1. التفسير الميسر
  2. تفسير الجلالين
  3. تفسير السعدي
  4. تفسير البغوي
  5. التفسير الوسيط
تفسير القرآن | باقة من أهم تفاسير القرآن الكريم المختصرة و الموجزة التي تعطي الوصف الشامل لمعنى الآيات الكريمات : سبعة تفاسير معتبرة لكل آية من كتاب الله تعالى , [ البقرة: 196] .

  
   

﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۖ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ۚ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾
[ سورة البقرة: 196]

القول في تفسير قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا ..


تفسير الجلالين التفسير الميسر تفسير السعدي
تفسير البغوي التفسير الوسيط تفسير ابن كثير
تفسير الطبري تفسير القرطبي إعراب الآية

التفسير الميسر : وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر


وأدُّوا الحج والعمرة تامَّيْنِ، خالصين لوجه الله تعالى. فإن منعكم عن الذهاب لإتمامهما بعد الإحرام بهما مانع كالعدو والمرض، فالواجب عليكم ذَبْحُ ما تيسر لكم من الإبل أو البقر أو الغنم تقربًا إلى الله تعالى؛ لكي تَخْرُجوا من إحرامكم بحلق شعر الرأس أو تقصيره، ولا تحلقوا رؤوسكم إذا كنتم محصرين حتى ينحر المحصر هديه في الموضع الذي حُصر فيه ثم يحل من إحرامه، كما نحر النبي صلى الله عليه وسلم في "الحديبية" ثم حلق رأسه، وغير المحصر لا ينحر الهدي إلا في الحرم، الذي هو محله في يوم العيد، اليوم العاشر وما بعده من أيام التشريق. فمن كان منكم مريضًا، أو به أذى من رأسه يحتاج معه إلى الحلق -وهو مُحْرِم- حَلَق، وعليه فدية: بأن يصوم ثلاثة أيام، أو يتصدق على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام، أو يذبح شاة لفقراء الحرم. فإذا كنتم في أمن وصحَّة: فمن استمتع بالعمرة إلى الحج وذلك باستباحة ما حُرِّم عليه بسبب الإحرام بعد انتهاء عمرته، فعليه ذبح ما تيسر من الهدي، فمن لم يجد هَدْيًا يذبحه فعليه صيام ثلاثة أيام في أشهر الحج، وسبعة إذا فرغتم من أعمال الحج ورجعتم إلى أهليكم، تلك عشرة كاملة لا بد من صيامها. ذلك الهَدْيُ وما ترتب عليه من الصيام لمن لم يكن أهله من ساكني أرض الحرم، وخافوا الله تعالى وحافظوا على امتثال أوامره واجتناب نواهيه، واعلموا أن الله شديد العقاب لمن خالف أمره، وارتكب ما عنه زجر.

المختصر في التفسير : شرح المعنى باختصار


وأدوا الحج والعمرة تامَّين، مبتغين وجه الله تعالى، فإذا مُنِعْتُم من إتمامهما بمرض أو بعدوٍّ أو نحو ذلك؛ فعليكم ذبح ما تيسر من الهدي - من الإبل أو البقر أو الغنم - لتتحلَّلوا من إحرامكم.
ولا تحلقوا رؤوسكم أو تقصروها حتى يبلغ الهدي الموضع الذي يحلُّ فيه ذبحه، فإن كان ممنوعًا من الحرم فليذبح حيث مُنع، وإن كان غير ممنوع من الحرم فليذبح في الحرم يوم النحر وما بعده من أيام التشريق.
فمن كان منكم مريضًا، أو به أذى من شعر رأسه؛ كقمل ونحوه، فَحَلَق رأسه بسبب ذلك، فلا حرج عليه، وعليه أن يفدي عن ذلك؛ إما بصيام ثلاثة أيام، أو بإطعام ستة مساكين من مساكين الحرم، أو بذبح شاة توزع على فقراء الحرم، فإذا كنتم غير خائفين فمن استمتع منكم بأداء العمرة في أشهر الحج، وتمتع بما حرُمَ عليه من محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج من عامه؛ فليذبح ما تيسر له من شاة أو يشترك سبعة في ذبح بعير أو بقرة، فإذا لم يقدر على الهدي فعليه صيام ثلاثة أيام من أيام المناسك بدلًا منه، وعليه صيام سبعة أيام بعد رجوعه إلى أهله، ليكون مجموع الأيام عشرة كاملة، ذلك التمتع مع وجوب الهدي أو الصيام للعاجز عن الهدي هو لغير أهل الحرم ومن يقيم قريبًا من الحرم، واتقوا الله باتباع ما شرع، وتعظيم حدوده، واعلموا أن الله شديد العقاب لمن خالف أمره.

تفسير الجلالين : معنى و تأويل الآية 196


«وأتموا الحج والعمرة لله» أدُّوهما بحقوقهما «فإن أُحصرتم» مُنعتم عن إتمامها بعدوِّ «فما استيسر» تيسَّر «من الهدي» عليكم وهو شاة «ولا تحلقوا رؤوسكم» أي لا تتحللوا «حتى يبلغ الهدي» المذكور «محله» حيث يحل ذبحه وهو مكان الإحصار عند الشافعي فيذبح فيه بنية التحلل ويفرَّق على مساكينه ويحلق وبه يحصل التحلل «فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه» كقمل وصداع فحلق في الإحرام «ففدية» عليه «من صيام» ثلاثة أيام «أو صدقة» بثلاثة أصوع من غالب قوت البلد على ستة مساكين «أونسك» أي ذبح شاة وأو للتخيير وألحق به من حلق لغير عذر أنه أولى بالكفارة وكذا من استمتع بغير الحلق كالطيب واللبس والدهن لعذر أو غيره «فإذا أمنتم» العدو بأن ذهب أو لم يكن «فمن تمتع» استمتع «بالعمرة» أي بسبب فراغه منها بمحظورات الإحرام «إلى الحج» أي إلى الإحرام به بأن يكون أحرم بها في أشهره «فما استيسر» تيسر «من الهدي» عليه وهو شاة يذبحها بعد الإحرام به والأفضل يوم النحر «فمن لم يجد» الهدي لفقده أو فقد ثمنه «فصيامُ» أي فعليه صيام «ثلاثة أيام في الحج» أي في حال الإحرام به فيجب حينئذ أن يُحْرمَ قبل السابع من ذي الحجة والأفضل قبل السادس لكراهة صوم يوم عرفة ولا يجوز صومها أيام التشريق على أصح قولي الشافعي «وسبعة إذا رجعتم» إلى وطنكم مكة أو غيرها وقيل إذا فرغتم من أعمال الحج وفيه التفات عن الغيبة «تلك عشرة كاملة» جملة تأكيد لما قبلها «ذلك» الحكم المذكور من وجوب الهدي أو الصيام على من تمتع «لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام» بأن لم يكونوا على دون مرحلتين من الحرم عند الشافعي فإن كان فلا دم عليه ولا صيام وإن تمتع فعليه ذلك وهو أحد وجهين عند الشافعي والثاني لا والأهل كناية عن النفس وألحق بالتمتع فيما ذكر بالسنة القارن وهو من أحرم بالعمرة والحج معا أو يدخل الحج عليها قبل الطواف «واتقوا الله» فيما يأمركم به وينهاكم عنه «واعلموا أن الله شديد العقاب» لمن خالفه.

تفسير السعدي : وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر


يستدل بقوله [تعالى]: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ } على أمور: أحدها: وجوب الحج والعمرة, وفرضيتهما.
الثاني: وجوب إتمامهما بأركانهما, وواجباتهما, التي قد دل عليها فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: " خذوا عني مناسككم " الثالث: أن فيه حجة لمن قال بوجوب العمرة.
الرابع: أن الحج والعمرة يجب إتمامهما بالشروع فيهما, ولو كانا نفلا.
الخامس: الأمر بإتقانهما وإحسانهما, وهذا قدر زائد على فعل ما يلزم لهما.
السادس: وفيه الأمر بإخلاصهما لله تعالى.
السابع: أنه لا يخرج المحرم بهما بشيء من الأشياء حتى يكملهما, إلا بما استثناه الله, وهو الحصر, فلهذا قال: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ }- أي: منعتم من الوصول إلى البيت لتكميلهما, بمرض, أو ضلالة, أو عدو, ونحو ذلك من أنواع الحصر, الذي هو المنع.
{ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ }- أي: فاذبحوا ما استيسر من الهدي, وهو سبع بدنة, أو سبع بقرة, أو شاة يذبحها المحصر, ويحلق ويحل من إحرامه بسبب الحصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, لما صدهم المشركون عام الحديبية، فإن لم يجد الهدي, فليصم بدله عشرة أيام كما في المتمتع ثم يحل.
ثم قال تعالى: { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وهذا من محظورات الإحرام, إزالة الشعر, بحلق أو غيره, لأن المعنى واحد من الرأس, أو من البدن, لأن المقصود من ذلك, حصول الشعث والمنع من الترفه بإزالته, وهو موجود في بقية الشعر.
وقاس كثير من العلماء على إزالة الشعر, تقليم الأظفار بجامع الترفه، ويستمر المنع مما ذكر, حتى يبلغ الهدي محله, وهو يوم النحر، والأفضل أن يكون الحلق بعد النحر, كما تدل عليه الآية.
ويستدل بهذه الآية على أن المتمتع إذا ساق الهدي, لم يتحلل من عمرته قبل يوم النحر، فإذا طاف وسعى للعمرة, أحرم بالحج, ولم يكن له إحلال بسبب سوق الهدي، وإنما منع تبارك وتعالى من ذلك, لما فيه من الذل والخضوع لله والانكسار له, والتواضع الذي هو عين مصلحة العبد, وليس عليه في ذلك من ضرر، فإذا حصل الضرر بأن كان به أذى من مرض, ينتفع بحلق رأسه له, أو قروح, أو قمل ونحو ذلك فإنه يحل له أن يحلق رأسه, ولكن يكون عليه فدية من صيام ثلاثة أيام, أو صدقة على ستة مساكين أو نسك ما يجزئ في أضحية, فهو مخير، والنسك أفضل, فالصدقة, فالصيام.
ومثل هذا, كل ما كان في معنى ذلك, من تقليم الأظفار, أو تغطية الرأس, أو لبس المخيط, أو الطيب, فإنه يجوز عند الضرورة, مع وجوب الفدية المذكورة لأن القصد من الجميع, إزالة ما به يترفه.
ثم قال تعالى: { فَإِذَا أَمِنْتُمْ }- أي: بأن قدرتم على البيت من غير مانع عدو وغيره، { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ } بأن توصل بها إليه, وانتفع بتمتعه بعد الفراغ منها.
{ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ }- أي: فعليه ما تيسر من الهدي, وهو ما يجزئ في أضحية، وهذا دم نسك, مقابلة لحصول النسكين له في سفرة واحدة, ولإنعام الله عليه بحصول الانتفاع بالمتعة بعد فراغ العمرة, وقبل الشروع في الحج، ومثلها القِران لحصول النسكين له.
ويدل مفهوم الآية, على أن المفرد للحج, ليس عليه هدي، ودلت الآية, على جواز, بل فضيلة المتعة, وعلى جواز فعلها في أشهر الحج.
{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } أي الهدي أو ثمنه { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } أول جوازها من حين الإحرام بالعمرة, وآخرها ثلاثة أيام بعد النحر, أيام رمي الجمار, والمبيت بـ "منى" ولكن الأفضل منها, أن يصوم السابع, والثامن, والتاسع، { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ }- أي: فرغتم من أعمال الحج, فيجوز فعلها في مكة, وفي الطريق, وعند وصوله إلى أهله.
{ ذَلِكَ } المذكور من وجوب الهدي على المتمتع { لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } بأن كان عند مسافة قصر فأكثر, أو بعيدا عنه عرفات, فهذا الذي يجب عليه الهدي, لحصول النسكين له في سفر واحد، وأما من كان أهله من حاضري المسجد الحرام, فليس عليه هدي لعدم الموجب لذلك.
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ }- أي: في جميع أموركم, بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه، ومن ذلك, امتثالكم, لهذه المأمورات, واجتناب هذه المحظورات المذكورة في هذه الآية.
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }- أي: لمن عصاه, وهذا هو الموجب للتقوى, فإن من خاف عقاب الله, انكف عما يوجب العقاب، كما أن من رجا ثواب الله عمل لما يوصله إلى الثواب، وأما من لم يخف العقاب, ولم يرج الثواب, اقتحم المحارم, وتجرأ على ترك الواجبات

