تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 219 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 219

218

89- "قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما" جعل الدعوة هاهنا مضافة إلى موسى وهارون، وفيما تقدم أضافها إلى موسى وحده، فقيل: إن هارون كان يؤمن على دعاء موسى فسمي هاهنا داعياً، وإن كان الداعي موسى وحده، ففي أول الكلام أضاف الدعاء إلى موسى لكونه الداعي، وهاهنا أضافه إليهما تنزيلاً للمؤمن منزلة الداعي، ويجوز أن يكونا جميعاً داعيين، ولكن أضاف الدعاء إلى موسى في أول الكلام لأصالته في الرسالة. قال النحاس: سمعت علي بن سليمان يقول: الدليل على أن الدعاء لهما قول موسى ربنا ولم يقل رب. وقرأ علي والسلمي دعاؤكما وقرأ ابن السميفع دعواكما والاستقامة: الثبات على ما هما عليه من الدعاء إلى الله. قال الفراء وغيره: أمرا بالاستقامة على أمرهما والثبات عليه على دعاء فرعون وقومه إلى الإيمان إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة أربعين سنة ثم أهلكوا: وقيل: معنى الاستقامة: ترك الاستعجال ولزوم السكينة والرضا والتسليم لما يقضي به الله سبحانه. قوله: "ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون" بتشديد النون للتأكيد وحركت بالكسر لكونه الأصل ولكونهما أشبهت نون التثنية. وقرأ ابن ذكوان بتخفيف النون على النفي لا على النهي. وقرئ بتخفيف الفوقية الثانية من تتبعان. والمعنى: النهي لهما عن سلوك طريقة من لا يعلم بعادة الله سبحانه في إجراء الأمور على ما تقتضيه المصالح تعجيلاً وتأجيلاً.
قوله: 90- "وجاوزنا ببني إسرائيل البحر" هو من جاوز المكان: إذا خلفه وتخطاه، والباء للتعدية: أي جعلناهم مجاوزين البحر حتى بلغوا الشط، لأن الله سبحانه جعل البحر يبساً فمروا فيه حتى خرجوا منه إلى البر. وقد تقدم تفسير هذا في سورة البقرة في قوله سبحانه: "وإذ فرقنا بكم البحر ". وقرأ الحسن وجوزنا وهما لغتان "فأتبعهم فرعون وجنوده" يقال: تبع وأتبع بمعنى واحد: إذا لحقه. وقال الأصمعي: يقال أتبعه بقطع الألف: إذا لحقه وأدركه، واتبعه بوصل الألف: إذا اتبع أثر أدركه أو لم يدركه. وكذا قال أبو زيد: وقال أبو عمرو: إن اتبعه بالوصل: اقتدى به، وانتصاب بغياً وعدواً على الحال، والبغي: الظلم، والعدو: الاعتداء، ويجوز أن يكون انتصابهما على العلة: أي للبغي والعدو. وقرأ الحسن وعدواً بضم العين والدال وتشديداً الواو مثل علا يعلو علواً، وقيل إن البغي: طلب الاستعلاء في القول بغير حق، والعدو في الفعل "حتى إذا أدركه الغرق" أي ناله ووصله وألجمه. وذلك أن موسى خرج ببني إسرائيل على حين غفلة من فرعون، فلما سمع فرعون بذلك لحقهم بجنوده، ففرق الله البحر لموسى وبني إسرائيل، فمشوا فيه حتى خرجوا من الجانب الآخر، وتبعهم فرعون والبحر باق على الحالة التي كان عليها عند مضي موسى ومن معه، فلما تكامل دخول جنود فرعون وكادوا أن يخرجوا من الجانب الآخر انطبق عليهم فغرقوا كما حكى الله سبحانه ذلك. "قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل" أي صدقت أنه بفتح الهمزة على أن الأصل بأنه، فحذفت الباء، والضمير للشأن. وقرئ بكسر إن على الاستئناف، وزعم أبو حاتم أن القول محذوف: أي آمنت، فقلت إنه ولم ينفعه هذا الإيمان أنه وقع منه بعد إدراك الغرق كله كما تقدم في النساء، ولم يقل اللعين آمنت بالله أو برب العالمين، بل قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، لأنه بقي فيه عرق من دعوى الإلهية. قوله: "وأنا من المسلمين" أي المستسلمين لأمر الله المنقادين له الذين يوحدونه وينفون ما سواه، وهذه الجملة إما في محل نصب على الحال أو معطوفة على آمنت.
