تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 162 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 162

162- تفسير الصفحة رقم162 من المصحف
الآية: 88 - 89 {قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين، قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين}
قوله تعالى: "قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا" تقدم معناه. ومعنى "أو لتعودن في ملتنا" أي لتصيرن إلى ملتنا وقيل: كان أتباع شعيب قبل الإيمان به على الكفر 0 أي لتعودن إلينا كما كنتم من قبل. قال الزجاج: يجوز أن يكون العود بمعنى الابتداء؛ يقال: عاد إلي من فلان مكروه، أي صار، وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك، أي لحقني ذلك منه. فقال لهم شعيب: "أولو كنا كارهين" أي ولو كنا كارهين تجبروننا عليه، أي على الخروج من الوطن أو العود في ملتكم. أي إن فعلتم هذا أتيتم عظيما.
قوله تعالى: "قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها" إياس من العود إلى ملتهم. "وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا" قال أبو إسحاق الزجاج: أي إلا بمشيئة الله عز وجل، قال: وهذا قول أهل السنة؛ أي وما يقع منا العود إلى الكفر إلا أن يشاء الله ذلك. فالاستثناء منقطع. وقيل: الاستثناء هنا على جهة التسليم لله عز وجل؛ كما قال: "وما توفيقي إلا بالله" [هود: 88]. والدليل على هذا أن بعده "وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا". وقيل: هو كقولك ألا أكلمك حتى يبيض الغراب، وحتى يلج الجمل في سم الخياط. والغراب لا يبيض أبدا، والجمل لا يلج في سم الخياط.
قوله تعالى: "وسع ربنا كل شيء علما" أي علم ما كان وما يكون. "علما" نصب على التمييز. "وما يكون لنا أن نعود فيها" أي في القرية بعد أن كرهتم مجاورتنا، بل نخرج من قريتكم مهاجرين إلى غيرها. "إلا أن يشاء الله" ردنا إليها. وفيه بعد؛ لأنه يقال: عاد للقرية ولا يقال عاد في القرية.
قوله تعالى: "على الله توكلنا" أي اعتمدنا. وقد تقدم. "ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق" قال قتادة: بعثه الله إلى أمتين: أهل مدين، وأصحاب الأيكة. قال ابن عباس: وكان شعيب كثير الصلاة، فلما طال تمادي قومه في كفرهم وغيهم، ويئس من صلاحهم، دعا عليهم فقال: "ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق "وأنت خير الفاتحين" فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم بالرجفة.
الآية: 90 - 91 - 92 {وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون، فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين}
قوله تعالى: "وقال الملأ الذين كفروا من قومه" أي قالوا لمن دونهم. "لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون" أي هالكون. "فأخذتهم الرجفة" أي الزلزلة. وقيل: الصيحة. وأصحاب الأيكة أهلكوا بالظلة، على ما يأتي.
قوله تعالى: "الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها" قال الجرجاني: قيل هذا كلام مستأنف؛ أي الذين كذبوا شعيبا صاروا كأنهم لم يزالوا موتى. "يغنوا" يقيموا؛ يقال: غنيت بالمكان إذا أقمت به. وغني القوم في دارهم أي طال مقامهم فيها. والمغنى: المنزل؛ والجمع المغاني. قال لبيد:
وعنيت ستا قبل مجرى داحس لو كان للنفس اللجوج خلود
وقال حاتم طي:
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى كما الدهر في أيامه العسر واليسر
كسبنا صروف الدهر لينا وغلظة وكلا سقاناه بكأسهما الدهر
فما زادنا بغيا على ذي قرابة غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر
قوله تعالى: "الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين" ابتداء خطاب، وهو مبالغة في الذم والتوبيخ وإعادة لتعظيم الأم وتفخيمه. ولما قالوا: من اتبع شعيبا خاسر قال الله الخاسرون هم الذين قالوا هذا القول.
الآية: 93 {فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين}
قوله تعالى: "فكيف آسى على قوم كافرين" أي أحزن. أسيت على الشيء آسى أسى، وأنا آس.
الآيتان: 94 - 95 {وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون، ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون}
قوله تعالى: "وما أرسلنا في قرية من نبي" فيه إضمار، وهو فكذب أهلها إلا أخذناهم. "بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون" تقدم القول فيه. "ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة" أي أبدلناهم بالجدب خصبا. "حتى عفوا" أي كثروا؛ عن ابن عباس. وقال ابن زيد: كثرت أموالهم وأولادهم. وعفا: من الأضداد: عفا: كثر. وعفا: درس. أعلم الله تعالى أنه أخذهم بالشدة والرخاء فلم يزدجروا ولم يشكروا. "وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء" فنحن مثلهم. "فأخذناهم بغتة" أي فجأة ليكون أكثر حسرة.