ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين
قوله تعالى : ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ) الآية . أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، حدثنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو عبد الله بن حامد الأصفهاني ، حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم السمرقندي ، حدثنا محمد بن نصر ، حدثني أبو الأزهر أحمد بن الأزهر ، حدثنا مروان بن محمد بن شعيب حدثنا معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة الباهلي قال : جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه " ، ثم أتاه بعد ذلك فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما لك في رسول الله أسوة حسنة؟ والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت " ثم أتاه بعد ذلك فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فوالذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم ارزق ثعلبة مالا " .قال : فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود ، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ، فنزل واديا من أوديتها وهي تنمو كالدود ، فكان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر ، ويصلي في غنمه سائر الصلوات ، ثم كثرت ونمت حتى تباعد بها عن المدينة ، فصار لا يشهد إلا الجمعة ، ثم كثرت فنمت فتباعد أيضا حتى كان لا يشهد جمعة ولا جماعة . فكان إذا كان يوم الجمعة خرج يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار ، فذكره صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : ما فعل ثعلبة؟ قالوا : يا رسول الله اتخذ ثعلبة غنما ما يسعها واد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة " . فأنزل الله آية الصدقات ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني سليم ورجلا من جهينة وكتب لهما أسنان الصدقة ، كيف يأخذان؟ وقال لهما : " مرا بثعلبة بن حاطب ، وبفلان ، رجل من بني سليم فخذا صدقاتهما ، فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية ، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي ، فانطلقا وسمع بهما السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها فلما رأوها قالوا : ما هذه عليك . قال : خذاه فإن نفسي بذلك طيبة ، فمرا على الناس فأخذا الصدقات ، ثم رجعا إلى ثعلبة ، فقال : أروني كتابكما فقرأه ، ثم قال : ما هذه إلا أخت الجزية ، اذهبا حتى أرى رأيي .قال فأقبلا فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه قال : يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة ، ثم دعا للسلمي بخير ، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة ، فأنزل الله تعالى فيه : ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ) الآية ، إلى قوله : ( وبما كانوا يكذبون ) وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال : ويحك يا ثعلبة لقد أنزل الله فيك كذا وكذا ، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه الصدقة ، فقال : إن الله عز وجل منعني أن أقبل منك صدقتك ، فجعل يحثو التراب على رأسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا عملك وقد أمرتك فلم تطعني ، فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبض صدقته ، رجع إلى منزله . وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم أتى أبا بكر فقال : اقبل صدقتي ، فقال أبو بكر : لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنا أقبلها؟ فقبض أبو بكر ولم يقبلها . فلما ولي عمر أتاه فقال : اقبل صدقتي ، فقال : لم يقبلها منك رسول الله ولا أبو بكر ، أنا أقبلها منك؟ فلم يقبلها فلما ولي عثمان أتاه فلم يقبلها منه ، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان .قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة : أتى ثعلبة مجلسا من الأنصار فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله آتيت منه كل ذي حق حقه ، وتصدقت منه ، ووصلت الرحم ، وأحسنت إلى القرابة ، فمات ابن عم له فورثه مالا فلم يف بما قال ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .وقال الحسن ومجاهد : نزلت في ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير ، وهما من بني عمرو بن عوف ، خرجا على ملأ قعود وقالا والله لئن رزقنا الله مالا لنصدقن ، فلما رزقهما الله عز وجل بخلا به فقوله عز وجل ( ومنهم ) يعني : المنافقين ( من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ) ولنؤدين حق الله منه . ( ولنكونن من الصالحين ) نعمل بعمل أهل الصلاح فيه ؛ من صلة الرحم والنفقة في الخير .
إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون
( إن الذين لا يرجون لقاءنا ) أي : لا يخافون عقابنا ولا يرجون ثوابنا . والرجاء يكون بمعنى الخوف والطمع ، ( ورضوا بالحياة الدنيا ) فاختاروها وعملوا لها ، ( واطمأنوا بها ) سكنوا إليها . ( والذين هم عن آياتنا غافلون ) أي : عن أدلتنا غافلون لا يعتبرون . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : عن آياتنا عن محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن غافلون معرضون .
فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون
( فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض ) يظلمون ويتجاوزون إلى غير أمر الله عز وجل في الأرض ، ( بغير الحق ) أي : بالفساد . ( يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ) لأن وباله راجع عليها ، ثم ابتدأ فقال : ( متاع الحياة الدنيا ) أي : هذا متاع الحياة الدنيا ، خبر ابتداء مضمر ، كقوله : " لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ " ( الأحقاف - 35 ) ، أي : هذا بلاغ . وقيل: هو كلام متصل ، والبغي : ابتداء ، ومتاع : خبره .ومعناه : إنما بغيكم متاع الحياة الدنيا ، لا يصلح زادا لمعاد لأنكم تستوجبون به غضب الله .وقرأ حفص : " متاع " بالنصب ، أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا ، ( ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ) .
إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون
قوله عز وجل : ( إنما مثل الحياة الدنيا ) في فنائها وزوالها ، ( كماء أنزلناه من السماء فاختلط به ) أي : بالمطر ، ( نبات الأرض ) قال ابن عباس : نبت بالماء من كل لون ، ( مما يأكل الناس ) من الحبوب والثمار ، ( والأنعام ) من الحشيش ، ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ) حسنها وبهجتها ، وظهر الزهر أخضر وأحمر وأصفر وأبيض ( وازينت ) أي : تزينت ، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود : " تزينت " . ( وظن أهلها أنهم قادرون عليها ) على جذاذها وقطافها وحصادها ، رد الكناية إلى الأرض . والمراد : النبات إذ كان مفهوما ، وقيل: ردها إلى الغلة . وقيل: إلى الزينة . ( أتاها أمرنا ) قضاؤنا ، بإهلاكها ، ( ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا ) أي : محصودة مقطوعة ، ( كأن لم تغن بالأمس ) كأن لم تكن بالأمس ، وأصله من غني بالمكان إذا أقام به . وقال قتادة : معناه أن المتشبث بالدنيا يأتيه أمر الله وعذابه أغفل ما يكون . ( كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) .
قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون
قوله تعالى : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض ) أي : من السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات ، ( أمن يملك السمع والأبصار ) أي : من إعطائكم السمع والأبصار ، ( ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ) يخرج الحي من النطفة والنطفة من الحي ، ( ومن يدبر الأمر ) أي : يقضي الأمر ، ( فسيقولون الله ) هو الذي يفعل هذه الأشياء ، ( فقل أفلا تتقون ) أفلا تخافون عقابه في شرككم؟ وقيل: أفلا تتقون الشرك مع هذا الإقرار؟
لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم
( لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) اختلفوا في هذه البشرى : روي عن عبادة بن الصامت قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : " لهم البشرى في الحياة الدنيا " ، قال : " هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له " . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري ، حدثني سعيد بن المسيب ، أن أبا هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لم يبق من النبوة إلا المبشرات " ، قالوا : وما المبشرات؟ قال : " الرؤيا الصالحة " .وقيل: البشرى في الدنيا هي : الثناء الحسن ، وفي الآخرة : الجنة .أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا عبد الرزاق بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا شعبة عن أبي عمران الجوني قال : سمعت عبد الله بن الصامت قال : قال أبو ذر : يا رسول الله الرجل يعمل لنفسه ويحبه الناس؟ قال : " تلك عاجل بشرى المؤمن " . وأخرج مسلم بن الحجاج هذا الحديث عن يحيى بن يحيى عن حماد بن زيد عن أبي عمران ، وقال : " ويحمده الناس عليه " . .وقال الزهري وقتادة : هي نزول الملائكة بالبشارة من الله تعالى عند الموت ، قال الله تعالى : " تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون " ( فصلت - 30 )وقال عطاء عن ابن عباس : البشرى في الدنيا ، يريد : عند الموت تأتيهم الملائكة بالبشارة ، وفي الآخرة عند خروج نفس المؤمن ، يعرج بها إلى الله ، ويبشر برضوان الله .وقال الحسن : هي ما بشر الله المؤمنين في كتابه من جنته وكريم ثوابه ، كقوله : " وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات " ( البقرة - 25 ) ، " وبشر المؤمنين " ( الأحزاب - 47 ) " وأبشروا بالجنة " ( فصلت - 30 ) .وقيل: بشرهم في الدنيا بالكتاب والرسول أنهم أولياء الله ، ويبشرهم في القبور وفي كتب أعمالهم بالجنة .( لا تبديل لكلمات الله ) لا تغيير لقوله ، ولا خلف لوعده . ( ذلك هو الفوز العظيم )
وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم
قوله تعالى : ( وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة ) من متاع الدنيا ، ( وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ) اختلفوا في هذه اللام ، قيل: هي لام كي ، معناه : آتيتهم كي تفتنهم فيضلوا ويضلوا ، كقوله : " لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه " ( الجن - 16 ) .وقيل: هي لام العاقبة يعني : فيضلوا وتكون عاقبة أمرهم الضلال ، كقوله : " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا " ( القصص - 8 ) .قوله : ( ربنا اطمس على أموالهم ) قال مجاهد : أهلكها ، والطمس : المحق . وقال أكثر أهل التفسير : امسخها وغيرها عن هيئتها .وقال قتادة : صارت أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم حجارة .وقال محمد بن كعب : جعل سكرهم حجارة ، وكان الرجل مع أهله في فراشه فصارا حجرين ، والمرأة قائمة تخبز فصارت حجرا .قال ابن عباس رضي الله عنه : بلغنا أن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا .ودعا عمر بن عبد العزيز بخريطة فيها أشياء من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة مشقوقة والجوزة مشقوقة وإنها لحجر .قال السدي : مسخ الله أموالهم حجارة ، والنخيل والثمار والدقيق والأطعمة ، فكانت إحدى الآيات التسع .( واشدد على قلوبهم ) أي : أقسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان ، ( فلا يؤمنوا ) قيل: هو نصب بجواب الدعاء بالفاء . وقيل: هو عطف على قوله " ليضلوا " أي : ليضلوا فلا يؤمنوا . وقال الفراء : هو دعاء محله جزم ، فكأنه قال : اللهم فلا يؤمنوا ، ( حتى يروا العذاب الأليم ) وهو الغرق . قال السدي : معناه أمتهم على الكفر .
فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين
قوله تعالى : ( فلولا كانت ) أي : فهلا كانت ، ( قرية ) ومعناه : فلم تكن قرية لأن في الاستفهام ضربا من الجحد ، أي : أهل قرية ، ( آمنت ) عند معاينة العذاب ، ( فنفعها إيمانها ) في حالة البأس ( إلا قوم يونس ) فإنه نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت . و " قوم " نصب على الاستثناء المنقطع ، تقديره : ولكن قوم يونس ، ( لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ) وهو وقت انقضاء آجالهم .واختلفوا في أنهم هل رأوا العذاب عيانا أم لا؟ فقال بعضهم : رأوا دليل العذاب؟ والأكثرون على أنهم رأوا العذاب عيانا بدليل قوله : " كشفنا عنهم عذاب الخزي " والكشف يكون بعد الوقوع أو إذا قرب .وقصة الآية - على ما ذكره عبد الله بن مسعود ، وسعيد بن جبير ، ووهب وغيرهم - أن قوم يونس كانوا بنينوى ، من أرض الموصل ، فأرسل الله إليهم يونس يدعوهم إلى الإيمان فدعاهم فأبوا ، فقيل له : أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث ، فأخبرهم بذلك ، فقالوا : إنا لم نجرب عليه كذبا فانظروا فإن بات فيكم تلك الليلة فليس بشيء ، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم ، فلما كان في جوف تلك الليلة خرج يونس من بين أظهرهم ، فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رءوسهم قدر ميل .وقال وهب : غامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا ، فهبط حتى تغشاهم في مدينتهم واسودت سطوحهم ، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك ، فطلبوا يونس نبيهم فلم يجدوه ، وقذف الله في قلوبهم التوبة ، فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ، ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة ، وأخلصوا النية وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام فحن بعضها إلى بعض ، وعلت أصواتها ، واختلطت أصواتها بأصواتهم ، وعجوا وتضرعوا إلى الله عز وجل ، وقالوا آمنا بما جاء به يونس ، فرحمهم ربهم فاستجاب دعاءهم وكشف عنهم العذاب بعد ما أضلهم ، وذلك يوم عاشوراء ، وكان يونس قد خرج فأقام ينتظر العذاب وهلاك قومه فلم ير شيئا ، وكان من كذب ولم تكن له بينة قتل ، فقال يونس : كيف أرجع إلى قومي وقد كذبتهم؟ فانطلق عاتبا على ربه مغاضبا لقومه ، فأتى البحر فإذا قوم يركبون سفينة ، فعرفوه فحملوه بغير أجر ، فلما دخلها وتوسطت بهم ولججت ، ووقفت السفينة لا ترجع ولا تتقدم ، قال أهل السفينة : إن لسفينتنا لشأنا ، قال يونس : قد عرفت شأنها ركبها رجل ذو خطيئة عظيمة ، قالوا : ومن هو؟ قال : أنا ، اقذفوني في البحر ، قالوا : ما كنا لنطرحك من بيننا حتى نعذر في شأنك ، واستهموا فاقترعوا ثلاث مرات فأدحض سهمه ، والحوت عند رجل السفينة فاغرا فاه ينتظر أمر ربه فيه ، فقال يونس : إنكم والله لتهلكن جميعا أو لتطرحنني فيها ، فقذفوه فيه وانطلقوا وأخذه الحوت .وروي : أن الله تعالى أوحى إلى حوت عظيم حتى قصد السفينة ، فلما رآه أهل السفينة مثل الجبل العظيم وقد فغر فاه ينظر إلى من في السفينة كأنه يطلب شيئا خافوا منه ، ولما رآه يونس زج نفسه في الماء .