تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 219 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 219

219- تفسير الصفحة رقم219 من المصحف
الآية: 89 {قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون}
قوله تعالى: "قال قد أجيبت دعوتكما" قال أبو العالية: دعا موسى وأمن هارون؛ فسمي هارون وقد أمن على الدعاء داعيا. والتأمين على الدعاء أن يقول آمين؛ فقولك آمين دعاء، أي لا رب استجب لي. وقيل: دعا هارون مع موسى أيضا. وقال أهل المعاني: ربما خاطبت العرب الواحد بخطاب الاثنين؛ قال الشاعر:
فقلت لصاحبي لا تعجلانا بنزع أصوله فاجتز شيحا
وهذا على أن آمين ليس بدعاء، وأن هارون لم يدع. قال النحاس: سمعت علي بن سليمان يقول: الدليل على أن الدعاء لهما قول موسى عليه السلام "ربنا" ولم يقل رب. وقرأ علي والسلمي "دعواتكما" بالجميع. وقرأ ابن السميقع "أجبت دعوتكما" خبرا عن الله تعالى، ونصب دعوة بعده. وتقدم القول في "آمين" في آخر الفاتحة مستوفى. وهو مما خص به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهارون وموسى عليهما السلام. روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم السلام وهي تحية أهل الجنة وصفوف الملائكة وآمين إلا ما كان من موسى وهارون) ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وقد تقدم في الفاتحة.
قوله تعالى: "فاستقيما" قال الفراء وغيره: أمر بالاستقامة. على أمرهما والثبات عليه من دعاء فرعون وقومه إلى الإيمان، إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة. قال محمد بن علي وابن جريح: مكث فرعون وقومه به هذه الإجابة أربعين سنة ثم أهلكوا. وقيل: "استقيما" أي على الدعاء؛ والاستقامة في الدعاء ترك الاستعجال في حصول المقصود، ولا يسقط الاستعجال من القلب إلا باستقامة السكينة فيه، ولا تكون تلك السكينة إلا بالرضا الحسن لجميع ما يبدو من الغيب. "ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون" بتشديد النون في موضع جزم على النهي، والنون للتوكيد وحركت لالتقاء الساكنين واختير لها الكسر لأنها أشبهت نون الاثنين. وقرأ ابن ذكوان بتخفيف النون على النفي. وقيل: هو حال من استقيما؛ أي استقيما غير متبعين، والمعنى: لا تسلكا طريق من لا يعلم حقيقة وعدي ووعيدي.
الآية: 90 {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين}
قوله تعالى: "وجاوزنا ببني إسرائيل البحر" تقدم القول فيه في "البقرة" في قوله: "وإذ فرقنا بكم البحر". وقرأ الحسن "وجوزنا" وهما لغتان. "فأتبعهم فرعون وجنوده" يقال: تبع وأتبع بمعنى واحد، إذا لحقه وأدركه. وأتبع (بالتشديد) إذا سار خلفه. وقال الأصمعي: أتبعه (بقطع الألف) إذا لحقه وأدركه، وأتبعه (بوصل الألف) إذا أتبع أثره، أدركه أو لم يدركه. وكذلك قال أبو زيد. وقرأ قتادة "فاتبعهم" بوصل الألف. وقيل: "اتبعه" (بوصل الألف) في الأمر اقتدى به. وأتبعه (بقطع الألف) خيرا أو شرا؛ هذا قول أبي عمرو. وقد قيل هما بمعنى واحد. فخرج موسى ببني إسرائيل وهم ستمائة ألف وعشرون ألفا، وتبعه فرعون مصبحا في ألفي ألف وستمائة ألف. وقد تقدم. "بغيا" نصب على الحال. "وعدوا" معطوف عليه؛ أي في حال بغي واعتداء وظلم؛ يقال: عدا يعدو عدوا؛ مثل غزا يغزو غزوا. وقرأ الحسن "وعدوا" بضم العين والدال وتشديد الواو؛ مثل علا يعلو علوا. وقال المفسرون: "بغيا" طلبا للاستعلاء بغير حق في القول، "وعدوا" في الفعل؛ فهما نصب على المفعول له. "حتى إذا أدركه الغرق" أي ناله ووصله. "قال آمنت" أي صدقت. "أنه" أي بأنه. "لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل" فلما حذف الخافض تعدى الفعل فنصب. وقرئ بالكسر، أي صرت مؤمنا ثم استأنف. وزعم أبو حاتم أن القول محذوف، أي آمنت فقلت إنه، والإيمان لا ينفع حينئذ؛ والتوبة مقبولة قبل رؤية البأس، وأما بعدها وبعد المخالطة فلا تقبل، حسب ما تقدم في "النساء" بيانه.
ويقال: إن فرعون هاب دخول البحر وكان على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى؛ فجاء جبريل على فرس وديق أي شهي في صورة هامان وقال له: تقدم، ثم خاض البحر فتبعها حصان فرعون، وميكائيل يسوقهم لا يشذ منهم أحد، فلما صار آخرهم في البحر وهم أولهم أن يخرج انطبق عليهم البحر، وألجم فرعون الغرق فقال: آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل؛ فدس جبريل في فمه حال البحر. وروى الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما أغرق الله فرعون قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال جبريل يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. حال البحر: الطين الأسود الذي يكون في أرضه؛ قال أهل اللغة. وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر: (أن جبريل جعل يدس في في فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله أو خشية أن يرحمه). قال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال عون بن عبدالله: بلغني أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما ولد إبليس أبغض إلي من فرعون، فإنه لما أدركه الغرق قال: "آمنت" الآية، فخشيت أن يقولها فيرحم، فأخذت تربة أو طينة فحشوتها في فيه. وقيل: إنما فعل هذا به عقوبة له على عظيم ما كان يأتي. وقال كعب الأحبار: أمسك الله نيل مصر عن الجري في زمانه. فقالت له القبط: إن كنت ربنا فأجر لنا الماء؛ فركب وأمر بجنوده قائدا قائدا وجعلوا يقفون عل درجاتهم وقفز حيث لا يرونه ونزل عن دابته ولبس ثيابا له أخرى وسجد وتضرع لله تعالى فأجرى الله له الماء، فأتاه جبريل وهو وحده في هيئة مستفت وقال: ما يقول الأمير في رجل له عبد قد نشأ في نعمته لا سند له غيره، فكفر نعمه وجحد حقه وادعى السيادة دونه؛ فكتب فرعون: يقول أبو العباس الوليد بن مصعب بن الريان جزاؤه أن يغرق في البحر؛ فأخذه جبريل ومر فلما أدركه الغرق ناول جبريل عليه السلام خطه. وقد مضى هذا في "البقرة" عن عبدالله بن عمرو بن العاص وابن عباس مسندا؛ وكان هذا في يوم عاشوراء على ما تقدم بيانه في "البقرة" أيضا فلا معنى للإعادة. "وأنا من المسلمين" أي من الموحدين المستسلمين بالانقياد والطاعة.
الآية: 91 {آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين}
قيل: هو من قول الله تعالى. وميل: هو من قول جبريل. وقيل: ميكائيل، صلوات الله عليهما، أو غيرهما من الملائكة له صلوات الله عليهم. وقيل: هو من قول فرعون في نفسه، ولم يكن ثم قول اللسان بل وقع ذلك في قلبه فقال في نفسه ما قال: حيث لم تنفعه الندامة؛ ونظيره. "إنما نطعمكم لوجه الله" [الإنسان: 9] أثنى عليهم الرب بما في ضميرهم لا أنهم قالوا ذلك بلفظهم، والكلام الحقيقي كلام القلب.
