تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 167 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 167

167- تفسير الصفحة رقم167 من المصحف
الآية: 138 {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون}
قوله تعالى: "وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم" قرأ حمزة والكسائي بكسر الكاف، والباقون بضمها. يقال: عكف يعكف ويعكف بمعنى أقام على الشيء ولزمه. والمصدر منهما على فعول. قال قتادة: كان أولئك القوم من لخم، وكانوا نزولا بالرقة وقيل: كانت أصنامهم تماثيل بقر؛ ولهذا أخرج لهم السامري عجلا. "قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون" نظيره قول جهال الأعراب وقد رأوا شجرة خضراء للكفار تسمى ذات أنواط يعظمونها في كل سنة يوما: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال عليه الصلاة والسلام: (الله أكبر. قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى "اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون" لتركبن سنن في قبلكم حذو القذة بالقذة حتى إنهم لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه). وكان هذا في مخرجه إلى حنين، على ما يأتي بيانه في "براءة" إن شاء الله تعالى.
الآيتان: 139 - 140 {إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون، قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين}
قوله تعالى: "إن هؤلاء متبر ما هم فيه" أي مهلك، والتبار: الهلاك. وكل إناء مكسر متبر. وأمر متبر. أي إن العابد والمعبود مهلكان. "وباطل" أي ذاهب مضمحل. "ما كانوا يعملون" "كانوا" صلة زائدة. "قال أغير الله أبغيكم إلها" أي أطلب لكم إلها غير الله تعالى. يقال: بغيته وبغيت له. "وهو فضلكم على العالمين" أي على عالمي زمانكم. وقيل: فضلهم بإهلاك عدوهم، وبما خصهم به من الآيات.
الآية: 141 {وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}
ذكرهم منته. وقيل: هو خطاب ليهود عصر النبي صلى الله عليه وسلم. أي واذكروا إذ أنجينا أسلافكم؛ حسب ما تقدم بيانه في سورة "البقرة".
الآية: 142 {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}
قوله تعالى: "وواعدنا موسى ثلاثين ليلة" ذكر أن مما كرم الله به موسى صلى الله عليه وسلم هذا فكان وعده المناجاة إكراما له. "وأتممناها بعشر" قال ابن عباس ومجاهد ومسروق رضي الله عنهم: هي ذو القعدة وعشر من ذي الحجة. أمره أن يصوم الشهر وينفرد فيه بالعبادة؛ فلما صامه أنكر خلوف فمه فاستاك. قيل: بعود خرنوب؛ فقالت الملائكة: إنا كنا نستنشق من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك. فزيد عليه عشر ليال من ذي الحجة. وقيل: إن الله تعالى أوحى إليه لما استاك: (يا موسى لا أكلمك حتى يعود فوك إلى ما كان عليه قبل، أما علمت أن رائحة الصائم أحب إلي من ريح المسك). وأمره بصيام عشرة أيام. وكان كلام الله تعالى لموسى صلى الله عليه وسلم غداة النحر حين فدى إسماعيل من الذبح، وأكمل لمحمد صلى الله عليه وسلم الحج. وحذفت الهاء من عشر لأن المعدود مؤنث. والفائدة في قوله: "فتم ميقات ربه أربعين ليلة" وقد علم أن ثلاثين وعشرة أربعون، لئلا يتوهم أن المراد أتممنا الثلاثين بعشر منها؛ فبين أن العشر سوى الثلاثين. فإن قيل: فقد قال في البقرة أربعين وقال هنا ثلاثين؛ فيكون ذلك من البداء. قيل: ليس كذلك؛ فقد قال: "وأتممناها بعشر" والأربعون، والثلاثون والعشرة قول واحد ليس بمختلف. وإنما قال القولين على تفصيل وتأليف؛ قال أربعين في قول مؤلف، وقال ثلاثين، يعني شهرا متتابعا وعشرا. وكل ذلك أربعون؛ كما قال الشاعر:
(عشر وأربع....)
يعني أربع عشرة، ليلة البدر. وهذا جائز في كلام العرب.
