تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 22 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 22

22- تفسير الصفحة رقم22 من المصحف
الآية : 142 {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}
قوله تعالى: "سيقول السفهاء من الناس" أعلم الله تعالى أنهم سيقولون في تحويل المؤمنين من الشام إلى الكعبة، ما ولاهم. و"سيقول" بمعنى قال، جعل المستقبل موضع الماضي، دلالة على استدامة ذلك وأنهم يستمرون على ذلك القول. وخص بقوله: "من الناس" لأن السفه يكون في جمادات وحيوانات. والمراد من "السفهاء" جميع من قال: "ما ولاهم". والسفهاء جمع، واحده سفيه، وهو الخفيف العقل، من قولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج، وقد تقدم. والنساء سفائه. وقال المؤرج: السفيه البهات الكذاب المتعمد خلاف ما يعلم. قطرب: الظلوم الجهول، والمراد بالسفهاء هنا اليهود الذين بالمدينة، قاله مجاهد. السدي: المنافقون. الزجاج: كفار قريش لما أنكروا تحويل القبلة قالوا: قد اشتاق محمد إلى مولده وعن قريب يرجع إلى دينكم، وقالت اليهود: قد التبس عليه أمره وتحير. وقال المنافقون: ما ولاهم عن قبلتهم، واستهزؤوا بالمسلمين. و"ولاهم" يعني عدلهم وصرفهم.
روى الأئمة واللفظ لمالك عن ابن عمر قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وخرج البخاري عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وإنه صلى أول صلاة صلاها العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا؟؟ كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل: "وما كان الله ليضيع إيمانكم" [البقرة: 143]، ففي هذه الرواية صلاة العصر، وفي رواية مالك صلاة الصبح. وقيل: نزل ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة وهو في صلاة الظهر بعد ركعتين منها فتحول في الصلاة، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين. وذكر أبو الفرج أن عباد بن نهيك كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة. وذكر أبو عمر في التمهيد عن نويلة بنت أسلم وكانت من المبايعات، قالت: كنا في صلاة الظهر فأقبل عباد بن بشر بن قيظي فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل القبلة - أو قال: البيت الحرام - فتحول الرجال مكان النساء، وتحول النساء مكان الرجال. وقيل: إن الآية نزلت في غير صلاة، وهو الأكثر. وكان أول صلاة إلى الكعبة العصر، والله اعلم. وروي أن أول من صلى إلى الكعبة حين صرفت القبلة عن بيت المقدس أبو سعيد بن المعلى، وذلك أنه كان مجتازا على المسجد فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بتحويل القبلة على المنبر وهو يقرأ هذه الآية: "قد نرى تقلب وجهك في السماء" [البقرة:144] حتى فرغ من الآية، فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى فتوارينا نعما فصليناهما، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس الظهر يومئذ. قال أبو عمر: ليس لأبي سعيد بن المعلى غير هذا الحديث، وحديث: "كنت أصلي" في فضل الفاتحة، خرجه البخاري، وقد تقدم.
واختلف في وقت تحويل القبلة بعد قدومه المدينة، فقيل: حولت بعد ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، كما في البخاري. وخرجه الدارقطني عن البراء أيضا. قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس، ثم علم الله هوى نبيه فنزلت: "قد نرى تقلب وجهك في السماء" الآية. ففي هذه الرواية ستة عشر شهرا من غير شك. وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن تحويلها كان قبل غزوة بدر بشهرين. قال إبراهيم بن إسحاق: وذلك في رجب من سنة اثنتين. وقال أبو حاتم البستي: صلى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام سواء، وذلك أن قدومه المدينة كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وأمره الله عز وجل باستقبال الكعبة يوم الثلاثاء للنصف من شعبان.
واختلف العلماء أيضا في كيفية استقباله بيت المقدس على ثلاثة أقوال، فقال الحسن: كان ذلك منه عن رأي واجتهاد، وقال عكرمة وأبو العالية. الثاني: أنه كان مخيرا بينه وبين الكعبة، فاختار القدس طمعا في إيمان اليهود واستمالتهم، قاله الطبري، وقال الزجاج: امتحانا للمشركين لأنهم ألفوا الكعبة. الثالث: وهو الذي عليه الجمهور: ابن عباس وغيره، وجب عليه استقباله بأمر الله تعالى ووحيه لا محالة، ثم نسخ الله ذلك وأمره الله أن يستقبل بصلاته الكعبة، واستدلوا بقوله تعالى: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه" [البقرة: 143] الآية.