وعن ابن عباس : أنه خرج مغاضبا لقومه فأتى بحر الروم فإذا سفينة مشحونة ، فركبها فلما لججت السفينة ، تكفأت حتى كادوا أن يغرقوا ، فقال الملاحون : هاهنا رجل عاص أو عبد آبق ، وهذا رسم السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري ، ومن رسمنا أن نقترع في مثل هذا فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر ، ولأن يغرق واحد خير من أن تغرق السفينة بما فيها ، فاقترعوا ثلاث مرات ، فوقعت القرعة في كلها على يونس ، فقال يونس : أنا الرجل العاصي والعبد الآبق ، فألقى نفسه في الماء فابتلعه حوت ، ثم جاء حوت آخر أكبر منه وابتلع هذا الحوت ، وأوحى الله إلى الحوت لا تؤذي منه شعرة ، فإني جعلت بطنك سجنه ولم أجعله طعاما لك .وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نودي الحوت : إنا لم نجعل يونس لك قوتا ، إنما جعلنا بطنك له حرزا ومسجدا .وروي : أنه قام قبل القرعة فقال : أنا العبد العاصي والآبق ، قالوا : من أنت؟ قال : أنا يونس بن متى ، فعرفوه فقالوا : لا نلقيك يا رسول الله ، ولكن نساهم فخرجت القرعة عليه ، فألقى نفسه في الماء . قال ابن مسعود رضي الله عنه : ابتلعه الحوت فأهوى به إلى قرار الأرض السابعة ، وكان في بطنه أربعين ليلة فسمع تسبيح الحصى ، فنادى في الظلمات : أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فأجاب الله له فأمر الحوت ، فنبذه على ساحل البحر ، وهو كالفرخ الممعط ، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين ، وهو الدباء ، فجعل يستظل تحتها ووكل به وعلة يشرب من لبنها ، فيبست الشجرة ، فبكى عليها فأوحى الله إليه : تبكي على شجرة يبست ، ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون وأردت أن أهلكهم ، فخرج يونس فإذا هو بغلام يرعى ، فقال : من أنت يا غلام؟ قال : من قوم يونس ، قال : إذا رجعت إليهم فأخبرهم أني لقيت يونس ، فقال الغلام : قد تعلم أنه إن لم تكن لي بينة قتلت ، قال يونس عليه السلام : تشهد لك هذه البقعة وهذه الشجرة ، فقال له الغلام : فمرها ، فقال يونس : إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له ، قالتا : نعم ، فرجع الغلام ، فقال للملك : إني لقيت يونس فأمر الملك بقتله ، فقال : إن لي بينة ، فأرسلوا معي ، فأتى البقعة والشجرة ، فقال : أنشدكما بالله هل أشهدكما يونس؟ قالتا : نعم ، فرجع القوم مذعورين ، وقالوا للملك : شهد له الشجرة والأرض ، فأخذ الملك بيد الغلام وأجلسه في مجلسه ، وقال : أنت أحق بهذا المكان مني ، فأقام لهم أمرهم ذلك الغلام أربعين سنة .
من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون
قوله تعالى : ( من كان يريد الحياة الدنيا ) أي : من كان يريد بعمله الحياة الدنيا ، ( وزينتها ) نزلت في كل من عمل عملا يريد به غير الله عز وجل ( نوف إليهم أعمالهم فيها ) أي : نوف لهم أجور أعمالهم في الدنيا بسعة الرزق ودفع المكاره وما أشبهها . ( وهم فيها لا يبخسون ) أي : في الدنيا لا ينقص حظهم .
اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين
( اقتلوا يوسف ) اختلفوا في قائل هذا القول; فقال وهب : قاله شمعون . وقال كعب : قاله دان .( أو اطرحوه أرضا ) أي : إلى أرض يبعد عن أبيه . وقيل: في أرض تأكله السباع .( يخل لكم ) يخلص لكم ويصف لكم . ( وجه أبيكم ) عن شغله بيوسف ( وتكونوا من بعده ) من بعد قتل يوسف ( قوما صالحين ) تائبين ، أي : توبوا بعدما فعلتم هذا يعف الله عنكم . وقال مقاتل : يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم .