تفسير الطبري تفسير الصفحة 168 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 168
169
167
الآية : 144
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ يَمُوسَىَ إِنّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ الشّاكِرِينَ }..
يقول تعالـى ذكره: قال الله لـموسى: يا مُوسَى إنّـي اصْطَفَـيْتُكَ علـى النّاسِ يقول: اخترتك علـى الناس بِرَسالاتِـي إلـى خـلقـي, أرسلتك بها إلـيهم. وَبِكَلامي كلـمتك وناجيتك دون غيرك من خـلقـي. فَخُذْ ما آتَـيْتُكَ يقول: فخذ ما أعطيتك من أمري ونهي وتـمسك به, واعمل به, يريد وكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ لله علـى ما آتاك من رسالته, وحصل به من النـجوى بطاعته فـي أمره ونهيه والـمسارعة إلـى رضاه.
الآية : 145
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِن كُلّ شَيْءٍ مّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ }..
يقول تعالـى ذكره: وكتبنا لـموسى فـي ألواحه. وأدخـلت الألف واللام فـي «الألواح» بدلاً من الإضافة, كما قال الشاعر:
(والأحْلامُ غيرُ عَوَازِبُ )
وكما قال جلّ ثناؤه فإنّ الـجَنّةَ هِيَ الـمَأْوَى يعنـي: هي مأواه.
وقوله: مِنْ كُلّ شَيْءٍ يقول من التذكير والتنبـيه علـى عظمة الله وعزّ سلطانه. مَوْعِظَةً لقومه ومن أمر بـالعمل بـما كتب فـي الألواح. وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ يقول: وتبـيـينا لكلّ شيء من أمر الله ونهيه.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
11802ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد أو سعيد بن جبـير وهو فـي أصل كتابـي, عن سعيد بن جبـير فـي قول الله: وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ قال: ما أمروا به ونهوا عنه.
11803ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, بنـحوه.
حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وكَتَبْنا لَهُ فِـي الألْوَاحِ مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ من الـحلال والـحرام.
حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو سعد, قال: سمعت مـجاهدا يقول فـي قوله: وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ قال: ما أمروا به ونُهوا عنه.
11804ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: وكَتَبْنا لَهُ فِـي الألْوَاحِ مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ قال عطية: أخبرنـي ابن عبـاس أن موسى صلى الله عليه وسلم لـما كربه الـموت قال: هذا من أجل آدم, قد كان الله جعلنا فـي دار مثوى لا نـموت, فخطأ آدم أنزلنا ههنا فقال الله لـموسى: أبعث إلـيك آدم فتـخاصمه؟ قال: نعم. فلـما بعث الله آدم, سأله موسى, فقال أبونا آدم علـيهما السلام: يا موسى سألت الله أن يبعثنـي لك قال موسى: لولا أنت لـم نكن ههنا. قال له آدم: ألـيس قد أتاك الله من كلّ شيء موعظة وتفصيلاً؟ أفلست تعلـم أنه ما أصَابَ فـي الأرْضِ من مُصِيَبةٍ ولا فـي أنْفُسِكُمْ إلا فـي كِتَابٍ مِنْ قَبْل أنْ نَبْرَأَهَا؟ قال موسى: بلـى. فخصمه آدم صلـى الله علـيهما.
11805ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن عبد الصمد بن معقل, أنه سمع وهبـا يقول فـي قوله: وكَتَبْنا لَهُ فِـي الألْوَاحِ مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ قال: كتب له لا تشرك بـي شيئا من أهل السماء ولا من أهل الأرض فإن كلّ ذلك خـلقـي, ولا تـحلف بـاسمي كاذبـا, فإن من حلف بـاسمي كاذبـا فلا أزكيه, ووقّر والديك.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَخُذْهَا بِقُوّةٍ.
يقول تعالـى ذكره: وقلنا لـموسى إذ كتبنا له فـي الألواح من كلّ شيء موعظة وتفصيلاً لكلّ شيء: خذ الألواح بقوّة. وأخرج الـخبر عن الألواح والـمراد ما فـيها.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى القوّة فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: معناها بجدّ. ذكر من قال ذلك:
11806ـ حدثنـي عبد الكريـم, قال: حدثنا إبراهيـم بن بشار, قال: حدثنا ابن عيـينة, قال: قال أبو سعد, عن عكرمة عن ابن عبـاس: فَخُذْهَا بِقُوّةٍ قال: بجدّ.
