سورة الأعراف | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 175 من المصحف
الآية: 188 {قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون}
قوله تعالى: "قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا" أي لا أملك أن أجلب إلى نفسي خيرا ولا أدفع عنها شرا؛ فكيف أملك علم الساعة. وقيل: لا أملك لنفسي الهدى والضلال. "إلا ما شاء الله" في موضع نصب بالاستثناء. والمعنى: إلا ما شاء الله أن يملكني يمكنني منه. وأنشد سيبويه:
مهما شاء بالناس يفعل
قوله تعالى: "ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير" المعنى لو كنت أعلم ما يريد الله عز وجل مني من قبل أن يعرفنيه لفعلته. وقيل: لو كنت أعلم متى يكون لي النصر في الحرب لقاتلت فلم أغلب. وقال ابن عباس: لو كنت أعلم سنة الجدب لهيأت لها في زمن الخصب ما يكفيني. وقيل: المعنى لو كنت أعلم التجارة التي تنفق لاشتريتها وقت كسادها. وقيل: المعنى لو كنت أعلم متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح؛ عن الحسن وابن جريج. وقيل: المعنى لو كنت أعلم الغيب لأجبت عن كل ما أسأل عنه. وكله مراد، والله أعلم. "وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون" هذا استئناف كلام، أي ليس بي جنون، لأنهم نسبوه إلى الجنون. وقيل: هو متصل، والمعنى لو علمت الغيب لما مسني سوء ولحذرت، ودل على هذا قوله تعالى: "إن أنا إلا نذير مبين" [الشعراء: 115].
الآيتان: 189 - 190 {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين، فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون}
قوله تعالى: "هو الذي خلقكم من نفس واحدة" قال جمهور المفسرين: المراد بالنفس الواحدة آدم. "وجعل منها زوجها" يعني حواء. "ليسكن إليها" ليأنس بها ويطمئن، وكان هذا كله في الجنة. ثم ابتدأ بحالة أخرى هي في الدنيا بعد هبوطهما فقال: "فلما تغشاها" كناية عن الوقاع. "حملت حملا خفيفا" كل ما كان في بطن أو على رأس شجرة فهو حمل بالفتح. وإذا كان على ظهر أو على رأس فهو حمل بالكسر. وقد حكى يعقوب في حمل النخلة الكسر. وقال أبو سعيد السيرافي: يقال في حمل المرأة حَمل وحِمل، يشبه مرة لاستبطانه بحمل المرأة، ومرة لبروزه وظهوره بحمل الدابة. والحمل أيضا مصدر حمل عليه يحمل حملا إذا صال. "فمرت به" يعني المني؛ أي استمرت بذلك الحمل الخفيف. يقول: تقوم وتقعد وتقلب، ولا تكترث بحمله إلى أن ثقل؛ عن الحسن ومجاهد وغيرهما. وقيل: المعنى فاستمر بها الحمل، فهو من المقلوب؛ كما تقول: أدخلت القلنسوة في رأسي. وقرأ عبدالله بن عمر "فمارت به" بألف والتخفيف؛ من مار يمور إذا ذهب وجاء وتصرف. وقرأ ابن عباس ويحيى بن يعمر "فمرت به" خفيفة من المرية، أي شكت فيما أصابها؛ هل هو حمل أو مرض، أو نحو ذلك.
قوله تعالى: "فلما أثقلت" صارت ذات ثقل؛ كما تقول: أثمر النخل. وقيل: دخلت في الثقل؛ كما تقول: أصبح وأمسى. "دعوا الله ربهما" الضمير في "دعوا" عائد على آدم وحواء. وعلى هذا القول ما روي في قصص هذه الآية أن حواء لما حملت أول حمل لم تدر ما هو. وهذا يقوي قراءة من قرأ "فمرت به" بالتخفيف. فجزعت بذلك؛ فوجد إبليس السبيل إليها. قال الكلبي: إن إبليس أتى حواء في صورة رجل لما أثقلت في أول ما حملت فقال: ما هذا الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري ! قال: إني أخاف أن يكون بهيمة. فقالت ذلك لآدم عليه السلام. فلم يزالا في هم من ذلك. ثم عاد إليها فقال: هو من الله بمنزلة، فإن دعوت الله فولدت إنسانا أفتسمينه بي؟ قالت نعم. قال: فإني أدعو الله. فأتاها وقد ولدت فقال: سميه باسمي. فقالت: وما اسمك ؟ قال: الحارث - ولو سمى لها نفسه لعرفته - فسمته عبدالحارث. ونحو هذا مذكور من ضعيف الحديث، في الترمذي وغيره. وفي الإسرائيليات كثير ليس لها ثبات؛ فلا يعول عليها من لم قلب، فإن آدم وحواء عليهما السلام وإن غرهما بالله الغرور فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، على أنه قد سطر وكتب. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خدعهما مرتين خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض". وعضد هذا بقراءة السلمي "أتشركون" بالتاء. ومعنى "صالحا" يريد ولدا سويا.