تفسير البغوي : مضمون الآية 196 من سورة البقرة


قوله عز وجل ( وأتموا الحج والعمرة لله ) قرأ علقمة وإبراهيم النخعي ( وأقيموا الحج والعمرة لله ) واختلفوا في إتمامهما فقال بعضهم هو أن يتمهما بمناسكهما وحدودهما ، وسننهما وهو قول ابن عباس وعلقمة وإبراهيم النخعي ومجاهد وأركان الحج خمسة .
.
الإحرام والوقوف بعرفة وطواف الزيارة والسعي بين الصفا والمروة وحلق الرأس أو التقصير وللحج تحللان وأسباب التحلل ثلاثة رمي جمرة العقبة يوم النحر وطواف الزيارة ، والحلق فإذا وجد شيئان من هذه الأشياء الثلاثة حصل التحلل الأول وبالثلاث حصل التحلل الثاني وبعد التحلل الأول يستبيح جميع محظورات الإحرام إلا النساء وبعد الثاني يستبيح الكل وأركان العمرة أربعة الإحرام والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ، والحلق وقال سعيد بن جبير وطاوس : تمام الحج والعمرة أن تحرم بهما مفردين مستأنفين من دويرة أهلك وسئل علي بن أبي طالب عن قوله تعالى ( وأتموا الحج والعمرة لله ) قال أن تحرم بهما من دويرة أهلك ومثله عن ابن مسعود ، وقال قتادة : تمام العمرة أن تعمل في غير أشهر الحج [ فإن كانت في أشهر الحج ] ثم أقام حتى حج فهي متعة وعليه فيها الهدي إن وجده أو الصيام إن لم يجد الهدي وتمام الحج أن يؤتى بمناسكه كلها حتى لا يلزم عامله دم بسبب قران ولا متعة وقال الضحاك : إتمامها أن تكون النفقة حلالا وينتهي عما نهى الله عنه وقال سفيان الثوري : إتمامها أن تخرج من أهلك لهما ولا تخرج لتجارة ولا لحاجةقال عمر بن الخطاب : الوفد كثير والحاج قليل واتفقت الأمة على وجوب الحج على من استطاع إليه سبيلا واختلفوا في وجوب العمرة فذهب أكثر أهل العلم إلى وجوبها وهو قول عمر وعلي وابن عمر ، وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال والله إن العمرة لقرينة الحج في كتاب الله قال الله تعالى : " وأتموا الحج والعمرة لله " وبه قال عطاء وطاوس وقتادة وسعيد بن جبير وإليه ذهب الثوري والشافعي في أصح قوليه وذهب قوم إلى أنها سنة وهو قول جابر وبه قال ( الشافعي ) وإليه ذهب مالك وأهل العراق ، وتأولوا قوله تعالى ( وأتموا الحج والعمرة لله ) على معنى أتموهما إذا دخلتم فيهما أما ابتداء الشروع فيها فتطوع واحتج من لم يوجبهما بما روي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن العمرة أواجبة هي فقال : ( لا وأن تعتمروا خير لكم ) والقول الأول أصح ومعنى قوله ( وأتموا الحج والعمرة لله ) أي ابتدئوهما فإذا دخلتم فيهما فأتموهما فهو أمر بالابتداء والإتمام أي أقيموهما كقوله تعالى : " ثم أتموا الصيام إلى الليل " ( 187 - البقرة ) أي ابتدئوه وأتموهأخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا ابن أبي شيبة أخبرنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس عن عاصم عن شقيق عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب ، والفضة وليس للحج المبرور جزاء إلا الجنة " وقال ابن عمر : ليس من خلق الله أحد إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان إن استطاع إلى ذلك سبيلا كما قال الله تعالى ( وأتموا الحج والعمرة لله ) زاد بعد ذلك فهو خير وتطوع واتفقت الأمة على أنه يجوز أداء الحج والعمرة على ثلاثة أوجهالإفراد والتمتع ، والقران فصورة الإفراد أن يفرد الحج ثم بعد الفراغ منه يعتمر وصورة التمتع أن يعتمر في أشهر الحج ثم بعد الفراغ من أعمال العمرة يحرم بالحج من مكة فيحج في هذا العام وصورة القران أن يحرم بالحج والعمرة معا أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل أن يفتتح الطواف فيصير قارنا واختلفوا في الأفضل من هذه الوجوه فذهب جماعة إلى أن الإفراد أفضل ثم التمتع ثم القران وهو قول مالك والشافعي لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بحج وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج فأما من أهل بالعمرة فحل وأما من أهل بالحج أو جمع بين الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا مسلم عن ابن جريج عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر رضي الله عنه وهو يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ننوي إلا الحج ولا نعرف غيره ولا نعرف العمرة ، وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج وذهب قوم إلى أن القران أفضل وهو قول الثوري وأصحاب الرأي واحتجوا بما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم أخبرنا محمد بن هشام بن ملاس النميري أخبرنا مروان بن معاوية الفزاري أخبرنا حميد قال قال أنس بن مالك رضي الله عنه أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لبيك بحج وعمرة .
وذهب قوم إلى أن التمتع أفضل وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه واحتجوا بما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا يحيى بن بكير أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة وليقصر ، وليتحلل ثم ليهل بالحج فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله فطاف حين قدم مكة واستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف ومشى أربعا فركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ثم سلم فانصرف فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف ثم لم يتحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهدى وساق الهدي من الناس .
وعن عروة أن عائشة رضي الله عنها أخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالعمرة إلى الحج فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال شيخنا الإمام رضي الله عنه قد اختلفت الرواية في إحرام النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا وذكر الشافعي في كتاب اختلاف الأحاديث كلاما موجزا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منهم المفرد والقارن ، والمتمتع وكل كان يأخذ منه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر بها وأذن فيها ويجوز في لغة العرب إضافة ( الشيء ) إلى الآمر به كما يجوز إضافته إلى الفاعل له كما يقال بنى فلان دارا وأريد أنه أمر ببنائها وكما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا وإنما أمر برجمه واختار الشافعي الإفراد لرواية جابر وعائشة وابن عمر ، وقدمها على رواية غيرهم لتقدم صحبة جابر النبي صلى الله عليه وسلم وحسن سياقه لابتداء قصة حجة الوداع وآخرها ولفضل حفظ عائشة رضي الله عنها وقرب ابن عمر من النبي صلى الله عليه وسلمومال الشافعي في اختلاف الأحاديث إلى التمتع ، وقال ليس شيء من الاختلاف أيسر من هذا وإن كان الغلط فيه قبيحا من جهة أنه مباح لأن الكتاب ثم السنة ثم ما لا أعلم فيه خلافا على أن التمتع بالعمرة إلى الحج وإفراد الحج والقران واسع كله ، وقال من قال إنه أفرد الحج يشبه أن يكون قاله على ما لا يعرف من أهل العلم الذين أدرك دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحدا لا يكون مقيما على الحج إلا وقد ابتدأ إحرامه بالحج قال الشيخ الإمام رحمه الله ومما يدل على أنه كان متمتعا أن الرواية عن ابن عمر وعائشة متعارضة وقد روينا عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في [ حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وقال ابن شهاب عن عروة أن عائشة أخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم ] في تمتعه بالعمرة إلى الحج فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر ، وقال ابن عباس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذه عمرة استمتعنا بها " .
وقال سعد بن أبي وقاص في المتعة صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معهقال الشيخ الإمام وما روي عن جابر أنه قال خرجنا لا ننوي إلا الحج لا ينافي التمتع لأن خروجهم كان لقصد الحج ثم منهم من قدم العمرة ومنهم من أهل بالحج إلى أن أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله متعة قوله تعالى : ( فإن أحصرتم ) اختلف العلماء في الإحصار الذي يبيح للمحرم التحلل من إحرامه فذهب جماعة إلى أن كل مانع يمنعه عن الوصول إلى البيت الحرام والمعنى في إحرامه من عدو أو مرض أو جرح أو ذهاب نفقة أو ضلال راحلة يبيح له التحلل وبه قال ابن مسعود وهو قول إبراهيم النخعي والحسن ومجاهد وعطاء وقتادة وعروة بن الزبير وإليه ذهب سفيان الثوري وأهل العراق وقالوا لأن الإحصار في كلام العرب هو حبس العلة أو المرض وقال الكسائي وأبو عبيدة ما كان من مرض أو ذهاب نفقة يقال منه أحصر فهو محصر وما كان من حبس عدو أو سجن يقال منه حصر فهو محصور وإنما جعل هاهنا حبس العدو إحصارا قياسا على المرض إذ كان في معناه واحتجوا بما روي عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل " .
قال عكرمة : فسألت ابن عباس وأبا هريرة فقالا : صدق وذهب جماعة إلى أنه لا يباح له التحلل إلا بحبس العدو وهو قول ابن عباس وقال لا حصر إلا حصر العدو وروي معناه عن ابن عمر وعبد الله بن الزبير وهو قول سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وقالوا الحصر والإحصار بمعنى واحدوقال ثعلب : تقول العرب حصرت الرجل عن حاجته فهو محصور وأحصره العدو إذا منعه عن السير فهو محصر واحتجوا بأن نزول هذه الآية في قصة الحديبية وكان ذلك حبسا من جهة العدو ويدل عليه قوله تعالى في سياق الآية ( فإذا أمنتم ) والأمن يكون من الخوف وضعفوا حديث الحجاج بن عمرو بما ثبت عن ابن عباس أنه قال لا حصر إلا حصر العدو وتأوله بعضهم على أنه إنما يحل بالكسر والعرج إذا كان قد شرط ذلك في عقد الإحرام كما روي أن ضباعة بنت الزبير كانت وجعة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني " .
ثم المحصر يتحلل بذبح الهدي وحلق الرأس والهدي شاة وهو المراد من قوله تعالى ( فما استيسر من الهدي ) ومحل ذبحه حيث أحصر عند أكثر أهل العلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح الهدي عام الحديبية بها وذهب قوم إلى أن المحصر يقيم على إحرامه ويبعث بهديه إلى الحرم ويواعد من يذبحه هناك ثم يحل وهو قول أهل العراق .
واختلف القول في المحصر إذا لم يجد هديا ففي قول لا بدل له فيتحلل والهدي في ذمته إلى أن يجد والقول الثاني له بدل فعلى هذا اختلف القول فيه ففي قول عليه صوم التمتع وفي قول تقوم الشاة بدراهم ويجعل الدراهم طعاما فيتصدق به فإن عجز عن الإطعام صام عن كل مد من الطعام يوما كما في فدية الطيب ، واللبس فإن المحرم إذا احتاج إلى ستر رأسه لحر أو برد أو إلى لبس قميص أو مرض فاحتاج إلى مداواته بدواء فيه طيب فعل وعليه الفدية وفديته على الترتيب والتعديل فعليه ذبح شاة فإن لم يجد يقوم الشاة بدراهم والدراهم يشتري بها طعاما فيتصدق به فإن عجز صام عن كل مد يوما ثم المحصر إن كان إحرامه بغرض قد استقر عليه فذلك الغرض في ذمته وإن كان بحج تطوع فهل عليه القضاء اختلفوا فيه فذهب جماعة إلى أنه لا قضاء عليه وهو قول مالك والشافعي وذهب قوم إلى أن عليه القضاء وهو قول مجاهد والشعبي والنخعي وأصحاب الرأيقوله تعالى ( فما استيسر من الهدي ) [ أي فعليه ما تيسر من الهدي ] ومحله رفع ، وقيل ما في محل النصب أي فاهدي ما استيسر والهدي جمع هدية وهي اسم لكل ما يهدى إلى بيت الله تقربا إليه وما استيسر من الهدي شاة قاله علي بن أبي طالب وابن عباس لأنه أقرب إلى اليسر ، وقال الحسن وقتادة : أعلاه بدنة وأوسطه بقرة وأدناه شاةقوله تعالى : ( ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) اختلفوا في المحل الذي يحل المحصر ببلوغ هديه إليه فقال بعضهم هو ذبحه بالموضع الذي أحصر فيه سواء كان في الحل أو في الحرم ومعنى محله حيث يحل ذبحه فيه ، وأكلهأخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن محمد أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر أخبرني الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة في قصة الحديبية قال فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : قوموا فانحروا ثم احلقوا فوالله ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة يا نبي الله أتحب ذلك ، فاخرج ثم لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج ولم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما " وقال بعضهم محل هدي المحصر الحرم فإن كان حاجا فمحله يوم النحر وإن كان معتمرا فمحله يوم يبلغ هديه الحرم قوله تعالى ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ) معناه لا تحلقوا رءوسكم في حال الإحرام إلا أن تضطروا إلى حلقه لمرض أو لأذى في الرأس من هوام أو صداع ( ففدية ) فيه إضمار ، أي فحلق فعليه فدية نزلت في كعب بن عجرة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحسن بن خلف أخبرنا إسحاق بن يوسف عن أبي بشر ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يسقط على وجهه فقال أيؤذيك هوامك قال : نعم فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق وهو بالحديبية ولم يبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة فأنزل الله الفدية فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقا بين ستة مساكين أويهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام .
قوله تعالى ( ففدية من صيام ) أي ثلاثة أيام ( أو صدقة ) أي ثلاثة آصع على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع ( أو نسك ) واحدتها نسيكة أي ذبيحة أعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدناها شاة أيتها شاء ذبح فهذه الفدية على التخيير والتقدير ويتخير بين أن يذبح أو يصوم أو يتصدق وكل هدي أو طعام يلزم المحرم يكون بمكة ويتصدق به على مساكين الحرم إلا هديا يلزم المحصر فإنه يذبحه حيث أحصر وأما الصوم فله أن يصوم حيث شاء قوله تعالى : ( فإذا أمنتم ) أي من خوفكم وبرئتم من مرضكم ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) اختلفوا في هذه المتعة فذهب عبد الله بن الزبير إلى أن معناه فمن أحصر حتى فاته الحج ولم يتحلل فقدم مكة يخرج من إحرامه بعمل عمرة واستمتع بإحلاله ذلك بتلك العمرة إلى السنة المستقبلة ثم حج فيكون متمتعا بذلك الإحلال إلى إحرامه الثاني في العام القابل وقال بعضهم معناه : ( فإذا أمنتم ) وقد حللتم من إحرامكم بعد الإحصار ولم تقضوا عمرة وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة فاعتمرتم في أشهر الحج ثم حللتم فاستمتعتم بإحلالكم إلى الحج ثم أحرمتم بالحج فعليكم ما استيسر من الهدي وهو قول علقمة وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وقال ابن عباس وعطاء وجماعة هو الرجل يقدم معتمرا من أفق من الآفاق في أشهر الحج فقضى عمرته وأقام حلالا بمكة حتى أنشأ منها الحج فحج من عامه ذلك فيكون مستمتعا بالإحلال من العمرة إلى إحرامه بالحج فمعنى التمتع هو الاستمتاع بعد الخروج من العمرة بما كان محظورا عليه في الإحرام إلى إحرامه بالحجولوجوب دم التمتع أربع شرائط أحدها : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج والثاني : أن يحج بعد الفراغ من العمرة في هذه السنة والثالث أن يحرم بالحج في مكة ولا يعود إلى الميقات لإحرامه الرابع : أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام فمتى وجدت هذه الشرائط فعليه ما استيسر من الهدي وهو دم شاة يذبحه يوم النحر فلو ذبحها قبله بعدما أحرم بالحج يجوز عند بعض أهل العلم كدماء الجنايات وذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز قبل يوم النحر كدم الأضحيةقوله تعالى : ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ) أي صوموا ثلاثة أيام يصوم يوما قبل التروية ويوم التروية ويوم عرفة ولو صام قبله بعدما أحرم بالحج يجوز ولا يجوز يوم النحر ولا أيام التشريق عند أكثر أهل العلم وذهب بعضهم إلى جواز صوم الثلاث أيام التشريق .
يروى ذلك عن عائشة وابن عمر وابن الزبير وهو قول مالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق .
قوله تعالى ( وسبعة إذا رجعتم ) أي صوموا سبعة أيام إذا رجعتم إلى أهليكم وبلدكم فلو صام السبعة قبل الرجوع إلى أهله لا يجوز وهو قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وقيل يجوز أن يصومها بعد الفراغ من أعمال الحج وهو المراد من الرجوع المذكور في الآيةقوله تعالى ( تلك عشرة كاملة ) ذكرها على وجه التأكيد وهذا لأن العرب ما كانوا يهتدون إلى الحساب فكانوا يحتاجون إلى فضل شرح وزيادة بيان ، وقيل فيه تقديم وتأخير يعني فصيام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم فهي عشرة كاملة وقيل كاملة في الثواب والأجر ، وقيل كاملة فيما أريد به من إقامة الصوم بدل الهدي وقيل كاملة بشروطها وحدودها ، وقيل لفظه خبر ومعناه أمر أي فأكملوها ولا تنقصوها ( ذلك ) أي هذا الحكم ( لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) واختلفوا في حاضري المسجد الحرام فذهب قوم إلى أنهم أهل مكة وهو قول مالك وقيل هم أهل الحرم وبه قال طاوس من التابعين وقال ابن جريج : أهل عرفة والرجيع وضجنان ، ونخلتان وقال الشافعي رحمه الله كل من كان وطنه من مكة على أقل من مسافة القصر فهو من حاضري المسجد الحرام وقال عكرمة : هم من دون الميقات وقيل هم أهل الميقات فما دونه وهو قول أصحاب الرأي ودم القران كدم التمتع والمكي إذا قرن أو تمتع فلا هدي عليه قال عكرمة : سئل ابن عباس عن متعة الحج فقال أهل المهاجرون والأنصار ، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول الله : " اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي " .
فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا فقد تم حجنا وعلينا الهدي فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه وأباحه للناس من غير أهل مكة قال الله تعالى : ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) .
ومن فاته الحج وفواته يكون بفوات الوقوف بعرفة حتى يطلع الفجر يوم النحر فإنه يتحلل بعمل العمرة وعليه القضاء من قابل والفدية وهي على الترتيب والتقدير كفدية التمتع والقرانأخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن سليمان بن يسار أن هناد بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب ينحر هديه فقال يا أمير المؤمنين أخطأنا العدد كنا نظن أن هذا اليوم يوم عرفة فقال له عمر : اذهب إلى مكة فطف أنت ومن معك بالبيت واسعوا بين الصفا والمروة وانحروا هديا إن كان معكم ثم احلقوا أو قصروا ثم ارجعوا فإذا كان عام قابل فحجوا واهدوا فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم .
( واتقوا الله ) في أداء الأوامر ( واعلموا أن الله شديد العقاب ) على ارتكاب المناهي .

