيها أنا وأنت .
[ قال أبو عبيد ] : وحدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن سليم بن عامر : أنه سمع أبا أمامة يقول : إن أخا لكم أري في المنام أن الناس يسلكون في صدع جبل وعر طويل ، وعلى رأس الجبل شجرتان خضراوان تهتفان : هل فيكم من يقرأ سورة البقرة ؟ وهل فيكم من يقرأ سورة آل عمران ؟ قال : فإذا قال الرجل : نعم . دنتا منه بأعذاقهما ، حتى يتعلق بهما فتخطران به الجبل .
[ قال أبو عبيد ] وحدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن أبي عمران : أنه سمع أم الدرداء تقول : إن رجلا ممن قرأ القرآن أغار على جار له ، فقتله ، وإنه أقيد به ، فقتل ، فما زال القرآن ينسل منه سورة سورة ، حتى بقيت البقرة وآل عمران جمعة ، ثم إن آل عمران انسلت منه ، وأقامت البقرة جمعة ، فقيل لها : { ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد } [ ق : 29 ] قال : فخرجت كأنها السحابة العظيمة .
قال أبو عبيد : أراه ، يعني : أنهما كانتا معه في قبره تدفعان عنه وتؤنسانه ، فكانتا من آخر ما بقي معه من القرآن .
وقال أيضا : حدثنا أبو مسهر الغساني ، عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي أن يزيد بن الأسود الجرشي كان يحدث : أنه من قرأ البقرة وآل عمران في يوم ، برئ من النفاق حتى يمسي ، ومن قرأهما من ليلة برئ من النفاق حتى يصبح ، قال : فكان يقرؤهما كل يوم وليلة سوى جزئه .
[ قال أيضا : ] وحدثنا يزيد ، عن ورقاء بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان - أو كتب - من القانتين .
فيه انقطاع ، ولكن ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في ركعة واحدة .
[ ذكر ] ما ورد في فضل السبع الطول
قال أبو عبيد : حدثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي ، عن محمد بن شعيب ، عن سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن واثلة بن الأسقع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أعطيت السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطيت المئين مكان الإنجيل ، وأعطيت المثاني مكان الزبور ، وفضلت بالمفصل .
هذا حديث غريب ، وسعيد بن بشير ، فيه لين .
وقد رواه أبو عبيد [ أيضا ] ، عن عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن سعيد بن أبي هلال ، قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال . . . فذكره ، والله أعلم . ثم قال حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب ، عن حبيب بن هند الأسلمي ، عن عروة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أخذ السبع فهو حبر .
وهذا أيضا غريب ، وحبيب بن هند بن أسماء بن هند بن حارثة الأسلمي ، روى عنه عمرو بن أبي عمرو وعبد الله بن أبي بكرة ، وذكره أبو حاتم الرازي ولم يذكر فيه جرحا ، فالله أعلم .
وقد رواه الإمام أحمد ، عن سليمان بن داود ، وحسين ، كلاهما عن إسماعيل بن جعفر ، به .
ورواه - أيضا - عن أبي سعيد ، عن سليمان بن بلال ، عن حبيب بن هند ، عن عروة ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أخذ السبع الأول من القرآن فهو حبر .
قال أحمد : وحدثنا حسين ، حدثنا ابن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .
قال عبد الله بن أحمد : وهذا أرى فيه ، عن أبيه ، عن الأعرج ، ولكن كذا كان في الكتاب بلا " أبي " ، أغفله أبي ، أو كذا هو مرسل ، ثم قال أبو عبيد : حدثنا هشيم ، أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله تعالى : { ولقد آتيناك سبعا من المثاني } [ الحجر : 87 ] ، قال : هي السبع الطول : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس . قال : وقال مجاهد : هي السبع الطول . وهكذا قال مكحول ، وعطية بن قيس ، وأبو محمد الفارسي ، وشداد بن عبيد الله ، ويحيى بن الحارث الذماري في تفسير الآية بذلك ، وفي تعدادها ، وأن يونس هي السابعة .
[ فصل ]
والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف ، قال بعض العلماء : وهي مشتملة على ألف خبر ، وألف أمر ، وألف نهي .
وقال العادون : آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات ، وكلماتها ستة آلاف كلمة ومائة وإحدى وعشرون كلمة ، وحروفها خمسة وعشرون ألفا وخمسمائة حرف ، فالله أعلم .
قال ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أنزل بالمدينة سورة البقرة .
وقال خصيف : عن مجاهد ، عن عبد الله بن الزبير ، قال : أنزل بالمدينة سورة البقرة .
وقال الواقدي : حدثني الضحاك بن عثمان ، عن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبيه ، قال : نزلت البقرة بالمدينة .
وهكذا قال غير واحد من الأئمة والعلماء ، والمفسرين ، ولا خلاف فيه .
وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا الحسن بن علي بن الوليد [ الفارسي ] حدثنا خلف بن هشام ، حدثنا عبيس بن ميمون ، عن موسى بن أنس بن مالك ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقولوا : سورة البقرة ، ولا سورة آل عمران ، ولا سورة النساء ، وكذا القرآن كله ، ولكن قولوا : السورة التي يذكر فيها البقرة ، والتي يذكر فيها آل عمران ، وكذا القرآن كله .
هذا حديث غريب لا يصح رفعه ، وعيسى بن ميمون هذا هو أبو سلمة الخواص ، وهو ضعيف الرواية ، لا يحتج به . وقد ثبت في الصحيحين ، عن ابن مسعود : أنه رمى الجمرة من بطن الوادي ، فجعل البيت عن يساره ، ومنى عن يمينه ، ثم قال : هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة . أخرجاه .
وروى ابن مردويه ، من حديث شعبة ، عن عقيل بن طلحة ، عن عتبة بن فرقد قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخرا ، فقال : يا أصحاب سورة البقرة . وأظن هذا كان يوم حنين ، حين ولوا مدبرين ، أمر العباس فناداهم : يا أصحاب الشجرة ، يعني أهل بيعة الرضوان . وفي رواية : يا أصحاب البقرة ، لينشطهم بذلك ، فجعلوا يقبلون من كل وجه . وكذلك يوم اليمامة مع أصحاب مسيلمة ، جعل الصحابة يفرون لكثافة حشر بني حنيفة ، فجعل المهاجرون والأنصار يتنادون : يا أصحاب سورة البقرة ، حتى فتح الله عليهم . رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين .
{ بسم الله الرحمن الرحيم . الم }
قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور ، فمنهم من قال : هي مما استأثر الله بعلمه ، فردوا علمها إلى الله ، ولم يفسروها [ حكاه القرطبي في تفسيره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود - رضي الله عنهم - به ، وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خثيم ، واختاره أبو حاتم بن حبان ] .
ومنهم من فسرها ، واختلف هؤلاء في معناها ، فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إنما هي أسماء السور [ قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره : وعليه إطباق الأكثر ، ونقله عن سيبويه أنه نص عليه ] ، ويعتضد هذا بما ورد في الصحيحين ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة : " الم السجدة " ، وهل أتى على الإنسان .
وقال سفيان الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أنه قال : " الم " ، و " حم " ، و " المص " ، و " ص " ، فواتح افتتح الله بها القرآن .
وكذا قال غيره : عن مجاهد . وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عنه ، أنه قال : " الم " ، اسم من أسماء القرآن .
وهكذا قال قتادة ، وزيد بن أسلم ، ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن بن زيد : أنه اسم من أسماء السور ، فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن ، فإنه يبعد أن يكون " المص " اسما للقرآن كله ؛ لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول : قرأت " المص " ، إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف ، لا لمجموع القرآن . والله أعلم .
وقيل : هي اسم من أسماء الله تعالى . فقال الشعبي : فواتح السور من أسماء الله تعالى ، وكذلك قال سالم بن عبد الله ، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ، وقال شعبة عن السدي : بلغني أن ابن عباس قال : " الم " اسم من أسماء الله الأعظم . هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة .
ورواه ابن جرير عن بندار ، عن ابن مهدي ، عن شعبة ، قال : سألت السدي عن " حم " و " طس " و " الم " ، فقال : قال ابن عباس : هي اسم الله الأعظم .
وقال ابن جرير : وحدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا أبو النعمان ، حدثنا شعبة ، عن إسماعيل السدي ، عن مرة الهمداني قال : قال عبد الله ، فذكر نحوه [ وحكي مثله عن علي وابن عباس ] .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو قسم أقسم الله به ، وهو من أسماء الله تعالى .
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن علية ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة أنه قال : " الم " ، قسم .
ورويا - أيضا - من حديث شريك بن عبد الله ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس : " الم " ، قال : أنا الله أعلم .
وكذا قال سعيد بن جبير ، وقال السدي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود . وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " الم " . قال : أما " الم " فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى : { الم } قال : هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفا دارت فيها الألسن كلها ، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه ، وليس منها حرف إلا وهو من آلائه وبلائه ، وليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم . قال عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، وعجب ، فقال : وأعجب أنهم ينطقون بأسمائه ويعيشون في رزقه ، فكيف يكفرون به ؛ فالألف مفتاح اسم الله ، واللام مفتاح اسمه " لطيف " والميم مفتاح اسمه " مجيد " فالألف آلاء الله ، واللام لطف الله ، والميم مجد الله ، والألف سنة ، واللام ثلاثون سنة ، والميم أربعون [ سنة ] . هذا لفظ ابن أبي حاتم . ونحوه رواه ابن جرير ، ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال ويوفق بينها ، وأنه لا منافاة بين كل واحد منها وبين الآخر ، وأن الجمع ممكن ، فهي أسماء السور ، ومن أسماء الله تعالى يفتتح بها السور ، فكل حرف منها دل على اسم من أسمائه وصفة من صفاته ، كما افتتح سورا كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه . قال : ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله ، وعلى صفة من صفاته ، وعلى مدة وغير ذلك ، كما ذكره الربيع بن أنس عن أبي العالية ؛ لأن الكلمة الواحدة تطلق على معان كثيرة ، كلفظة الأمة فإنها تطلق ويراد به الدين ، كقوله تعالى : (إنا وجدنا آباءنا على أمة } [ الزخرف : 22 ، 23 ] . وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله ، كقوله : { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين } [ النحل : 120 ] وتطلق ويراد بها الجماعة ، كقوله : { وجد عليه أمة من الناس يسقون } [ القصص : 23 ] ، وقوله : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا } [ النحل : 36 ] وتطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله : { وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة } [ يوسف : 45 ] أي: بعد حين على أصح القولين ، قال : فكذلك هذا .
هذا حاصل كلامه موجها ، ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية ، فإن أبا العالية زعم أن الحرف دل على هذا ، وعلى هذا ، وعلى هذا معا ، ولفظة الأمة وما أشبهها من الألفاظ المشتركة في الاصطلاح ، إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام ، فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين علماء الأصول ، ليس هذا موضع البحث فيها ، والله أعلم ؛ ثم إن لفظ الأمة تدل على كل معانيه في سياق الكلام بدلالة الوضع ، فأما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أولى من الآخر في التقدير أو الإضمار بوضع ولا بغيره ، فهذا مما لا يفهم إلا بتوقيف ، والمسألة مختلف فيها ، وليس فيها إجماع حتى يحكم به .
وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة ، فإن في السياق ما يدل على ما حذف بخلاف هذا ، كما قال الشاعر :
قلنا قفي لنا فقالت قاف لا تحسبينا قد نسينا الإيجاف
تعني : وقفت . وقال الآخر :
ما للظليم عال كيف لا يا ينقد عنه جلده إذا يا
قال ابن جرير : كأنه أراد أن يقول : إذا يفعل كذا وكذا ، فاكتفى بالياء من يفعل ، وقال الآخر :
بالخير خيرات وإن شرا فا ولا أريد الشر إلا أن تا
يقول : وإن شرا فشر ، ولا أريد الشر إلا أن تشاء ، فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما ، ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام ، والله أعلم .
[ قال القرطبي : وفي الحديث : من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة الحديث . قال شقيق : هو أن يقول في اقتل : إق ] .
وقال خصيف ، عن مجاهد ، أنه قال : فواتح السور كلها " ق " و " ص " و " حم " و " طسم " و " الر " وغير ذلك هجاء موضوع . وقال بعض أهل العربية : هي حروف من حروف المعجم ، استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها ، التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفا ، كما يقول القائل : ابني يكتب في : ا ب ت ث ، أي: في حروف المعجم الثمانية والعشرين فيستغنى بذكر بعضها عن مجموعها . حكاه ابن جرير .
قلت : مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفا ، وهي : ا ل م ص ر ك ي ع ط س ح ق ن ، يجمعها قولك : نص حكيم قاطع له سر . وهي نصف الحروف عددا ، والمذكور منها أشرف من المتروك ، وبيان ذلك من صناعة التصريف .
[ قال الزمخشري : وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أنصاف أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة ، ومن الرخوة والشديدة ، ومن المطبقة والمفتوحة ، ومن المستعلية والمنخفضة ومن حروف القلقلة . وقد سردها مفصلة ثم قال : فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته ، وهذه الأجناس المعدودة ثلاثون بالمذكورة منها ، وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله ] .
ومن هاهنا لحظ بعضهم في هذا المقام كلاما ، فقال : لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثا ولا سدى ؛ ومن قال من الجهلة : إنه في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلية ، فقد أخطأ خطأ كبيرا ، فتعين أن لها معنى في نفس الأمر ، فإن صح لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به ، وإلا وقفنا حيث وقفنا ، وقلنا : { آمنا به كل من عند ربنا } [ آل عمران : 7 ] .
ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين ، وإنما اختلفوا ، فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه ، وإلا فالوقف حتى يتبين . هذا مقام .
المقام الآخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ، ما هي ؟ مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها . فقال بعضهم : إنما ذكرت لنعرف بها أوائل السور . حكاه ابن جرير ، وهذا ضعيف ؛ لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه ، وفيما ذكرت فيه بالبسملة تلاوة وكتابة .
وقال آخرون : بل ابتدئ بها لتفتح لاستماعها أسماع المشركين - إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن - حتى إذا استمعوا له تلي عليهم المؤلف منه . حكاه ابن جرير - أيضا - ، وهو ضعيف أيضا ؛ لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور لا يكون في بعضها ، بل غالبها ليس كذلك ، ولو كان كذلك - أيضا - لانبغى الابتداء بها في أوائل الكلام معهم ، سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك . ثم إن هذه السورة والتي تليها أعني البقرة وآل عمران مدنيتان ليستا خطابا للمشركين ، فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه .
وقال آخرون : بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن ، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله ، هذا مع أنه [ تركب ] من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها .
ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته ، وهذا معلوم بالاستقراء ، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة ، ولهذا يقول تعالى : { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } [ البقرة : 1 ، 2 ] . { الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه } [ آل عمران : 1 - 3 ] . المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه } [ الأعراف : 1 ، 2 ] . الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم } [ إبراهيم : 1 ] { الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين } [ السجدة : 1 ، 2 ] . { حم تنزيل من الرحمن الرحيم } [ فصلت : 1 ، 2 ] . { حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم } [ الشورى : 1 - 3 ] ، وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر ، والله أعلم .
وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد ، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم ، فقد ادعى ما ليس له ، وطار في غير مطاره ، وقد ورد في ذلك حديث ضعيف ، وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته . وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار ، صاحب المغازي ، حدثني الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، عن جابر بن عبد الله بن رئاب ، قال : مر أبو ياسر بن أخطب ، في رجال من يهود ، برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يتلو فاتحة سورة البقرة : { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } [ هدى للمتقين } [ البقرة : 1 ، 2 ] فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود ، فقال : تعلمون - والله - لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله عليه : { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } فقال : أنت سمعته ؟ قال : نعم . قال : فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقالوا : يا محمد ، ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل الله عليك : { الم ذلك الكتاب لا [ ريب ] } ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بلى . فقالوا : جاءك بهذا جبريل من عند الله ؟ فقال : نعم . قالوا : لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك . فقام حيي بن أخطب ، وأقبل على من كان معه ، فقال لهم : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة ، أفتدخلون في دين نبي ، إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة ؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، هل مع هذا غيره ؟ فقال : نعم ، قال : ما ذاك ؟ قال : " المص " ، قال : هذا أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد سبعون ، فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة . هل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال : نعم قال : ما ذاك ؟ قال : " الر " . قال : هذا أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان . فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة . فهل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال : نعم ، قال : ماذا ؟ قال : " المر " . قال : فهذه أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون ومائتان ، ثم قال : لقد لبس علينا أمرك يا محمد ، حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا . ثم قال : قوموا عنه . ثم قال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ، ولمن معه من الأحبار : ما يدريكم ؟ لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وثلاثون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان ، فذلك سبعمائة وأربع سنين . فقالوا : لقد تشابه علينا أمره ، فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } [ آل عمران : 7 ] .
فهذا مداره على محمد بن السائب الكلبي ، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به ، ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها ، وذلك يبلغ منه جملة كثيرة ، وإن حسبت مع التكرر فأتم وأعظم والله أعلم .

تفسير الطبري : معنى الآية 1 من سورة البقرة


بسم الله الرحمن الرحيم رب أعن ( القول في تفسير السورة التي يذكر فيها البقرة )القول في تأويل قول الله جل ثناؤه : ( الم ) .
قال أبو جعفر : اختلفت تراجمة القرآن في تأويل قول الله تعالى ذكره " الم " فقال بعضهم : هو اسم من أسماء القرآن .
ذكر من قال ذلك :225 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " الم " ، قال : اسم من أسماء القرآن .
226 - حدثني المثنى بن إبراهيم الآملي ، قال : حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : " الم " ، اسم من أسماء القرآن .
227 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : " الم " ، اسم من أسماء القرآن .
وقال بعضهم : هو فواتح يفتح الله بها القرآن .
ذكر من قال ذلك :228 - حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : " الم " ، فواتح يفتح الله بها القرآن .
[ ص: 206 ]229 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد ، قال : " الم " ، فواتح .
230 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : " الم " ، و " حم " ، و " المص " ، و " ص " ، فواتح افتتح الله بها .
231 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثل حديث هارون بن إدريس .
وقال آخرون : هو اسم للسورة .
ذكر من قال ذلك :232 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا عبد الله بن وهب ، قال : سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن قول الله : " الم ذلك الكتاب " و " الم تنزيل " ، و " المر تلك " ، فقال : قال أبي : إنما هي أسماء السور .
وقال بعضهم : هو اسم الله الأعظم .
ذكر من قال ذلك :233 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سألت السدي عن " حم " و " طسم " و " الم " ، فقال : قال ابن عباس : هو اسم الله الأعظم .
234 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثني أبو النعمان ، قال : حدثنا شعبة ، عن إسماعيل السدي ، عن مرة الهمداني ، قال : قال عبد الله فذكر نحوه .
235 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبيد الله بن موسى ، عن إسماعيل ، عن الشعبي قال : فواتح السور من أسماء الله .
وقال بعضهم : هو قسم أقسم الله به ، وهو من أسمائه .
ذكر من قال ذلك : [ ص: 207 ]236 - حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهمي ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : هو قسم أقسم الله به ، وهو من أسماء الله .
237 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا خالد الحذاء ، عن عكرمة ، قال : " الم " ، قسم .
[ ص: 208 ]وقال بعضهم : هو حروف مقطعة من أسماء وأفعال ، كل حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر .
ذكر من قال ذلك :238 - حدثنا أبو كريب قال حدثنا وكيع - وحدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي عن شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس : " الم " قال : أنا الله أعلم .
239 - حدثت عن أبي عبيد ، قال : حدثنا أبو اليقظان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : قوله : " الم " ، قال : أنا الله أعلم .
240 - حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد القناد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن إسماعيل السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " الم " قال : أما " الم " فهو حرف اشتق من حروف هجاء أسماء الله جل ثناؤه .
241 - حدثنا محمد بن معمر ، قال : حدثنا عباس بن زياد الباهلي ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " الم " و " حم " و " ن " ، قال : اسم مقطع .
وقال بعضهم هي حروف هجاء موضوع .
ذكر من قال ذلك :242 - حدثت عن منصور بن أبي نويرة ، قال : حدثنا أبو سعيد المؤدب ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : فواتح السور كلها " ق " و " ص " و " حم " و " طسم " و " الر " وغير ذلك ، هجاء موضوع .
وقال بعضهم : هي حروف يشتمل كل حرف منها على معان شتى مختلفة .
ذكر من قال ذلك :243 - حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي ، قال : حدثني أبي ، عن الربيع بن أنس ، في قول الله تعالى ذكره : " الم " ، قال : هذه الأحرف ، من التسعة والعشرين حرفا ، دارت فيها الألسن كلها .
ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه ، وليس منها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه ، وليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجالهم .
وقال عيسى ابن مريم : " وعجيب ينطقون في أسمائه ، ويعيشون في رزقه ، فكيف يكفرون ؟ " .
قال : الألف : مفتاح اسمه : " الله " ، واللام : مفتاح اسمه : " لطيف " ، والميم : مفتاح اسمه : " مجيد " .
والألف آلاء الله ، واللام لطفه ، والميم : مجده .
الألف سنة ، واللام ثلاثون سنة ، والميم أربعون سنة .
244 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بنحوه .
وقال بعضهم : هي حروف من حساب الجمل - كرهنا ذكر الذي حكي ذلك عنه ، إذ كان الذي رواه ممن لا يعتمد على روايته ونقله .
وقد مضت الرواية بنظير ذلك من القول عن الربيع بن أنس .
[ ص: 209 ]وقال بعضهم : لكل كتاب سر ، وسر القرآن فواتحه .
وأما أهل العربية ، فإنهم اختلفوا في معنى ذلك .
فقال بعضهم : هي حروف من حروف المعجم ، استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها ، التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفا; كما استغنى المخبر - عمن أخبر عنه أنه في حروف المعجم الثمانية والعشرين حرفا - بذكر " أ ب ت ث " ، عن ذكر بواقي حروفها التي هي تتمة الثمانية والعشرين : قال .
ولذلك رفع ( ذلك الكتاب ) ، لأن معنى الكلام : الألف واللام والميم من الحروف المقطعة ، ذلك الكتاب الذي أنزلته إليك مجموعا لا ريب فيه .
فإن قال قائل : فإن " أ ب ت ث " ، قد صارت كالاسم في حروف الهجاء ، كما كان " الحمد " اسما لفاتحة الكتاب .
قيل له : لما كان جائزا أن يقول القائل : ابني في " ط ظ " ، وكان معلوما بقيله ذلك لو قاله أنه يريد الخبر عن ابنه أنه في الحروف المقطعة - علم بذلك أن " أ ب ت ث " ليس لها باسم ، وإن كان ذلك آثر في الذكر من سائرها .
قال : وإنما خولف بين ذكر حروف المعجم في فواتح السور ، فذكرت في أوائلها مختلفة ، وذكرها إذا ذكرت بأوائلها التي هي " أ ب ت ث " ، مؤتلفة ، ليفصل بين الخبر عنها إذا أريد - بذكر ما ذكر منها مختلفا - الدلالة على الكلام المتصل; وإذا أريد - بذكر ما ذكر منها مؤتلفا - الدلالة على الحروف المقطعة بأعيانها .
واستشهدوا - لإجازة قول القائل : ابني في " ط ظ " وما أشبه ذلك ، من الخبر عنه أنه في حروف المعجم ، وأن ذلك من قيله في البيان يقوم مقام قوله : ابني في " أ ب ت ث " - برجز بعض الرجاز من بني أسد :لما رأيت أمرها في حطي وفنكت في كذب ولط أخذت منها بقرون [ ص: 210 ] شمطفلم يزل صوبي بها ومعطيحتى علا الرأس دم يغطيفزعم أنه أراد بذلك الخبر عن المرأة أنها في " أبي جاد " ، فأقام قوله : " لما رأيت أمرها في حطي " مقام خبره عنها أنها في " أبي جاد " ، إذ كان ذاك من قوله ، يدل سامعه على ما يدله عليه قوله : لما رأيت أمرها في " أبي جاد " .
وقال آخرون : بل ابتدئت بذلك أوائل السور ليفتح لاستماعه أسماع المشركين - إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن - حتى إذا استمعوا له ، تلي عليهم المؤلف منه .
وقال بعضهم : الحروف التي هي فواتح السور حروف يستفتح الله بها كلامه .
فإن قيل : هل يكون من القرآن ما ليس له معنى ؟قيل : معنى هذا أنه افتتح بها ليعلم أن السورة التي قبلها قد انقضت ، وأنه قد أخذ في أخرى ، فجعل هذا علامة انقطاع ما بينهما ، وذلك في كلام العرب ، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول :بل وبلدة ما الإنس من آهالهاويقول :لا بل ما هاج أحزانا وشجوا قد شجاو " بل " ليست من البيت ولا تعد في وزنه ، ولكن يقطع بها كلاما ويستأنف الآخر .
[ ص: 211 ]قال أبو جعفر : ولكل قول من الأقوال التي قالها الذين وصفنا قولهم في ذلك ، وجه معروف .
فأما الذين قالوا : " الم " ، اسم من أسماء القرآن ، فلقولهم ذلك وجهان :أحدهما : أن يكونوا أرادوا أن " الم " اسم للقرآن ، كما الفرقان اسم له .
وإذا كان معنى قائل ذلك كذلك ، كان تأويل قوله ( الم ذلك الكتاب ) ، على معنى القسم .
كأنه قال : والقرآن ، هذا الكتاب لا ريب فيه .
والآخر منهما : أن يكونوا أرادوا أنه اسم من أسماء السورة التي تعرف به ، كما تعرف سائر الأشياء بأسمائها التي هي لها أمارات تعرف بها ، فيفهم السامع من القائل يقول : - قرأت اليوم " المص " و " ن " - ، أي السور التي قرأها من سور القرآن ، كما يفهم عنه - إذا قال : لقيت اليوم عمرا وزيدا ، وهما بزيد وعمرو عارفان - من الذي لقي من الناس .
وإن أشكل معنى ذلك على امرئ فقال : وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك ، ونظائر " الم " " الر " في القرآن جماعة من السور ؟ وإنما تكون الأسماء أمارات إذا كانت مميزة بين الأشخاص ، فأما إذا كانت غير مميزة فليست أمارات .
قيل : إن الأسماء - وإن كانت قد صارت ، لاشتراك كثير من الناس في الواحد منها ، غير مميزة إلا بمعان أخر معها من ضم نسبة المسمى بها إليها أو نعته أو صفته ، بما يفرق بينه وبين غيره من أشكالها - فإنها وضعت ابتداء للتمييز لا شك .
ثم احتيج ، عند الاشتراك ، إلى المعاني المفرقة بين المسميين بها .
فكذلك ذلك في أسماء السور .
جعل كل اسم - في قول قائل هذه المقالة - أمارة للمسمى به من السور .
فلما شارك المسمى به فيه غيره من سور القرآن ، احتاج المخبر عن [ ص: 212 ] سورة منها أن يضم إلى اسمها المسمى به من ذلك ، ما يفرق به السامع بين الخبر عنها وعن غيرها ، من نعت وصفة أو غير ذلك .
فيقول المخبر عن نفسه إنه تلا سورة البقرة ، إذا سماها باسمها الذي هو " الم " : قرأت " الم البقرة " ، وفي آل عمران : قرأت " الم آل عمران " ، و " الم ذلك الكتاب " ، و " الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم " .
كما لو أراد الخبر عن رجلين ، اسم كل واحد منهما " عمرو " ، غير أن أحدهما تميمي والآخر أزدي ، للزمه أن يقول لمن أراد إخباره عنهما : لقيت عمرا التميمي وعمرا الأزدي ، إذ كان لا يفرق بينهما وبين غيرهما ممن يشاركهما في أسمائهما ، إلا بنسبتهما كذلك .
فكذلك ذلك في قول من تأول في الحروف المقطعة أنها أسماء للسور .
وأما الذين قالوا : ذلك فواتح يفتتح الله عز وجل بها كلامه ، فإنهم وجهوا ذلك إلى نحو المعنى الذي حكيناه عمن حكينا عنه من أهل العربية ، أنه قال : ذلك أدلة على انقضاء سورة وابتداء في أخرى ، وعلامة لانقطاع ما بينهما ، كما جعلت " بل " في ابتداء قصيدة دلالة على ابتداء فيها ، وانقضاء أخرى قبلها كما ذكرنا عن العرب إذا أرادوا الابتداء في إنشاد قصيدة ، قالوا :بل ما هاج أحزانا وشجوا قد شجاو " بل " ليست من البيت ولا داخلة في وزنه ، ولكن ليدل به على قطع كلام وابتداء آخر .
وأما الذين قالوا : ذلك حروف مقطعة بعضها من أسماء الله عز وجل ، وبعضها من صفاته ، ولكل حرف من ذلك معنى غير معنى الحرف الآخر ، فإنهم نحوا بتأويلهم ذلك نحو قول الشاعر :قلنا لها قفي لنا قالت قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف[ ص: 213 ]يعني بقوله : " قالت قاف " ، قالت : قد وقفت .
فدلت بإظهار القاف من " وقفت " ، على مرادها من تمام الكلمة التي هي " وقفت " .
فصرفوا قوله : " الم " وما أشبه ذلك ، إلى نحو هذا المعنى .
فقال بعضهم : الألف ألف " أنا " ، واللام لام " الله " ، والميم ميم " أعلم " ، وكل حرف منها دال على كلمة تامة .
قالوا : فجملة هذه الحروف المقطعة إذا ظهر مع كل حرف منهن تمام حروف الكلمة ، " أنا " الله أعلم " .
قالوا : وكذلك سائر جميع ما في أوائل سور القرآن من ذلك ، فعلى هذا المعنى وبهذا التأويل .
قالوا : ومستفيض ظاهر في كلام العرب أن ينقص المتكلم منهم من الكلمة الأحرف ، إذا كان فيما بقي دلالة على ما حذف منها - ويزيد فيها ما ليس منها ، إذا لم تكن الزيادة ملبسة معناها على سامعها - كحذفهم في النقص في الترخيم من "
حارث " الثاء ، فيقولون : يا حار ، ومن "مالك " الكاف ، فيقولون : يا مال ، وأما أشبه ذلك ، وكقول راجزهم :ما للظليم عال ؟ كيف لا يا ينقد عنه جلده إذا ياكأنه أراد أن يقول : إذا يفعل كذا وكذا ، فاكتفى بالياء من "يفعل " ، وكما قال آخر منهم :بالخير خيرات وإن شرا فايريد : فشرا .
ولا أريد الشر إلا أن تا.
يريد : إلا أن تشاء ، فاكتفى بالتاء والفاء في الكلمتين جميعا ، من سائر حروفهما ، وما أشبه ذلك من الشواهد التي يطول الكتاب باستيعابه .
[ ص: 214 ]245 - وكما حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، وابن عون ، عن محمد ، قال : لما مات يزيد بن معاوية قال لي عبدة : إني لا أراها إلا كائنة فتنة ، فافزع من ضيعتك والحق بأهلك .
قلت : فما تأمرني ؟ قال : أحب إلي لك أن تا - قال أيوب وابن عون بيده تحت خده الأيمن ، يصف الاضطجاع - حتى ترى أمرا تعرفه .
قال أبو جعفر : يعني ب "
تا " تضطجع ، فاجتزأ بالتاء من تضطجع .
وكما قال الآخر في الزيادة في الكلام على النحو الذي وصفت :أقول إذ خرت على الكلكال يا ناقتي ما جلت من مجاليريد : الكلكل ، وكما قال الآخر :إن شكلي وإن شكلك شتى فالزمي الخص واخفضي تبيضضي.
فزاد ضادا ، وليست في الكلمة .
قالوا : فكذلك ما نقص من تمام حروف كل كلمة من هذه الكلمات التي ذكرنا أنها تتمة حروف "
الم " ونظائرها - نظير ما نقص من الكلام الذي حكيناه عن العرب في أشعارها وكلامها .
وأما الذين قالوا : كل حرف من "
الم " ونظائرها ، دال على معان شتى - [ ص: 215 ] نحو الذي ذكرنا عن الربيع بن أنس - فإنهم وجهوا ذلك إلى مثل الذي وجهه إليه من قال : هو بتأويل "أنا الله أعلم " ، في أن كل حرف منه بعض حروف كلمة تامة ، استغني بدلالته على تمامه عن ذكر تمامه - وإن كانوا له مخالفين في كل حرف من ذلك : أهو من الكلمة التي ادعى أنه منها قائلو القول الأول ، أم من غيرها ؟ فقالوا : بل الألف من "الم " من كلمات شتى ، هي دالة على معاني جميع ذلك وعلى تمامه .
قالوا : وإنما أفرد كل حرف من ذلك ، وقصر به عن تمام حروف الكلمة ، أن جميع حروف الكلمة لو أظهرت ، لم تدل الكلمة التي تظهر - التي بعض هذه الحروف المقطعة بعض لها - إلا على معنى واحد لا على معنيين وأكثر منهما .
قالوا : وإذ كان لا دلالة في ذلك ، لو أظهر جميعها ، إلا على معناها الذي هو معنى واحد ، وكان الله جل ثناؤه قد أراد الدلالة بكل حرف منها على معان كثيرة لشيء واحد - لم يجز إلا أن يفرد الحرف الدال على تلك المعاني ، ليعلم المخاطبون به أن الله عز وجل لم يقصد قصد معنى واحد ودلالة على شيء واحد بما خاطبهم به ، وأنه إنما قصد الدلالة به على أشياء كثيرة .
قالوا : فالألف من "
الم " مقتضية معاني كثيرة ، منها تمام اسم الرب الذي هو "الله " ، وتمام اسم نعماء الله التي هي آلاء الله ، والدلالة على أجل قوم أنه سنة ، إذا كانت الألف في حساب الجمل واحدا .
واللام مقتضية تمام اسم الله الذي هو لطيف ، وتمام اسم فضله الذي هو لطف ، والدلالة على أجل قوم أنه ثلاثون سنة .
والميم مقتضية تمام اسم الله الذي هو مجيد ، وتمام اسم عظمته التي هي مجد ، والدلالة على أجل قوم أنه أربعون سنة .
فكان معنى الكلام - في تأويل قائل القول الأول - أن الله جل ثناؤه افتتح كلامه بوصف نفسه بأنه العالم الذي لا يخفى عليه شيء ، وجعل ذلك لعباده منهجا يسلكونه في مفتتح خطبهم ورسائلهم ومهم أمورهم ، وابتلاء منه لهم ليستوجبوا به عظيم الثواب في دار الجزاء ، .
كما افتتح ب ( الحمد لله رب العالمين ) ، و ( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ) ، سورة الأنعام : 1 [ ص: 216 ] وما أشبه ذلك من السور التي جعل مفاتحها الحمد لنفسه ، وكما جعل مفاتح بعضها تعظيم نفسه وإجلالها بالتسبيح ، كما قال جل ثناؤه : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) سورة الإسراء : 1 ، وما أشبه ذلك من سائر سور القرآن ، التي جعل مفاتح بعضها تحميد نفسه ، ومفاتح بعضها تمجيدها ، ومفاتح بعضها تعظيمها وتنزيهها .
فكذلك جعل مفاتح السور الأخر التي أوائلها بعض حروف المعجم ، مدائح نفسه ، أحيانا بالعلم ، وأحيانا بالعدل والإنصاف ، وأحيانا بالإفضال والإحسان ، بإيجاز واختصار ، ثم اقتصاص الأمور بعد ذلك .
وعلى هذا التأويل يجب أن يكون الألف واللام والميم في أماكن الرفع ، مرفوعا بعضها ببعض ، دون قوله ( ذلك الكتاب ) ، ويكون "
ذلك الكتاب " خبرا مبتدأ منقطعا عن معنى "الم " .
وكذلك "
ذلك " في تأويل قول قائل هذا القول الثاني ، مرفوع بعضه ببعض ، وإن كان مخالفا معناه معنى قول قائل القول الأول .
وأما الذين قالوا : هن حروف من حروف حساب الجمل دون ما خالف ذلك من المعاني ، فإنهم قالوا : لا نعرف للحروف المقطعة معنى يفهم سوى حساب الجمل ، وسوى تهجي قول القائل : "
الم " .
وقالوا : غير جائز أن يخاطب الله جل ثناؤه عباده إلا بما يفهمونه ويعقلونه عنه .
فلما كان ذلك كذلك - وكان قوله "
الم " لا يعقل لها وجه توجه إليه ، إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا ، فبطل أحد وجهيه ، وهو أن يكون مرادا بها تهجي "الم " - صح وثبت أنه مراد به الوجه الثاني ، وهو حساب الجمل; لأن قول القائل : "الم " لا يجوز أن يليه من الكلام "ذلك الكتاب " ، لاستحالة معنى الكلام وخروجه عن المعقول ، إن ولي "الم " "ذلك الكتاب " .