اختلف العلماء في تأويل الشرك المضاف إلى آدم وحواء. قال المفسرون: كان شركا في التسمية والصفة، لا في العبادة والربوبية. وقال أهل المعاني: إنهما لم يذهبا إلى أن الحارث ربهما بتسميتهما ولدهما عبدالحارث، لكنهما قصدا إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد فسمياه به كما يسمي الرجل نفسه عبد ضيفه على جهة الخضوع له، لا على أن الضيف ربه؛ كما قال حاتم:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا وما في إلا تيك من شيمة العبد
وقال قوم: إن هذا راجع إلى جنس الآدميين والتبيين عن حال المشركين من ذرية آدم عليه السلام، وهو الذي يعول عليه. فقوله: "جعلا له" يعني الذكر والأنثى الكافرين، ويعني به الجنسان. ودل على هذا "فتعالى الله عما يشركون" ولم يقل يشركان. وهذا قول حسن. وقيل: المعنى "هو الذي خلقكم من نفس واحدة" من هيئة واحدة وشكل واحد "وجعل منها زوجها" أي من جنسها "فلما تغشاها" يعني الجنسين. وعلى هذا القول لا يكون لآدم وحواء ذكر في الآية؛ فإذا آتاهما الولد صالحا سليما سويا كما أراداه صرفاه عن الفطرة إلى الشرك، فهذا فعل المشركين. قال صلى الله عليه وسلم "ما من مولود إلا يولد على الفطرة - في رواية على هذه الملة - أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه". قال عكرمة: لم يخص بها آدم، ولكن جعلها عامة لجميع الخلق بعد آدم. وقال الحسين بن الفضل: وهذا أعجب إلى أهل النظر؛ لما في القول الأول من المضاف من العظائم بنبي الله آدم. وقرأ أهل المدينة وعاصم "شركا" على التوحيد. وأبو عمرو وسائر أهل الكوفة بالجمع، على مثل فعلاء، جمع شريك. وأنكر الأخفش سعيد القراءة الأولى، وهي صحيحة على حذف المضاف، أي جعلا له ذا شرك؛ مثل "واسأل القرية" [يوسف: 82] فيرجع المعنى إلى أنهم جعلوا له شركاء.
ودلت الآية على أن الحمل مرض من الأمراض. روى ابن القاسم ويحيى عن مالك قال: أول الحمل يسر وسرور، وآخره مرض من الأمراض. وهذا الذي قاله مالك: "إنه مرض من الأمراض" يعطيه ظاهر قوله: "دعوا الله ربهما" وهذه الحالة مشاهدة في الحمال، ولأجل عظم الأمر وشدة الخطب جعل موتها شهادة؛ كما ورد في الحديث. وإذا ثبت هذا من ظاهر الآية فحال الحامل حال المريض في أفعاله. ولا خلاف بين علماء الأمصار أن فعل المريض فيما يهب ويحابي في ثلثه. وقال أبو حنيفة والشافعي: وإنما يكون ذلك في الحامل بحال الطلق، فأما قبل ذلك فلا. واحتجوا بأن الحمل عادة والغالب فيه السلامة. قلنا: كذلك أكثر الأمراض غالبه السلامة 0 وقد يموت من لم يمرض.
قال مالك: إذا مضت للحامل ستة أشهر من يوم حملت لم يجز لها قضاء في مالها إلا في الثلث. ومن طلق زوجته وهي حامل طلاقا بائنا فلما أتى عليها ستة أشهر فأراد ارتجاعها لم يكن له ذلك؛ لأنها مريضة ونكاح المريضة لا يصح.