التفسير الوسيط : ويستفاد من هذه الآية


تعتبر هذه الآية الكريمة من أجمع الآيات التي وردت في القرآن الكريم مبينة ما يتعلق بأحكام الحج وآدابه، وسنحاول- بعون الله- أن نبين ما اشتملت عليه من آداب سامية، وتوجيهات حكيمة، بأسلوب هو إلى الإيجاز أقرب منه إلى الإسهاب والإطناب، قاصدين عدم التعرض لتفريعات الفقهاء واختلافاتهم إلا بالقدر الذي يقتضيه المقام.
والحج في اللغة: القصد يقال حج فلان الشيء: إذا قصده مرة بعد أخرى.
وفي الشرع: القصد لزيارة بيت الله الحرام في وقت مخصوص بأفعال مخصوصة، وبكيفية مخصوصة، بينتها الشريعة الإسلامية.
والعمرة في اللغة: الزيارة، مأخوذة من العمارة التي هي ضد الخراب ثم أطلقت على الزيارة التي يقصد بها عمارة المكان.
وفي الشرع: زيارة بيت الله الحرام للتقرب إليه، وقد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم أركانها وشروطها وكيفيتها.
وقد كانت شعيرة الحج والعمرة معروفتين عند العرب قبل الإسلام، ولكن بأفعال وبكيفية فيها الكثير من الأباطيل والأوهام، فجاءت شريعة الإسلام فوضعت لهما أفضل الأحكام، وأسمى الآداب، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم المسلمين أن يسيروا في أدائهما على الطريقة التي سار عليها فقال: «خذوا عنى مناسككم» .
قال ابن كثير: «وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست، وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، وعمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان، وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معا في ذي القعدة سنة عشر.
وما اعتمر في غير ذلك بعد هجرته» .
وقد اختلف العلماء في المقصود من الإتمام في قوله- تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فبعضهم يرى أن المراد بإتمامهما: إقامتهما وإيجادهما وإنشاؤهما فيكون المعنى: أقيموا الحج والعمرة لله: أى أدوهما وائتوا بهما.
فالأمر في «أتموا» منصب على الإنشاء والأداء.
فهو كقوله-تبارك وتعالى-: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وأصحاب هذا الرأى يرون أن العمرة واجبه كالحج، لأن الله-تبارك وتعالى- أمر بهما معا، ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «تابعوا بين الحج والعمرة..» .
وإلى هذا الرأى اتجه سعيد بن جبير، وعطاء، وسفيان الثوري، والشافعية.
ويرى كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء كالأحناف والمالكية- أن المراد بإتمامهما: الإتيان بهما تامين بمناسكهما المشروعة لوجه الله-تبارك وتعالى- وأن على المسلّم إذا شرع فيهما أو في أحدهما أن يتمه ويأتى به كاملا، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في عمرة القضاء.
فيكون المعنى: ائتوا بالحج والعمرة كاملى الأركان والشروط والآداب خالصين لوجه الله-تبارك وتعالى-.
فالأمر على هذا الرأى منصب على الإتمام لا على أصل الأداء.
وأصحابه يرون أن العمرة ليست واجبة كالحج لعدم قيام الدليل على وجوبها، وليس في الآية ما يفيد الوجوب، بل فيها ما يفيد وجوب الإتمام إن شرع فيهما أو في أحدهما.
وفرضية الحج إنما ثبتت بقوله-تبارك وتعالى-: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
وأيضا، فإن أركان العمرة وأفعالها تدخل في ثنايا أفعال الحج وأركانه، ولذلك ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» إلى غير ذلك من الأدلة التي ساقها كل فريق لتدعيم رأيه.
ومجمل القول أن فرضية الحج مجمع عليها بين العلماء، وأما فرضية العمرة ففيها خلاف، انتصر كثير من العلماء فيه للرأى القائل بأنها ليست فرضا كالحج، بل هي سنة.
وقد كانت فرضية الحج في السنة التاسعة من الهجرة على أرجح الروايات.
ويرى بعض العلماء أن الحج قد فرض قبل ذلك، إلا أن تنفيذه لم يتم إلا في السنة التاسعة عند ما أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر أميرا على الحج، وكان ذلك تمهيدا لحجه صلّى الله عليه وسلّم سنة عشر.
وقد أمر- سبحانه - بإتمام الحج والعمرة لله دون غيره لأن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر، والتفاخر، وقضاء الحوائج، وحضور الأسواق، دون أن يكون لله-تبارك وتعالى- فيه حظ يقصد، ولا قربة تعتقد، فأمر- سبحانه - المسلمين أن ينزهوا عباداتهم- وخصوصا الحج- عن الأقوال السيئة، والأفعال القبيحة، وأن يقصدوا بأداء ما كلفهم الله به الإخلاص والطاعة له- سبحانه -.
وبعد أن أمر الله-تبارك وتعالى- عباده بأن يتموا الحج والعمرة له، أردف ذلك ببيان ما يجب عليهم عمله فيما لو حال حائل بينهم وبين إتمامهما فقال: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ والإحصار والحصر في اللغة: بمعنى الحبس والمنع والتضييق سواء أكان بسبب عدو أو مرض أو جور سلطان أو ما يشبه ذلك.
قال-تبارك وتعالى- في شأن قتال المشركين: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ أى: ضيقوا عليهم المنافذ.
ويقال للذي لا يبوح بسره: حصر لأنه حبس نفسه عن البوح بسره.
ويرى بعض علماء اللغة أن الإحصار يكون الحبس والمنع فيه من ذات الشخص كالمرض وذهاب النفقة، وأما الحصر فيكون الحبس والمنع فيه لا من ذات الشخص، بل بسبب أمر خارجى كالعدو ونحوه.
الْهَدْيِ: - بتخفيف الياء وتشديدها- مصدر بمعنى المفعول، أى: المهدى والمراد به ما يهدى إلى بيت الله الحرام من الإبل والبقرة والشاة ليذبح تقربا إلى الله-تبارك وتعالى-.
واسْتَيْسَرَ هنا بمعنى يسر وتيسر أى: ما أمكن تحصيله من الهدى بدون مشقة أو تعب.
والمعنى: أتموا- أيها المؤمنون- الحج والعمرة لله متى قدرتم على ذلك، فإن أُحْصِرْتُمْ أى، منعتم بعد الإحرام من الوصول إلى البيت الحرام بسبب عدو أو مرض أو نحوهما، فعليكم إذا أردتم التحلل من الإحرام أن تذبحوا ما تيسر لكم من الهدى.
وبعض العلماء- كالشافعية والمالكية- يرون أن المراد بالإحصار في الآية ما كان بسبب عدو، كما حدث للمسلمين في صلح الحديبية، أما إذا كان الإحصار بسبب مرض، فإن الحاج أو المعتمر يبقى على إحرامه حتى يبرأ من مرضه ثم يذهب إلى البيت فيطوف به سبعا، ويسعى بين الصفا والمروة، وبهذا يتحلل من عمرته أو حجه، ولا يتحلل بالذبح، إذ التحلل بالذبح عندهم لا يكون إلا في حالة الإحصار بسبب العدو.
أما الأحناف فيرون أن الإحصار سواء أكان بسبب عدو أو مرض أو ما يشبههما فإنه يسيغ التحلل بالذبح، إذ الآية عندهم تعم كل منع، وعلى من أحصر أن يقضى الحج أو العمرة فيما بعد.
وفي هذه الجملة الكريمة تقرير للمبادئ التي جاءت بها شريعة الإسلام تلك المبادئ التي تتوخى في كل شئونها التيسير لا التعسير، والرفق لا التشديد قال-تبارك وتعالى-: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وقال-تبارك وتعالى-: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ .
ثم قال-تبارك وتعالى-: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ.
حلق الرأس أو تقصيرها علامة على الانتهاء من الإحرام، كما أن التسليم علامة الانتهاء من الصلاة، أو علامة قطعهما عند الاضطرار إلى ذلك.
والحلق بالنسبة للرجال أفضل من التقصير، فقد أخرج الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم اغفر للمحلقين.
قالوا: يا رسول الله وللمقصرين.
قال: اللهم اغفر للمحلقين.
قالوا: يا رسول الله وللمقصرين.
قال: وللمقصرين» .
أما بالنسبة للنساء فيكفى التقصير.
والمحل: اسم لزمان الحلول أو مكانه.
يقال: بلغ الدين محله إذا حل وقت أدائه، كما يقال: بلغ الشخص محله إذا وصل إلى المكان الذي ينزل به.
قال الآلوسى: وكون المراد بالمحل هنا المكان هو الظاهر في الآية.
والمعنى: أتموا الحج والعمرة لله، فإن منعتم من إتمامهما وأنتم محرمون فعليكم إذا أردتم التحلل أن تذبحوا ما تيسر لكم من الهدى، ولا تتحللوا من إحرامكم بالحلق حتى تعلموا أن الهدى المبعوث قد بلغ مكانه الذي يجب أن يراق فيه دمه، وهو الحرم.
وهذا رأى الأحناف، فقد قرروا أن المراد بالمحل البيت الحرام، فهو اسم مكان، لأن الله-تبارك وتعالى- قد قال في آية أخرى: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ، وعليه فلا يجوز للمحصر أن يحلق ويتحلل إلا بعد أن يصل الهدى الذي يرسله إلى البيت الحرام ويذبح.
أما جمهور الفقهاء فيرون أن محل الهدى للمحصر هو المكان الذي حدث فيه الإحصار، ودليلهم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد نحر هو وأصحابه هديهم بالحديبية وهي ليست من الحرم، وذلك عند ما منعه المشركون من دخول مكة.
وقد أجاب الأحناف على ذلك بأن محصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما يقول الآلوسى- كان في طريق الحديبية بأسفل مكة، والحديبية متصلة بالحرم.
وعلى رأى جمهور الفقهاء يكون المعنى: ولا تتحللوا من إحرامكم بالحلق حتى تذبحوا الهدى في الموضع الذي أحصرتم فيه، فإذا تم الذبح فاحلقوا وتحللوا.
والخطاب على كلا المعنيين يكون للمحصرين، لأنه أقرب مذكور.
ويرى المحققون من العلماء أن رأى جمهور الفقهاء أكثر اتفاقا مع السنة النبوية، وفيه تسهيل على المحصرين، والمناسب لهم هو التيسير لا التعسير، ولا شك أن ذبحهم لهديهم في مكان إحصارهم أيسر لهم، وحملوا قوله-تبارك وتعالى-: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ على أنه خطاب عام لجميع المكلفين لا فرق بين محصر وغير محصر، وأن المقصود من الجملة الكريمة هو البيان العام لمكان التحلل وزمانه، أما مكان الذبح عند الإحصار فقد بينه النبي صلّى الله عليه وسلّم بذبحه لهديه في الحديبية وهي ليست من الحرم عند المحققين.
قال الإمام الرازي: ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية، فقد قال الشافعى وغيره:المحل في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل وقال أبو حنيفة: إنه اسم للمكان .
وبعد أن بين- سبحانه - أن الحلق لا يجوز للمحرم ما دام مستمرا على إحرامه، أردف ذلك ببيان بعض الحالات التي يجوز فيها للمحرم أن يحلق رأسه مع استمراره على إحرامه فقال-تبارك وتعالى-: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ، فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.
أى: فمن كان منكم- أيها المحرمون- مريضا بمرض يضطر معه إلى الحلق، أو كان به أذى من رأسه كجراحة وحشرات مؤذية، فعليه إن حلق فدية من صيام أو صدقة أو نسك.
وقوله: فَفِدْيَةٌ مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف.
أى: فعليه فدية، وأيضا ففيه إضمار آخر والتقدير: فحلق فعليه فدية.
والفدية: هي العوض عن الشيء الجليل النفيس.
ولا ريب أن محرمات الحج والعمرة أمور لها جلالها وعظمها.
وعبر- سبحانه - هنا بالفدية دون الكفارة، لأن الذي به مرض أو أذى من رأسه لم يرتكب ذنبا أو إثما حتى يكفر عنه.
قال القرطبي: والنسك: جمع نسيكه، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله-تبارك وتعالى- وتكون من الإبل والبقر والغنم- ويجمع- أيضا- على نسائك.
والنسك: العبادة في الأصل، ومنه قوله-تبارك وتعالى-: وَأَرِنا مَناسِكَنا أى: متعبداتنا.
وقيل: أصل النسك في اللغة الغسل ومنه نسك ثوبه إذا غسله، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة.
وقيل: النسك سبائك الفضة التي خلصت من الخبث، كل سبيكة منها نسيكة، فكأن العابد خلص نفسه من دنس الآثام» .
وقوله-تبارك وتعالى-: مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ بيان لجنس الفدية.
وقد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم مقدار هذه الفدية، فقد روى الشيخان عن كعب بن عجرة الأنصارى قال: حملت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والقمل يتناثر على وجهى فقال: ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا ...
أما تجد شاة؟ قلت: لا!! قال: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك.
فنزلت فىّ خاصة وهي لكم عامة.
فقد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم مقدار الفدية في هذا الحديث، وعامة العلماء يرون أن المحرم لعذر كهذا يخير في هذا المقام، إن شاء صام وإن شاء تصدق وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على المساكين.
قال ابن كثير: ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاء بالأسهل فالأسهل، ولما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم كعب بن عجرة بذلك أرشده أولا إلى الأفضل فقال: أما تجد شاه؟ فكل حسن في مقامه» .
وبعد أن بين- سبحانه كيفية التحلل عند الإحصار، وكيفية التحلل الجزئى من بعض المحرمات عند المرض، عقب ذلك ببيان كيفية التحلل في حالة الأمن فقال: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ، تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ.
وقوله: فَإِذا أَمِنْتُمْ الأمن ضد الخوف.
أى: فإذا زال خوفكم وثبت أمنكم والجملة معطوفة على قوله أُحْصِرْتُمْ وجيء بإذا لأن فعل الشرط وهو أَمِنْتُمْ مرغوب فيه.
وقوله: فَمَنْ تَمَتَّعَ جواب إذا.
والتمتع في اللغة- كما قال الإمام الرازي- التلذذ.
يقال: تمتع بالشيء إذا تلذذ به.
والمتاع كل شيء يتمتع به، وأصله من قولهم: حبل ماتع، أى: طويل.
وكل من طالت صحبته مع الشيء فهو متمتع به .
والمراد بالتمتع في الآية المعنى الشرعي بأن يجمع المسلم بين العمرة والحج في عام واحد في أشهر لحج، بأن يحرم بالعمرة أولا ثم بالحج.
وسمى هذا النوع من الإحرام تمتعا، لأن المحرم به يجمع بين متعة الروح ومتعة الجسد.
لأنه يحرم بالعمرة أولا ويقوم بمناسكها وتلك متعة روحية وبعد الانتهاء من أدائها يتحلل فيجوز له أن يقرب النساء ويمس الطيب حتى يحرم بالحج وتلك متعة بدنية.
وهناك نوعان آخران من الإحرام.
أحدهما: الإفراد ومعناه: أن يحرم بالحج فقط ولا يجمع معه العمرة، وإنما يأتى بها في وقت آخر.
وثانيهما: القران ومعناه: أن يجمع بين العمرة والحج في إحرام واحد، بأن يبقى على إحرامه ويأتى بمناسك الحج والعمرة بالإحرام نفسه.
والمعنى: فإذا ثبت أمنكم- أيها المسلمون- عند أدائكم للحج والعمرة، فمن تمتع منكم بالعمرة إلى الحج، بأن أحرم بها في أشهر الحج، ثم بعد الانتهاء من أعمالها تحلل بأن حلق رأسه، وباشر أهله إن كانوا معه، وانتظر متحللا وصار من حقه أن يفعل كل ما يفعله من ليس محرما إلى وقت الإحرام بالحج، فعليه في هذه الحالة أن يذبح ما تيسر له من الهدى من غنم أو بقر أو إبل ليكون هذا الذبح شكرا لله حيث وفقه- سبحانه - للجمع بين النسكين مع التمتع بينهما بأفعال المتحلل، فمن لم يجد ما يذبحه فعليه أن يصوم ثلاثة أيام في وقت الحج وأن يصوم سبعة أيام بعد فراغه منه.
وقوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ...
معطوف على فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ ...
لأن فَمَنْ تَمَتَّعَ مع جوابه وهو فَمَا اسْتَيْسَرَ ...
مقدر فيه معنى فمن تمتع واجدا الهدى، فعطف عليه فمن لم يجد أى الهدى.
وقد جعل- سبحانه - الصيام بدلا عن الهدى زيادة في الرخصة والرحمة وزيادة في الرفق والتيسير فقد جعله على مرحلتين:إحداهما: - وهي الأقل- تكون في وقت الحج، ويفضل كثير من الفقهاء أن يصوم سادس ذي الحجة وسابعه وثامنه.
وثانيتهما: - وهي الأكثر- تكون بعد الرجوع إلى أهله حيث يطمئن ويستقر وتذهب مشقة السفر فيصوم سبعة أيام.
وبعض الفقهاء يرى جواز الصيام عند الأخذ في الرجوع بعد الفراغ من أعمال الحج، ويرجح الوجه الأول ما رواه الشيخان من حديث ابن عمر وفيه: «فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» .
والإشارة في قوله-تبارك وتعالى-: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ إلى الثلاثة والسبعة.
ومميز العدد محذوف أى: أيام.
والجملة مؤكدة لما أفاده قوله: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ وفائدة هذا التأكيد دفع توهم أن الواو بمعنى أو، أو أن السبعة كناية عن مطلق كثرة العدد، وبذلك يتقرر الحكم نصا، ويتبين أن الذي يحل محل النسك إنما هو العشرة الكاملة وليس بعضها.
ووصف العشرة بأنها كاملة، للتنويه بأن هذا الصوم طريق الكمال لأعمال الحج، وأن الحاج إذا نسى بعضها لا يكون حجه تاما حتى يصوم ما أمره الله-تبارك وتعالى- به.
وقوله: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الإشارة فيه تعود إلى التمتع المفهوم من قوله-تبارك وتعالى-: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ.. إلخ.
أى: ذلك التمتع الذي يتمتع فيه المحرم بين النسكين، إنما هو للشخص الذي ليس أهله من المقيمين في مكة وما حولها، لأن المقيمين في مكة وما حولها يفردون ولا يجمعون، إذ العمرة في إمكانهم أن يؤدوها طول أيام السنة.
وقد شرع- سبحانه - التمتع ليكون تيسيرا ورفقا للمقيمين بعيدا عن مكة هذا رأى الأحناف.
ويرى الشافعية: أن أهل مكة وما حولها يقرنون ويتمتعون كغيرهم من أهل الآفاق، وأن اسم الإشارة في الجملة الكريمة يعود إلى النسك وما يقوم مقامه من الصوم لأنه أقرب مذكور.
وعلى رأيهم يكون المعنى: ذلك الذبح لما تيسر من الهدى والصيام لمن لم يتيسر له الهدى إنما هو على سكان الآفاق، لا على سكان مكة وما حولها، لأن سكان مكة وما حولها قد أحرموا لتمتعهم من الميقات فلا يجب عليهم شيء.
والمراد بحاضرى المسجد الحرام: أهل مكة وأهل الحل الذين منازلهم داخل الميقات عند الحنفية.
وقال المالكية: هم أهل مكة خاصة.
وقال الشافعية: هم أهل مكة ومن كان بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة.
ولكل أدلته المفصلة في كتب الفقه.
ثم ختم- سبحانه - الآية بالأمر بتقواه وبالتحذير من عقابه فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
أى: واتقوا الله في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه، واعلموا أن الله شديد العقاب لمن لم يخشه ولم يلتزم حدوده.
وفي هذا الأمر بالتقوى في ختام هذه الآية التي تحدثت عن الحج إشعار بأن هذه الفريضة ليست العبرة فيها بما تعمله الجوارح وإنما العبرة بما تتركه في القلوب من توبة صادقة، وصيانة للنفس عن اقتراف المحارم.
وفي قوله: وَاعْلَمُوا اهتمام بالخبر، وتحقيق لمضمونه، وترهيب من العقاب مع الترغيب بالثواب، فقد جرت عادة الناس أنهم يصلحون بالثواب والعقاب.
هذا، وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على بعض الأحكام التي تتعلق بالحج والعمرة، والمتدبر في هذه الأحكام يراها قد امتازت بأحكم ضروب التوجيه، وأيسر أنواع التكليف.
ثم بين- سبحانه - وقت الحج وما يجب على المسلّم عند أدائه لهذه الفريضة من آداب فقال-تبارك وتعالى-:

وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر: تفسير ابن كثير


لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعطف بذكر الجهاد ، شرع في بيان المناسك ، فأمر بإتمام الحج والعمرة ، وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما ; ولهذا قال بعده : { فإن أحصرتم } أي: صددتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامهما . ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة ملزم ، سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها ، كما هما قولان للعلماء . وقد ذكرناهما بدلائلهما في كتابنا " الأحكام " مستقصى ولله الحمد والمنة .
وقال شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن علي : أنه قال في هذه الآية : { وأتموا الحج والعمرة لله } قال : أن تحرم من دويرة أهلك .
وكذا قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وطاوس . وعن سفيان الثوري أنه قال في هذه الآية : إتمامهما أن تحرم من أهلك ، لا تريد إلا الحج والعمرة ، وتهل من الميقات ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة ، حتى إذا كنت قريبا من مكة قلت : لو حججت أو اعتمرت ، وذلك يجزئ ، ولكن التمام أن تخرج له ، ولا تخرج لغيره .
وقال مكحول : إتمامهما إنشاؤهما جميعا من الميقات .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري قال : بلغنا أن عمر قال في قول الله : { وأتموا الحج والعمرة لله } [ قال ] : من تمامهما أن تفرد كل واحد منهما من الآخر ، وأن تعتمر في غير أشهر الحج ; إن الله تعالى يقول : (الحج أشهر معلومات } .
وقال هشيم عن ابن عون قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : إن العمرة في أشهر الحج ليست بتامة فقيل له : العمرة في المحرم ؟ قال : كانوا يرونها تامة . وكذا روي عن قتادة بن دعامة ، رحمهما الله .
وهذا القول فيه نظر ; لأنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة : عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست ، وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع ، وعمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان ، وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معا في ذي القعدة سنة عشر ، ولا اعتمر قط في غير ذلك بعد هجرته ، ولكن قال لأم هانئ " عمرة في رمضان تعدل حجة معي " . وما ذاك إلا لأنها [ كانت ] قد عزمت على الحج معه ، عليه السلام ، فاعتاقت عن ذلك بسبب الطهر ، كما هو مبسوط في الحديث عند البخاري ، ونص سعيد بن جبير على أنه من خصائصها ، والله أعلم .
وقال السدي في قوله : { وأتموا الحج والعمرة لله } أي: أقيموا الحج والعمرة . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { وأتموا الحج والعمرة لله } يقول : من أحرم بالحج أو بالعمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما ، تمام الحج يوم النحر ، إذا رمى جمرة العقبة ، وطاف بالبيت ، وبالصفا ، والمروة ، فقد حل .
وقال قتادة ، عن زرارة ، عن ابن عباس أنه قال : الحج عرفة ، والعمرة الطواف . وكذا روى الأعمش ، عن إبراهيم عن علقمة في قوله : { وأتموا الحج والعمرة لله } قال : هي [ في ] قراءة عبد الله : " وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت " لا تجاوز بالعمرة البيت . قال إبراهيم : فذكرت ذلك لسعيد بن جبير ، فقال : كذلك قال ابن عباس .
وقال سفيان عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة أنه قال : " وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت " وكذا روى الثوري أيضا عن إبراهيم ، عن منصور ، عن إبراهيم أنه قرأ : " وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت " .
وقرأ الشعبي : " وأتموا الحج والعمرة لله " برفع العمرة ، وقال : ليست بواجبة . وروي عنه خلاف ذلك .
وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة ، عن أنس وجماعة من الصحابة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في إحرامه بحج وعمرة ، وثبت عنه في الصحيح أنه قال لأصحابه : " من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة " .
وقال في الصحيح أيضا : " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " .
وقد روى الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية حديثا غريبا فقال : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو عبد الله الهروي ، حدثنا غسان الهروي ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن عطاء ، عن صفوان بن أمية أنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم متضمخ بالزعفران ، عليه جبة ، فقال : كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي ؟ قال : فأنزل الله : { وأتموا الحج والعمرة لله } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أين السائل عن العمرة ؟ " فقال : ها أنا ذا . فقال له : " ألق عنك ثيابك ، ثم اغتسل ، واستنشق ما استطعت ، ثم ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك " هذا حديث غريب وسياق عجيب ، والذي ورد في الصحيحين ، عن يعلى بن أمية في قصة الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة فقال : كيف ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة وخلوق ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جاءه الوحي ، ثم رفع رأسه فقال : " أين السائل ؟ " فقال : ها أنا ذا ، فقال : " أما الجبة فانزعها ، وأما الطيب الذي بك فاغسله ، ثم ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك " . ولم يذكر فيه الغسل والاستنشاق ولا ذكر نزول الآية ، وهو عن يعلى بن أمية ، لا [ عن ] صفوان بن أمية ، والله أعلم .
وقوله : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } ذكروا أن هذه الآية نزلت في سنة ست ، أي عام الحديبية ، حين حال المشركون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الوصول إلى البيت ، وأنزل الله في ذلك سورة الفتح بكمالها ، وأنزل لهم رخصة : أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان سبعين بدنة ، وأن يتحللوا من إحرامهم ، فعند ذلك أمرهم عليه السلام بأن يحلقوا رؤوسهم ويتحللوا . فلم يفعلوا انتظارا للنسخ حتى خرج فحلق رأسه ، ففعل الناس وكان منهم من قصر رأسه ولم يحلقه ، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم : " رحم الله المحلقين " . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ فقال في الثالثة : " والمقصرين " . وقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك ، كل سبعة في بدنة ، وكانوا ألفا وأربعمائة ، وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم ، وقيل : بل كانوا على طرف الحرم ، فالله أعلم .
ولهذا اختلف العلماء هل يختص الحصر بالعدو ، فلا يتحلل إلا من حصره عدو ، لا مرض ولا غيره ؟ على قولين :
فقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، وابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، وابن أبي نجيح [ ومجاهد ] عن ابن عباس ، أنه قال : لا حصر إلا حصر العدو ، فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء ، إنما قال الله تعالى : { فإذا أمنتم } فليس الأمن حصرا .
قال : وروي عن ابن عمر ، وطاوس ، والزهري ، وزيد بن أسلم ، نحو ذلك .
والقول الثاني : أن الحصر أعم من أن يكون بعدو أو مرض أو ضلال وهو التوهان عن الطريق أو نحو ذلك . قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا حجاج بن الصواف ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن الحجاج بن عمرو الأنصاري ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من كسر أو عرج فقد حل ، وعليه حجة أخرى " .
قال : فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا : صدق .
وأخرجه أصحاب الكتب الأربعة من حديث يحيى بن أبي كثير ، به . وفي رواية لأبي داود وابن ماجه : من عرج أو كسر أو مرض فذكر معناه . ورواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن عرفة ، عن إسماعيل بن علية ، عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف ، به . ثم قال : وروي عن ابن مسعود ، وابن الزبير ، وعلقمة ، وسعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، ومجاهد ، والنخعي ، وعطاء ، ومقاتل بن حيان ، أنهم قالوا : الإحصار من عدو ، أو مرض ، أو كسر .
وقال الثوري : الإحصار من كل شيء آذاه . وثبت في الصحيحين عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ، فقالت : يا رسول الله ، إني أريد الحج وأنا شاكية . فقال : " حجي واشترطي : أن محلي حيث حبستني " . ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله . فذهب من ذهب من العلماء إلى صحة الاشتراط في الحج لهذا الحديث . وقد علق الإمام محمد بن إدريس الشافعي القول بصحة هذا المذهب على صحة هذا الحديث . قال البيهقي وغيره من الحفاظ : فقد صح ، ولله الحمد .
وقوله : { فما استيسر من الهدي } قال الإمام مالك ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول : { فما استيسر من الهدي } شاة . وقال ابن عباس : الهدي من الأزواج الثمانية : من الإبل والبقر والمعز والضأن .
وقال الثوري ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { فما استيسر من الهدي } قال : شاة . وكذا قال عطاء ، ومجاهد ، وطاوس ، وأبو العالية ، ومحمد بن علي بن الحسين ، وعبد الرحمن بن القاسم ، والشعبي ، والنخعي ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم مثل ذلك ، وهو مذهب الأئمة الأربعة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم ، عن عائشة وابن عمر : أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر .
قال : وروي عن سالم ، والقاسم ، وعروة بن الزبير ، وسعيد بن جبير نحو ذلك .
قلت : والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قضية الحديبية ، فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذاك شاة ، وإنما ذبحوا الإبل والبقر ، ففي الصحيحين عن جابر قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : { فما استيسر من الهدي } قال : بقدر يسارته .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : إن كان موسرا فمن الإبل ، وإلا فمن البقر ، وإلا فمن الغنم . وقال هشام بن عروة ، عن أبيه : { فما استيسر من الهدي } قال : إنما ذلك فيما بين الرخص والغلاء .
والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجزاء ذبح الشاة في الإحصار : أن الله أوجب ذبح ما استيسر من الهدي ، أي: مهما تيسر مما يسمى هديا ، والهدي من بهيمة الأنعام ، وهي الإبل والبقر والغنم ، كما قاله الحبر البحر ترجمان القرآن وابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم . وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، قالت : أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مرة غنما .
وقوله : { ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله } معطوف على قوله : { وأتموا الحج والعمرة لله } وليس معطوفا على قوله : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } كما زعمه ابن جرير ، رحمه الله ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم ، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم ، فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق { حتى يبلغ الهدي محله }
ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة ، إن كان قارنا ، أو من فعل أحدهما إن كان مفردا أو متمتعا ، كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت : يا رسول الله ، ما شأن الناس حلوا من العمرة ، ولم تحل أنت من عمرتك ؟ فقال : " إني لبدت رأسي وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر " .
وقوله : { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } قال البخاري : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني : سمعت عبد الله بن معقل ، قال : فعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد يعني مسجد الكوفة فسألته عن { ففدية من صيام } فقال : حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي . فقال : " ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا ! أما تجد شاة ؟ " قلت : لا . قال : " صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع من طعام ، واحلق رأسك " . فنزلت في خاصة ، وهي لكم عامة .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة قال : أتى علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر ، والقمل يتناثر على وجهي أو قال : حاجبي فقال : " يؤذيك هوام رأسك ؟ " . قلت : نعم . قال : " فاحلقه ، وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، أو انسك نسيكة " . قال أيوب : لا أدري بأيتهن بدأ .
وقال أحمد أيضا : حدثنا هشيم ، أخبرنا أبو بشر عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، ونحن محرمون وقد حصره المشركون وكانت لي وفرة ، فجعلت الهوام تساقط على وجهي ، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أيؤذيك هوام رأسك ؟ " فأمره أن يحلق . قال : ونزلت هذه الآية : { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } .
وكذا رواه عفان ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، وهو جعفر بن إياس ، به . وعن شعبة ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، به . وعن شعبة ، عن داود ، عن الشعبي ، عن كعب بن عجرة ، نحوه .
ورواه الإمام مالك عن حميد بن قيس ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة فذكر نحوه .
وقال سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن أبان بن صالح ، عن الحسن البصري : أنه سمع كعب بن عجرة يقول : فذبحت شاة . رواه ابن مردويه . وروي أيضا من حديث عمر بن قيس ، سندل وهو ضعيف عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " النسك شاة ، والصيام ثلاثة أيام ، والطعام فرق بين ستة " .
وكذا روي عن علي ، ومحمد بن كعب ، وعكرمة وإبراهيم [ النخعي ] ومجاهد ، وعطاء ، والسدي ، والربيع بن أنس .
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا عبد الله بن وهب : أن مالك بن أنس حدثه عن عبد الكريم بن مالك الجزري ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة : أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فآذاه القمل في رأسه ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه ، وقال : " صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، مدين مدين لكل إنسان ، أو انسك شاة ، أي ذلك فعلت أجزأ عنك " .
وهكذا روى ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } قال : إذا كان " أو " فأيه أخذت أجزأ عنك .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، وطاوس ، والحسن ، وحميد الأعرج ، وإبراهيم النخعي ، والضحاك ، نحو ذلك .
قلت : وهو مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء أنه يخير في هذا المقام ، إن شاء صام ، وإن شاء تصدق بفرق ، وهو ثلاثة آصع ، لكل مسكين نصف صاع ، وهو مدان ، وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء ، أي ذلك فعل أجزأه . ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاء بالأسهل فالأسهل : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة بذلك ، أرشده إلى الأفضل ، فالأفضل فقال : انسك شاة ، أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام . فكل حسن في مقامه . ولله الحمد والمنة .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو بكر بن عياش قال : ذكر الأعمش قال : سأل إبراهيم سعيد بن جبير عن هذه الآية : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } فأجابه يقول : يحكم عليه طعام ، فإن كان عنده اشترى شاة ، وإن لم يكن قومت الشاة دراهم ، وجعل مكانها طعام فتصدق ، وإلا صام بكل نصف صاع يوما ، قال إبراهيم : كذلك سمعت علقمة يذكر . قال : لما قال لي سعيد بن جبير : من هذا ؟ ما أظرفه ! قال : قلت : هذا إبراهيم . فقال : ما أظرفه ! كان يجالسنا . قال : فذكرت ذلك لإبراهيم ، قال : فلما قلت : " يجالسنا " انتفض منها .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا ابن أبي عمران ، حدثنا عبيد الله بن معاذ ، عن أبيه ، عن أشعث ، عن الحسن في قوله : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } قال : إذا كان بالمحرم أذى من رأسه ، حلق وافتدى بأي هذه الثلاثة شاء ، والصيام عشرة أيام ، والصدقة على عشرة مساكين ، كل مسكين مكوكين : مكوكا من تمر ، ومكوكا من بر ، والنسك شاة .
وقال قتادة ، عن الحسن وعكرمة في قوله : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } قال : إطعام عشرة مساكين .
وهذان القولان من سعيد بن جبير ، وعلقمة ، والحسن ، وعكرمة قولان غريبان فيهما نظر ; لأنه قد ثبتت السنة في حديث كعب بن عجرة بصيام ثلاثة أيام ، [ لا عشرة و ] لا ستة ، أو إطعام ستة مساكين أو نسك شاة ، وأن ذلك على التخيير كما دل عليه سياق القرآن . وأما هذا الترتيب فإنما هو معروف في قتل الصيد ، كما هو نص القرآن . وعليه أجمع الفقهاء هناك ، بخلاف هذا ، والله أعلم .
وقال هشيم : أخبرنا ليث ، عن طاوس : أنه كان يقول : ما كان من دم أو طعام فبمكة ، وما كان من صيام فحيث شاء . وكذا قال عطاء ، ومجاهد ، والحسن .
وقال هشيم : أخبرنا حجاج وعبد الملك وغيرهما عن عطاء : أنه كان يقول : ما كان من دم فبمكة ، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء .
وقال هشيم : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن يعقوب بن خالد ، أخبرنا أبو أسماء مولى ابن جعفر ، قال : حج عثمان بن عفان ، ومعه علي والحسين بن علي ، فارتحل عثمان . قال أبو أسماء : وكنت مع ابن جعفر ، فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه ، قال : فقلت : أيها النؤوم . فاستيقظ ، فإذا الحسين بن علي . قال : فحمله ابن جعفر حتى أتينا به السقيا . قال : فأرسل إلى علي ومعه أسماء بنت عميس . قال : فمرضناه نحوا من عشرين ليلة . قال : قال علي للحسين : ما الذي تجد ؟ قال : فأومأ بيده إلى رأسه . قال : فأمر به علي فحلق رأسه ، ثم دعا ببدنة فنحرها . فإن كانت هذه الناقة عن الحلق ففيه أنه نحرها دون مكة . وإن كانت عن التحلل فواضح .
وقوله : { فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } أي: إذا تمكنتم من أداء المناسك ، فمن كان منكم متمتعا بالعمرة إلى الحج ، وهو يشمل من أحرم بهما ، أو أحرم بالعمرة أولا فلما فرغ منها أحرم بالحج وهذا هو التمتع الخاص ، وهو المعروف في كلام الفقهاء . والتمتع العام يشمل القسمين ، كما دلت عليه الأحاديث الصحاح ، فإن من الرواة من يقول : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وآخر يقول : قرن . ولا خلاف أنه ساق الهدي .
وقال تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } أي: فليذبح ما قدر عليه من الهدي ، وأقله شاة ، وله أن يذبح البقر ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه البقر . وقال الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح بقرة عن نسائه ، وكن متمتعات . رواه أبو بكر بن مردويه .
وفي هذا دليل على شرعية التمتع ، كما جاء في الصحيحين عن عمران بن حصين قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله ، وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم لم ينزل قرآن يحرمه ، ولم ينه عنها ، حتى مات . قال رجل برأيه ما شاء . قال البخاري : يقال : إنه عمر . وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحا به أن عمر ، رضي الله عنه ، كان ينهى الناس عن التمتع ، ويقول : إن نأخذ بكتاب الله فإن الله يأمر بالتمام . يعني قوله : { وأتموا الحج والعمرة لله } وفي نفس الأمر لم يكن عمر ، رضي الله عنه ، ينهى عنها محرما لها ، إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين ، كما قد صرح به ، رضي الله عنه .
وقوله : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } يقول تعالى : فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج ، أي: في أيام المناسك . قال العلماء : والأولى أن يصومها قبل يوم عرفة في العشر ، قاله عطاء . أو من حين يحرم ، قاله ابن عباس وغيره ، لقوله : { في الحج } ومنهم من يجوز صيامها من أول شوال ، قاله طاوس ومجاهد وغير واحد . وجوز الشعبي صيام يوم عرفة وقبله يومين ، وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والسدي ، وعطاء ، وطاوس ، والحكم ، والحسن ، وحماد ، وإبراهيم ، وأبو جعفر الباقر ، والربيع ، ومقاتل بن حيان . وقال العوفي ، عن ابن عباس : إذا لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة ، فإذا كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله . وكذا روى أبو إسحاق عن وبرة ، عن ابن عمر ، قال : يصوم يوما قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة . وكذا روي عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي أيضا .
فلو لم يصمها أو بعضها قبل [ يوم ] العيد فهل يجوز أن يصومها في أيام التشريق ؟ فيه قولان للعلماء ، وهما للإمام الشافعي أيضا ، القديم منهما أنه يجوز له صيامها لقول عائشة وابن عمر في صحيح البخاري : لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لا يجد الهدي . وكذا رواه مالك ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة . وعن سالم ، عن ابن عمر [ إنما قالوا ذلك لعموم قوله : { فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة } ] . وقد روي من غير وجه عنهما . ورواه سفيان ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي أنه كان يقول : من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق . وبهذا يقول عبيد بن عمير الليثي وعكرمة ، والحسن البصري ، وعروة بن الزبير ; وإنما قالوا ذلك لعموم قوله : { فصيام ثلاثة أيام في الحج } والجديد من القولين : أنه لا يجوز صيامها أيام التشريق ، لما رواه مسلم عن نبيشة الهذلي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله " .
وقوله : { وسبعة إذا رجعتم } فيه قولان :
أحدهما : إذا رجعتم في الطريق . ولهذا قال مجاهد : هي رخصة إذا شاء صامها في الطريق . وكذا قال عطاء بن أبي رباح .
والقول الثاني : إذا رجعتم إلى أوطانكم ; قال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن يحيى بن سعيد ، عن سالم ، سمعت ابن عمر قال : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } قال : إذا رجع إلى أهله ، وكذا روي عن سعيد بن جبير ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والزهري ، والربيع بن أنس . وحكى على ذلك أبو جعفر بن جرير الإجماع .
وقد قال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قال : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج ، فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج . فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ، ومنهم من لم يهد . فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس : " من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة ، وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج ، فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " . وذكر تمام الحديث .
قال الزهري : وأخبرني عروة ، عن عائشة بمثل ما أخبرني سالم عن أبيه والحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري ، به .
وقوله : { تلك عشرة كاملة } قيل : تأكيد ، كما تقول العرب : رأيت بعيني ، وسمعت بأذني وكتبت بيدي . وقال الله تعالى : { ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] وقال : { ولا تخطه بيمينك } [ العنكبوت : 48 ] ، وقال : { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة } [ الأعراف : 142 ] .
وقيل : معنى { كاملة } الأمر بإكمالها وإتمامها ، اختاره ابن جرير . وقيل : معنى { كاملة } أي: مجزئة عن الهدي . قال هشيم ، عن عباد بن راشد ، عن الحسن البصري ، في قوله : { تلك عشرة كاملة } قال : من الهدي .
وقوله : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } قال ابن جرير : اختلف أهل التأويل فيمن عني بقوله : { لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به ، وأنه لا متعة لهم ، فقال بعضهم : عني بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم .
حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان هو الثوري قال : قال ابن عباس ومجاهد : هم أهل الحرم . وكذا روى ابن المبارك ، عن الثوري ، وزاد : الجماعة عليه .
وقال قتادة : ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : يا أهل مكة ، لا متعة لكم ، أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم ، إنما يقطع أحدكم واديا أو قال : يجعل بينه وبين الحرم واديا ثم يهل بعمرة .
وقال عبد الرزاق : حدثنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : المتعة للناس لا لأهل مكة من لم يكن أهله من الحرم . وذلك قول الله عز وجل : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } قال : وبلغني عن ابن عباس مثل قول طاوس .
وقال آخرون : هم أهل الحرم ومن بينه وبين المواقيت ، كما قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن رجل ، عن عطاء ، قال : من كان أهله دون المواقيت ، فهو كأهل مكة ، لا يتمتع .
وقال عبد الله بن المبارك ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن مكحول ، في قوله : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } قال : من كان دون الميقات .
وقال ابن جريج عن عطاء : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } قال : عرفة ، ومر ، وعرنة ، وضجنان ، والرجيع .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، سمعت الزهري يقول : من كان أهله على يوم أو نحوه تمتع . وفي رواية عنه : اليوم واليومين . واختار ابن جرير في ذلك مذهب الشافعي أنهم أهل الحرم ، ومن كان منه على مسافة لا تقصر منها الصلاة ; لأن من كان كذلك يعد حاضرا لا مسافرا ، والله أعلم .
وقوله : { واتقوا الله } أي: فيما أمركم وما نهاكم { واعلموا أن الله شديد العقاب } أي: لمن خالف أمره ، وارتكب ما عنه زجره .