قوله: 91- "آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين" هو مقول قول مقدر معطوف على قال آمنت: أي فقيل له: أتؤمن الآن؟. وقد اختلف من القائل لفرعون بهذه المقالة؟ فقيل هي من قول الله سبحانه، وقيل من قول جبريل، وقيل من قول ميكائيل، وقيل من قول فرعون، قال ذلك في نفسه لنفسه. وجملة وقد عصيت قبل في محل نصب على الحال من فاعل الفعل المقدر بعد القول المقدر، وهو أتؤمن الآن، والمعنى: إنكار الإيمان منه عند أن ألجمه الغرق والحال أنه قد عصى الله من قبل، والمقصود التقريع والتوبيخ له. وجملة وكنت من المفسدين معطوفة على عصيت داخلة في الحال: أي كنت من المفسدين في الأرض بضلالك عن الحق وإضلالك لغيرك.
قوله: 92- "فاليوم ننجيك ببدنك" قرئ ننجيك بالتخفيف، والجمهور على التثقيل. وقرأ اليزيدي: ننحيك بالحاء المهملة من التنحية، وحكاها علقمة عن ابن مسعود، ومعنى ننجيك بالجيم: نلقيك على نجوة من الأرض، وذلك أن بني إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون غرق، وقالوا: هو أعظم شأناً من ذاك، فألقاه الله على نجوة من الأرض، أي مكان مرتفع من الأرض حتى شاهدوه، وقيل المعنى: نخرجك مما وقع فيه قومك من الرسول في قعر البحر ونجعلك طافياً ليشاهدوك ميتاً بالغرق، ومعنى ننحيك بالمهملة: نطرحك على ناحية من الأرض. وروي عن ابن مسعود أنه قرأ بأبدانك. وقد اختلف المفسرون في معنى ببدنك، فقيل معناه: بجسدك بعد سلب الروح منه، وقيل معناه: بدرعك، والدرع يسمى بدناً، ومنه قول كعب بن مالك: ترى الأبدان فيها مسبغات على الأبطال واليلب الحصينا أراد بالأبدان الدروع، وقال عمرو بن معدي كرب: ومضى نساؤهم بكل مضاضة جدلاء سابغة وبالأبدان أي بدروع سابغة ودروع قصيرة: وهي التي يقال لها أبدان كما قال أبو عبيدة. وقال الأخفش: وأما قول من قال بدرعك فليس بشيء، ورجح أن البدن المراد به هنا الجسد. قوله: "لتكون لمن خلفك آية" هذا تعليل لتنجيته ببدنه، وفي ذلك على أنه لم يظهر جسده دون قومه إلا لهذه العلة لا سوى، والمراد بالآية العلامة: أي لتكون لمن خلفك من الناس علامة يعرفون بها هلاكك، وأنك لست كما تدعي ويندفع عنهم الشك في كونك قد صرت ميتاً بالغرق، وقيل: المراد ليكون طرحك على الساحل وحدك دون المغرقين من قومك آية من آيات الله، يعتبر بها الناس أو يعتبر بها من سيأتي من الأمم إذا سمعوا ذلك حتى يحذروا من التكبر والتجبر والتمرد على الله سبحانه، فإن هذا الذي بلغ ما بلغ إليه من دعوى الإلهية واستمر على ذلك دهراً طويلاً كانت له هذه العاقبة القبيحة. وقرئ لمن خلفك على صيغة الفعل الماضي أي لمن يأتي بعدك من القرون أو من خلفك في الرياسة أو في السكون في المسكن الذي كنت تسكنه "وإن كثيراً من الناس عن آياتنا" التي توجب الاعتبار والتفكر وتوقظ من سنة الغفلة "لغافلون" عما توجبه الآيات، وهذه الجملة تذييلية. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ربنا اطمس على أموالهم" يقول: دمر على أموالهم وأهلكها "واشدد على قلوبهم" قال: اطبع "فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم" وهو الغرق. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي قال: سألني عمر بن عبد العزيز عن قوله: "ربنا اطمس على أموالهم" فأخبرته أن الله طمس على أموال فرعون وآل فرعون حتى صارت حجارة، فقال عمر: كما أنت حتى آتيك، فدعا بكيس مختوم ففكه، فإذا فيه الفضة مقطوعة كأنها الحجارة والدنانير والدراهم وأشباه ذلك من الأموال حجارة كلها. وقد روي أن أموالهم تحولت حجارة من طريق جماعة من السلف. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قد أجيبت دعوتكما، قال: فاستجاب له وحال بين فرعون وبين الإيمان. وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة قال: كان موسى إذا دعا أمن هارون على دعائه يقول: آمين. قال أبو هريرة: وهو اسم من أسماء الله، فذلك قوله: "قد أجيبت دعوتكما". وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس نحوه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة نحوه. وأخرج سعيد بن منصور عن محمد بن كعب القرظي نحوه أيضاً. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: يزعمون أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج مثله. وأخرج الحكيم الترمذي عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس فاستقيما فامضيا لأمري، وهي الاستقامة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: العدو والعتو والعلو في كتاب الله التجبر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما خرج آخر أصحاب موسى ودخل آخر أصحاب فرعون أوحى الله إلى البحر أن انطبق عليهم، فخرجت أصبع فرعون بلا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، قال جبريل: فعرفت أن الرب رحيم وخفت أن تدركه الرحمة، فرمسته بجناحي وقلت: آلان وقد عصيت قبل؟ فلما خرج موسى وأصحابه قال من تخلف من قوم فرعون: ما غرق فرعون ولا أصحابه، ولكنهم في جزائر البحر يتصيدون، فأوحى الله إلى البحر أن الفظ فرعون عرياناً، فلفظه عرياناً أصلع أخينس قصيراً فهو قوله: "فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية" لمن قال: إن فرعون لمن يغرق، وكأن نجاة غيره لمن تكن نجاة عافية، ثم أوحى الله إلى البحر أن الفظ ما فيك فلفظهم على الساحل، وكان البحر لا يلفظ غريقاً في بطنه حتى يأكله السمك، فليس يقبل البحر غريقاً إلى يوم القيامة. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أغرق الله فرعون فقال: "آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل" قال لي جبريل: يا محمد لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة". وقد روى هذا الحديث الترمذي من غير وجه، وقال: حسن صحيح غريب، وصححه أيضاً الحاكم. وروي عن ابن عباس مرفوعاً من طرق أخرى. وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال لي جبريل: ما كان على الأرض شيء أبغض إلي من فرعون، فلما آمن جعلت أحشو فاه حمأة وأنا أغطه خشية أن تدركه الرحمة". وأخرج ابن جرير والبيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج أبو الشيخ عن أبي أمامة مرفوعاً نحوه أيضاً، وفي إسناد حديث أبي هريرة رجل مجهول، وباقي رجاله ثقات. والعجب كل العجب ممن لا علم له بفن الرواية من المفسرين، ولا يكاد يميز بين أصح الصحيح من الحديث وأكذب الكذب منه، كيف يتجارى على الكلام في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطلان ما صح منها، ويرسل لسانه وقلمه بالجهل البحت، والقصور الفاضح الذي يضحك منه كل من له أدنى ممارسة لفن الحديث، فيا مسكين ما لك ولهذا الشأن الذي لست منه في شيء؟ ألا تستر نفسك وتربع على ضلعك، وتعرف بأنك بهذا العلم من أجهل الجاهلين، وتشتغل بما هو علمك الذي لا تجاوزه، وحاصلك الذي ليس لك غيره، وهو علم اللغة وتوابعه من العلوم الآلية، ولقد صار صاحب الكشاف رحمه الله بسبب ما يتعرض له في تفسيره من علم الحديث الذي ليس هو منه في ورد ولا صدر سخرة للساخرين وعبرة للمعتبرين، فتارة يروي في كتابه الموضوعات وهو لا يدري أنها موضوعات، وتارة يتعرض لرد ما صح، ويجزم بأنه من الكذب على رسول الله والبهت عليه، وقد يكون في الصحيحين وغيرهما مما يلتحق بهما من رواية جماعة من الصحابة بأسانيد كلها أئمة ثقات أثبات حجج، وأدنى نصيب من عقل يحجر صاحبه عن التكلم في علم لا يعلمه ولا يدري به أقل دراية، وإن كان ذلك العلم من علوم الاصطلاح التي يتواضع عليها طائفة من الناس، ويصطلحون على أمور فيما بينهم، فما بالك بعلم السنة الذي هو قسيم كتاب الله، وقائله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وراويه عنه خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وكل حرف من حروفه وكلمة من كلماته يثبت بها شرع عام لجميع أهل الإسلام. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "فاليوم ننجيك ببدنك" قال: أنجى الله فرعون لبني إسرائيل من البحر فنظروا إليه بعدما غرق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال: بجسدك، قال: كذب بعض بني إسرائيل بموت فرعون، فألقي على ساحل البحر حتى يراه بنو إسرائيل أحمر قصيراً كأنه ثور. وأخرج ابن الأنباري عن محمد بن كعب في قوله: "فاليوم ننجيك ببدنك" قال: بدرعك، وكان درعه من لؤلؤة يلاقي فيها الحروب.