قال يحيى: وسمعت مالكا يقول في الرجل يحضر القتال: إنه إذا زحف في الصف للقتال لم يجز له أن يقضي في ماله شيئا إلا في الثلث، وإنه بمنزلة الحامل والمريض المخوف عليه ما كان بتلك الحال. ويلتحق بهذا المحبوس للقتل في قصاص. وخالف في هذا أبو حنيفة والشافعي وغيرهما. قال ابن العربي: وإذا استوعبت النظر لم ترتب في أن المحبوس على القتل أشد حالا من المريض، وإنكار ذلك غفلة في النظر؛ فإن سبب الموت موجود عندهما، كما أن المرض سبب الموت، قال الله تعالى: "ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون" [آل عمران: 143]. وقال رويشد الطائي:
يا أيها الراكب المزجي مطيته سائل بني أسد ما هذه الصوت
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا قولا يبرئكم إني أنا الموت
ومما يدل على هذا قوله تعالى: "إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر" [الأحزاب: 10]. فكيف يقول الشافعي وأبو حنيفة: الحال الشديدة إنما هي المبارزة؛ وقد أخبر الله عز وجل عن مقاومة العدو وتداني الفريقين بهذه الحالة العظمى من بلوغ القلوب الحناجر، ومن سوء الظنون بالله، ومن زلزلة القلوب واضطرابها؛ هل هذه حالة ترى على المريض أم لا؟ هذا ما لا يشك فيه منصف، وهذا لمن ثبت في اعتقاده، وجاهد في الله حق جهاده، وشاهد الرسول وآياته؛ فكيف بنا؟
وقد اختلف علماؤنا في راكب البحر وقت الهول؛ هل حكمه حكم الصحيح أو الحامل. فقال ابن القاسم: حكمه حكم الصحيح. وقال ابن وهب وأشهب: حكمه حكم الحامل إذا بلغت ستة أشهر. قال القاضي أبو محمد: وقولهما أقيس؛ لأنها حالة خوف على النفس كإثقال الحمل. قال ابن العربي: وابن القاسم لم يركب البحر، ولا رأى دودا على عود. ومن أراد أن يوقن بالله أنه الفاعل وحده لا فاعل معه، وأن الأسباب ضعيفة لا تعلق لموقن بها، ويتحقق التوكل والتفويض فليركب البحر.
الآيتان: 191 - 192 {أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون، ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون}
قوله تعالى: "أيشركون ما لا يخلق شيئا" أي أيعبدون ما لا يقدر على خلق شيء. "وهم يخلقون" أي الأصنام مخلوقة. وقال: "يخلقون" بالواو والنون لأنهم اعتقدوا أن الأصنام تضر وتنفع، فأجريت مجرى الناس؛ كقوله: "في فلك يسبحون" [الأنبياء: 33] "يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم" [النمل: 18]. "ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون" أي إن الأصنام، لا تنصر ولا تنتصر.
الآية: 193 {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون}
قوله تعالى: "وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم" قال الأخفش: أي وإن تدعو الأصنام إلى الهدى لا يتبعوكم. "سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون" قال أحمد بن يحيى: لأنه رأس آية. يريد أنه قال: "أم أنتم صامتون" ولم يقل أم صمتم. وصامتون وصمتم عند سيبويه واحد. وقيل: المراد من سبق في علم الله أنه لا يؤمن. وقرئ "لا يتبعوكم" مشددا ومخففا" لغتان بمعنى. وقال بعض أهل اللغة: "أتبعه" - مخففا - إذا مضى خلفه ولم يدركه. و"اتبعه" - مشددا - إذا مضى خلفه فأدركه.