تفسير القرطبي : معنى الآية 196 من سورة البقرة


وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله فيها سبع مسائل :الأولى : اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة لله ، فقيل : أداؤهما والإتيان بهما ، كقوله : فأتمهن وقوله : ثم أتموا الصيام إلى الليل أي ائتوا بالصيام ، وهذا على مذهب من أوجب العمرة ، على ما يأتي ، ومن لم يوجبها قال : المراد تمامهما بعد الشروع فيهما ، فإن من أحرم بنسك وجب عليه المضي فيه ولا يفسخه ، قال معناه الشعبي وابن زيد ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص ، وفعله عمران بن حصين ، وقال سفيان الثوري : إتمامهما أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك ، ويقوي هذا قوله " لله " .
وقال عمر : إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما من غير تمتع وقران ، وقاله ابن حبيب ، وقال مقاتل : إتمامهما ألا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم ، وذلك أنهم كانوا يشركون في إحرامهم فيقولون : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، فقال : فأتموهما ولا تخلطوهما بشيء آخر .
قلت : أما ما روي عن علي وفعله عمران بن حصين في الإحرام قبل المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال به عبد الله بن مسعود وجماعة من السلف ، وثبت أن عمر أهل من إيلياء ، وكان الأسود وعلقمة وعبد الرحمن وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم ، ورخص فيه الشافعي ، وروى أبو داود والدارقطني عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحرم من بيت المقدس بحج أو عمرة كان من ذنوبه كيوم ولدته أمه في رواية غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وخرجه أبو داود وقال : " يرحم الله وكيعا أحرم من بيت المقدس ، يعني إلى مكة " ، ففي هذا إجازة الإحرام قبل الميقات ، وكره مالك رحمه الله أن يحرم أحد قبل الميقات ، ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب ، وأنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة ، وأنكر عثمان على ابن عمر إحرامه قبل الميقات ، وقال أحمد وإسحاق : وجه العمل المواقيت ، ومن الحجة لهذا القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت وعينها ، فصارت بيانا لمجمل الحج ، ولم يحرم صلى الله عليه وسلم من بيته لحجته ، بل أحرم من ميقاته الذي وقته لأمته ، وما فعله صلى الله عليه وسلم فهو الأفضل إن شاء الله ، وكذلك صنع جمهور الصحابة والتابعين بعدهم ، واحتج أهل المقالة الأولى بأن ذلك أفضل بقول عائشة : ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، وبحديث أم سلمة مع ما ذكر عن الصحابة في ذلك ، وقد شهدوا إحرام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته من ميقاته ، وعرفوا مغزاه ومراده ، وعلموا أن إحرامه من ميقاته كان تيسيرا على أمته .
الثانية : روى الأئمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن ولأهل اليمن يلملم هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة ، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ، حتى أهل مكة من مكة يهلون منها ، وأجمع أهل العلم على القول بظاهر هذا الحديث واستعماله ، لا يخالفون شيئا منه ، واختلفوا في ميقات أهل العراق وفيمن وقته ، فروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق العقيق .
قال الترمذي : هذا حديث حسن ، وروي أن عمر وقت لأهل العراق ذات عرق ، وفي كتاب أبي داود عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق ، وهذا هو الصحيح ومن روى أن عمر وقته لأن العراق في وقته وقد افتتحت ، فغفلة منه ، بل وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وقت لأهل الشام الجحفة ، والشام كلها يومئذ دار كفر كما كانت العراق وغيرها يومئذ من البلدان ، ولم تفتح العراق ولا الشام إلا على عهد عمر .
وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل السير .
قال أبو عمر : كل عراقي أو مشرقي أحرم من ذات عرق فقد أحرم عند الجميع من ميقاته والعقيق أحوط عندهم وأولى من ذات عرق ، وذات عرق ميقاتهم أيضا بإجماع .
الثالثة : أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنه محرم ، وإنما منع من ذلك من رأى الإحرام عند الميقات أفضل ، كراهية أن يضيق المرء على نفسه ما قد وسع الله عليه ، وأن يتعرض بما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه ، وكلهم ألزمه الإحرام إذا فعل ذلك ; لأنه زاد ولم ينقص .
الرابعة : في هذه الآية دليل على وجوب العمرة ; لأنه تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج .
قال الصبي بن معبد : أتيت عمر رضي الله عنه فقلت إني كنت نصرانيا فأسلمت ، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي ، وإني أهللت بهما جميعا ، فقال له عمر هديت لسنة نبيك قال ابن المنذر : ولم ينكر عليه قوله : " وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي " ، وبوجوبهما قال علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس ، وروى الدارقطني عن ابن جريج قال : أخبرني نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول : ليس من خلق الله أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع ذلك سبيلا ، فمن زاد بعدها شيئا فهو خير وتطوع .
قال : ولم أسمعه يقول في أهل مكة شيئا .
قال ابن جريج : وأخبرت عن عكرمة أن ابن عباس قال : العمرة واجبة كوجوب الحج من استطاع إليه سبيلا ، وممن ذهب إلى وجوبها من التابعين عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير وأبو بردة ومسروق وعبد الله بن شداد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن الجهم من المالكيين .
وقال الثوري : سمعنا أنها واجبة وسئل زيد بن ثابت عن العمرة قبل الحج ، فقال : صلاتان لا يضرك بأيهما بدأت ، ذكره الدارقطني ، وروي مرفوعا عن محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت وكان مالك يقول : العمرة سنة ولا نعلم أحدا أرخص في تركها ، وهو قول النخعي وأصحاب الرأي فيما حكى ابن المنذر وحكى بعض القزوينيين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه كان يوجبها كالحج ، وبأنها سنة ثابتة ، قال ابن مسعود وجابر بن عبد الله .
روى الدارقطني حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا حدثنا محمد بن العلاء أبو كريب حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن حجاج عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة والزكاة والحج : أواجب هو ؟ قال : نعم فسأله عن العمرة : أواجبة هي ؟ قال : لا وأن تعتمر خير لك .
رواه يحيى بن أيوب عن حجاج وابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر موقوفا من قول جابر فهذه حجة من لم يوجبها من السنة قالوا : وأما الآية فلا حجة فيها للوجوب ; لأن الله سبحانه إنما قرنها في وجوب الإتمام لا في الابتداء ، فإنه ابتدأ الصلاة والزكاة فقال وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وابتدأ بإيجاب الحج فقال : ولله على الناس حج البيت ولما ذكر العمرة أمر بإتمامها لا بابتدائها ، فلو حج عشر حجج ، أو اعتمر عشر عمر لزم الإتمام في جميعها ، فإنما جاءت الآية لإلزام الإتمام لا لإلزام الابتداء ، والله أعلم ، واحتج المخالف من جهة النظر على وجوبها بأن قال : عماد الحج الوقوف بعرفة ، وليس في العمرة وقوف ، فلو كانت كسنة الحج لوجب أن تساويه في أفعاله ، كما أن سنة الصلاة تساوي فريضتها في أفعالها .
الخامسة : قرأ الشعبي وأبو حيوة برفع التاء في " العمرة " وهي تدل على عدم الوجوب ، وقرأ الجماعة العمرة بنصب التاء ، وهي تدل على الوجوب ، وفي مصحف ابن مسعود " وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لله " وروي عنه " وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت " وفائدة التخصيص بذكر الله هنا أن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر والتناضل والتنافر وقضاء الحاجة وحضور الأسواق ، وكل ذلك ليس لله فيه طاعة ، ولا حظ بقصد ، ولا قربة بمعتقد ، فأمر الله سبحانه بالقصد إليه لأداء فرضه وقضاء حقه ، ثم سامح في التجارة ، على ما يأتي .
السادسة : لا خلاف بين العلماء فيمن شهد مناسك الحج وهو لا ينوي حجا ولا عمرة والقلم جار له وعليه أن شهودها بغير نية ولا قصد غير مغن عنه ، وأن النية تجب فرضا ، لقوله تعالى : وأتموا ومن تمام العبادة حضور النية ، وهي فرض كالإحرام عند الإحرام ، لقوله عليه السلام لما ركب راحلته : لبيك بحجة وعمرة معا على ما يأتي ، وذكر الربيع في كتاب البويطي عن الشافعي قال : ولو لبى رجل ولم ينو حجا ولا عمرة لم يكن حاجا ولا معتمرا ، ولو نوى ولم يلب حتى قضى المناسك كان حجه تاما ، واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات .
قال : ومن فعل مثل ما فعل علي حين أهل على إهلال النبي صلى الله عليه وسلم أجزته تلك النية ; لأنها وقعت على نية لغيره قد تقدمت ، بخلاف الصلاة .
السابعة : واختلف العلماء في المراهق والعبد يحرمان بالحج ثم يحتلم هذا ويعتق هذا قبل الوقوف بعرفة ، فقال مالك : لا سبيل لهما إلى رفض الإحرام ولا لأحد متمسكا بقوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله ومن رفض إحرامه فلا يتم حجه ولا عمرته ، وقال أبو حنيفة : جائز للصبي إذا بلغ قبل الوقوف بعرفة أن يجدد إحراما ، فإن تمادى على حجه ذلك لم يجزه من حجة الإسلام ، واحتج بأنه لما لم يكن الحج يجزي عنه ، ولم يكن الفرض لازما له حين أحرم بالحج ثم لزمه حين بلغ استحال أن يشغل عن فرض قد تعين عليه بنافلة ويعطل فرضه ، كمن دخل في نافلة وأقيمت عليه المكتوبة وخشي فوتها قطع النافلة ودخل في المكتوبة ، وقال الشافعي : إذا أحرم الصبي ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة فوقف بها محرما أجزأه من حجة الإسلام ، وكذلك العبد .
قال : ولو عتق بمزدلفة وبلغ الصبي بها فرجعا إلى عرفة بعد العتق والبلوغ فأدركا الوقوف بها قبل طلوع الفجر أجزت عنهما من حجة الإسلام ، ولم يكن عليهما دم ، ولو احتاطا فأهراقا دما كان أحب إلي ، وليس ذلك بالبين عندي ، واحتج في إسقاط تجديد الإحرام بحديث علي رضي الله عنه إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل من اليمن مهلا بالحج : بم أهللت قال قلت : لبيك اللهم بإهلال كإهلال نبيك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإني أهللت بالحج وسقت الهدي .
قال الشافعي : ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته ، ولا أمره بتجديد نية لإفراد أو تمتع أو قران ، وقال مالك في النصراني يسلم عشية عرفة فيحرم بالحج : أجزأه من حجة الإسلام ، وكذلك العبد يعتق ، والصبي يبلغ إذا لم يكونوا محرمين ولا دم على واحد منهم ، وإنما يلزم الدم من أراد الحج ولم يحرم من الميقات .
وقال أبو حنيفة : يلزم العبد الدم ، وهو كالحر عندهم في تجاوز الميقات ، بخلاف الصبي والنصراني فإنهما لا يلزمهما الإحرام لدخول مكة لسقوط الفرض عنهما ، فإذا أسلم الكافر وبلغ الصبي كان حكمهما حكم المكي ، ولا شيء عليهما في ترك الميقات .
قوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي فيها اثنتا عشرة مسألة :الأولى : قال ابن العربي : هذه آية مشكلة ، عضلة من العضل .
قلت : لا إشكال فيها ، ونحن نبينها غاية البيان فنقول : الإحصار هو المنع من الوجه الذي تقصده بالعوائق جملة " فجملة " أي بأي عذر كان ، كان حصر عدو أو جور سلطان أو مرض أو ما كان ، واختلف العلماء في تعيين المانع هنا على قولين : الأول : قال علقمة وعروة بن الزبير وغيرهما : هو المرض لا العدو .
وقيل : العدو خاصة ، قال ابن عباس وابن عمر وأنس والشافعي .
قال ابن العربي : وهو اختيار علمائنا ، ورأى أكثر أهل اللغة ومحصليها على أن " أحصر " عرض للمرض ، و " حصر " نزل به العدو .
قلت : ما حكاه ابن العربي من أنه اختيار علمائنا فلم يقل به إلا أشهب وحده ، وخالفه سائر أصحاب مالك في هذا وقالوا : الإحصار إنما هو المرض ، وأما العدو فإنما يقال فيه : حصر حصرا فهو محصور ، قاله الباجي في المنتقى .
وحكى أبو إسحاق الزجاج أنه كذلك عند جميع أهل اللغة ، على ما يأتي ، وقال أبو عبيدة والكسائي : " أحصر " بالمرض ، و " حصر " بالعدو ، وفي المجمل لابن فارس على العكس ، فحصر بالمرض ، وأحصر بالعدو ، وقالت طائفة : يقال أحصر فيهما جميعا من الرباعي ، حكاه أبو عمر .
قلت : وهو يشبه قول مالك حيث ترجم في موطئه " أحصر " فيهما ، فتأمله ، وقال الفراء : هما بمعنى واحد في المرض والعدو .
قال القشيري أبو نصر : وادعت الشافعية أن الإحصار يستعمل في العدو ، فأما المرض فيستعمل فيه الحصر ، والصحيح أنهما يستعملان فيهما .
قلت : ما ادعته الشافعية قد نص الخليل بن أحمد وغيره على خلافه .
قال الخليل : حصرت الرجل حصرا منعته وحبسته ، وأحصر الحاج عن بلوغ المناسك من مرض أو نحوه ، هكذا قال ، جعل الأول ثلاثيا من حصرت ، والثاني في المرض رباعيا ، وعلى هذا خرج قول ابن عباس : لا حصر إلا حصر العدو ، وقال ابن السكيت : أحصره المرض إذا منعه من السفر أو من حاجة يريدها ، وقد حصره العدو يحصرونه إذا ضيقوا عليه فأطافوا به ، وحاصروه محاصرة وحصارا .
قال الأخفش : حصرت الرجل فهو محصور ، أي حبسته .
قال : وأحصرني بولي ، وأحصرني مرضي ، أي جعلني أحصر نفسي .
قال أبو عمرو الشيباني : حصرني الشيء وأحصرني ، أي حبسني .
قلت : فالأكثر من أهل اللغة على أن " حصر " في العدو ، و " أحصر " في المرض ، وقد قيل ذلك في قول الله تعالى : للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله وقال ابن ميادة :وما هجر ليلى أن تكون تباعدت عليك ولا أن أحصرتك شغولوقال الزجاج : الإحصار عند جميع أهل اللغة إنما هو من المرض ، فأما من العدو فلا يقال فيه إلا حصر ، يقال : حصر حصرا ، وفي الأول أحصر إحصارا ، فدل على ما ذكرناه .
وأصل الكلمة من الحبس ، ومنه الحصير للذي يحبس نفسه عن البوح بسره ، والحصير : الملك لأنه كالمحبوس من وراء الحجاب .
والحصير الذي يجلس عليه لانضمام بعض طاقات البردي إلى بعض ، كحبس الشيء مع غيره .
الثانية : ولما كان أصل الحصر الحبس قالت الحنفية : المحصر من يصير ممنوعا من مكة بعد الإحرام بمرض أو عدو أو غير ذلك ، واحتجوا بمقتضى الإحصار مطلقا ، قالوا : وذكر الأمن في آخر الآية لا يدل على أنه لا يكون من المرض ، قال صلى الله عليه وسلم : الزكام أمان من الجذام وقال : من سبق العاطس بالحمد أمن من الشوص واللوص والعلوص .
الشوص : وجع السن ، واللوص : وجع الأذن .
والعلوص : وجع البطن .
أخرجه ابن ماجه في سننه .
قالوا : وإنما جعلنا حبس العدو حصارا قياسا على المرض إذا كان في حكمه ، لا بدلالة الظاهر ، وقال ابن عمر وابن الزبير وابن عباس والشافعي وأهل المدينة : المراد بالآية حصر العدو ; لأن الآية نزلت في سنة ست في عمرة الحديبية حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة .
قال ابن عمر : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش دون البيت فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه وحلق رأسه ، ودل على هذا قوله تعالى : فإذا أمنتم ، ولم يقل : برأتم ، والله أعلم .