واحتجوا لقولهم ذلك أيضا بما : -246 - حدثنا به محمد بن حميد الرازي ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثني الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، عن جابر بن عبد الله بن رئاب ، قال : مر [ ص: 217 ] أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة ( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه ) ، فأتى أخاه حيي بن أخطب من يهود فقال : تعلمون والله ، لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله عز وجل عليه ( الم ذلك الكتاب ) فقالوا : أنت سمعته ؟ قال : نعم! قال : فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ، ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك "
الم ذلك الكتاب " ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بلى! فقالوا : أجاءك بهذا جبريل من عند الله ؟ قال : نعم! قالوا : لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبياء ، ما نعلمه بين لنبي منهم ، ما مدة ملكه وما أكل أمته غيرك! فقال : حيي بن أخطب ، وأقبل على من كان معه فقال لهم : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة .
أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأكل أمته إحدى وسبعون سنة ؟ قال : ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، هل مع هذا غيره ؟ قال : نعم ! قال : ماذا ؟ قال : ( المص ) .
قال : هذه أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه مائة وإحدى وستون سنة .
هل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال : نعم ! قال : ماذا ؟ قال : ( الر ) .
قال : هذه [ ص: 218 ] [ ص: 219 ] والله أثقل وأطول .
الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة ، فقال : هل مع هذا غيره يا محمد ؟ قال : نعم ، ( المر ) ، قال : فهذه والله أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة .
ثم قال : لقد لبس علينا أمرك يا محمد ، حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا ؟ ثم قاموا عنه .
فقال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ، ولمن معه من الأحبار : ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد ، إحدى وسبعون ، وإحدى وستون ومائة ، ومائتان وإحدى وثلاثون ، ومائتان وإحدى وسبعون ، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون! فقالوا : لقد تشابه علينا أمره! ويزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) .
[ ص: 220 ]قالوا : فقد صرح هذا الخبر بصحة ما قلنا في ذلك من التأويل ، وفساد ما قاله مخالفونا فيه .
والصواب من القول عندي في تأويل مفاتح السور ، التي هي حروف المعجم : أن الله جل ثناؤه جعلها حروفا مقطعة ولم يصل بعضها ببعض - فيجعلها كسائر الكلام المتصل الحروف - لأنه عز ذكره أراد بلفظه الدلالة بكل حرف منه على معان كثيرة ، لا على معنى واحد ، كما قال الربيع بن أنس .
وإن كان الربيع قد اقتصر به على معان ثلاثة ، دون ما زاد عليها .
والصواب في تأويل ذلك عندي : أن كل حرف منه يحوي ما قاله الربيع ، وما قاله سائر المفسرين غيره فيه - سوى ما ذكرت من القول عمن ذكرت عنه من أهل العربية : أنه كان يوجه تأويل ذلك إلى أنه حروف هجاء ، استغني [ ص: 221 ] بذكر ما ذكر منه في مفاتيح السور ، عن ذكر تتمة الثمانية والعشرين حرفا من حروف المعجم ، بتأويل : أن هذه الحروف ، ذلك الكتاب ، مجموعة ، لا ريب فيه - فإنه قول خطأ فاسد ، لخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين من أهل التفسير والتأويل .
فكفى دلالة على خطئه ، شهادة الحجة عليه بالخطأ ، مع إبطال قائل ذلك قوله الذي حكيناه عنه - إذ صار إلى البيان عن رفع "
ذلك الكتاب " - بقوله مرة إنه مرفوع كل واحد منهما بصاحبه ، ومرة أخرى أنه مرفوع بالراجع من ذكره في قوله " لا ريب فيه " ومرة بقوله " هدى للمتقين " .
وذلك ترك منه لقوله : إن "
الم " رافعة " ذلك الكتاب " ، وخروج من القول الذي ادعاه في تأويل " الم ذلك الكتاب " ، وأن تأويل ذلك : هذه الحروف ذلك الكتاب .
فإن قال لنا قائل : وكيف يجوز أن يكون حرف واحد شاملا الدلالة على معان كثيرة مختلفة ؟قيل : كما جاز أن تكون كلمة واحدة تشتمل على معان كثيرة مختلفة ، كقولهم للجماعة من الناس : أمة ، وللحين من الزمان : أمة ، وللرجل المتعبد المطيع لله : أمة ، وللدين والملة : أمة .
وكقولهم للجزاء والقصاص : دين ، وللسلطان والطاعة : دين ، وللتذلل : دين ، وللحساب : دين ، في أشباه لذلك كثيرة يطول الكتاب بإحصائها - مما يكون من الكلام بلفظ واحد ، وهو مشتمل على معان كثيرة .
وكذلك قول الله جل ثناؤه : "
الم " و "الر " ، و "المص " وما أشبه ذلك من حروف المعجم التي هي فواتح أوائل السور ، كل حرف منها دال على معان شتى ، شامل جميعها من أسماء الله عز وجل وصفاته ما قاله المفسرون من الأقوال التي ذكرناها عنهم .
وهن ، مع ذلك ، فواتح السور ، كما قاله من قال ذلك .
[ ص: 222 ] وليس كون ذلك من حروف أسماء الله جل ثناؤه وصفاته ، بمانعها أن تكون للسور فواتح .
لأن الله جل ثناؤه قد افتتح كثيرا من سور القرآن بالحمد لنفسه والثناء عليها ، وكثيرا منها بتمجيدها وتعظيمها ، فغير مستحيل أن يبتدئ بعض ذلك بالقسم بها .
فالتي ابتدئ أوائلها بحروف المعجم ، أحد معاني أوائلها : أنهن فواتح ما افتتح بهن من سور القرآن .
وهن مما أقسم بهن ، لأن أحد معانيهن أنهن من حروف أسماء الله تعالى ذكره وصفاته ، على ما قدمنا البيان عنها ، ولا شك في صحة معنى القسم بالله وأسمائه وصفاته .
وهن من حروف حساب الجمل .
وهن للسور التي افتتحت بهن شعار وأسماء .
فذلك يحوى معاني جميع ما وصفنا ، مما بينا ، من وجوهه .
لأن الله جل ثناؤه لو أراد بذلك ، أو بشيء منه ، الدلالة على معنى واحد مما يحتمله ذلك ، دون سائر المعاني غيره ، لأبان ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إبانة غير مشكلة .
إذ كان جل ثناؤه إنما أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم ليبين لهم ما اختلفوا فيه .