قال علماؤنا: دلت هذه الآية على أن ضرب الأجل للمواعدة سنة ماضية، ومعنى قديم أسسه الله تعالى في القضايا، وحكم به للأمم، وعرفهم به مقادير التأني في الأعمال. وأول أجل ضربه الله تعالى الأيام الستة التي خلق فيها جميع المخلوقات، "ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب" [ق: 38]. وقد بينا معناه فيما تقدم في هذه السورة من قوله: "إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام" [الأعراف: 54]. قال ابن العربي: فإذا ضرب الأجل لمعنى يحاول فيه تحصيل المؤجل فجاء الأجل ولم يتيسر زيد فيه تبصرة ومعذرة. وقد بين الله تعالى ذلك لموسى عليه السلام فضرب له أجلا ثلاثين ثم زاده عشرا تتمة أربعين. وأبطأ موسى عليه السلام في هذه العشر على قومه؛ فما عقلوا جواز التأني والتأخر حتى قالوا: إن موسى ضل أو نسي، ونكثوا عهده وبدلوا بعده، وعبدوا إلها غير الله. قال ابن عباس: إن موسى قال لقومه: إن ربي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه، وأخلف فيكم هارون، فلما فصل موسى إلى ربه زاده الله عشرا؛ فكانت فتنتهم في العشر التي زاده الله بما فعلوه من عبادة العجل؛ على ما يأتي بيانه. ثم الزيادة التي تكون على الأجل تكون مقدرة؛ كما أن الأجل مقدر. ولا يكون إلا باجتهاد من الحاكم بعد النظر إلى المعاني المتعلقة بالأمر: من وقت وحال وعمل، فيكون مثل ثلث المدة السالفة؛ كما أجل الله لموسى. فإن رأى الحاكم أن يجمع له الأصل في الأجل والزيادة في مدة واحدة جاز، ولكن لا بد من التربص بعدها لما يطرأ من العذر على البشر، قال ابن العربي. روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة).
قلت: وهذا أيضا أصل لإعذار الحكام إلى المحكوم عليه مرة بعد أخرى. وكان هذا لطفا بالخلق، ولينفذ القيام عليهم بالحق. يقال: أعذر في الأمر أي بالغ فيه؛ أي أعذر غاية الإعذار الذي لا إعذار بعده. وأكبر الإعذار إلى بني آدم بعثة الرسل إليهم لتتم حجته عليهم، "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" [الإسراء: 15]. وقال "وجاءكم النذير" [فاطر: 37] قيل: هم الرسل. ابن عباس: هو الشيب. فإنه يأتي في سن الاكتهال، فهو علامة لمفارقة سن الصبا. وجعل الستين غاية الإعذار لأن الستين قريب من معترك العباد، وهو سن الإنابة والخشوع والاستسلام لله، وترقب المنية ولقاء الله؛ ففيه إعذار بعد إعذار. الأول بالنبي عليه السلام، والثاني بالشيب؛ وذلك عند كمال الأربعين؛ قال الله تعالى: "وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك" [الأحقاف: 15]. فذكر عز وجل أن من بلغ أربعين فقد أن له أن يعلم مقدار نعم الله عليه وعلى والديه ويشكرها. قال مالك: أدركت أهل العلم ببلدنا، وهم يطلبون الدنيا ويخالطون الناس حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة؛ فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس.
ودلت الآية أيضا على أن التاريخ يكون بالليالي دون الأيام؛ لقوله تعالى: "ثلاثين ليلة" لأن الليالي أوائل الشهور. وبها كانت الصحابة رضي الله عنهم تخبر عن الأيام؛ حتى روي عنها أنها كانت تقول: صمنا خمسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. والعجم تخالف في ذلك، فتحسب بالأيام لأن معولها على الشمس. ابن العربي: وحساب الشمس للمنافع، وحساب القمر للمناسك؛ ولهذا قال: "وواعدنا موسى ثلاثين ليلة". فيقال: أرخت تاريخا، وورخت توريخا؛ لغتان.
قوله تعالى: "وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح" المعنى: وقال موسى حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها لأخيه هارون: كن خليفتي؛ فدل على النيابة. وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي حين خلفه في بعض مغازيه: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي). فاستدل بهذا الروافض والإمامية وسائر فرق الشيعة على أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف عليا على جميع الأمة؛ حتى كفر الصحابة الإمامية - قبحهم الله - لأنهم عندهم تركوا العمل الذي هو النص على استخلاف علي واستخلفوا غيره بالاجتهاد منهم. ومنهم من كفر عليا إذ لم يقم بطلب حقه. وهؤلاء لا شك في كفرهم وكفر من تبعهم على مقالتهم، ولم يعلموا أن هذا استخلاف في حياة كالوكالة التي تنقضي بعزل الموكل أو بموته، لا يقتضي أنه متماد بعد وفاته؛ فينحل على هذا ما تعلق به الإمامية وغيرهم. وقد استخلف النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم وغيره، ولم يلزم من ذلك استخلافه دائما بالاتفاق. على أنه قد كان هارون شرك مع موسى في أصل الرسالة، فلا يكون لهم فيه على ما راموه دلالة. والله الموفق للهداية. "وأصلح" أمر بالإصلاح. قال ابن جريج: كان من الإصلاح أن يزجر. السامري ويغير عليه. وقيل: أي ارفق بهم، وأصلح أمرهم، وأصلح نفسك؛ أي كن مصلحا. "ولا تتبع سبيل المفسدين" أي لا تسلك سبيل العاصين، ولا تكن عونا للظالين.