11807ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: فَخُذْهَا بِقُوّةٍ قال: بجدّ واجتهاد.
وقال آخرون: معنى ذلك: فخذها بـالطاعة لله. ذكر من قال ذلك:
11808ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد, قال: أخبرنا أبو جعفر, عن الربـيع بن أنس, فـي قوله: فَخُذْهَا بِقُوّةٍ قال: بـالطاعة.
وقد بـيّنا معنى ذلك بشواهده واختلاف أهل التأويـل فـيه فـي سورة البقرة عند قوله: خُذُوا ما آتَـيْناكُمْ بِقُوّةٍ فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بأحْسَنِها.
يقول تعالـى ذكره: قلنا لـموسى: وأمر قومك بنـي إسرائيـل يأخذوا بأحسنها. يقول: يعملوا بأحسن ما يجدون فـيها كما:
11809ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بأحْسَنِها بأحسن ما يجدون فـيها.
11810ـ حدثنـي عبد الكريـم, قال: حدثنا إبراهيـم, قال: حدثنا سفـيان, قال: حدثنا أبو سعد, عن عكرمة, عن ابن عبـاس: وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بأحْسَنِها قال: أمر موسى أن يأخذها بأشدّ مـما أمر به قومه.
فإن قال قائل: وما معنى قوله: وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بأحْسَنِها أكان من خصالهم ترك بعض ما فـيها من الـحسن؟ قـيـل: لا ولكن كان فـيها أمر ونهي, فأمرهم الله أن يعملوا بـما أمرهم بعمله ويتركوا ما نهاهم عنه, فـالعمل بـالـمأمور به أحسن من العمل بـالـمَنْهيّ عنه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: سأُرِيكُمْ دَارَ الفـاسِقِـينَ.
يقول تعالـى ذكره لـموسى إذ كتب فـي الألواح من كلّ شيء: خذها بجدّ فـي العمل بـما فـيها واجتهاد, وأمر قومك يأخذوا بأحسن ما فـيها, وانههم عن تضيـيعها وتضيـيع العمل بـما فـيها والشرك بـي, فإن من أشرك بـي منهم ومن غيرهم, فإنـي سأريه فـي الاَخرة عند مصيره إلـيّ دار الفـاسقـين, وهي نار الله التـي أعدّها لأعدائه. وإنـما قال: سأُرِيكُمْ دَارَ الفـاسِقِـينَ كما يقول القائل لـمن يخاطبه: سأريك غدا إلام يصير إلـيه حال من خالف أمري علـى وجه التهديد والوعيد لـمن عصاه وخالف أمره.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك, فقال بعضهم بنـحو ما قلنا فـي ذلك. ذكر من قال ذلك:
11811ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: ثنـي عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: سأُرِيكُمْ دَارَ الفـاسِقِـينَ قال: مصيرهم فـي الاَخرة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله.
11812ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا مسلـم, قال: حدثنا مبـارك, عن الـحسن, فـي قوله: سأُرِيكُمْ دَارَ الفـاسِقِـينَ قال: جهنـم.
وقال آخرون: معنى ذلك: سأدخـلكم أرض الشأم, فأريكم منازل الكافرين الذين هم سكانها من الـجبـابرة والعمالقة. ذكر من قال ذلك:
11813ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: سأُرِيكُمْ دَارَ الفـاسِقِـينَ: منازلهم.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: دَارَ الفـاسِقِـينَ قال: منازلهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: سأريكم دار قوم فرعون, وهي مصر. ذكر من قال ذلك:............
وإنـما اخترنا القول الذي اخترناه فـي تأويـل ذلك, لأن الذي قبل قوله جلّ ثناؤه: سأُرِيكُمْ دَارَ الفـاسِقِـينَ أمر من الله لـموسى وقومه بـالعمل بـما فـي التوراة, فأولـى الأمور بحكمة الله تعالـى أن يختـم ذلك بـالوعيد علـى من ضيعه وفرّط فـي العمل لله وحاد عن سبـيـله, دون الـخبر عما قد انقطع الـخبر عنه أو عما لـم يجر له ذكر.
الآية : 146
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الّذِينَ يَتَكَبّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَإِن يَرَوْاْ كُلّ آيَةٍ لاّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرّشْدِ لاَ يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيّ يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ }..
اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك, فقال بعضهم: معناه: سأنزع عنهم فهم الكتاب. ذكر من قال ذلك:
11814ـ حدثنا أحمد بن منصور الـمروزي, قال: ثنـي مـحمد بن عبد الله بن بكر, قال: سمعت ابن عيـينة يقول فـي قول الله: سأصْرِفُ عَنْ آياتِـيَ الّذِينَ يَتَكَبّرُونَ فِـي الأرْضِ بغيرِ الـحَقّ قال: يقول: أنزع عنهم فهم القرآن, وأصرفهم عن أياتـي.
وتأويـل ابن عيـينة هذا يدلّ علـى أن هذا الكلام كان عنده من الله وعيدا لأهل الكفر بـالله مـمن بعث إلـيه نبـينا صلى الله عليه وسلم دون قوم موسى, لأن القرآن إنـما أنزل علـى نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم دون موسى علـيه السلام.
وقال آخرون فـي ذلك: معناه: سأصرفهم عن الاعتبـار بـالـحجج. ذكر من قال ذلك:
11815ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: سأصْرِفُ عَنْ أياتِـيَ عن خـلق السموات والأرض والاَيات فـيها, سأصرفهم عن أن يتفكروا فـيها ويعتبروا.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه سيصرف عن آياته, وهي أدلته وأعلامه علـى حقـية ما أمر به عبـاده وفرض علـيهم من طاعته فـي توحيده وعدله وغير ذلك من فرائضه, والسموات والأرض, وكلّ موجود من خـلقه فمن آياته, والقرآن أيضا من آياته. وقد عمّ بـالـخبر أنه يصرف عن آياته الـمتكبرين فـي الأرض بغير الـحقّ, وهم الذين حقّت علـيهم كلـمة الله أنهم لا يؤْمنون, فهم عن فهم جميع آياته والاعتبـار والأدّكار بها مصروفون لأنهم لو وفقوا لفهم بعض ذلك فهدوا للاعتبـار به اتعظوا وأنابوا إلـى الـحقّ, وذلك غير كائن منهم, لأنه جلّ ثناؤه قال: وَإنْ يَرَوْا كُلّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها فلا تبديـل لكلـمات الله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإنْ يَرَوْا كُلّ آيَةٍ لا يُؤمِنُوا بِها وَإنْ يَرَوْا سَبِـيـلَ الرّشْدِ لا يَتّـخِذُوهُ سَبِـيلاً وَإنْ يَرَوْا سَبِـيـلَ الغَيّ يَتّـخِذُوهُ سَبِـيلاً ذلكَ بأنّهُمْ كَذّبُوا بآياتِنا وكانُوا عَنْها غَافِلِـينَ.
يقول تعالـى ذكره: وإن ير هؤلاء يتكبرون فـي الأرض بغير الـحقّ. وتكبرهم فـيها بغير الـحقّ: تـجبرهم فـيها, واستكبـارهم عن الإيـمان بـالله ورسوله والإذعان لأمره ونهيه, وهم لله عبـيد يغذوهم بنعمته ويريح علـيهم رزقه بكرة وعشيا. كلّ آيَةٍ يقول: كلّ حجة لله علـى وحدانـيته وربوبـيته, وكلّ دلالة علـى أنه لا تنبغي العبـادة إلا له خالصة دون غيره. لا يُؤْمِنُوا بِها يقول: لا يصدّقوا بتلك الاَية أنها دالة علـى ما هي فـيه حجة, ولكنهم يقولون: هي سحر وكذب. وَإنْ يَرَوْا سَبِـيـلَ الرّشْدِ لا يَتّـخِذُوهُ سَبِـيلاً يقول: وإن ير هؤلاء الذين وصف صفتهم طريق الهدى والسداد الذي إن سلكوه نـجوا من الهلكة والعطب وصاروا إلـى نعيـم الأبد لا يسلكوه ولا يتـخذوه لأنفسهم طريقا, جهلاً منهم وحيرة. وإنْ يَرَوْا سَبِـيـلَ الغَيّ يقول: وإن يروا طريق الهلاك الذي إن سلكوه ضلوا وهلكوا. وقد بـيّنا معنى الغيّ فـيـما مضى قبل بِـما أغنى عن إعادته. يَتّـخِذُوهُ سَبِـيلاً يقول: يسلكوه ويجعلوه لأنفسهم طريقا لصرف الله إياهم عن آياته وطبعه علـى قلوبهم, فهم لا يفلـحون ولا ينـجحون. ذلكَ بأنّهُمْ كَذّبُوا بآياتِنا وكانُوا عَنْها غَافِلِـينَ يقول تعالـى ذكره: صرفناهم عن آياتنا أن يعقلوها ويفهموها, فـيعتبروا بها ويذكروا فـينـيبوا عقوبة منا لهم علـى تكذيبهم بآياتنا, وكَانُوا عَنْها غَافِلِـينَ يقول: وكانوا عن آياتنا وأدلتنا الشاهدة علـى حقـية ما أمرناهم به ونهيناهم عنه, غافلـين لا يتفكّرون فـيها, لاهين عنها لا يعتبرون بها, فحقّ علـيهم حينئذ قول ربنا, فعطبوا.
واختلف القرّاء فـي قراءة قوله: الرّشْد فقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة وبعض الـمكيـين وبعض البصريـين: الرّشْد بضم الراء وتسكين الشين. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة وبعض الـمكيـين: «الرّشَد» بفتـح الراء والشين.
ثم اختلف أهل الـمعرفة بكلام العرب فـي معنى ذلك إذا ضمت راؤه وسكنت شينه, وفـيه إذا فتـحتا جميعا. فذُكر عن أبـي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: معناه إذا ضمت راؤه وسكنت شينه: الصلاح, كما قال الله: فإنْ آنَسْتُـمْ مِنْهُمْ رُشْدا بـمعنى: صلاحا وكذلك كان يقرؤه هو ومعناه إذا فتـحت راؤه وشينه: الرّشَد فـي الدين, كما قال جلّ ثناؤه: تُعَلّـمَنِـي مِـمّا عَلّـمْتَ رَشَدا بـمعنى الاستقامة والصواب فـي الدين. وكان الكسائي يقول: هما لغتان بـمعنى واحد, مثل: السّقم والسّقَم, والـحُزْن والـحَزَن, وكذلك الرّشْد والرّشَد.
والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مستفـيضة القراءة بهما فـي قراءة الأمصار متفقتا الـمعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب بها.
الآية : 147
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الاَُخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }..
يقول تعالـى ذكره: هؤلاء الـمستكبرون فـي الأرض بغير الـحقّ, وكلّ مكذّب حجج الله ورسله وآياته, وجاحد أنه يوم القـيامة مبعوث بعد مـماته, ومنكر لقاء الله فـي آخرته, ذهبت أعمالهم فبطلت, وحصلت لهم أوزارها فثبتت, لأنهم عملوا لغير الله وأتعبوا أنفسهم فـي غير ما يرضى الله, فصارت أعمالهم علـيهم وبـالاً, يقول الله جلّ ثناؤه: هَلْ يُجْزَوْنَ إلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يقول: هل ينالون إلا ثواب ما كانوا يعملون, فصار ثواب أعمالهم الـخـلود فـي نار أحاط بهم سرادقها, إذ كانت أعمالهم فـي طاعة الشيطان دون طاعة الرحمن نعوذ بـالله من غضبه. وقد بـيّنا معنى الـحبوط والـجزاء والاَخرة فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته.
الآية : 148
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاتّخَذَ قَوْمُ مُوسَىَ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ }..
يقول تعالـى ذكره: واتـخذ بنو إسرائيـل قوم موسى من بعد ما فـارقهم موسى ماضيا إلـى ربه لـمناجاته ووفـاء للوعد الذي كان ربه وعده من حلـيهم عجلاً, وهو ولد البقرة, فعبدوه. ثم بـين تعالـى ذكره ما ذلك العجل فقال: جَسَدا لَهُ خُوَارٌ والـخوار: صوت البقر. يخبر جلّ ذكره عنهم أنهم ضلوا بـما لا يضلّ بـمثله أهل العقل, وذلك أن الربّ جلّ جلاله الذي له ملك السموات والأرض ومدبّر ذلك, لا يجوز أن يكون جسدا له خوار, لا يكلـم أحدا ولا يرشد إلـى خير. وقال هؤلاء الذين قصّ الله قصصهم لذلك هذا إلهنا وإله موسى, فعكفوا علـيه يعبدونه جهلاً منهم وذهابـا عن الله وضلالاً. وقد بـيّنا سبب عبـادتهم إياه وكيف كان اتـخاذ من اتـخذ منهم العجل فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته.