الثالثة : جمهور الناس على أن المحصر بعدو يحل حيث أحصر وينحر هديه إن كان ثم هدي ويحلق رأسه ، وقال قتادة وإبراهيم : يبعث بهديه إن أمكنه ، فإذا بلغ محله صار حلالا ، وقال أبو حنيفة : دم الإحصار لا يتوقف على يوم النحر ، بل يجوز ذبحه قبل يوم النحر إذا بلغ محله ، وخالفه صاحباه فقالا : يتوقف على يوم النحر ، وإن نحر قبله لم يجزه ، وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان .
الرابعة : الأكثر من العلماء على أن من أحصر بعدو كافر أو مسلم أو سلطان حبسه في سجن أن عليه الهدي ، وهو قول الشافعي ، وبه قال أشهب ، وكان ابن القاسم يقول : ليس على من صد عن البيت في حج أو عمرة هدي إلا أن يكون ساقه معه ، وهو قول مالك ، ومن حجتهما أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نحر يوم الحديبية هديا قد كان أشعره وقلده حين أحرم بعمرة ، فلما لم يبلغ ذلك الهدي محله للصد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحر ; لأنه كان هديا وجب بالتقليد والإشعار ، وخرج لله فلم يجز الرجوع فيه ، ولم ينحره رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل الصد ، فلذلك لا يجب على من صد عن البيت هدي ، واحتج الجمهور بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل يوم الحديبية ولم يحلق رأسه حتى نحر الهدي ، فدل ذلك على أن من شرط إحلال المحصر ذبح هدي إن كان عنده ، وإن كان فقيرا فمتى وجده وقدر عليه لا يحل إلا به ، وهو مقتضى قوله : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي وقد قيل : يحل ويهدي إذا قدر عليه ، والقولان للشافعي ، وكذلك من لا يجد هديا يشتريه ، قولان .
الخامسة : قال عطاء وغيره : المحصر بمرض كالمحصر بعدو ، وقال مالك والشافعي وأصحابهما : من أحصره المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت وإن أقام سنين حتى يفيق ، وكذلك من أخطأ العدد أو خفي عليه الهلال .
قال مالك : وأهل مكة في ذلك كأهل الآفاق .
قال : وإن احتاج المريض إلى دواء تداوى به وافتدى وبقي على إحرامه لا يحل من شيء حتى يبرأ من مرضه ، فإذا برئ من مرضه مضى إلى البيت فطاف به سبعا ، وسعى بين الصفا والمروة ، وحل من حجته أو عمرته ، وهذا كله قول الشافعي ، وذهب في ذلك إلى ما روي عن عمر وابن عباس وعائشة وابن عمر وابن الزبير أنهم قالوا في المحصر بمرض أو خطأ العدد : إنه لا يحله إلا الطواف بالبيت .
وكذلك من أصابه كسر أو بطن منخرق ، وحكم من كانت هذه حاله عند مالك وأصحابه أن يكون بالخيار إذا خاف فوت الوقوف بعرفة لمرضه ، إن شاء مضى إذا أفاق إلى البيت فطاف وتحلل بعمرة ، وإن شاء أقام على إحرامه إلى قابل ، وإن أقام على إحرامه ولم يواقع شيئا مما نهي عنه الحاج فلا هدي عليه ، ومن حجته في ذلك الإجماع من الصحابة على أن من أخطأ العدد أن هذا حكمه ؛ لا يحله إلا الطواف بالبيت .
وقال في المكي إذا بقي محصورا حتى فرغ الناس من حجهم : فإنه يخرج إلى الحل فيلبي ويفعل ما يفعله المعتمر ويحل ، فإذا كان قابل حج وأهدى .
وقال ابن شهاب الزهري في إحصار من أحصر بمكة من أهلها : لا بد له من أن يقف بعرفة وإن نعش نعشا ، واختار هذا القول أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن بكير المالكي فقال : قول مالك في المحصر المكي أن عليه ما على الآفاق من إعادة الحج والهدي خلاف ظاهر الكتاب ، لقول الله عز وجل : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام .
قال : والقول عندي في هذا قول الزهري في أن الإباحة من الله عز وجل لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أن يقيم لبعد المسافة يتعالج وإن فاته الحج ، فأما من كان بينه وبين المسجد الحرام ما لا تقصر في مثله الصلاة فإنه يحضر المشاهد وإن نعش نعشا لقرب المسافة بالبيت ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : كل من منع من الوصول إلى البيت بعدو أو مرض أو ذهاب نفقة أو إضلال راحلة أو لدغ هامة فإنه يقف مكانه على إحرامه ويبعث بهديه أو بثمن هديه ، فإذا نحر فقد حل من إحرامه .
كذلك قال عروة وقتادة والحسن وعطاء والنخعي ومجاهد وأهل العراق ، لقوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي الآية .
السادسة : قال مالك وأصحابه : لا ينفع المحرم الاشتراط في الحج إذا خاف الحصر بمرض أو عدو ، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابهم ، والاشتراط أن يقول إذا أهل : لبيك اللهم لبيك ، ومحلي حيث حبستني من الأرض ، وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور : لا بأس أن يشترط وله شرطه ، وقاله غير واحد من الصحابة والتابعين ، وحجتهم حديث ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إني أردت الحج ، أأشترط ؟ قال : نعم .
قالت : فكيف أقول ؟ قال : قولي لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث حبستني .
أخرجه أبو داود والدارقطني وغيرهما .
قال الشافعي : لو ثبت حديث ضباعة لم أعده ، وكان محله حيث حبسه الله .
قلت : قد صححه غير واحد ، منهم أبو حاتم البستي وابن المنذر ، قال ابن المنذر : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لضباعة بنت الزبير : حجي واشترطي ، وبه قال الشافعي إذ هو بالعراق ، ثم وقف عنه بمصر .
قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول ، وذكره عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال : أخبرنا أبو الزبير أن طاوسا وعكرمة أخبراه عن ابن عباس قال : جاءت ضباعة بنت الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج ، فكيف تأمرني أن أهل ؟ قال : أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني .
قال : فأدركت ، وهذا إسناد صحيح .
السابعة : واختلفت العلماء أيضا في وجوب القضاء على من أحصر ، فقال مالك والشافعي : من أحصر بعدو فلا قضاء عليه بحجه ولا عمرته ، إلا أن يكون ضرورة لم يكن حج ، فيكون عليه الحج على حسب وجوبه عليه ، وكذلك العمرة عند من أوجبها فرضا .
وقال أبو حنيفة : المحصر بمرض أو عدو عليه حجة وعمرة ، وهو قول الطبري .
قال أصحاب الرأي : إن كان مهلا بحج قضى حجة وعمرة ; لأن إحرامه بالحج صار عمرة .
وإن كان قارنا قضى حجة وعمرتين ، وإن كان مهلا بعمرة قضى عمرة ، وسواء عندهم المحصر بمرض أو عدو ، على ما تقدم ، واحتجوا بحديث ميمون ابن مهران قال : خرجت معتمرا عام حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة وبعث معي رجال من قومي بهدي ، فلما انتهيت إلى أهل الشام منعوني أن أدخل الحرم ، فنحرت الهدي مكاني ثم حللت ثم رجعت ، فلما كان من العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي ، فأتيت ابن عباس فسألته ، فقال : أبدل الهدي ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء ، واستدلوا بقوله عليه السلام : من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى أو عمرة أخرى .
رواه عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من عرج أو كسر فقد حل وعليه حجة أخرى .
قالوا : فاعتمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العام المقبل من عام الحديبية إنما كان قضاء لتلك العمرة ، قالوا : ولذلك قيل لها عمرة القضاء .
واحتج مالك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء ، ولا حفظ ذلك عنه بوجه من الوجوه ، ولا قال في العام المقبل : إن عمرتي هذه قضاء عن العمرة التي حصرت فيها ، ولم ينقل ذلك عنه .
قالوا : وعمرة القضاء وعمرة القضية سواء ، وإنما قيل لها ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضى قريشا وصالحهم في ذلك العام على الرجوع عن البيت وقصده من قابل ، فسميت بذلك عمرة القضية .
الثامنة : لم يقل أحد من الفقهاء فيمن كسر أو عرج أنه يحل مكانه بنفس الكسر غير أبي ثور على ظاهر حديث الحجاج بن عمرو ، وتابعه على ذلك داود بن علي وأصحابه ، وأجمع العلماء على أنه يحل من كسر ، ولكن اختلفوا فيما به يحل ، فقال مالك وغيره : يحل بالطواف بالبيت لا يحله غيره ، ومن خالفه من الكوفيين يقول : يحل بالنية وفعل ما يتحلل به ، على ما تقدم من مذهبه .
التاسعة : لا خلاف بين علماء الأمصار أن الإحصار عام في الحج والعمرة ، وقال ابن سيرين : لا إحصار في العمرة ; لأنها غير مؤقتة ، وأجيب بأنها وإن كانت غير مؤقتة لكن في الصبر إلى زوال العذر ضرر ، وفي ذلك نزلت الآية ، وحكي عن ابن الزبير أن من أحصره العدو أو المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت ، وهذا أيضا مخالف لنص الخبر عام الحديبية .
العاشرة : الحاصر لا يخلو أن يكون كافرا أو مسلما ، فإن كان كافرا لم يجز قتاله ولو وثق بالظهور عليه ، ويتحلل بموضعه ، لقوله تعالى : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام كما تقدم ولو سأل الكافر جعلا لم يجز ; لأن ذلك وهن في الإسلام ، فإن كان مسلما لم يجز قتاله بحال ، ووجب التحلل ، فإن طلب شيئا ويتخلى عن الطريق جاز دفعه ، ولم يجز القتال لما فيه من إتلاف المهج ، وذلك لا يلزم في أداء العبادات ، فإن الدين أسمح .
وأما بذل الجعل فلما فيه من دفع أعظم الضررين بأهونهما ; ولأن الحج مما ينفق فيه المال ، فيعد هذا من النفقة .
الحادية عشرة : والعدو الحاصر لا يخلو أن يتيقن بقاؤه واستيطانه لقوته وكثرته أو لا ، فإن كان الأول حل المحصر مكانه من ساعته ، وإن كان الثاني وهو مما يرجى زواله فهذا لا يكون محصورا حتى يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنه إن زال العدو لا يدرك فيه الحج ، فيحل حينئذ عند ابن القاسم وابن الماجشون ، وقال أشهب : لا يحل من حصر عن الحج بعدو حتى يوم النحر ، ولا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة ، وجه قول ابن القاسم : أن هذا وقت يأس من إكمال حجه لعدو غالب ، فجاز له أن يحل فيه ، أصل ذلك يوم عرفة ، ووجه قول أشهب أن عليه أن يأتي من حكم الإحرام بما يمكنه والتزامه له إلى يوم النحر ، الوقت الذي يجوز للحاج التحلل بما يمكنه الإتيان به [ فكان ذلك عليه ] .
قوله تعالى : فما استيسر من الهدي " ما " في موضع رفع ، أي فالواجب أو فعليكم ما استيسر ، ويحتمل أن يكون في موضع نصب ، أي فانحروا أو فاهدوا .
وما استيسر عند جمهور أهل العلم شاة وقال ابن عمر وعائشة وابن الزبير : ما استيسر جمل دون جمل ، وبقرة دون بقرة لا يكون من غيرهما ، وقال الحسن : أعلى الهدي بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأخسه شاة ، وفي هذا دليل على ما ذهب إليه مالك من أن المحصر بعدو لا يجب عليه القضاء ، لقوله : فما استيسر من الهدي ولم يذكر قضاء ، والله أعلم .
الثانية عشرة : قوله تعالى : من الهدي الهدي والهدي لغتان .
وهو ما يهدى إلى بيت الله من بدنة أو غيرها ، والعرب تقول : كم هدي بني فلان ، أي كم إبلهم .
وقال أبو بكر : سميت هديا لأن منها ما يهدى إلى بيت الله ، فسميت بما يلحق بعضها ، كما قال تعالى : فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب .
أراد فإن زنى الإماء فعلى الأمة منهن إذا زنت نصف ما على الحرة البكر إذا زنت ، فذكر الله المحصنات وهو يريد الأبكار ; لأن الإحصان يكون في أكثرهن فسمين بأمر يوجد في بعضهن ، والمحصنة من الحرائر هي ذات الزوج ، يجب عليها الرجم إذا زنت ، والرجم لا يتبعض ، فيكون على الأمة نصفه ، فانكشف بهذا أن المحصنات يراد بهن الأبكار لا أولات الأزواج ، وقال الفراء : أهل الحجاز وبنو أسد يخففون الهدي ، قال : وتميم وسفلى قيس يثقلون فيقولون : هدي .
قال الشاعر :حلفت برب مكة والمصلى وأعناق الهدي مقلداتقال : وواحد الهدي هدية ، ويقال في جمع الهدي : أهداء .
قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فيه سبع مسائل :الأولى : قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله الخطاب لجميع الأمة محصر ومخلى ، ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة ، أي لا تتحللوا من الإحرام حتى ينحر الهدي .
والمحل : الموضع الذي يحل فيه ذبحه ، فالمحل في حصر العدو عند مالك والشافعي : موضع الحصر ، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية قال الله تعالى : والهدي معكوفا أن يبلغ محله قيل : محبوسا إذا كان محصرا ممنوعا من الوصول إلى البيت العتيق ، وعند أبي حنيفة محل الهدي في الإحصار : الحرم ، لقوله تعالى : ثم محلها إلى البيت العتيق ، وأجيب عن هذا بأن المخاطب به الآمن الذي يجد الوصول إلى البيت ، فأما المحصر فخارج من قول الله تعالى : ثم محلها إلى البيت العتيق بدليل نحر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هديهم بالحديبية وليست من الحرم ، واحتجوا من السنة بحديث ناجية بن جندب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ابعث معي الهدي فأنحره بالحرم .
قال : فكيف تصنع به قال : أخرجه في الأودية لا يقدرون عليه ، فأنطلق به حتى أنحره في الحرم ، وأجيب بأن هذا لا يصح ، وإنما ينحر حيث حل ، اقتداء بفعله عليه السلام بالحديبية ، وهو الصحيح الذي رواه الأئمة ; ولأن الهدي تابع للمهدي ، والمهدي حل بموضعه ، فالمهدى أيضا يحل معه .
الثانية : واختلف العلماء على ما قررناه في المحصر هل له أن يحلق أو يحل بشيء من الحل قبل أن ينحر ما استيسر من الهدي ، فقال مالك : السنة الثابتة التي لا اختلاف فيها عندنا أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ من شعره حتى ينحر هديه ، قال الله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا حل المحصر قبل أن ينحر هديه فعليه دم ، ويعود حرما كما كان حتى ينحر هديه ، وإن أصاب صيدا قبل أن ينحر الهدي فعليه الجزاء ، وسواء في ذلك الموسر والمعسر لا يحل أبدا حتى ينحر أو ينحر عنه .
قالوا : وأقل ما يهديه شاة ، لا عمياء ولا مقطوعة الأذنين ، وليس هذا عندهم موضع صيام .
قال أبو عمر : قول الكوفيين فيه ضعف وتناقض ; لأنهم لا يجيزون لمحصر بعدو ولا مرض أن يحل حتى ينحر هديه في الحرم .
وإذا أجازوا للمحصر بمرض أن يبعث بهدي ويواعد حامله يوما ينحره فيه فيحل ويحلق فقد أجازوا له أن يحل على غير يقين من نحر الهدي وبلوغه ، وحملوه على الإحلال بالظنون ، والعلماء متفقون على أنه لا يجوز لمن لزمه شيء من فرائضه أن يخرج منه بالظن ، والدليل على أن ذلك ظن قولهم : لو عطب ذلك الهدي أو ضل أو سرق فحل مرسله وأصاب النساء وصاد أنه يعود حراما وعليه جزاء ما صاد ، فأباحوا له فساد الحج وألزموه ما يلزم من لم يحل من إحرامه ، وهذا ما لا خفاء فيه من التناقض وضعف المذاهب ، وإنما بنوا مذهبهم هذا كله على قول ابن مسعود ولم ينظروا في خلاف غيره له ، وقال الشافعي في المحصر إذا أعسر بالهدي : فيه قولان : لا يحل أبدا إلا بهدي ، والقول الآخر : أنه مأمور أن يأتي بما قدر عليه ، فإن لم يقدر على شيء كان عليه أن يأتي به إذا قدر عليه .
قال الشافعي : ومن قال هذا قال : يحل مكانه ويذبح إذا قدر ، فإن قدر على أن يكون الذبح بمكة لم يجزه أن يذبح إلا بها ، وإن لم يقدر ذبح حيث قدر .
قال ويقال : لا يجزيه إلا هدي ، ويقال : إذا لم يجد هديا كان عليه الإطعام أو الصيام ، وإن لم يجد واحدا من الثلاثة أتى بواحد منها إذا قدر ، وقال في العبد : لا يجزيه إلا الصوم ، تقوم له الشاة دراهم ، ثم الدراهم طعاما ثم يصوم عن كل مد يوما .
