تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 168 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 168

168- تفسير الصفحة رقم168 من المصحف
الآية: 144 {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين}
قوله تعالى: "قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي" الاصطفاء: الاجتباء؛ أي فضلتك. ولم يقل على الخلق؛ لأن من هذا الاصطفاء أنه كلمه وقد كلم الملائكة وأرسله وأرسل غيره. فالمراد "على الناس" المرسل إليهم. وقرأ "برسالتي" على الإفراد نافع وابن كثير. والباقون بالجمع. والرسالة مصدر، فيجوز إفرادها. ومن جمع على أنه أرسل بضروب من الرسالة فاختلفت أنواعها، فجمع المصدر لاختلاف أنواعه؛ كما قال: "إن أنكر الأصوات لصوت الحمير" [لقمان: 19]. فجمع لاختلاف أجناس الأصوات واختلاف المصوتين. ووحد في قوله "الصوت" لما أراد به جنسا واحدا من الأصوات. ودل هذا على أن قومه لم يشاركه في التكليم ولا واحد من السبعين؛ كما بيناه في "البقرة".
قوله تعالى: "فخذ ما آتيتك" إشارة إلى القناعة؛ أي اقنع بما أعطيتك. "وكن من الشاكرين" أي من المظهرين لإحساني إليك وفضلي عليك؛ يقال: دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف. والشاكر معرض للمزيد كما قال: "لئن شكرتم لأزيدنكم" [إبراهيم: 7]. ويروى أن موسى عليه السلام مكث بعد أن كلمه الله تعالى أربعين ليلة لا يراه أحد إلا مات من نور الله عز وجل.
الآية: 145 {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين}
قوله تعالى: "وكتبنا له في الألواح من كل شيء" يريد التوراة. وروي في الخبر أنه قبض عليه جبريل عليه السلام بجناحه فمر به في العلا حتى أدناه حتى سمع صريف القلم حين كتب الله له الألواح؛ ذكره الترمذي الحكيم. وقال مجاهد: كانت الألواح من زمردة خضراء. ابن جبير: من ياقوتة حمراء. أبو العالية: من زبرجد. الحسن: من خشب؛ نزلت من السماء. وقيل: من صخرة صماء، لينها الله لموسى عليه السلام فقطعها بيده ثم شقها بأصابعه؛ فأطاعته كالحديد لداود. قال مقاتل: أي كتبنا له في الألواح كنقس الخاتم. ربيع بن أنس: نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير. وأضاف الكتابة إلى نفسه على جهة التشريف؛ إذ هي مكتوبة بأمره كتبها جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر. واستمد من نهر النور. وقيل: هي كتابة أظهرها الله وخلقها في الألواح. وأصل اللوح: لوح (بفتح اللام)؛ قال الله تعالى: "بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ" [البروج: 21، 22]. فكأن اللوح تلوح فيه المعاني. ويروى أنها لوحان، وجاء بالجمع لأن الاثنين جمع. ويقال: رجل عظيم الألواح إذا كان كبير عظم اليدين والرجلين. ابن عباس: وتكسرت الألواح حين ألقاها فرفعت إلا سدسها. وقيل: بقي سبعها ورفعت ستة أسباعها. فكان في الذي رفع تفصيل كل شيء، وفي الذي بقي الهدى والرحمة. وأسند أبو نعيم الحافظ عن عمرو بن دينار قال: بلغني أن موسى بن عمران نبي الله صلى الله عليه وسلم صام أربعين ليلة؛ فلما ألقى الألواح تكسرت فصام مثلها فردت إليه. ومعنى "من كل شيء" مما يحتاج إليه في دينه من الأحكام وتبيين الحلال والحرام؛ عن الثوري وغيره. وقيل: هو لفظ يذكر تفخيما ولا يراد به التعميم؛ تقول: دخلت السوق فاشتريت كل شيء. وعند فلان كل شيء. و"تدمر كل شيء" [الأحقاف: 25]. "وأوتيت من كل شيء" [النمل: 23]. وقد تقدم. "موعظة وتفصيلا لكل شيء" أي لكل شيء أمروا به من الأحكام؛ فإنه لم يكن عندهم اجتهاد، وإنما خص بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم. "فخذها بقوة" في الكلام حذف، أي فقلنا له: خذها بقوة؛ أي بجد ونشاط. نظيره "خذوا ما آتيناكم بقوة" [البقرة: 63] وقد تقدم. "وأمر قومك يأخذوا بأحسنها" أي يعملوا بالأوامر ويتركوا النواهي، ويتدبروا الأمثال والمواعظ. نظيره "واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم" [الزمر: 55]. وقال: "فيتبعون أحسنه" [الزمر: 18]. والعفو أحسن من الاقتصاص. والصبر أحسن من الانتصار. وقيل: أحسنها الفرائض والنوافل، وأدونها المباح. "سأريكم دار الفاسقين" قال الكلبي: "دار الفاسقين" ما مروا عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود، والقرون التي أهلكوا. وقيل: هي جهنم؛ عن الحسن ومجاهد. أي فلتكن منكم على ذكر، فاحذروا أن تكونوا منها. وقيل: أراد بها مصر؛ أي سأريكم ديار القبط ومساكن فرعون خالية عنهم؛ عن ابن جبير. قتادة: المعنى سأريكم منازل الكفار التي سكنوها قبلكم من الجبابرة والعمالقة لتعتبروا بها؛ يعني الشأم. وهذان القولان يدل عليهما "وأورثنا القوم" [الأعراف: 137] الآية. "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض" [القصص: 5] الآية، وقد تقدم. وقرأ ابن عباس وقسامة بن زهير "سأورثكم" من ورث. وهذا ظاهر. وقيل: الدار الهلاك، وجمعه أدوار. وذلك أن الله تعالى لما أغرق فرعون أوحى إلى البحر أن اقذف بأجسادهم إلى الساحل، قال: ففعل؛ فنظر إليهم بنو إسرائيل فأراهم هلاك الفاسقين.