الآية: 194 {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين
الآية: 195 {ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون}
قوله تعالى: "إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم" حاجهم في عبادة الأصنام. "تدعون" تعبدون. وقيل: تدعونها آلهة. "من دون الله" أي من غير الله. وسميت الأوثان عبادا لأنها مملوكة لله مسخرة. الحسن: المعنى أن الأصنام مخلوقة أمثالكم. ولما اعتقد المشركون أن الأصنام تضر وتنفع أجراها مجرى الناس فقال: "فادعوهم" ولم يقل فادعوهن. وقال: "عباد"، وقال: "إن الذين" ولم يقل إن التي. ومعنى "فادعوهم" أي فاطلبوا منهم النفع والضر. "فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين" أن عبادة الأصنام تنفع. قال ابن عباس: معنى فادعوهم فاعبدوهم. ثم وبخهم الله تعالى وسفه عقولهم فقال: "ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها" أي أنتم أفضل منهم فكيف تعبدونهم. والغرض بيان جهلهم؛ لأن المعبود يتصف بالجوارح. وقرأ سعيد بن جبير: "إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم" بتخفيف "إن" وكسرها لالتقاء الساكنين، ونصب "عبادا" بالتنوين، "أمثالكم" بالنصب. والمعنى: ما الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم، أي هي حجارة وخشب؛ فأنتم تعبدون ما أنتم أشرف منه. قال النحاس: وهذه قراءة لا ينبغي أن يقرأ بها من ثلاث جهات: أحدها: أنها مخالفة للسواد. والثانية: أن سيبويه يختار الرفع في خبر إن إذا كانت بمعنى ما، فيقول: إن زيد منطلق؛ لأن عمل "ما" ضعيف، و"إن" بمعناها فهي أضعف منها. والثالثة: إن الكسائي زعم أن "إن" لا تكاد تأتي في كلام العرب بمعنى "ما"، إلا أن يكون بعدها إيجاب؛ كما قال عز وجل: "إن الكافرون إلا في غرور" [الملك: 20]. "فليستجيبوا لكم" الأصل أن تكون اللام مكسورة، فحذفت الكسرة لثقلها. ثم قيل: في الكلام حذف، المعنى: فادعوهم إلى أن يتبعوكم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين أنهم آلهة. وقرأ أبو جعفر وشيبة "أم لهم أيد يبطشون بها" بضم الطاء، وهي لغة. واليد والرجل والأذن مؤنثات يصغرن بالهاء. وتزاد في اليد ياء في التصغير، ترد إلى أصلها فيقال: يدية بالتشديد لاجتماع الياءين.
قوله تعالى: "قل ادعوا شركاءكم" أي الأصنام. "ثم كيدون" أنتم وهي. "فلا تنظرون" أي فلا تؤخرون. والأصل "كيدوني" حذفت الياء لأن الكسرة تدل عليها. وكذا "فلا تنظرون". والكيد المكر. والكيد الحرب؛ يقال: غزا فلم يلق كيدا.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 175
175- تفسير الصفحة رقم175 من المصحفالآية: 188 {قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون}
قوله تعالى: "قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا" أي لا أملك أن أجلب إلى نفسي خيرا ولا أدفع عنها شرا؛ فكيف أملك علم الساعة. وقيل: لا أملك لنفسي الهدى والضلال. "إلا ما شاء الله" في موضع نصب بالاستثناء. والمعنى: إلا ما شاء الله أن يملكني يمكنني منه. وأنشد سيبويه:
مهما شاء بالناس يفعل
قوله تعالى: "ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير" المعنى لو كنت أعلم ما يريد الله عز وجل مني من قبل أن يعرفنيه لفعلته. وقيل: لو كنت أعلم متى يكون لي النصر في الحرب لقاتلت فلم أغلب. وقال ابن عباس: لو كنت أعلم سنة الجدب لهيأت لها في زمن الخصب ما يكفيني. وقيل: المعنى لو كنت أعلم التجارة التي تنفق لاشتريتها وقت كسادها. وقيل: المعنى لو كنت أعلم متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح؛ عن الحسن وابن جريج. وقيل: المعنى لو كنت أعلم الغيب لأجبت عن كل ما أسأل عنه. وكله مراد، والله أعلم. "وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون" هذا استئناف كلام، أي ليس بي جنون، لأنهم نسبوه إلى الجنون. وقيل: هو متصل، والمعنى لو علمت الغيب لما مسني سوء ولحذرت، ودل على هذا قوله تعالى: "إن أنا إلا نذير مبين" [الشعراء: 115].