الثالثة : واختلفوا إذا نحر المحصر هديه هل له أن يحلق أو لا فقالت طائفة : ليس عليه أن يحلق رأسه ; لأنه قد ذهب عنه النسك ، واحتجوا بأنه لما سقط عنه بالإحصار جميع المناسك كالطواف والسعي - وذلك مما يحل به المحرم من إحرامه - سقط عنه سائر ما يحل به المحرم من أجل أنه محصر ، وممن احتج بهذا وقال به أبو حنيفة ومحمد بن الحسن قالا : ليس على المحصر تقصير ولا حلاق .
وقال أبو يوسف : يحلق المقصر ، فإن لم يحلق فلا شيء عليه ، وقد حكى ابن أبي عمران عن ابن سماعة عن أبي يوسف في نوادره أن عليه الحلاق ، والتقصير لا بد له منه واختلف قول الشافعي في هذه المسألة على قولين : أحدهما أن الحلاق للمحصر من النسك ، وهو قول مالك ، والآخر ليس من النسك كما قال أبو حنيفة والحجة لمالك أن الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة قد منع من ذلك كله المحصر وقد صد عنه ، فسقط عنه ما قد حيل بينه وبينه ، وأما الحلاق فلم يحل بينه وبينه ، وهو قادر على أن يفعله ، وما كان قادرا على أن يفعله فهو غير ساقط عنه ومما يدل على أن الحلاق باق على المحصر كما هو باق على من قد وصل إلى البيت سواء قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله وما رواه الأئمة من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة ، وهو الحجة القاطعة والنظر الصحيح في هذه المسألة ، وإلى هذا ذهب مالك وأصحابه ، والحلاق عندهم نسك على الحاج الذي قد أتم حجه ، وعلى من فاته الحج ، والمحصر بعدو والمحصر بمرض .
الرابعة : روى الأئمة واللفظ لمالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : اللهم ارحم المحلقين قالوا : والمقصرين يا رسول الله ، قال : اللهم ارحم المحلقين قالوا : والمقصرين يا رسول الله ، قال : والمقصرين .
قال علماؤنا : ففي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة دليل على أن الحلق في الحج والعمرة أفضل من التقصير ، وهو مقتضى قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم الآية ، ولم يقل تقصروا ، وأجمع أهل العلم على أن التقصير يجزئ عن الرجال ، إلا شيء ذكر عن الحسن أنه كان يوجب الحلق في أول حجة يحجها الإنسان .
الخامسة : لم تدخل النساء في الحلق ، وأن سنتهن التقصير ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ليس على النساء حلق إنما عليهن التقصير .
خرجه أبو داود عن ابن عباس .
وأجمع أهل العلم على القول به .
ورأت جماعة أن حلقها رأسها من المثلة ، واختلفوا في قدر ما تقصر من رأسها ، فكان ابن عمر والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون : تقصر من كل قرن مثل الأنملة .
وقال عطاء : قدر ثلاث أصابع مقبوضة ، وقال قتادة : تقصر الثلث أو الربع ، وفرقت حفصة بنت سيرين بين المرأة التي قعدت فتأخذ الربع ، وفي الشابة أشارت بأنملتها تأخذ وتقلل ، وقال مالك : تأخذ من جميع قرون رأسها ، وما أخذت من ذلك فهو يكفيها ، ولا يجزي عنده أن تأخذ من بعض القرون وتبقي بعضا .
قال ابن المنذر : يجزي ما وقع عليه اسم تقصير ، وأحوط أن تأخذ من جميع القرون قدر أنملة .
السادسة : لا يجوز لأحد أن يحلق رأسه حتى ينحر هديه ، وذلك أن سنة الذبح قبل الحلاق ، والأصل في ذلك قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه سلم ، بدأ فنحر هديه ثم حلق بعد ذلك ، فمن خالف هذا فقدم الحلاق قبل النحر فلا يخلو أن يقدمه خطأ وجهلا أو عمدا وقصدا ، فإن كان الأول فلا شيء عليه ، رواه ابن حبيب عن ابن القاسم ، وهو المشهور من مذهب مالك ، وقال ابن الماجشون : عليه الهدي ، وبه قال أبو حنيفة .
وإن كان الثاني فقد روى القاضي أبو الحسن أنه يجوز تقديم الحلق على النحر ، وبه قال الشافعي .
والظاهر من المذهب المنع ، والصحيح الجواز ، لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال : لا حرج رواه مسلم ، وخرج ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن ذبح قبل أن يحلق ، أو حلق قبل أن يذبح فقال : لا حرج .
السابعة : لا خلاف أن حلق الرأس في الحج نسك مندوب إليه وفي غير الحج جائز ، خلافا لمن قال : إنه مثلة ، ولو كان مثلة ما جاز في الحج ولا غيره ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة ، وقد حلق رءوس بني جعفر بعد أن أتاه قتله بثلاثة أيام ، ولو لم يجز الحلق ما حلقهم ، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحلق رأسه .
قال ابن عبد البر : وقد أجمع العلماء على حبس الشعر وعلى إباحة الحلق .
وكفى بهذا حجة ، وبالله التوفيق .
قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فيها تسع مسائل :الأولى : قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا استدل بعض علماء الشافعية بهذه الآية على أن المحصر في أول الآية العدو لا المرض ، وهذا لا يلزم ، فإن معنى قوله : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فحلق ففدية أي فعليه فدية ، وإذا كان واردا في المرض بلا خلاف كان الظاهر أن أول الآية ورد فيمن ورد فيه وسطها وآخرها ، لاتساق الكلام بعضه على بعض ، وانتظام بعضه ببعض ، ورجوع الإضمار في آخر الآية إلى من خوطب في أولها ، فيجب حمل ذلك على ظاهره حتى يدل الدليل على العدول عنه ، ومما يدل على ما قلناه سبب نزول هذه الآية ، روى الأئمة واللفظ للدارقطني : ( عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يتساقط على وجهه فقال : أيؤذيك هوامك قال نعم .
فأمره أن يحلق وهو بالحديبية ، ولم يبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة ، فأنزل الله الفدية ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقا بين ستة مساكين ، أو يهدي شاة ، أو يصوم ثلاثة أيام ) .
خرجه البخاري بهذا اللفظ أيضا ، فقوله : ولم يبين لهم أنهم يحلون بها ، يدل على أنهم ما كانوا على يقين من حصر العدو لهم ، فإذا الموجب للفدية الحلق للأذى والمرض ، والله أعلم .
الثانية : قال الأوزاعي في المحرم يصيبه أذى في رأسه : إنه يجزيه أن يكفر بالفدية قبل الحلق .
قلت : فعلى هذا يكون المعنى فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك إن أراد أن يحلق ، ومن قدر فحلق ففدية ، فلا يفتدي حتى يحلق ، والله أعلم .
الثالثة : قال ابن عبد البر : كل من ذكر النسك في هذا الحديث مفسرا فإنما ذكره بشاة ، وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء ، وأما الصوم والإطعام فاختلفوا فيه ، فجمهور فقهاء المسلمين على أن الصوم ثلاثة أيام ، وهو محفوظ صحيح في حديث كعب بن عجرة .
وجاء عن الحسن وعكرمة ونافع قالوا : الصوم في فدية الأذى عشرة أيام ، والإطعام عشرة مساكين ، ولم يقل أحد بهذا من فقهاء الأمصار ولا أئمة الحديث ، وقد جاء من رواية أبي الزبير عن مجاهد عن عبد الرحمن عن كعب بن عجرة أنه حدثه أنه كان أهل في ذي القعدة ، وأنه قمل رأسه فأتى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوقد تحت قدر له ، فقال له : كأنك يؤذيك هوام رأسك ، فقال أجل .
قال : احلق واهد هديا ، فقال : ما أجد هديا .
قال : فأطعم ستة مساكين ، فقال : ما أجد .
قال : صم ثلاثة أيام .
قال أبو عمر : كان ظاهر هذا الحديث على الترتيب وليس كذلك ، ولو صح هذا كان معناه الاختيار أولا فأولا ، وعامة الآثار عن كعب بن عجرة وردت بلفظ التخيير ، وهو نص القرآن ، وعليه مضى عمل العلماء في كل الأمصار وفتواهم ، وبالله التوفيق .
الرابعة : اختلف العلماء في الإطعام في فدية الأذى ، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم : الإطعام في ذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قول أبي ثور وداود ، وروي عن الثوري أنه قال في الفدية : من البر نصف صاع ، ومن التمر والشعير والزبيب صاع .
وروي عن أبي حنيفة أيضا مثله ، جعل نصف صاع بر عدل صاع تمر .
قال ابن المنذر : وهذا غلط ; لأن في بعض أخبار كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : أن تصدق بثلاثة أصوع من تمر على ستة مساكين ، وقال أحمد بن حنبل مرة كما قال مالك والشافعي ، ومرة قال : إن أطعم برا فمد لكل مسكين ، وإن أطعم تمرا فنصف صاع .
الخامسة : ولا يجزي أن يغدي المساكين ويعشيهم في كفارة الأذى حتى يعطي كل مسكين مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وبذلك قال مالك والثوري والشافعي ومحمد بن الحسن ، وقال أبو يوسف : يجزيه أن يغديهم ويعشيهم .
السادسة : أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من حلق شعره وجزه وإتلافه بحلق أو نورة أو غير ذلك إلا في حالة العلة كما نص على ذلك القرآن ، وأجمعوا على وجوب الفدية على من حلق وهو محرم بغير علة ، واختلفوا فيما على من فعل ذلك ، أو لبس أو تطيب بغير عذر عامدا ، فقال مالك : بئس ما فعل ! وعليه الفدية ، وهو مخير فيها ، وسواء عنده العمد في ذلك والخطأ ، لضرورة وغير ضرورة ، وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما وأبو ثور : ليس بمخير إلا في الضرورة ; لأن الله تعالى قال : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فإذا حلق رأسه عامدا أو لبس عامدا لغير عذر فليس بمخير وعليه دم لا غير .
السابعة : واختلفوا فيمن فعل ذلك ناسيا ، فقال مالك رحمه الله : العامد والناسي في ذلك سواء في وجوب الفدية ، وهو قول أبي حنيفة والثوري والليث ، وللشافعي في هذه المسألة قولان : أحدهما : لا فدية عليه ، وهو قول داود وإسحاق ، والثاني : عليه الفدية ، وأكثر العلماء يوجبون الفدية على المحرم بلبس المخيط وتغطية الرأس أو بعضه ، ولبس الخفين وتقليم الأظافر ومس الطيب وإماطة الأذى ، وكذلك إذا حلق شعر جسده أو اطلى ، أو حلق مواضع المحاجم ، والمرأة كالرجل في ذلك ، وعليها الفدية في الكحل وإن لم يكن فيه طيب .
وللرجل أن يكتحل بما لا طيب فيه ، وعلى المرأة الفدية إذا غطت وجهها أو لبست القفازين ، والعمد والسهو والجهل في ذلك سواء ، وبعضهم يجعل عليهما دما في كل شيء من ذلك .
وقال داود : لا شيء عليهما في حلق شعر الجسد .
الثامنة : واختلف العلماء في مواضع الفدية المذكورة ، فقال عطاء : ما كان من دم فبمكة ، وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء ، وبنحو ذلك قال أصحاب الرأي ، وعن الحسن أن الدم بمكة ، وقال طاوس والشافعي : الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة ، والصوم حيث شاء ; لأن الصيام لا منفعة فيه لأهل الحرم ، وقد قال الله سبحانه هديا بالغ الكعبة رفقا لمساكين جيران بيته ، فالإطعام فيه منفعة بخلاف الصيام ، والله أعلم ، وقال مالك : يفعل ذلك أين شاء ، وهو الصحيح من القول ، وهو قول مجاهد ، والذبح هنا عند مالك نسك وليس بهدي لنص القرآن والسنة ، والنسك يكون حيث شاء ، والهدي لا يكون إلا بمكة ، ومن حجته أيضا ما رواه عن يحيى بن سعيد في موطئه ، وفيه : فأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه برأسه - يعني رأس حسين - فحلق ثم نسك عنه بالسقيا فنحر عنه بعيرا .
قال مالك قال يحيى بن سعيد : وكان حسين خرج مع عثمان في سفره ذلك إلى مكة ، ففي هذا أوضح دليل على أن فدية الأذى جائز أن تكون بغير مكة ، وجائز عند مالك في الهدي إذا نحر في الحرم أن يعطاه غير أهل الحرم ; لأن البغية فيه إطعام مساكين المسلمين .
قال مالك : ولما جاز الصوم أن يؤتى به بغير الحرم جاز إطعام غير أهل الحرم ، ثم إن قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا الآية ، أوضح الدلالة على ما قلناه ، فإنه تعالى لما قال : ففدية من صيام أو صدقة أو نسك لم يقل في موضع دون موضع ، فالظاهر أنه حيثما فعل أجزأه .
وقال : أو نسك فسمى ما يذبح نسكا ، وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك ولم يسمه هديا ، فلا يلزمنا أن نرده قياسا على الهدي ، ولا أن نعتبره بالهدي مع ما جاء في ذلك عن علي ، وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر كعبا بالفدية ما كان في الحرم ، فصح أن ذلك كله يكون خارج الحرم ، وقد روي عن الشافعي مثل هذا في وجه بعيد .
التاسعة : قوله تعالى : أو نسك النسك : جمع نسيكة ، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى ، ويجمع أيضا على نسائك ، والنسك : العبادة في الأصل ، ومنه قوله تعالى : وأرنا مناسكنا أي متعبداتنا ، وقيل : إن أصل النسك في اللغة الغسل ، ومنه نسك ثوبه إذا غسله ، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة .
وقيل : النسك سبائك الفضة ، كل سبيكة منها نسيكة ، فكأن العابد خلص نفسه من دنس الآثام وسبكها .
قوله تعالى : فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فيه ثلاث عشرة مسألة :الأولى : قوله تعالى : فإذا أمنتم قيل : معناه برأتم من المرض ، وقيل : من خوفكم من العدو المحصر ، قاله ابن عباس وقتادة ، وهو أشبه باللفظ إلا أن يتخيل الخوف من المرض فيكون الأمن منه ، كما تقدم ، والله أعلم .
الثانية : قوله تعالى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الآية .
اختلف العلماء من المخاطب بهذا ؟ فقال عبد الله بن الزبير وعلقمة وإبراهيم : الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم .
وصورة المتمتع عند ابن الزبير : أن يحصر الرجل حتى يفوته الحج ، ثم يصل إلى البيت فيحل بعمرة ، ثم يقضي الحج من قابل ، فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى حج القضاء ، وصورة المتمتع المحصر عند غيره : أن يحصر فيحل دون عمرة ويؤخرها حتى يأتي من قابل فيعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه ، وقال ابن عباس وجماعة : الآية في المحصرين وغيرهم ممن خلي سبيله .
الثالثة : لا خلاف بين العلماء في أن التمتع جائز على ما يأتي تفصيله ، وأن الإفراد جائز وأن القرآن جائز ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي كلا ولم ينكره في حجته على أحد من أصحابه ، بل أجازه لهم ورضيه منهم ، صلى الله عليه وسلم .
وإنما اختلف العلماء فيما كان به رسول الله صلى الله عليه وسلم محرما في حجته وفي الأفضل من ذلك ، لاختلاف الآثار الواردة في ذلك ، فقال قائلون منهم مالك : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مفردا ، والإفراد أفضل من القران .
قال : والقران أفضل من التمتع ، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل قالت عائشة : فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج ، وأهل به ناس معه ، وأهل ناس بالعمرة والحج ، وأهل ناس بعمرة ، وكنت فيمن أهل بالعمرة ، رواه جماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، وقال بعضهم فيه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأما أنا فأهل بالحج وهذا نص في موضع الخلاف ، وهو حجة من قال بالإفراد وفضله ، وحكى محمد بن الحسن عن مالك أنه قال : إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر كان في ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به ، واستحب أبو ثور الإفراد أيضا وفضله على التمتع والقران ، وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه .
واستحب آخرون التمتع بالعمرة إلى الحج ، قالوا : وذلك أفضل .
وهو مذهب عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وهو أحد قولي الشافعي .
قال الدارقطني قال الشافعي : اخترت الإفراد ، والتمتع حسن لا نكرهه .
احتج من فضل التمتع بما رواه مسلم عن عمران بن حصين قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله - يعني متعة الحج - وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم تنزل

