ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين
قوله تعالى: ولنبلونكم أي ولنختبرنكم يا أمة محمد، واللام لجواب القسم تقديره والله لبيلونكم والابتلاء من الله لإظهار المطيع من العاصي لا ليعلم شيئاً لم يكن عالماً به.بشيء من الخوف قال ابن عباس: "يعني خوف العدو".والجوع يعني القحط.ونقص من الأموال بالخسران والهلاك.والأنفس يعني بالقتل والموت وقيل بالمرض والشيب.والثمرات يعني الجوائح في الثمار، وحكي عن الشافعي أنه قال: "الخوف خوف الله تعالى، والجوع صيام رمضان، ونقص من الأموال أداء الزكاة والصدقات، والأنفس الأمراض، والثمرات موت الأولاد لأن ولد الرجل ثمرة قلبه".أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا الحسن بن موسى أخبرنا حماد بن سلمة عن أبي سنان قال: دفنت ابني سناناً وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأخرجني فقال: ألا أبشرك؟: حدثني الضحاك بن عزرب عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته أقبضتم ولد عبدي؟ قالوا نعم، قال أقبضتم ثمرة فؤاده؟ قالوا نعم، فماذا قال عبدي؟ قالوا استرجع وحمدك قال: ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد".وبشر الصابرين على البلايا والرزايا.ثم وصفهم فقال:
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون
قوله تعالى : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ) قرأ حمزة وحفص : ليس البر بنصب الراء والباقون برفعها فمن رفعها جعل ( البر ) اسم ليس وخبره قوله : أن تولوا تقديره ليس البر توليتكم وجوهكم ، : كقوله تعالى " ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا " ( 25 - الجاثية ) والبر كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة واختلفوا في المخاطبين بهذه الآية فقال قوم عنى بها اليهود والنصارى ، وذلك أن اليهود كانت تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس والنصارى قبل المشرق وزعم كل فريق منهم أن البر في ذلك فأخبر الله تعالى أن البر غير دينهم وعملهم ولكنه ما بينه في هذه الآية وعلى هذا القول قتادة ومقاتل بن حيان . وقال الآخرون المراد بها المؤمنون وذلك أن الرجل كان في ابتداء الإسلام قبل نزول الفرائض إذا أتى بالشهادتين وصلى الصلاة إلى أي جهة كانت ثم مات على ذلك وجبت له الجنةولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الفرائض وحددت الحدود وصرفت القبلة إلى الكعبة أنزل الله هذه الآية فقال : ( ليس البر ) أي كله أن تصلوا قبل المشرق والمغرب ولا تعملوا على غير ذلك ( ولكن البر ) ما ذكر في هذه الآية وعلى هذا القول ابن عباس ومجاهد وعطاء والضحاك . ( ولكن البر ) قرأ نافع وابن عامر ولكن خفيفة النون البر رفع وقرأ الباقون بتشديد النون ونصب البر .قوله تعالى ( من آمن بالله ) جعل من وهي اسم خبرا للبر وهو فعل ولا يقال البر زيد واختلفوا في وجهه ، قيل لما وقع من في موضع المصدر جعله خبرا للبر كأنه قال ولكن البر الإيمان بالله والعرب تجعل الاسم خبرا للفعل وأنشد الفراء :لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ولكنما الفتيان كل فتى نديفجعل نبات اللحى خبرا للفتى وقيل فيه إضمار معناه ولكن البر بر من آمن بالله فاستغنى بذكر الأول عن الثاني كقولهم الجود حاتم أي الجود جود حاتم وقيل معناه ولكن ذا البر من آمن بالله كقوله تعالى : " هم درجات عند الله " ( 163 - آل عمران ) أي ذو درجات وقيل معناه ولكن البار من آمن بالله كقوله تعالى " والعاقبة للتقوى " ( 132 - طه ) أي للمتقي والمراد من البر هاهنا الإيمان والتقوى( واليوم الآخر والملائكة ) ( كلهم والكتاب ) يعني الكتب المنزلة ( والنبيين ) أجمع ( وآتى المال ) أعطى المال ( على حبه ) اختلفوا في هذه الكناية فقال أكثر أهل التفسير : إنها راجعة إلى المال أي أعطى المال في حال صحته ومحبته المال قال ابن مسعود : أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقرأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا موسى بن إسماعيل أخبرنا عبد الواحد ثنا عمارة بن القعقاع أنا أبو زرعة أخبرنا أبو هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا ؟ قال أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان .وقيل هي عائدة على الله عز وجل أي على حب الله تعالى( ذوي القربى ) أهل القرابةأخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أخبرنا أبو العباس المحبوبي أخبرنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا قتيبة أخبرنا سفيان بن عيينة عن عاصم الأحول عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن عمها سلمان بن عامر ، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان : صدقة وصلة " .قوله تعالى ( واليتامى والمساكين وابن السبيل ) قال مجاهد : يعني المسافر المنقطع عن أهله يمر عليك ويقال للمسافر ابن السبيل لملازمته الطريق وقيل هو الضيف ينزل بالرجل قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ... "( والسائلين ) يعني الطالبينأخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبي بجيد الأنصاري وهو عبد الرحمن بن بجيد عن جدته وهي أم بجيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ردوا السائل ولو بظلف محرق " وفي رواية قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لم تجدي شيئا إلا ظلفا محرقا فادفعيه إليه " قوله تعالى ( وفي الرقاب ) يعني المكاتبين قاله أكثر المفسرين وقيل عتق النسمة وفك الرقبة ، وقيل فداء الأسارى ( وأقام الصلاة وآتى الزكاة ) وأعطى الزكاة ( والموفون بعهدهم ) فيما بينهم وبين الله عز وجل وفيما بينهم وبين الناس ( إذا عاهدوا ) يعني إذا وعدوا أنجزوا وإذا حلفوا ونذروا أوفوا وإذا عاهدوا أوفوا وإذا قالوا صدقوا وإذا ائتمنوا أدوا واختلفوا في رفع قوله والموفون ، قيل هو عطف على خبر معناه ولكن ذا البر المؤمنون والموفون بعهدهم وقيل تقديره وهم الموفون كأنه عد أصنافا ثم قال هم والموفون كذا ، وقيل رفع على الابتداء والخبر يعني وهم الموفون ثم قال ( والصابرين ) وفي نصبها أربعة أوجهقال أبو عبيدة : نصبها على تطاول الكلام ومن شأن العرب أن تغير الإعراب إذا طال الكلام والنسق ومثله في سورة النساء " والمقيمين الصلاة " ( سورةالمائدة - 162) ( والصابئون والنصارى ) ، وقيل معناه أعني الصابرين ، وقيل نصبه نسقا على قوله ذوي القربى أي وآتى الصابرينوقال الخليل : نصب على المدح والعرب تنصب الكلام على المدح والذم [ كأنهم يريدون إفراد الممدوح والمذموم فلا يتبعونه أول الكلام وينصبونه فالمدح كقوله تعالى " والمقيمين الصلاة " ] ( 162 - النساء ) .والذم كقوله تعالى " ملعونين أينما ثقفوا " ( 61 - الأحزاب ) .قوله تعالى ( في البأساء ) أي الشدة والفقر ( والضراء ) المرض والزمانة ( وحين البأس ) أي القتال والحربأخبرنا المطهر بن علي بن عبد الله الفارسي أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم الصالحاني أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي أخبرنا علي بن الجعد أخبرنا زهير عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه . يعني إذا اشتد الحرب ( أولئك الذين صدقوا ) في إيمانهم ( وأولئك هم المتقون ) .
فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين
فلما فصل طالوت بالجنود ) أي خرج بهم وأصل الفصل : القطع يعني قطع مستقره شاخصا إلى غيره فخرج طالوت من بيت المقدس بالجنود وهم يومئذ سبعون ألف مقاتل وقيل: ثمانون ألفا لم يتخلف عنه إلا كبير لهرمه أو مريض لمرضه أو معذور لعذره وذلك أنهم لما رأوا التابوت لم يشكوا في النصر فتسارعوا إلى الجهاد فقال طالوت : لا حاجة لي في كل ما أرى لا يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه ولا صاحب تجارة يشتغل بها ولا رجل عليه دين ، ولا رجل تزوج امرأة ولم يبن بها ولا أبتغي إلا الشباب النشيط الفارغ فاجتمع له ثمانون ألفا ممن شرطه وكان في حر شديد فشكوا قلة الماء بينهم وبين عدوهم فقالوا : إن المياه قليلة لا تحملنا فادع الله أن يجري لنا نهرا .( قال ) طالوت ( إن الله مبتليكم ) مختبركم ليرى طاعتكم - وهو أعلم - ( بنهر ) قال ابن عباس والسدي : هو نهر فلسطين وقال قتادة نهر بين الأردن وفلسطين عذب ( فمن شرب منه فليس مني ) أي ليس من أهل ديني وطاعتي ( ومن لم يطعمه ) يشربه ( فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده ) قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو " غرفة " بفتح الغين وقرأ الآخرون بضم الغين وهما لغتان قال الكسائي : الغرفة بالضم الذي يحصل في الكف من الماء إذا غرف والغرفة : بالفتح الاغتراف فالضم اسم والفتح مصدر ( فشربوا منه إلا قليلا منهم ) نصب على الاستثناء واختلفوا في القليل الذين لم يشربوا فقال السدي : كانوا أربعة آلاف وقال غيره : ثلاثمائة وبضعة عشر وهو الصحيح .أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الله بن رجاء أنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال : كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة .ويروى ثلاثمائة وثلاثة عشر فلما وصلوا إلى النهر وقد ألقي عليهم العطش فشرب منه الكل إلا هذا العدد القليل فمن اغترف غرفة كما أمر الله قوي قلبه وصح إيمانه وعبر النهر سالما وكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه وحمله ودوابه والذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت شفاههم وغلبهم العطش فلم يرووا وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدو فلم يجاوزوا ولم يشهدوا الفتح .وقيل: كلهم جاوزوا ولكن لم يحضر القتال إلا الذين لم يشربوا ( فلما جاوزه ) يعني النهر ( هو ) يعني طالوت ( والذين آمنوا معه ) يعني القليل ( قالوا ) يعني الذين شربوا وخالفوا أمر الله وكانوا أهل شك ونفاق ( لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ) قال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي : فانحرفوا ولم يجاوزوا ( قال الذين يظنون ) يستيقنون ( أنهم ملاقو الله ) الذين ثبتوا مع طالوت ( كم من فئة ) جماعة وهي جمع لا واحد له من لفظه وجمعه فئات وفئون في الرفع وفئين في الخفض والنصب ( قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) بقضائه وإرادته ( والله مع الصابرين ) بالنصر والمعونة .
( الصابرين والصادقين ) إن شئت نصبتها على المدح ، وإن شئت خفضتها على النعت ، يعني الصابرين في أداء الأمر وعن ارتكاب النهي ، وعلى البأساء والضراء وحين البأس ، والصادقين في إيمانهم ، قال قتادة : هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم فصدقوا في السر والعلانية ( والقانتين ) المطيعين المصلين ( والمنفقين ) أموالهم في طاعة الله ( والمستغفرين بالأسحار ) قال مجاهد وقتادة والكلبي : يعني المصلين بالأسحار وعن زيد بن أسلم أنه قال : هم الذين يصلون الصبح في الجماعة ، وقيل بالسحر لقربه من الصبح وقال الحسن : مدوا الصلاة إلى السحر ثم استغفروا ، وقال نافع كان ابن عمر رضي الله عنه يحيي الليل ثم يقول : يا نافع أسحرنا؟ فأقول : لا فيعاود الصلاة فإذا قلت : نعم قعد يستغفر الله ويدعو حتى يصبحأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو محمد بن الحسن بن أحمد المخلدي ، حدثنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، أنا قتيبة [ بن سعيد ] أنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول : أنا الملك أنا الملك ، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له " .وحكي عن الحسن أن لقمان قال لابنه : يا بني لا تكن أعجز من هذا الديك يصوت من الأسحار وأنت نائم على فراشك .
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين
قوله تعالى : ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ) قرأ ابن كثير " وكائن " بالمد والهمزة على وزن فاعل وتليين الهمزة أبو جعفر ، وقرأ الآخرون " وكأين " بالهمز والتشديد على وزن كعين ، ومعناه : وكم ، وهي كاف التشبيه ضمت إلى أي الاستفهامية ، ولم يقع للتنوين صورة في الخط إلا في هذا الحرف خاصة ويقف بعض القراء على " وكأي " بلا نون والأكثرون على الوقوف بالنون قوله ( قاتل ) قرأ ابن كثير ونافع وأهل البصرة بضم القاف وقرأ الآخرون ( قاتل ) فمن قرأ ( قاتل ) فلقوله : ( فما وهنوا ) ويستحيل وصفهم بأنهم لم يهنوا بعدما قتلوا لقول سعيد بن جبير : ما سمعنا أن نبيا قتل في القتال ولأن ( قاتل ) أعم .قال أبو عبيد : إن الله تعالى إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلا فيه ، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه غيرهم ، فكان ( قاتل ) أعم .ومن قرأ " قتل " ) فله ثلاثة أوجه : أحدها :أن يكون القتل راجعا إلى النبي وحده ، فيكون تمام الكلام عند قوله " قتل " ويكون في الآية إضمار معناه : ومعه ربيون كثير ، كما يقال : قتل فلان معه جيش كثير أي : ومعه .والوجه الثاني : أن يكون القتل نال النبي ومن معه من الربيين ويكون المراد : بعض من معه ، تقول العرب قتلنا بني فلان وإنما قتلوا بعضهم ويكون قوله ( فما وهنوا ) راجعا إلى الباقين .والوجه الثالث : أن يكون القتل للربيين لا غير .وقوله ( ربيون كثير ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : جموع كثيرة ، وقال ابن مسعود : الربيون الألوف ، وقال الكلبي الربية الواحدة : عشرة آلاف ، وقال الضحاك : الربية الواحدة : ألف ، وقال الحسن : فقهاء علماء وقيل: هم الأتباع والربانيون الولاة ، والربيون الرعية ، وقيل: منسوب إلى الرب وهم الذين يعبدون الرب ، ( فما وهنوا ) أي : فما جبنوا ، ( لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا ) عن الجهاد بما نالهم من ألم الجراح وقتل الأصحاب . ( وما استكانوا ) قال مقاتل : وما استسلموا وما خضعوا لعدوهم وقال السدي : وما ذلوا قال عطاء وما تضرعوا وقال أبو العالية : وما جبنوا ولكنهم صبروا على أمر ربهم وطاعة نبيهم وجهاد عدوهم ، ( والله يحب الصابرين ) .
وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين
قوله تعالى : ( وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا ) لا تختلفوا ، ( فتفشلوا ) أي : تجبنوا وتضعفوا ، ( وتذهب ريحكم ) قال مجاهد : نصرتكم . وقال السدي : جراءتكم وجدكم . وقال مقاتل بن حيان : حدتكم . وقال النضر بن شميل : قوتكم . وقال الأخفش : دولتكم . والريح ها هنا كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على المراد ، تقول العرب : هبت ريح فلان إذا أقبل أمره على ما يريد .قال قتادة وابن زيد : هو ريح النصر لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله - عز وجل - تضرب وجوه العدو . ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " .وعن النعمان بن مقرن قال : شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر .قوله - عز وجل - : ( واصبروا إن الله مع الصابرين ) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا عبد الله بن محمد ، ثنا معاوية بن عمرو ، ثنا أبو إسحاق ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله وكان كاتبا له قال : كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى فقرأته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه التي لقي فيها العدو ، انتظر حتى مالت الشمس ، ثم قام في الناس فقال : " يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " ، ثم قال : اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم " .
الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين
( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) أي : ضعفا في الواحد عن قتال العشرة وفي المائة عن قتال الألف ، وقرأ أبو جعفر : " ضعفاء " بفتح العين والمد على الجمع ، وقرأ الآخرون بسكون العين ، ( فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ) من الكفار ، ( وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ) فرد من العشرة إلى الاثنين ، فإن كان المسلمون على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا .وقال سفيان قال ابن شبرمة : وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا .قرأ أهل الكوفة : " وإن يكن منكم مائة " ، بالياء فيهما وافق أهل البصرة في الأول والباقون بالتاء فيهما . وقرأ عاصم وحمزة " ضعفاء " بفتح الضاد هاهنا وفي سورة الروم ، والباقون بضمها .
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين
( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) هذه الآيات نزلت بالمدينة في شهداء أحد وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد ، من تبقير البطون ، والمثلة السيئة - حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به غير حنظلة بن الراهب فإن أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان ، فتركوا حنظلة لذلك - فقال المسلمون حين رأوا ذلك : لئن أظهرنا الله عليهم لنزيدن على صنيعهم ، ولنمثلن بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وأذنه ، وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه ، وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ، ثم استرطبتها لتأكلها فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أما إنها لو أكلته لم تدخل النار أبدا ، حمزة أكرم على الله تعالى من أن يدخل شيئا من جسده النار فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمه حمزة ، ونظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " رحمة الله عليك فإنك ما علمت ما كنت إلا فاعلا للخيرات ، وصولا للرحم ، ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى ، أما والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك " ، فأنزل الله تعالى : ( وإن عاقبتم فعاقبوا ) الآية . ( ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) أي : ولئن عفوتم لهو خير للعافين فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل نصبر ، وأمسك عما أراد وكفر عن يمينه .قال ابن عباس والضحاك : كان هذا قبل نزول براءة حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال من قاتله ومنع من الابتداء بالقتال ، فلما أعز الله الإسلام وأهله نزلت براءة ، وأمروا بالجهاد نسخت هذه الآية .وقال النخعي ، والثوري ، ومجاهد ، وابن سيرين : الآية محكمة نزلت في من ظلم بظلامة ، فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر مما نال الظالم منه ، أمر بالجزاء والعفو ، ومنع من الاعتداء . ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم :