تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 162 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 162

161

88- "قال الملأ الذين استكبروا من قومه" أي قال: الأشراف المستكبرون "لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك" لم يكتفوا بترك الإيمان والتمرد عن الإجابة إلى ما دعاهم إليه، بل جاوزوا ذلك بغياً وبطراً وأشراً إلى توعد نبيهم ومن آمن به بالإخراج من قريتهم أو عوده هو ومن معه في ملتهم الكفرية: أي لا بد من أحد الأمرين: إما الإخراج، أو العود. قال الزجاج: يجوز أن يكون العود بمعنى الابتداء، يقال: عاد إلي من فلان مكروه: أي صار وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك فلا يرد ما يقال: كيف يكون شعيب على ملتهم الكفرية من قبل أن يبعثه الله رسولاً؟ ويحتاج إلى الجواب بتغليب قومه المتبعين له عليه في الخطاب بالعود إلى ملتهم، وجملة " قال أو لو كنا كارهين " مستأنفة جواب عن سؤال مقدر، والهمزة لإنكار وقوع ما طلبوه من الإخراج أو العود، والواو للحال: أي أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا للعود إليها، أو أتخرجوننا من قريتكم في حال كراهتنا للخروج منها، أو في حال كراهتنا للأمرين جميعاً، والمعنى: إنه ليس لكم أن تكرهونا على أحد الأمرين ولا يصح لكم ذلك، فإن المكره لا اختيار له ولا تعد موافقته مكرهاً موافقة ولا عوده إلى ملتكم مكرهاً عوداً، وبهذا التقرير يندفع ما استشكله كثير من المفسرين في هذا المقام حتى تسبب عن ذلك تطويل ذيول الكلام.
89- "قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم" التي هي الشرك "بعد إذ نجانا الله منها" بالإيمان فلا يكون منا عود إليها أصلاً "وما يكون لنا" أي ما يصح لنا ولا يستقيم "أن نعود فيها" بحال من الأحوال "إلا أن يشاء الله" أي إلا حال مشيئته سبحانه، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. قال الزجاج: أي إلا بمشيئة الله عز وجل، قال: وهذا قول أهل السنة، والمعنى: أنه لا يكون منا العود إلى الكفر إلا أن يشاء الله ذلك، فالاستثناء منقطع، وقيل: إن الاستثناء هنا على جهة التسليم لله عز وجل كما في قوله: "وما توفيقي إلا بالله" وقيل: هو كقولهم لا أكلمك حتى يبيض الغراب، وحتى يلج الجمل في سم الخياط، والغراب لا يبيض، والجمل لا يلج، فهو من باب التعليق بالمحال. "وسع ربنا كل شيء علماً" أي أحاط علمه بكل المعلومات فلا يخرج عنه منها شيء، وعلماً منصوب على التمييز، وقيل: المعنى "وما يكون لنا أن نعود فيها" أي القرية بعد أن كرهتم مجاورتنا لكم "إلا أن يشاء الله" عودنا إليها "على الله توكلنا" أي عليه اعتمدنا في أن يثبتنا على الإيمان، ويحول بيننا وبين الكفر وأهله ويتم علينا نعمته ويعصمنا من نقمته. قوله: "ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين" الفتاحة الحكومة أي احكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين، دعوا الله سبحانه أن يحكم بينهم ولا يكون حكمه سبحانه إلا بنصر المحقين على المبطلين: كما أخبرنا به في غير موضع من كتابه فكأنهم طلبوا نزول العذاب بالكافرين وحلول نقمة الله بهم.
90- "وقال الملأ الذين كفروا من قومه" معطوف على "قال الملأ الذين استكبروا" يحتمل أن يكون هؤلاء هم أولئك، ويحتمل أن يكونوا غيرهم من طوائف الكفار الذين أرسل إليهم شعيب، واللام في "لئن اتبعتم شعيباً" موطئة لجواب قسم محذوف: أي دخلتم في دينه وتركتم دينكم "إنكم إذاً لخاسرون" جواب القسم ساد مسد جواب الشرط، وخسرانهم: هلاكهم أو ما يخسرونه بسبب إيفاء الكيل والوزن وترك التطفيف الذي كانوا يعاملون الناس به.
91- "فأخذتهم الرجفة" أي الزلزلة، وقيل: الصيحة كما في قوله: "وأخذت الذين ظلموا الصيحة"، "فأصبحوا في دارهم جاثمين" قد تقدم تفسيره في قصة صالح.
قوله: 92- "الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها" هذه الجملة مستأنفة مبينة لما حل بهم من النقمة، والموصول مبتدأ، وكأن لم يغنوا خبره: يقال، غنيت بالمكان إذا أقمت به، وغني القوم في دارهم أي طال مقامهم فيها والمغني: المنزل، والجمع المغاني. قال حاتم الطائي: غنينا زماناً بالتصعلك والغنى وكلا سقاناه بكاسيهما الدهـر فما زادنا بغياً على ذي قرابة غناناً ولا أزرى بإحساننا الفقر ومعنى الآية: الذين كذبوا شعيباً كأن لم يقيموا في دارهم، لأن الله سبحانه استأصلهم بالعذاب، والموصل في "الذين كذبوا شعيباً" مبتدأ خبره " كانوا هم الخاسرين "، وهذه الجملة مستأنفة كالأولى متضمنة لبيان خسران القوم المكذبين.