الآيتان: 189 - 190 {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين، فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون}
قوله تعالى: "هو الذي خلقكم من نفس واحدة" قال جمهور المفسرين: المراد بالنفس الواحدة آدم. "وجعل منها زوجها" يعني حواء. "ليسكن إليها" ليأنس بها ويطمئن، وكان هذا كله في الجنة. ثم ابتدأ بحالة أخرى هي في الدنيا بعد هبوطهما فقال: "فلما تغشاها" كناية عن الوقاع. "حملت حملا خفيفا" كل ما كان في بطن أو على رأس شجرة فهو حمل بالفتح. وإذا كان على ظهر أو على رأس فهو حمل بالكسر. وقد حكى يعقوب في حمل النخلة الكسر. وقال أبو سعيد السيرافي: يقال في حمل المرأة حَمل وحِمل، يشبه مرة لاستبطانه بحمل المرأة، ومرة لبروزه وظهوره بحمل الدابة. والحمل أيضا مصدر حمل عليه يحمل حملا إذا صال. "فمرت به" يعني المني؛ أي استمرت بذلك الحمل الخفيف. يقول: تقوم وتقعد وتقلب، ولا تكترث بحمله إلى أن ثقل؛ عن الحسن ومجاهد وغيرهما. وقيل: المعنى فاستمر بها الحمل، فهو من المقلوب؛ كما تقول: أدخلت القلنسوة في رأسي. وقرأ عبدالله بن عمر "فمارت به" بألف والتخفيف؛ من مار يمور إذا ذهب وجاء وتصرف. وقرأ ابن عباس ويحيى بن يعمر "فمرت به" خفيفة من المرية، أي شكت فيما أصابها؛ هل هو حمل أو مرض، أو نحو ذلك.
قوله تعالى: "فلما أثقلت" صارت ذات ثقل؛ كما تقول: أثمر النخل. وقيل: دخلت في الثقل؛ كما تقول: أصبح وأمسى. "دعوا الله ربهما" الضمير في "دعوا" عائد على آدم وحواء. وعلى هذا القول ما روي في قصص هذه الآية أن حواء لما حملت أول حمل لم تدر ما هو. وهذا يقوي قراءة من قرأ "فمرت به" بالتخفيف. فجزعت بذلك؛ فوجد إبليس السبيل إليها. قال الكلبي: إن إبليس أتى حواء في صورة رجل لما أثقلت في أول ما حملت فقال: ما هذا الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري ! قال: إني أخاف أن يكون بهيمة. فقالت ذلك لآدم عليه السلام. فلم يزالا في هم من ذلك. ثم عاد إليها فقال: هو من الله بمنزلة، فإن دعوت الله فولدت إنسانا أفتسمينه بي؟ قالت نعم. قال: فإني أدعو الله. فأتاها وقد ولدت فقال: سميه باسمي. فقالت: وما اسمك ؟ قال: الحارث - ولو سمى لها نفسه لعرفته - فسمته عبدالحارث. ونحو هذا مذكور من ضعيف الحديث، في الترمذي وغيره. وفي الإسرائيليات كثير ليس لها ثبات؛ فلا يعول عليها من لم قلب، فإن آدم وحواء عليهما السلام وإن غرهما بالله الغرور فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، على أنه قد سطر وكتب. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خدعهما مرتين خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض". وعضد هذا بقراءة السلمي "أتشركون" بالتاء. ومعنى "صالحا" يريد ولدا سويا.
اختلف العلماء في تأويل الشرك المضاف إلى آدم وحواء. قال المفسرون: كان شركا في التسمية والصفة، لا في العبادة والربوبية. وقال أهل المعاني: إنهما لم يذهبا إلى أن الحارث ربهما بتسميتهما ولدهما عبدالحارث، لكنهما قصدا إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد فسمياه به كما يسمي الرجل نفسه عبد ضيفه على جهة الخضوع له، لا على أن الضيف ربه؛ كما قال حاتم:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا وما في إلا تيك من شيمة العبد
وقال قوم: إن هذا راجع إلى جنس الآدميين والتبيين عن حال المشركين من ذرية آدم عليه السلام، وهو الذي يعول عليه. فقوله: "جعلا له" يعني الذكر والأنثى الكافرين، ويعني به الجنسان. ودل على هذا "فتعالى الله عما يشركون" ولم يقل يشركان. وهذا قول حسن. وقيل: المعنى "هو الذي خلقكم من نفس واحدة" من هيئة واحدة وشكل واحد "وجعل منها زوجها" أي من جنسها "فلما تغشاها" يعني الجنسين. وعلى هذا القول لا يكون لآدم وحواء ذكر في الآية؛ فإذا آتاهما الولد صالحا سليما سويا كما أراداه صرفاه عن الفطرة إلى الشرك، فهذا فعل المشركين. قال صلى الله عليه وسلم "ما من مولود إلا يولد على الفطرة - في رواية على هذه الملة - أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه". قال عكرمة: لم يخص بها آدم، ولكن جعلها عامة لجميع الخلق بعد آدم. وقال الحسين بن الفضل: وهذا أعجب إلى أهل النظر؛ لما في القول الأول من المضاف من العظائم بنبي الله آدم. وقرأ أهل المدينة وعاصم "شركا" على التوحيد. وأبو عمرو وسائر أهل الكوفة بالجمع، على مثل فعلاء، جمع شريك. وأنكر الأخفش سعيد القراءة الأولى، وهي صحيحة على حذف المضاف، أي جعلا له ذا شرك؛ مثل "واسأل القرية" [يوسف: 82] فيرجع المعنى إلى أنهم جعلوا له شركاء.
