يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم
قوله - عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء ) أي : بالقبائح من الأفعال ، ( والمنكر ) ما يكرهه الله - عز وجل - ، ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا ) قال مقاتل : ما صلح . وقال ابن قتيبة : ما طهر ، ( منكم من أحد ) والآية على العموم عند بعض المفسرين ، قالوا : أخبر الله أنه لولا فضله ورحمته بالعصمة ما صلح منكم أحد . وقال قوم : هذا الخطاب للذين خاضوا في الإفك ، ومعناه : ما طهر من هذا الذنب ولا صلح أمره بعد الذي فعل ، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء ، قال : ما قبل توبة أحد منكم ، ( أبدا ولكن الله يزكي ) يطهر ، ( من يشاء ) من الذنب بالرحمة والمغفرة ، ( والله سميع عليم )
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم
قوله - عز وجل - ( ولا يأتل ) أي : ولا يحلف ، وهو يفتعل من الألية وهي القسم ، وقرأ أبو جعفر : " يتأل " بتقديم التاء وتأخير الهمزة ، وهو يتفعل من الألية . ( أولو الفضل منكم والسعة ) يعني أبا بكر الصديق ( أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ) يعني مسطحا ، وكان مسكينا مهاجرا بدريا ابن خالة أبي بكر ، حلف أبو بكر أن لا ينفق عليه ، ( وليعفوا وليصفحوا ) عنهم خوضهم في أمر عائشة ، ( ألا تحبون ) يخاطب أبا بكر ، ( أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ) فلما قرأها النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبي بكر قال : بلى أنا أحب أن يغفر الله لي ، ورجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا .وقال ابن عباس والضحاك : أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الإفك ولا ينفعوهم ، فأنزل الله هذه الآية .
وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم
قوله - عز وجل - : ( وأنكحوا الأيامى منكم ) " الأيامى " : جمع أيم ، وهو من لا زوج له من رجل أو امرأة ، يقال : رجل أيم وامرأة أيمة ، وأيم ، ومعنى الآية : زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم ، ( والصالحين من عبادكم وإمائكم ) وهذا الأمر أمر ندب واستحباب .يستحب لمن تاقت نفسه إلى النكاح ووجد أهبة النكاح أن يتزوج ، وإن لم يجد أهبة النكاح يكسر شهوته بالصوم ، لما أخبرنا أبو بكر محمد بن علي بن الحسين الطوسي ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الإسفراييني ، أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن مسعود ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أيوب البجلي ، أخبرنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان عن الأعمش عن عمارة بن عمير ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " .وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " تناكحوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم حتى بالسقط "وقال - صلى الله عليه وسلم - : " من أحب فطرتي فليستن بسنتي ، ومن سنتي النكاح " . أما من لا تتوق نفسه إلى النكاح وهو قادر عليه فالتخلي للعبادة له أفضل من النكاح عند الشافعي رحمه الله ، وعند أصحاب الرأي النكاح أفضل .قال الشافعي : وقد ذكر الله تعالى عبدا كرمه فقال : " وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين " ( آل عمران - 39 ) ، والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليه ، وذكر القواعد من النساء ولم يندبهن إلى النكاح . وفي الآية دليل على أن تزويج النساء الأيامى إلى الأولياء ; لأن الله تعالى خاطبهم به ، كما أن تزويج العبيد والإماء إلى السادات ، لقوله - عز وجل - : ( والصالحين من عبادكم وإمائكم ) وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم ، روي ذلك عن عمر ، وعلي ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وأبي هريرة ، وعائشة ، وبه قال سعيد بن المسيب ، والحسن ، وشريح ، وإبراهيم النخعي ، وعمر بن عبد العزيز ، وإليه ذهب الثوري ، والأوزاعي ، وعبد الله بن المبارك ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق . وجوز أصحاب الرأي للمرأة الحرة تزويج نفسها .وقال مالك : إن كانت المرأة دنيئة يجوز لها تزويج نفسها ، وإن كانت شريفة فلا . والدليل على أن الولي شرط من جهة الأخبار : ما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا محمد بن الحسن بن أحمد المخلدي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، أخبرنا قتيبة بن سعيد ، أخبرنا أبو عوانة عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا نكاح إلا بولي "أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج ، عن سليمان بن موسى ، عن ابن شهاب ، عن عروة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل ، ثلاثا ، فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها ، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له "قوله - عز وجل - : ( إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم ) قيل: الغنى هاهنا : القناعة . وقيل: اجتماع الرزقين ، رزق الزوج ورزق الزوجة . وقال عمر : عجبت لمن ابتغى الغنى بغير النكاح ، والله - عز وجل - يقول : ( إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ) وروي عن بعضهم : أن الله تعالى وعد الغني بالنكاح وبالتفرق فقال تعالى : ( إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ) ، وقال تعالى : " وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " ( النساء - 130 ) .
وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم
( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا ) أي : ليطلب العفة عن الحرام والزنا الذين لا يجدون ما لا ينكحون به للصداق والنفقة ، ( حتى يغنيهم الله من فضله ) أي : يوسع عليهم من رزقه .قوله تعالى : ( والذين يبتغون الكتاب ) أي : يطلبون المكاتبة ، ( مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم ) سبب نزول هذه الآية ما روي أن غلاما لحويطب بن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه ، فأنزل الله هذه الآية فكاتبه حويطب على مائة دينار ، ووهب له منها عشرين دينارا فأداها ، وقتل يوم حنين في الحربوالكتابة أن يقول الرجل لمملوكه : كاتبتك على كذا من المال ، ويسمي مالا معلوما ، يؤدى ذلك في نجمين أو نجوم معلومة في كل نجم كذا ، فإذا أديت فأنت حر ، والعبد يقبل ذلك ، فإذا أدى المال عتق ، ويصير العبد أحق بمكاسبه بعد الكتابة ، وإذا أعتق بعد أداء المال فما فضل في يده من المال ، يكون له ، ويتبعه أولاده الذين حصلوا في حال الكتابة في العتق ، وإذا عجز عن أداء المال كان لمولاه أن يفسخ كتابته ويرده إلى الرق ، وما في يده من المال يكون لمولاه ، لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك عن نافع ، أخبرنا عبد الله بن عمر كان يقول : " المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء " . ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا : " المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم " .وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى : ( فكاتبوهم ) أمر إيجاب ، يجب على المولى أن يكاتب عبده الذي علم فيه خيرا إذا سأل العبد ذلك ، على قيمته أو أكثر ، وإن سأل على أقل من قيمته فلا يجب ، وهو قول عطاء وعمرو بن دينار ، ولما روي أن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه فتلكأ عنه فشكا إلى عمر ، فعلاه بالدرة وأمره بالكتابة فكاتبه . وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه أمر ندب واستحباب . ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين عند الشافعي; لأنه عقد جوز إرفاقا بالعبد ، ومن تتمة الإرفاق أن يكون ذلك المال عليه إلى أجل حتى يؤديه على مهل ، فيحصل المقصود ، كالدية في قتل الخطأ ، وجبت على العاقلة على سبيل المواساة فكانت عليهم مؤجلة منجمة ، وجوز أبو حنيفة الكتابة على نجم واحد وحالة .قوله تعالى : ( إن علمتم فيهم خيرا ) اختلفوا في معنى الخير ، فقال ابن عمر : قوة على الكسب . وهو قول مالك والثوري ، وقال الحسن ومجاهد والضحاك : مالا كقوله تعالى : " إن ترك خيرا " ( البقرة - 180 ) أي : مالا وروي أن عبدا لسلمان الفارسي قال له : كاتبني ، قال : ألك مال ؟ قال : لا . قال : تريد أن تطعمني من أوساخ الناس ، ولم يكاتبه . قال الزجاج : لو أراد به المال لقال : إن علمتم لهم خيرا . وقال إبراهيم وابن زيد وعبيدة : صدقا وأمانة وقال طاوس ، وعمرو بن دينار : مالا وأمانة وقال الشافعي : وأظهر معاني الخير في العبد : الاكتساب مع الأمانة ، فأحب أن لا يمنع من كتابته إذا كان هكذا .أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أخبرنا أبو الحسن بن علي بن شريك الشافعي ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم ، أخبرنا أبو بكر الجوربذي ، أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب أخبرني الليث عن محمد بن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ثلاثة حق على الله عونهم : المكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح يريد العفاف ، والمجاهد في سبيل الله " . وحكى محمد بن سيرين عن عبيدة : " إن علمتم فيهم خيرا " أي : أقاموا الصلاة . وقيل: هو أن يكون العبد بالغا عاقلا فأما الصبي والمجنون فلا تصح كتابتهما لأن الابتغاء منهما لا يصح . وجوز أبو حنيفة كتابة الصبي المراهق .