93- "فتولى عنهم" أي شعيب لما شاهد نزول العذاب بهم "وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي" التي أرسلني بها إليكم "ونصحت لكم" ببيان ما فيه سلامة دينكم ودنياكم "فكيف آسى" أي أحزن "على قوم كافرين" بالله مصرين على كفرهم متمردين عن الإجابة أو الأسى شدة الحزن، آسى على ذلك فهو آس. قال شعيب هذه المقالة تحسراً على عدم إيمان قومه، ثم سلا نفسه بأنه كيف يقع منه الأسى على قوم ليس بأهل للحزن عليهم لكفرهم بالله وعدم قبولهم لما جاء به رسوله. وقد أخرج ابن إسحاق وابن عساكر عن عكرمة والسدي قالا: ما بعث الله نبياً مرتين إلا شعيباً: مرة إلى مدين فأخذتهم الصيحة، ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله بعذاب يوم الظلة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "ولا تبخسوا الناس أشياءهم" قال: لا تظلموا الناس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة "ولا تبخسوا الناس أشياءهم" قال: لا تظلموهم "ولا تقعدوا بكل صراط توعدون" قال: كانوا يوعدون من أتى شعيباً وغشيه وأراد الإسلام. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "ولا تقعدوا بكل صراط توعدون" قال: كانوا يجلسون في الطريق فيخبرون من أتى عليهم أن شعيباً كذاب فلا يفتننكم عن دينكم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد "بكل صراط توعدون" قال: بكل سبيل حق "وتصدون عن سبيل الله" قال: تصدون أهلها "وتبغونها عوجاً" قال: تلتمسون لها الزيغ. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي "ولا تقعدوا بكل صراط توعدون" قال: هو العاشر "وتصدون عن سبيل الله" قال: تصدون عن الإسلام "وتبغونها عوجاً" قال: هلاكاً. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال: هم العشار. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية عن أبي هريرة أو غيره: شك أبو العالية قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به على خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ثم تلا "ولا تقعدوا بكل صراط توعدون". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "وما يكون لنا أن نعود فيها" قال: ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله "إلا أن يشاء الله ربنا" والله لا يشاء الشرك، ولكن يقول: إلا أن يكون الله قد علم شيئاً، فإنه قد وسع كل شيء علماً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات وابن الأنباري في الوقف والابتداء عن ابن عباس قال: ما كنت أدري ما قوله: "ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق" حتى سمعت ابنه ذي يزن تقول: تعال أفاتحك، تعني أقاضيك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "ربنا افتح" يقول: اقض. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: الفتح القضاء لغة يمانية إذا قال أحدهم: تعال أقاضيك القضاء قال: تعال أفاتحك. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس "لم يغنوا فيها" قال: لم يعيشوا فيها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "فكيف آسى" قال: أحزن. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما، قبر إسماعيل وقبر شعيب فقبر إسماعيل في الحجر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود. وأخرج ابن عساكر عن وهب بن منبه إن شعيباً مات بمكة ومن معه من المؤمنين، فقبورهم في غربي الكعبة بين دار الندوة وبين باب بني سهم. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم عن ابن إسحاق قال: ذكر لي يعقوب بن أبي مسلمة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر شعيباً قال:ذاك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه فيما يريدهم به، فلما كذبوه وتوعدوه بالرجم والنفي من بلادهم وعتوا على الله أخذهم عذاب يوم الظلة".
قوله: 94- "وما أرسلنا في قرية من نبي" لما فصل الله سبحانه أحوال بعض الأنبياء مع أممهم، وهم المذكورون سابقاً أجمل حال سائر الأمم المرسل إليها: أي وما أرسلنا في قرية من القرى من نبي من الأنبياء، وفي الكلام محذوف أي فكذب أهلها إلا أخذناهم، والاستثناء مفرغ: أي ما أرسلنا في حال من الأحوال إلا في حال أخذنا أهلها فمحل أخذنا النصب، والبأساء: البؤس والفقر، والضراء: الضر، وقد تقدم تحقيق معنى البأساء والضراء "لعلهم يضرعون" أي لكي يتضرعوا ويتذللوا، فيدعوا ما هم عليه من الاستكبار وتكذيب الأنبياء.
قوله: 95- "ثم بدلنا" معطوف على أخذنا: أي ثم بعد الأخذ لأهل القرى بدلناهم "مكان السيئة" التي أصبناهم بها من البلاء والامتحان "الحسنة" أي الخصلة الحسنة: فصاروا في خير وسعة وأمن "حتى عفوا" يقال: عفا كثر، وعفا درس، فهو من أسماء الأضداد، والمراد هنا: أنهم كثروا في أنفسهم وفي أموالهم: أي أعطيناهم الحسنة مكان السيئة حتى كثروا "وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء" أي قالوا هذه المقالة عند أن صاروا في الحسنة بعد السيئة: أي أن هذا الذي مسنا من البأساء والضراء، ثم من الرخاء والخصب من بعد هو أمر وقع لآبائنا قبلنا مثله، فمسهم من البأساء والضراء ما مسنا ومن النعمة والخير ما نلناه، ومعناهم: أن هذه العادة الجارية في السلف والخلف، وأن ذلك ليس من الله سبحانه ابتلاء لهم واختباراً لما عندهم، وفي هذا من شدة عنادهم وقوة تمردهم وعتوهم ما لا يخفى، ولهذا عاجلهم الله بالعقوبة ولم يمهلهم فقال: "فأخذناهم بغتة" أي فجأة عقب أن قالوا هذه المقالة من دون تراخ ولا إمهال "و" الحال أنـ "هم لا يشعرون" بذلك ولا يترقبونه.