ودلت الآية على أن الحمل مرض من الأمراض. روى ابن القاسم ويحيى عن مالك قال: أول الحمل يسر وسرور، وآخره مرض من الأمراض. وهذا الذي قاله مالك: "إنه مرض من الأمراض" يعطيه ظاهر قوله: "دعوا الله ربهما" وهذه الحالة مشاهدة في الحمال، ولأجل عظم الأمر وشدة الخطب جعل موتها شهادة؛ كما ورد في الحديث. وإذا ثبت هذا من ظاهر الآية فحال الحامل حال المريض في أفعاله. ولا خلاف بين علماء الأمصار أن فعل المريض فيما يهب ويحابي في ثلثه. وقال أبو حنيفة والشافعي: وإنما يكون ذلك في الحامل بحال الطلق، فأما قبل ذلك فلا. واحتجوا بأن الحمل عادة والغالب فيه السلامة. قلنا: كذلك أكثر الأمراض غالبه السلامة 0 وقد يموت من لم يمرض.
قال مالك: إذا مضت للحامل ستة أشهر من يوم حملت لم يجز لها قضاء في مالها إلا في الثلث. ومن طلق زوجته وهي حامل طلاقا بائنا فلما أتى عليها ستة أشهر فأراد ارتجاعها لم يكن له ذلك؛ لأنها مريضة ونكاح المريضة لا يصح.
قال يحيى: وسمعت مالكا يقول في الرجل يحضر القتال: إنه إذا زحف في الصف للقتال لم يجز له أن يقضي في ماله شيئا إلا في الثلث، وإنه بمنزلة الحامل والمريض المخوف عليه ما كان بتلك الحال. ويلتحق بهذا المحبوس للقتل في قصاص. وخالف في هذا أبو حنيفة والشافعي وغيرهما. قال ابن العربي: وإذا استوعبت النظر لم ترتب في أن المحبوس على القتل أشد حالا من المريض، وإنكار ذلك غفلة في النظر؛ فإن سبب الموت موجود عندهما، كما أن المرض سبب الموت، قال الله تعالى: "ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون" [آل عمران: 143]. وقال رويشد الطائي:
يا أيها الراكب المزجي مطيته سائل بني أسد ما هذه الصوت
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا قولا يبرئكم إني أنا الموت
ومما يدل على هذا قوله تعالى: "إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر" [الأحزاب: 10]. فكيف يقول الشافعي وأبو حنيفة: الحال الشديدة إنما هي المبارزة؛ وقد أخبر الله عز وجل عن مقاومة العدو وتداني الفريقين بهذه الحالة العظمى من بلوغ القلوب الحناجر، ومن سوء الظنون بالله، ومن زلزلة القلوب واضطرابها؛ هل هذه حالة ترى على المريض أم لا؟ هذا ما لا يشك فيه منصف، وهذا لمن ثبت في اعتقاده، وجاهد في الله حق جهاده، وشاهد الرسول وآياته؛ فكيف بنا؟
وقد اختلف علماؤنا في راكب البحر وقت الهول؛ هل حكمه حكم الصحيح أو الحامل. فقال ابن القاسم: حكمه حكم الصحيح. وقال ابن وهب وأشهب: حكمه حكم الحامل إذا بلغت ستة أشهر. قال القاضي أبو محمد: وقولهما أقيس؛ لأنها حالة خوف على النفس كإثقال الحمل. قال ابن العربي: وابن القاسم لم يركب البحر، ولا رأى دودا على عود. ومن أراد أن يوقن بالله أنه الفاعل وحده لا فاعل معه، وأن الأسباب ضعيفة لا تعلق لموقن بها، ويتحقق التوكل والتفويض فليركب البحر.