﴿ وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب ﴾ [ البقرة: 196]

سورة : البقرة - الأية : ( 196 )  - الجزء : ( 2 )  -  الصفحة: ( 30 )

English Türkçe Indonesia
Русский Français فارسی
تفسير انجليزي اعراب

تفسير آيات من القرآن الكريم

  1. تفسير: ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا
  2. تفسير: إن الذين يكتمون ما أنـزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون
  3. تفسير: لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون
  4. تفسير: قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين
  5. تفسير: وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون
  6. تفسير: ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون
  7. تفسير: قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم
  8. تفسير: واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم
  9. تفسير: قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم
  10. تفسير: وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في

تحميل سورة البقرة mp3 :

سورة البقرة mp3 : قم باختيار القارئ للاستماع و تحميل سورة البقرة

سورة البقرة بصوت ماهر المعيقلي
ماهر المعيقلي
سورة البقرة بصوت سعد الغامدي
سعد الغامدي
سورة البقرة بصوت عبد  الباسط عبد الصمد
عبد الباسط
سورة البقرة بصوت أحمد العجمي
أحمد العجمي
سورة البقرة بصوت محمد صديق المنشاوي
المنشاوي
سورة البقرة بصوت محمود خليل الحصري
الحصري
سورة البقرة بصوت مشاري راشد العفاسي
مشاري العفاسي
سورة البقرة بصوت ناصر القطامي
ناصر القطامي
سورة البقرة بصوت فارس عباد
فارس عباد
سورة البقرة بصوت ياسر لدوسري
ياسر الدوسري

العمرة , أحصرتم , الهدي , تحلقوا , رءوسكم , مريض , أذى , فدية , صيام , صدقة , أمنتم , تمتع , بالعمرة , الحج , الهدي , ثلاثة , أيام , سبعة , عشرة , كاملة , حاضري , المسجد , الحرام , المسجد+الحرام , اتقوا , اعلموا , الله , شديد , العقاب , شديد+العقاب ,

لا تنسنا من دعوة صالحة بظهر الغيب