قوله - عز وجل - : ( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : هذا خطاب للموالي ، يجب على المولى أن يحط عن مكاتبه من مال كتابته شيئا ، وهو قول عثمان وعلي والزبير وجماعة ، وبه قال الشافعي . ثم اختلفوا في قدره ، فقال قوم : يحط عنه ربع مال الكتابة ، وهو قول علي ، ورواه بعضهم عن علي مرفوعا ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يحط عنه الثلث . وقال الآخرون : ليس له حد بل عليه أن يحط عنه ما شاء وهو قول الشافعي .قال نافع : كاتب عبد الله بن عمر غلاما له على خمسة وثلاثين ألف درهم فوضع عنه من آخر كتابته خمسة آلاف درهم . وقال سعيد بن جبير : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئا من أول نجومه مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته ، ووضع من آخر كتابته ما أحب . وقال بعضهم : هو أمر استحباب . والوجوب أظهر . وقال قوم : أراد بقوله : " وآتوهم من مال الله " أي سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات ، بقوله تعالى : " وفي الرقاب " ( التوبة - 60 ) وهو قول الحسن وزيد بن أسلم . وقال إبراهيم : هو حث لجميع الناس على معونتهمولو مات المكاتب قبل أداء النجوم ، اختلف أهل العلم فيه : فذهب كثير منهم إلى أنه يموت رقيقا ، وترتفع الكتابة سواء ترك مالا أو لم يترك ، كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع . وهو قول عمر ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، والزهري ، وقتادة ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد . وقال قوم : إن ترك وفاء بما بقي عليه من الكتابة كان حرا وإن كان فيه فضل ، فالزيادة لأولاده الأحرار ، وهو قول عطاء ، وطاوس ، والنخعي ، والحسن ، وبه قال مالك ، والثوري ، وأصحاب الرأي . ولو كاتب عبده كتابة فاسدة يعتق بأداء المال لأن عتقه معلق بالأداء ، وقد وجد وتبعه الأولاد والاكتساب كما في الكتابة الصحيحة ، ويفترقان في بعض الأحكام : وهي أن الكتابة الصحيحة لا يملك المولى فسخها ما لم يعجز المكاتب عن أداء النجوم ، ولا تبطل بموت المولى ، ويعتق بالإبراء عن النجوم ، والكتابة الفاسدة يملك المولى فسخها قبل أداء المال ، حتى لو أدى المال بعد الفسخ لا يعتق ويبطل بموت المولى ، ولا يعتق بالإبراء عن النجوم ، وإذا عتق المكاتب بأداء المال لا يثبت التراجع في الكتابة الصحيحة ، ويثبت في الكتابة الفاسدة ، فيرجع المولى عليه بقيمة رقبته ، وهو يرجع على المولى بما دفع إليه إن كان مالا .قوله - عز وجل - : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ) الآية نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق ، كانت له جاريتان : معاذة ومسيكة ، وكان يكرههما على الزنا بالضريبة يأخذها منهما ، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية ، يؤجرون إماءهم ، فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة : إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين ، فإن يك خيرا فقد استكثرنا منه ، وإن يك شرا فقد آن لنا أن ندعه ، فأنزل الله هذه الآية . وروي أنه جاءت إحدى الجاريتين يوما ببرد وجاءت الأخرى بدينار ، فقال لهما : ارجعا فازنيا ، قالتا : والله لا نفعل ، قد جاء الإسلام وحرم الزنا ، فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشكتا إليه ، فأنزل هذه الآية( ولا تكرهوا فتياتكم ) إماءكم ( على البغاء ) أي : الزنا ( إن أردن تحصنا ) أي : إذا أردن ، وليس معناه الشرط ، لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا وإن لم يردن تحصنا ، كقوله تعالى : " وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " ( آل عمران - 139 ) ، أي : إذا كنتم مؤمنين وقيل: شرط إرادة التحصن لأن الإكراه إنما يكون عند إرادة التحصن ، فإذا لم ترد التحصن بغت طوعا ، والتحصن : التعفف . وقال الحسن بن الفضل : في الآية تقديم وتأخير تقديرها : وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصنا ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء .( لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ) أي : لتطلبوا من أموال الدنيا ، يريد من كسبهن وبيع أولادهن ، ( ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) يعني للمكرهات ، والوزر على المكره . وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : لهن والله لهن والله .
ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب
( ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ) يريد : أنهم اشتغلوا بذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ، أي بأحسن ما عملوا ، يريد : يجزيهم بحسناتهم ، وما كان من مساوئ أعمالهم لا يجزيهم بها ، ( ويزيدهم من فضله ) ما لم يستحقوه بأعمالهم ، ( والله يرزق من يشاء بغير حساب ) ثم ضرب لأعمال الكفار مثلا فقال تعالى :
انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا
( انظر ) يا محمد ، ( كيف ضربوا لك الأمثال ) يعني الأشباه ، فقالوا : مسحور ، محتاج ، وغيره ، ) ( فضلوا ) عن الحق ، ( فلا يستطيعون سبيلا ) إلى الهدى ومخرجا عن الضلالة .
ولقد آتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين
قوله - عز وجل - : ( ولقد آتينا داود وسليمان علما ) أي : علم القضاء ومنطق الطير والدواب وتسخير الشياطين وتسبيح الجبال ( وقالا الحمد لله الذي فضلنا ) بالنبوة والكتاب وتسخير الشياطين والجن والإنس ( على كثير من عباده المؤمنين )
وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين
( وورث سليمان داود ) نبوته وعلمه وملكه دون سائر أولاده وكان لداود تسعة عشر ابنا ، وأعطي سليمان ما أعطي داود من الملك ، وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين . قال مقاتل : كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضى منه ، وكان داود أشد تعبدا من سليمان ، وكان سليمان شاكرا لنعم الله تعالى .( وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير ) سمى صوت الطير منطقا لحصول الفهم منه ، كما يفهم من كلام الناس . روي عن كعب قال صاح ورشان عند سليمان عليه السلام ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : إنه يقول لدوا للموت وابنوا للخراب ، وصاحت فاختة ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا قال : إنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا ، وصاح طاوس ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : كما تدين تدان ، وصاح هدهد ، فقال : أتدرون ما يقول هذا ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : من لا يرحم لا يرحم ، وصاح صرد ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين ، قال : وصاحت طوطى ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا قال : فإنها تقول : كل حي ميت وكل حديد بال ، وصاح خطاف ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : قدموا خيرا تجدوه ، وهدرت حمامة ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا قال : فإنها تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه ، وصاح قمري ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : سبحان ربي الأعلى ، قال : والغراب يدعو على العشار ، والحدأة تقول : كل شيء هالك إلا الله ، والقطاة تقول : من سكت سلم ، والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه ، والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس ، والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده ، والضفدعة تقول : سبحان المذكور بكل لسان . وعن مكحول قال : صاح دراج عند سليمان ، فقال : هل تدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : الرحمن على العرش استوى .وعن فرقد السبخي قال مر سليمان على بلبل فوق شجر يحرك رأسه ويميل ذنبه ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول هذا البلبل ؟ فقالوا الله ونبيه أعلم ، قال يقول : أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء . وروي أن جماعة من اليهود قالوا لابن عباس : إنا سائلوك عن سبعة أشياء فإن أخبرتنا آمنا وصدقنا ، قال : سلوا تفقها ولا تسألوا تعنتا ، قالوا : أخبرنا ما يقول القنبر في صفيره ، والديك في صقيعه ، والضفدع في نقيقه ، والحمار في نهيقه ، والفرس في صهيله ، وماذا يقول الزرزور والدراج ؟ قال : نعم ، أما القنبر فيقول : اللهم العن مبغضي محمد وآل محمد ، وأما الديك فيقول : اذكروا الله يا غافلين ، وأما الضفدع فيقول : سبحان المعبود في لجج البحار ، وأما الحمار فيقول : اللهم العن العشار ، وأما الفرس فيقول : إذا التقى الصفان سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، وأما الزرزور فيقول : اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رازق ، وأما الدراج فيقول : الرحمن على العرش استوى ، قال : فأسلم اليهود وحسن إسلامهم .وروي عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده عن الحسين بن علي قال : إذا صاح النسر قال : يا ابن آدم ، عش ما شئت آخره الموت ، وإذا صاح العقاب قال : في البعد من الناس أنس ، وإذا صاح القنبر قال : إلهي العن مبغضي آل محمد ، وإذا صاح الخطاف ، قرأ : الحمد لله رب العالمين ، ويمد الضالين كما يمد القارئ . قوله تعالى : ( وأوتينا من كل شيء ) يؤتى الأنبياء والملوك ، قال ابن عباس : من أمر الدنيا والآخرة . وقال مقاتل : يعني النبوة والملك وتسخير الجن والشياطين والرياح ( إن هذا لهو الفضل المبين ) الزيادة الظاهرة على ما أعطى غيرنا . وروى أن سليمان عليه السلام أعطي مشارق الأرض ومغاربها ، فملك سبعمائة سنة وستة أشهر ، ملك جميع أهل الدنيا من الجن والإنس والدواب والطير والسباع وأعطي على ذلك منطق كل شيء ، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة .
قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم
( قال الذي عنده علم من الكتاب ) واختلفوا فيه فقال بعضهم هو جبريل . وقيل: هو ملك من الملائكة أيد الله به نبيه سليمان عليه السلام . وقال أكثر المفسرين : هو آصف بن برخياء ، وكان صديقا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى . وروى جويبر ، ومقاتل ، عن الضحاك عن ابن عباس قال : إن آصف قال لسليمان حين صلى : مد عينيك حتى ينتهي طرفك ، فمد سليمان عينيه ، فنظر نحو اليمين ، ودعا آصف فبعث الله الملائكة فحملوا السرير من تحت الأرض يخدون به خدا حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان .وقال الكلبي : خر آصف ساجدا ودعا باسم الله الأعظم فغاب عرشها تحت الأرض حتى نبع عند كرسي سليمان . وقيل: كانت المسافة مقدار شهرين . واختلفوا في الدعاء الذي دعا به آصف ، فقال مجاهد ، ومقاتل : يا ذا الجلال والإكرام . وقال الكلبي : يا حي يا قيوم . وروي ذلك عن عائشة . وروي عن الزهري قال : دعاء الذي عنده علم من الكتاب : يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها . وقال محمد بن المنكدر : إنما هو سليمان ، قال له عالم من بني إسرائيل آتاه الله علما وفهما : ( أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) قال سليمان : هات ، قال : أنت النبي ابن النبي ، وليس أحد أوجه عند الله منك ، فإن دعوت الله وطلبت إليه كان عندك ، فقال : صدقت ، ففعل ذلك ، فجيء بالعرش في الوقت .وقوله تعالى : ( قبل أن يرتد إليك طرفك ) قال سعيد بن جبير : يعني : من قبل أن يرجع إليك أقصى من ترى ، وهو أن يصل إليك من كان منك على مد بصرك . قال قتادة : قبل أن يأتيك الشخص من مد البصر . وقال مجاهد : يعني إدامة النظر حتى يرتد الطرف خاسئا . وقال وهب : تمد عينيك فلا ينتهي طرفك إلى مداه ، حتى أمثله بين يديك ) ( فلما رآه ) يعني : رأى سليمان العرش ) ( مستقرا عنده ) محمولا إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف ( قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر ) نعمته ) ( أم أكفر ) فلا أشكرها ( ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ) أي : يعود نفع شكره إليه ، وهو أن يستوجب به تمام النعمة ودوامها ، لأن الشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة ( ومن كفر فإن ربي غني ) عن شكره ) ( كريم ) بالإفضال على من يكفر نعمه .