الآيتان: 191 - 192 {أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون، ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون}
قوله تعالى: "أيشركون ما لا يخلق شيئا" أي أيعبدون ما لا يقدر على خلق شيء. "وهم يخلقون" أي الأصنام مخلوقة. وقال: "يخلقون" بالواو والنون لأنهم اعتقدوا أن الأصنام تضر وتنفع، فأجريت مجرى الناس؛ كقوله: "في فلك يسبحون" [الأنبياء: 33] "يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم" [النمل: 18]. "ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون" أي إن الأصنام، لا تنصر ولا تنتصر.
الآية: 193 {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون}
قوله تعالى: "وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم" قال الأخفش: أي وإن تدعو الأصنام إلى الهدى لا يتبعوكم. "سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون" قال أحمد بن يحيى: لأنه رأس آية. يريد أنه قال: "أم أنتم صامتون" ولم يقل أم صمتم. وصامتون وصمتم عند سيبويه واحد. وقيل: المراد من سبق في علم الله أنه لا يؤمن. وقرئ "لا يتبعوكم" مشددا ومخففا" لغتان بمعنى. وقال بعض أهل اللغة: "أتبعه" - مخففا - إذا مضى خلفه ولم يدركه. و"اتبعه" - مشددا - إذا مضى خلفه فأدركه.
الآية: 194 {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين
الآية: 195 {ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون}
قوله تعالى: "إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم" حاجهم في عبادة الأصنام. "تدعون" تعبدون. وقيل: تدعونها آلهة. "من دون الله" أي من غير الله. وسميت الأوثان عبادا لأنها مملوكة لله مسخرة. الحسن: المعنى أن الأصنام مخلوقة أمثالكم. ولما اعتقد المشركون أن الأصنام تضر وتنفع أجراها مجرى الناس فقال: "فادعوهم" ولم يقل فادعوهن. وقال: "عباد"، وقال: "إن الذين" ولم يقل إن التي. ومعنى "فادعوهم" أي فاطلبوا منهم النفع والضر. "فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين" أن عبادة الأصنام تنفع. قال ابن عباس: معنى فادعوهم فاعبدوهم. ثم وبخهم الله تعالى وسفه عقولهم فقال: "ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها" أي أنتم أفضل منهم فكيف تعبدونهم. والغرض بيان جهلهم؛ لأن المعبود يتصف بالجوارح. وقرأ سعيد بن جبير: "إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم" بتخفيف "إن" وكسرها لالتقاء الساكنين، ونصب "عبادا" بالتنوين، "أمثالكم" بالنصب. والمعنى: ما الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم، أي هي حجارة وخشب؛ فأنتم تعبدون ما أنتم أشرف منه. قال النحاس: وهذه قراءة لا ينبغي أن يقرأ بها من ثلاث جهات: أحدها: أنها مخالفة للسواد. والثانية: أن سيبويه يختار الرفع في خبر إن إذا كانت بمعنى ما، فيقول: إن زيد منطلق؛ لأن عمل "ما" ضعيف، و"إن" بمعناها فهي أضعف منها. والثالثة: إن الكسائي زعم أن "إن" لا تكاد تأتي في كلام العرب بمعنى "ما"، إلا أن يكون بعدها إيجاب؛ كما قال عز وجل: "إن الكافرون إلا في غرور" [الملك: 20]. "فليستجيبوا لكم" الأصل أن تكون اللام مكسورة، فحذفت الكسرة لثقلها. ثم قيل: في الكلام حذف، المعنى: فادعوهم إلى أن يتبعوكم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين أنهم آلهة. وقرأ أبو جعفر وشيبة "أم لهم أيد يبطشون بها" بضم الطاء، وهي لغة. واليد والرجل والأذن مؤنثات يصغرن بالهاء. وتزاد في اليد ياء في التصغير، ترد إلى أصلها فيقال: يدية بالتشديد لاجتماع الياءين.
قوله تعالى: "قل ادعوا شركاءكم" أي الأصنام. "ثم كيدون" أنتم وهي. "فلا تنظرون" أي فلا تؤخرون. والأصل "كيدوني" حذفت الياء لأن الكسرة تدل عليها. وكذا "فلا تنظرون". والكيد المكر. والكيد الحرب؛ يقال: غزا فلم يلق كيدا.
الصفحة رقم 175 من المصحف تحميل و استماع mp3