الآيتان: 146 - 147 {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين، والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون}
قوله تعالى: "سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق" قال قتادة: سأمنعهم فهم كتابي. وقاله سفيان بن عيينة. وقيل: سأصرفهم عن الإيمان بها. وقيل: سأصرفهم عن نفعها؛ وذلك مجازاة على تكبرهم. نظيره: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم" [الصف: 5]. والآيات على هذا المعجزات أو الكتب المنزلة. وقيل: خلق السماوات والأرض. أي أصرفهم عن الاعتبار بها. "يتكبرون" يرون أنهم أفضل الخلق. وهذا ظن باطل؛ فلهذا قال: "بغير الحق" فلا يتبعون نبيا ولا يصغون إليه لتكبرهم.
قوله تعالى: "وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا" يعني هؤلاء المتكبرون. أخبر عنهم أنهم يتركون طريق الرشاد ويتبعون سبيل الغي والضلال؛ أي الكفر يتخذونه دينا. "ثم علل فقال: "ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا" أي ذلك الفعل الذي فعلته بهم بتكذيبهم. "وكانوا عنها غافلين" أي كانوا في تركهم تدبر الحق كالغافلين. ويحتمل أن يكونوا غافلين عما يجازون به؛ كما يقال: ما أغفل فلان عما يراد به؛ وقرأ مالك بن دينار "وإن يروا" بضم الياء في الحرفين؛ أي يفعل ذلك بهم. وقرأ أهل المدينة وأهل البصرة "سبيل الرشد" بضم الراء وإسكان الشين. وأهل الكوفة إلا عاصما "الرشد" بفتح الراء والشين. قال أبو عبيد: فرق أبو عمرو بين الرشد والرشد فقال: الرشد في الصلاح. والرشد في الدين. قال النحاس: "سيبويه يذهب إلى أن الرشد والرشد مثل السخط والسخط، وكذا قال الكسائي. والصحيح عن أبي عمرو غير ما قال أبو عبيد. قال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا نصر بن علي عن أبيه عن أبي عمرو بن العلاء قال: إذا كان الرشد وسط الآية فهو مسكن، وإذا كان رأس الآية فهو محرك. قال النحاس: يعني برأس الآية نحو "وهيئ لنا من أمرنا رشدا" [الكهف: 10] فهما عنده لغتان بمعنى واحد؛ إلا أنه فتح هذا لتتفق الآيات. ويقال: رشد يرشد، ورشد يرشد. وحكى سيبويه رشد يرشد. وحقيقة الرشد والرشد في اللغة أن يظفر الإنسان بما يريد، وهو ضد الخيبة".
الآية: 148 {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين}
قوله تعالى: "واتخذ قوم موسى من بعده" أي من بعد خروجه إلى الطور. "من حليهم" هذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما "من حليهم" بكسر الحاء. وقرأ يعقوب "من حليهم" بفتح الحاء والتخفيف. قال النحاس: جمع حلي وحلي وحلي؛ مثل ثدي وثدي وثدي. والأصل "حلوى" ثم أدغمت الواو في الياء فانكسرت اللام لمجاورتها الياء، وتكسر الحاء لكسرة اللام. وضمها على الأصل. "عجلا" مفعول. "جسدا" نعت أو بدل. "له خوار" رفع بالابتداء. يقال: خار يخور خوارا إذا صاح. وكذلك جأر يجأر جؤارا. ويقال: خور يخور خورا إذا جبن وضعف. وروي في قصص العجل: أن السامري، واسمه موسى بن ظفر، ينسب إلى قرية تدعى سامرة. ولد عام قتل الأبناء، وأخفته أمه في كهف جبل فغذاه جبريل فعرفه لذلك؛ فأخذ حين عبر البحر على فرس وديق ليتقدم فرعون في البحر - قبضة من أثر حافر الفرس. وهو معنى قوله: "فقبضت قبضة من أثر الرسول" [طه: 96]. وكان موسى وعد قومه ثلاثين يوما، فلما أبطأ في العشر الزائد ومضت ثلاثون ليلة قال لبني إسرائيل وكان مطاعا فيهم: إن معكم حليا من حلي آل فرعون، وكان لهم عيد يتزينون فيه ويستعيرون من القبط الحلي فاستعاروا لذلك اليوم؛ فلما أخرجهم الله من مصر وغرق القبط بقي ذلك الحلي في أيديهم، فقال لهم السامري: إنه حرام عليكم، فهاتوا ما عندكم فنحرقه. وقيل: هذا الحلي ما أخذه بنو إسرائيل من قوم فرعون بعد الغرق، وأن هارون قال لهم: إن الحلي غنيمة، وهي لا تحل لكم؛ فجمعها في حفرة حفرها فأخذها السامري. وقيل: استعاروا الحلي ليلة أرادوا الخروج من مصر، وأوهموا القبط أن لهم عرسا أو مجتمعا، وكان السامري سمع قولهم "اجعل لنا إلها كما لهم آلهة" [الأعراف: 138]. وكانت تلك الآلهة على مثال البقر؛ فصاغ لهم عجلا جسدا، أي مصمتا؛ غير أنهم كانوا يسمعون منه خوار. وقيل: قلبه الله لحما ودما. وقيل: إنه لما ألقى تلك القبضة من التراب في النار على الحلي صار عجلا له خوار؛ فخار خورة واحدة ولم يثن ثم قال للقوم: "هذا إلهكم وإله موسى فنسي" [طه: 88]. يقول: نسيه ههنا وذهب يطلبه فضل عنه - فتعالوا نعبد هذا العجل. فقال الله لموسى وهو يناجيه: "فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري" [طه: 85]. فقال موسى: يا رب، هذا السامري أخرج لهم عجلا من حليهم، فمن جعل له جسدا؟ - يريد اللحم والدم - ومن جعل له خوارا؟ فقال الله سبحانه: أنا فقال: وعزتك وجلالك ما أضلهم غيرك. قال صدقت يا حكيم الحكماء. وهو معنى قوله: "إن هي إلا فتنتك" [الأعراف: 155]. وقال القفال: كان السامري احتال بأن جوف العجل، وكان قابل به الريح، حتى جاء من ذلك ما يحاكي الخوار، وأوهمهم أن ذلك إنما صار كذلك لما طرح في الجسد من التراب الذي كان أخذه من تراب قوائم فرس جبريل. وهذا كلام فيه تهافت؛ قاله القشيري.
قوله تعالى: "ألم يروا أنه لا يكلمهم" بين أن المعبود يجب أن يتصف بالكلام. "ولا يهديهم سبيلا" أي طريقا إلى حجة. "اتخذوه" أي إلها. "وكانوا ظالمين" أي لأنفسهم فيما فعلوا من اتخاذه. وقيل: وصاروا ظالمين أي مشركين لجعلهم العجل إلها.
الآية: 149 {ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين}
قوله تعالى: "ولما سقط في أيديهم" أي بعد عود موسى من الميقات. يقال للنادم المتحير: قد سقط في يده. قال الأخفش: يقال سقط في يده، وأسقط. ومن قال: سقط في أيديهم على بناء الفاعل؛ فالمعنى عنده: سقط الندم؛ قال الأزهري والنحاس وغيرهما. والندم يكون في القلب، ولكنه ذكر اليد لأنه يقال لمن تحصل على شيء: قد حصل في يده أمر كذا؛ لأن مباشرة الأشياء في الغالب باليد؛ قال الله تعالى: "ذلك بما قدمت يداك" [الحج: 10]. وأيضا: الندم وإن حل في القلب فأثره يظهر في البدن؛ لأن النادم يعض يده؛ ويضرب إحدى يديه على الأخرى؛ وقال الله تعالى: "فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها" [الكهف: 42] أي ندم. "ويوم يعض الظالم على يديه" [الفرقان: 27] أي من الندم. والنادم يضع ذقنه في يده. وقيل: أصله من الاستئسار، وهو أن يضرب الرجل الرجل أو يصرعه فيرمي به من يديه إلى الأرض ليأسره أو يكتفه؛ فالمرمي مسقوط به في يد الساقط. "ورأوا أنهم قد ضلوا" أي انقلبوا بمعصية الله. "قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين" أخذوا في الإقرار بالعبودية والاستغفار. وقرأ حمزة والكسائي: "لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا" بالتاء على الخطاب. وفيه معنى الاستغاثة والتضرع والابتهال في السؤال والدعاء. "ربنا" بالنصب على حذف النداء. وهو أيضا أبلغ في الدعاء والخضوع. فقراءتهما أبلغ في الاستكانة والتضرع، فهي أولى.