قوله: 93- "ولقد بوأنا" هذا من جملة ما عدده الله سبحانه من النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل، ومعنى بوأنا: أسكنا، يقال: بوأت زيداً منزلاً: أسكنته فيه، والمبوأ اسم مكان أو مصدر، وإضافته إلى الصدق على ما جرت عليه قاعدة العرب، فإنهم كانوا إذا مدحوا شيئاً أضافوه إلى الصدق، والمراد به هنا المنزل المحمود المختار، قيل هو أرض مصر، وقيل الأردن وفلسطين، وقيل الشام "ورزقناهم من الطيبات" أي المستلذات من الرزق "فما اختلفوا" في أمر دينهم وتشعبوا فيه شعباً بعدما كانوا على طريقة واحدة غير مختلفة "حتى جاءهم العلم" أي لم يقع منهم الاختلاف في الدين إلا بعدما جاءهم العلم بقراءتهم التوراة وعلمهم بأحكامها، وما اشتملت عليه من الأخبار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل المعنى: أنهم لم يختلفوا حتى جاءهم العلم، وهو القرآن النازل على نبينا صلى الله عليه وسلم، فاختلفوا في نعته وصفته، وآمن به من آمن منهم وكفر به من كفر. فيكون المراد بالمختلفين على القول الأول هم اليهود بعد أن أنزلت عليهم التوراة وعلموا بها، وعلى القول الثاني هم اليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم "إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، والمحق بعمله بالحق والمبطل بعمله بالباطل.
94- "فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك" الشك في أصل اللغة: ضم الشيء بعضه إلى بعض، ومنه شك الجوهر في العقد، والشاك كأنه يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه فيتردد ويتحير، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره كما ورد في القرآن في غير موضع. قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد: سمعت الإمامين ثعلباً والمبرد يقولان: معنى "فإن كنت في شك" أي قل يا محمد للكافر فإن كنت في شك " فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك " يعني مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأمثاله، وقد كان عبدة الأوثان يعترفون لليهود بالعلم ويقرون بأنهم أعلم منهم، فأمر الله سبحانه نبيه أن يرشد الشاكين فيما أنزله الله إليه من القرآن أن يسألوا أهل الكتاب الذين قد أسلموا، فإنهم سيخبرونهم بأنه كتاب الله حقاً، وأن هذا رسوله، وأن التوراة شاهدة بذلك ناطقة به، وفي هذا الوجه مع حسنه مخالفة للظاهر. وقال القتيبي: المراد بهذه الآية من كان من الكفار غير قاطع بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ولا بتصديقه، بل كان في شك. وقيل: المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لا غيره. والمعنى: لو كنت ممن يلحقه الشك فيما أخبرناك به فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشك. وقيل: الشك هو ضيق الصدر: أي إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر واسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك يخبروك بصبر من قبلك من الأنبياء على أذى قومهم. وقيل معنى الآية: الفرض والتقدير، كأنه قال له: فإن وقع لك شك مثلاً وخيل لك الشيطان خيالاً منه تقديراً، فاسأل الذين يقرأون الكتاب، فإنهم سيخبرونك عن نبوتك وما نزل عليك، ويعترفون بذلك لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم، وقد زال فيمن أسلم منهم ما كان مقتضياً لكتم ما عندهم. قوله: "لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين" في هذا بيان ما يقلع الشك من أصله ويذهب به بجملته، وهو شهادة الله سبحانه بأن هذا الذي وقع الشك فيه على اختلاف التفاسير في الشاك هو الحق الذي لا يخالطه باطل ولا تشوبه شبهة، ثم عقبه بالنهي للنبي صلى الله عليه وسلم عن الامتراء فيما أنزل الله عليه، بل يستمر على ما هو عليه من اليقين وانتفاء الشك.
ويمكن أن يكون هذا النهي له تعريضاً لغيره كما في مواطن من الكتاب العزيز، وهكذا القول في نهيه صلى الله عليه وسلم عن التكذيب بآيات الله، فإن الظاهر فيه التعريض ولا سيما بعد تعقيبه بقوله: 95- "فتكون من الخاسرين" وفي هذا التعريض من الزجر للممترين والمكذبين ما هو أبلغ وأوقع من النهي لهم أنفسهم، لأنه إذا كان بحيث ينهى عنه من لا يتصور صدوره عنه، فكيف بمن يمكن منه ذلك.
قوله: 96- "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون" قد تقدم مثله في هذه السورة، والمعنى: أنه حق عليهم قضاء الله وقدره بأنهم يصرون على الكفر ويموتون عليه لا يقع منهم الإيمان بحال من الأحوال، وإن وقع منهم ما صورته صورة الإيمان كمن يؤمن منهم عند معاينة العذاب فهو في حكم العدم.
97- "ولو جاءتهم كل آية" من الآيات التكوينية والتنزيلية، فإن ذلك لا ينفعهم لأن الله سبحانه قد طبع على قلوبهم وحق منه القول عليهم "حتى يروا العذاب" فيقع منهم ما صورته صورة الإيمان وليس بإيمان، ولا يترتب عليه شيء من أحكامه.