وفـي الـحُلـيّ لغتان: ضمّ الـحاء وهو الأصل, وكسرها, وكذلك ذلك فـي كلّ ما شاكله من مثل صلـيّ وجثـيّ وعتـيّ. وبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب, لاستفـاضة القراءة بهما فـي القرأة, لا تفـارق بـين معنـيـيهما.
وقوله: ألَـمْ يَرَوْا أنّهُ لا يُكَلّـمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِـيلاً يقول: ألـم ير الذين عكفوا علـى العجل الذي اتـخذوه من حلـيهم يعبدونه أن العجل لا يُكَلّـمُهُمْ ولا يَهْدِيهِمْ سَبِـيلاً يقول: ولا يرشدهم إلـى طريق. ولـيس ذلك من صفة ربهم الذي له العبـادة حقا, بل صفته أنه يكلـم أنبـياءه ورسله, ويرشد خـلقه إلـى سبـيـل الـخير وينهاهم عن سبـيـل الـمهالك والردى. يقول الله جلّ ثناؤه: اتّـخَذُوهُ: أي اتـخذوا العجل إلها. وكانُوا بـاتـخاذهم إياه ربـا معبودا ظالِـمِينَ لأنفسهم, لعبـادتهم غير من له العبـادة, وإضافتهم الألوهة إلـى غير الذي له الألوهة. وقد بـيّنا معنى الظلـم فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته.
الآية : 149
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَمّا سُقِطَ فَيَ أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنّهُمْ قَدْ ضَلّواْ قَالُواْ لَئِن لّمْ يَرْحَمْنَا رَبّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }..
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: ولَـمّا سُقِطَ فِـي أيْدِيهمْ: ولـما ندم الذين عبدوا العجل الذي وصف جلّ ثناؤه صفته عند رجوع موسى إلـيهم, واستسلـموا لـموسى وحكمه فـيهم. وكذلك تقول العرب لكلّ نادم علـى أمر فـات منه أو سلف وعاجز عن شيء: «قد سقط فـي يديه» و«أسقط» لغتان فصيحتان, وأصله من الاستئسار, وذلك أن يضرب الرجل الرجل أو يصرعه, فـيرمي به من يديه إلـى الأرض لـيأسره فـيكتفه, فـالـمرميّ به مسقوط فـي يدي الساقط به, فقـيـل لكلّ عاجز عن شيء ومصارع لعجزه متندم علـى ما فـاته: سقط فـي يديه وأسقط. وعنى بقوله: وَرَأَوْا أنّهُمْ قَدْ ضَلّوا ورأوا أنهم قد جاروا عن قصد السبـيـل وذهبوا عن دين الله, وكفروا بربهم, قالوا تائبـين إلـى الله منـيبـين إلـيه من كفرهم به: لَئِنْ لَـمْ يَرْحَمْنا رَبّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَنكُونَنّ مِنَ الـخاسِرِينَ.
ثم اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأه بعض قرّاء أهل الـمدينة ومكة والكوفة والبصرة: لَئِنْ لَـمْ يَرْحَمْنا رَبّنا بـالرفع علـى وجه الـخبر. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة: «لَئِنْ لَـمْ تَرْحَمْنا رَبّنا» بـالنصب بتأويـل لئن لـم ترحمنا يا ربنا, علـى وجه الـخطاب منهم لربهم. واعتلّ قارئو ذلك كذلك بأنه فـي إحدى القراءتـين: «قالوا لَئِنْ لَـمْ تَرْحَمْنا رَبّنا وَتَغْفِرْ لَنا», وذلك دلـيـل علـى الـخطاب.
والذي هو أولـى بـالصواب من القراءة فـي ذلك القراءة علـى وجه الـخبر بـالـياء فـي «يرحمنا» وبـالرفع فـي قوله «ربّنا», لأنه لـم يتقدّم ذلك ما يوجب أن يكون موجها إلـى الـخطاب. والقراءة التـي حكيت علـى ما ذكرنا من قراءتها: «قالوا لَئِنْ لَـمْ تَرْحَمْنا رَبّنا» لا نعرف صحتها من الوجه الذي يجب التسلـيـم إلـيه. ومعنى قوله: لَئِنْ لَـمْ يَرْحَمْنا رَبّنا وَيَغْفِرْ لَنا: لئن لـم يتعطف علـينا ربنا بـالتوبة برحمته, ويتغمد بها ذنوبنا, لنكوننّ من الهالكين الذين حبطت أعمالهم.