الآية: 92 {فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون}
قوله تعالى: "فاليوم ننجيك ببدنك" أي نلقيك على نجوة من الأرض. وذلك أن بني إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون غرق، وقالوا: هو أعظم شأنا من ذلك، فألقاه الله على نجوة من الأرض، أي مكان مرتفع من البحر حتى شاهدوه قال أوس بن حجر يصف مطرا:
فمن بعقوته كمن بنجوته والمستكن كمن يمشي بقرواح
وقرأ اليزيدي وابن السميقع "ننحيك" بالحاء من التنحية، وحكاها علقمة عن ابن مسعود؛ أي تكون على ناحية من البحر. قال ابن جريج: فرمي به على ساحل البحر حتى رآه بنو إسرائيل، وكان قصيرا أحمر كأنه ثور. وحكى علقمة عن عبدالله أنه قرأ "بندائك" من النداء. قال أبو بكر الأنباري: وليس بمخالف لهجاء مصحفنا، إذ سبيله أن يكتب بياء وكاف بعد الدال؛ لأن الألف تسقط من ندائك في ترتيب خط المصحف كما سقط من الظلمات والسماوات، فإذا وقع بها الحذف استوى هجاء بدنك وندائك، على أن هذه القراءة مرغوب عنها لشذوذها وخلافها ما عليه عامة المسلمين؛ والقراءة سنة يأخذها آخر عن أول، وفي معناها نقص عن تأويل قراءتنا، إذ ليس فيها للدرع ذكره الذي تتابعت الآثار بأن بني إسرائيل اختلفوا في غرق فرعون، وسألوا الله تعالى، أن يريهم إياه غريقا فألقوه على نجوة من الأرض ببدنه وهو درعه التي يلبسها في الحروب. قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي: وكانت درعه من لؤلؤ منظوم. وقيل: من الذهب وكان يعرف بها. وقيل: من حديد؛ قاله أبو صخر: والبدن الدرع القصيرة. وأنشد أبو عبيدة للأعشى:
وبيضاء كالنهي موضونة لها قونس فوق جيب البدن
وأنشد أيضا لعمرو بن معد يكرب:
ومضى نساؤهم بكل مفاضة جدلاء سابغة وبالأبدان
وقال كعب بن مالك:
ترى الأبدان فيها مسبغات على الأبطال واليلب الحصينا
أراد بالأبدان الدروع واليلب الدروع اليمانية، كانت تتخذ من الجلود يخرز بعضها إلى بعض؛ وهو اسم جنس، الواحد يلبة. قال عمرو بن كلثوم:
علينا البيض واليلب اليماني وأسياف يقمن وينحنينا
وقيل "ببدنك" بجسد لا روح فيه؛ قاله مجاهد. قال الأخفش: وأما قول من قال بدرعك فليس بشيء. قال أبو بكر: لأنهم لما ضرعوا إلى الله يسألونه مشاهدة فرعون غريقا أبرزه لهم فرأوا جسدا لا روج فيه، فلما رأته بنو إسرائيل قالوا نعم! يا موسى هذا فرعون وقد غرق؛ فخرج الشك من قلوبهم وابتلع البحر فرعون كما كان. فعلى هذا "ننجيك ببدنك" احتمل معنيين: أحدهما - نلقيك على نجوة من الأرض. والثاني - نظهر جسدك الذي لا روج فيه. والقراءة الشاذة "بندائك" يرجع معناها إلى معنى قراءة الجماعة، لأن النداء يفسر تفسيرين، أحدهما - نلقيك بصياحك بكلمة التوبة، وقولك بعد أن أغلق بابها ومضى وقت قبولها: "آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين" [يونس: 90] على موضع رفيع. والآخر - فاليوم نعزلك عن غامض البحر بندائك لما قلت أنا ربكم الأعلى؛ فكانت تنجيته بالبدن معاقبة من رب العالمين له على ما فرط من كفره الذي منه نداؤه الذي افترى فيه وبهت، وادعى القدرة والأمر الذي يعلم أنه كاذب فيه وعاجز عنه وغير مستحق له. قال أبو بكر الأنباري: فقراءتنا تتضمن ما في القراءة الشاذة من المعاني وتزيد عليها.
قوله تعالى: "لتكون لمن خلفك آية" أي لبني إسرائيل ولمن بقي من قوم فرعون ممن لم يدركه الغرق ولم ينته إليه هذا الخبر. "وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون" أي معرضون عن تأمل آياتنا والتفكر فيها. وقرئ "لمن خلفك" (بفتح اللام)؛ أي لمن بقي بعدك يخلفك في أرضك. وقرأ علي بن أبي طالب "لمن خلقك" بالقاف؛ أي تكون آية لخالقك.
الآية: 93 {ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}
قوله تعالى: "ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق" أي منزل صدق محمود مختار، يعني مصر. وقيل: الأردن وفلسطين. وقال الضحاك: هي مصر والشام. "ورزقناهم من الطيبات" أي من الثمار وغيرها. وقال ابن عباس: يعني قريظة والنضير وأهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل؛ فإنهم كانوا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وينتظرون خروجه، ثم لما خرج حسدوه؛ ولهذا قال: "فما اختلفوا" أي في أمر محمد صلى الله عليه وسلم. "حتى جاءهم العلم" أي القرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم. والعلم بمعنى المعلوم؛ لأنهم كانوا يعلمونه قبل خروجه؛ قال ابن جرير الطبري. "إن ربك يقضي بينهم" أي يحكم بينهم ويفصل. "يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" في الدنيا، فيثيب الطائع ويعاقب العاصي.
الآيتان: 94 - 95 {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين}
قوله تعالى: "فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك" الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، أي لست في شك ولكن غيرك شك. قال أبو عمر محمد بن عبدالواحد الزاهد: سمعت الإمامين ثعلبا والمبرد يقولان: معنى "فإن كنت في شك" أي قل يا محمد للكافر فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك "فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك" أي يا عابد الوثن إن كنت في شك من القرآن فأسأل من أسلم من اليهود، يعني عبدالله بن سلام وأمثاله؛ لأن عبدة الأوثان كانوا يقرون لليهود أنهم أعلم منهم من أجل أنهم أصحاب كتاب؛ فدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يسألوا من يقرون بأنهم أعلم منهم، هل يبعث الله برسول من بعد موسى. وقال القتبي: هذا خطاب لمن كان لا يقطع بتكذيب محمد ولا بتصديقه صلى الله عليه وسلم، بل كان في شك. وقيل: المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لا غيره، والمعنى: لو كنت يلحقك الشك فيه فيما أخبرناك به فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشك. وقيل: الشك ضيق الصدر؛ أي إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر، واسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك يخبروك صبر الأنبياء من قبلك على أذى قومهم وكيف عاقبة أمرهم. والشك في اللغة أصله الضيق؛ يقال: شك الثوب أي ضمه بخلال حتى يصير كالوعاء. وكذلك السفرة تمد علائقها حتى تنقبض؛ فالشك يقبض الصدر ويضمه حتى يضيق. وقال الحسين بن الفضل: الفاء مع حروف الشرط لا توجب. الفعل ولا تثبته، والدليل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما نزلت هذه الآية: (والله لا أشك - ثم استأنف الكلام فقال - لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) أي الشاكين المرتابين. "ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين" والخطاب في هاتين الآيتين للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره.
الآيتان: 96 - 97 {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم}
قوله تعالى: "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون" تقدم القول فيه في هذه السورة. قال قتادة: أي الذين حق عليهم غضب الله وسخطه بمعصيتهم لا يؤمنون. "ولو جاءتهم كل آية" أنث "كلا" على المعنى؛ أي ولو جاءتهم الآيات. "حتى يروا العذاب الأليم" فحينئذ يؤمنون ولا ينفعهم.