الآية: 143 {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين}
قوله تعالى: "ولما جاء موسى لميقاتنا" أي في الوقت الموعود. "وكلمه ربه" أي أسمعه كلامه من غير واسطة. "قال رب أرني أنظر إليك" سأل النظر إليه؛ واشتاق إلى رؤيته لما أسمعه كلامه.
قوله تعالى: "قال لن تراني" أي في الدنيا. ولا يجوز الحمل على أنه أراد: أرني آية عظيمة لأنظر إلى قدرتك؛ لأنه قال "إليك" و"قال لن تراني". ولو سأل آية لأعطاه الله ما سأل، كما أعطاه سائر الآيات. وقد كان لموسى عليه السلام فيها مقنع عن طلب آية أخرى؛ فبطل هذا التأويل. "ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني" ضرب له مثالا مما هو أقوى من بنيته وأثبت. أي فإن ثبت الجبل وسكن فسوف تراني، وإن لم يسكن فإنك لا تطيق رؤيتي، كما أن الجبل لا يطيق رؤيتي. وذكر القاضي عياض عن القاضي أبي بكر بن الطيب ما معناه: أن موسى عليه السلام رأى الله فلذلك خر صعقا، وأن الجبل رأى ربه فصار دكا بإدراك خلقه الله له. واستنبط ذلك من قوله: "ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني". ثم قال: "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا" وتجلى معناه ظهر؛ من قولك: جلوت العروس أي أبرزتها. وجلوت السيف أبرزته من الصدأ؛ جلاء فيهما. وتجلى الشيء انكشف. وقيل: تجلى أمره وقدرته؛ قاله قطرب وغيره. وقراءة أهل المدينة وأهل البصرة "دكا"؛ يدل على صحتها "دكت الأرض دكا" [الفجر: 21] وأن الجبل مذكر. وقرأ أهل الكوفة "دكاء" أي جعله مثل أرض دكاء، وهي الناتئة لا تبلغ أن تكون جبلا. والمذكر أدك، وجمع دكاء دكاوات ودك؛ مثل حمراوات وحمر. قال الكسائي: الدك من الجبال: العراض، واحدها أدك. غيره: والدكاوات جمع دكاء: رواب من طين ليست بالغلاظ. والدكداك كذلك من الرمل: ما التبد بالأرض فلم يرتفع. وناقة دكاء لا سنام لها. وفي التفسير: فساخ الجبل في الأرض؛ فهو يذهب فيها حتى الآن. وقال ابن عباس: جعله ترابا. عطية العوفي: رملا هائلا. "وخر موسى صعقا" أي مغشيا عليه؛ عن ابن عباس والحسن وقتادة. وقيل: ميتا؛ يقال: صعق الرجل فهو صعق. وصعق فهو مصعوق. وقال قتادة والكلبي: خر موسى صعقا يوم الخميس يوم عرفة، وأعطي التوراة يوم الجمعة يوم النحر. "فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك" قال مجاهد: من مسألة الرؤية في الدنيا. وقيل: سأل من غير استئذان؛ فلذلك تاب. وقيل: قال على جهة الإنابة إلى الله والخشوع له عند ظهور الآيات. وأجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية؛ فإن الأنبياء معصومون. وأيضا عند أهل السنة والجماعة الرؤية جائزة. وعند المبتدعة سأل لأجل القوم ليبين لهم أنها غير جائزة، وهذا لا يقتضي التوبة. فقيل: أي تبت إليك من قتل القبطي؛ ذكره القشيري. وقد مضى في "الأنعام" بيان أن الرؤية جائزة. قال علي بن مهدي الطبري: لو كان سؤال موسى مستحيلا ما أقدم عليه مع معرفته بالله؛ كما لم يجز أن يقول له يا رب ألك صاحبة وولد. وسيأتي في "القيامة" مذهب المعتزلة والرد عليهم، إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: "وأنا أول المؤمنين" قيل: من قومي. وقيل: من بني إسرائيل في هذا العصر. وقيل: بأنك لا ترى في الدنيا لوعدك السابق، في ذلك. وفي الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأرفع رأسي فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أصعق فيمن صعق فأفاق قبلي أو حوسب بصفته الأولى). أو قال (كفته صعقته الأولى). وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن كعب قال: إن الله تبارك وتعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى صلى الله وسلم عليهما؛ فكلمه موسى مرتين، ورآه محمد صلى الله عليه وسلم مرتين.