وفي تركه صلى الله عليه وسلم إبانة ذلك - أنه مراد به من وجوه تأويله البعض دون البعض - أوضح الدليل على أنه مراد به جميع وجوهه التي هو لها محتمل .
إذ لم يكن مستحيلا في العقل وجه منها أن يكون من تأويله ومعناه ، كما كان غير مستحيل اجتماع المعاني الكثيرة للكلمة الواحدة ، باللفظ الواحد ، في كلام واحد .
ومن أبى ما قلناه في ذلك ، سئل الفرق بين ذلك ، وبين سائر الحروف التي تأتي بلفظ واحد ، مع اشتمالها على المعاني الكثيرة المختلفة ، كالأمة والدين وما أشبه ذلك من الأسماء والأفعال .
فلن يقول في أحد من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله .
وكذلك يسأل كل من تأول شيئا من ذلك - على وجه دون الأوجه الأخر [ ص: 223 ] التي وصفنا - عن البرهان على دعواه ، من الوجه الذي يجب التسليم له .
ثم يعارض بقول مخالفه في ذلك ، ويسأل الفرق بينه وبينه : من أصل ، أو مما يدل عليه أصل .
فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله .
وأما الذي زعم من النحويين : أن ذلك نظير "
بل " في قول المنشد شعرا :بل ما هاج أحزانا وشجوا قد شجاوأنه لا معنى له ، وإنما هو زيادة في الكلام معناه الطرح - فإنه أخطأ من وجوه شتىأحدها : أنه وصف الله تعالى ذكره بأنه خاطب العرب بغير ما هو من لغتها ، وغير ما هو في لغة أحد من الآدميين .
إذ كانت العرب - وإن كانت قد كانت تفتتح أوائل إنشادها ما أنشدت من الشعر ب "
بل " - فإنه معلوم منها أنها لم تكن تبتدئ شيئا من الكلام ب "الم " و "الر " و "المص " ، بمعنى ابتدائها ذلك ب "بل " .
وإذ كان ذلك ليس من ابتدائها - وكان الله جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم من القرآن ، بما يعرفون من لغاتهم ، ويستعملون بينهم من منطقهم ، في جميع آيه - فلا شك أن سبيل ما وصفنا من حروف المعجم ، التي افتتحت بها أوائل السور ، التي هن لها فواتح ، سبيل سائر القرآن ، في أنه لم يعدل بها عن لغاتهم التي كانوا بها عارفين ، ولها بينهم في منطقهم مستعملين .
لأن ذلك لو كان معدولا به عن سبيل لغاتهم ومنطقهم ، كان خارجا عن معنى الإبانة التي وصف الله عز وجل بها القرآن ، فقال تعالى ذكره : ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) .
وأنى يكون مبينا ما لا يعقله ولا يفقهه أحد من العالمين ، في قول قائل هذه المقالة ، ولا يعرف في منطق أحد من المخلوقين ، في قوله ؟ وفي إخبار الله جل ثناؤه عنه أنه عربي مبين ، ما يكذب هذه المقالة ، وينبئ عنه أن العرب كانوا به [ ص: 224 ] عالمين ، وهو لها مستبين .
فذلك أحد أوجه خطئه .
والوجه الثاني من خطئه في ذلك : إضافته إلى الله جل ثناؤه أنه خاطب عباده بما لا فائدة لهم فيه ولا معنى له ، من الكلام الذي سواء الخطاب فيه به وترك الخطاب به .
وذلك إضافة العبث الذي هو منفي في قول جميع الموحدين عن الله - إلى الله تعالى ذكره .
والوجه الثالث من خطئه : أن "
بل " في كلام العرب مفهوم تأويلها ومعناها ، وأنها تدخلها في كلامها رجوعا عن كلام لها قد تقضى كقولهم : ما جاءني أخوك بل أبوك ; وما رأيت عمرا بل عبد الله ، وما أشبه ذلك من الكلام ، كما قال أعشى بني ثعلبة :ولأشربن ثمانيا وثمانيا وثلاث عشرة واثنتين وأربعاومضى في كلمته حتى بلغ قوله :بالجلسان ، وطيب أردانه بالون يضرب لي يكر الإصبعاثم قال :بل عد هذا في قريض غيره واذكر فتى سمح الخليقة أروعافكأنه قال : دع هذا وخذ في قريض غيره .
ف "
بل " إنما يأتي في كلام العرب على هذا النحو من الكلام ، فأما افتتاحا لكلامها مبتدأ بمعنى التطول والحذف ، من غير أن يدل على معنى ، فذلك مما لا نعلم أحدا ادعاه من أهل المعرفة بلسان العرب ومنطقها ، سوى الذي ذكرت قوله ، فيكون ذلك أصلا يشبه به حروف المعجم التي هي فواتح سور القرآن التي افتتحت بها - لو كانت له مشبهة - فكيف وهي من الشبه به بعيدة ؟

الم

سورة : البقرة - الأية : ( 1 )  - الجزء : ( 1 )  -  الصفحة: ( 2 ) - عدد الأيات : ( 286 )

تفسير آيات من القرآن الكريم

  1. تفسير: قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في
  2. تفسير: والذين هم عن اللغو معرضون
  3. تفسير: وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى
  4. تفسير: كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون
  5. تفسير: درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما
  6. تفسير: ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان
  7. تفسير: ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون
  8. تفسير: فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين
  9. تفسير: ونصرناهم فكانوا هم الغالبين
  10. تفسير: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم

تحميل سورة البقرة mp3 :

سورة البقرة mp3 : قم باختيار القارئ للاستماع و تحميل سورة البقرة

سورة البقرة بصوت ماهر المعيقلي
ماهر المعيقلي
سورة البقرة بصوت سعد الغامدي
سعد الغامدي
سورة البقرة بصوت عبد  الباسط عبد الصمد
عبد الباسط
سورة البقرة بصوت أحمد العجمي
أحمد العجمي
سورة البقرة بصوت محمد صديق المنشاوي
المنشاوي
سورة البقرة بصوت محمود خليل الحصري
الحصري
سورة البقرة بصوت مشاري راشد العفاسي
مشاري العفاسي
سورة البقرة بصوت ناصر القطامي
ناصر القطامي
سورة البقرة بصوت فارس عباد
فارس عباد
سورة البقرة بصوت ياسر لدوسري
ياسر الدوسري

,

لا تنسنا من دعوة صالحة بظهر الغيب