واختلفوا أيضا حين فرضت عليه الصلاة أولا بمكة، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة، على قولين، فقالت طائفة: إلى بيت المقدس وبالمدينة سبعة عشر شهرا، ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة، قاله ابن عباس. وقال آخرون: أول ما افترضت الصلاة عليه إلى الكعبة، ولم يزل يصلي إليها طول مقامه بمكة على ما كانت عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل، فلما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، على الخلاف، ثم صرفه الله إلى الكعبة. قال أبو عمر: وهذا أصح القولين عندي. قال غيره: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أراد أن يستألف اليهود فتوجه إلى قبلتهم ليكون ذلك أدعى لهم، فلما تبين عنادهم وأيس منهم أحب أن يحول إلى الكعبة فكان ينظر إلى السماء، وكانت محبته إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم، عن ابن عباس. وقيل: لأنها كانت أدعى للعرب إلى الإسلام، وقيل: مخالفة لليهود، عن مجاهد. وروي عن أبي العالية الرياحي أنه قال: كانت مسجد صالح عليه السلام وقبلته إلى الكعبة، قال: وكان موسى عليه السلام يصلي إلى الصخرة نحو الكعبة، وهي قبلة الأنبياء كلهم، صلوات الله عليهم أجمعين.
في هذه الآية دليل واضح على أن في أحكام الله تعالى وكتابه ناسخا ومنسوخا، وأجمعت عليه الأمة إلا من شذ، كما تقدم. وأجمع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ من القرآن، وأنها نسخت مرتين، على أحد القولين المذكورين في المسألة قبل.
ودلت أيضا على جواز نسخ السنة بالقرآن، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس، وليس في ذلك قرآن، فلم يكن الحكم إلا من جهة السنة ثم نسخ ذلك بالقرآن، وعلى هذا يكون: "كنت عليها" بمعنى أنت عليها.
وفيها دليل على جواز القطع بخبر الواحد، وذلك أن استقبال بيت المقدس كان مقطوعا به من الشريعة عندهم، ثم أن أهل قباء لما أتاهم الآتي وأخبرهم أن القبلة قد حولت إلى المسجد الحرام قبلوا قوله واستداروا نحو الكعبة، فتركوا المتواتر بخبر الواحد وهو مظنون.
وقد اختلف العلماء في جوازه عقلا ووقوعه، فقال أبو حاتم: والمختار جواز ذلك عقلا لو تعبدالشرع به، ووقوعا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قصة قباء، وبدليل أنه كان عليه السلام ينفذ آحاد الولاة إلى الأطراف وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ جميعا. ولكن ذلك ممنوع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، بدليل الإجماع من الصحابة على أن القرآن والمتواتر المعلوم لا يرفع بخبر الواحد، فلا ذاهب إلى تجويزه من السلف والخلف. احتج من منع ذلك بأنه يفضي إلى المحال وهو رفع المقطوع بالمظنون. وأما قصة أهل قباء وولاة النبي صلى الله عليه وسلم فمحمول على قرائن إفادة العلم إما نقلا وتحقيقا، وإما احتمالا وتقديرا. وتتميم هذا سؤالا وجوابا في أصول الفقه.
وفيها دليل على أن من لم يبلغه الناسخ إنه متعبد بالحكم الأول، خلافا لمن قال: إن الحكم الأول يرتفع بوجود الناسخ لا بالعلم به، والأول أصح، لأن أهل قباء لم يزالوا يصلون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الآتي فأخبرهم بالناسخ فمالوا نحو الكعبة. فالناسخ إذا حصل في الوجود فهو رافع لا محالة لكن بشرط العلم به، لأن الناسخ خطاب، ولا يكون خطابا في حق من لم يبلغه. وفائدة هذا الخلاف في عبادات فعلت بعد النسخ وقبل البلاغ هل تعاد أم لا، وعليه تنبني مسألة الوكيل في تصرفه بعد عزل موكله أو موته وقبل علمه بذلك على قولين. وكذلك المقارض، والحاكم إذا مات من ولاه أو عزل. والصحيح أن ما فعله كل واحد من هؤلاء ينفذ فعله ولا يرد حكمه. قال القاضي عياض: ولم يختلف المذهب في أحكام من أعتق ولم يعلم بعتقه أنها أحكام حر فيما بينه وبين الناس، وأما بينه وبين الله تعالى فجائزة. ولم يختلفوا في المعتقة أنها لا تعيد ما صلت بعد عتقها وقبل علمها بغير ستر، وإنما اختلفوا فيمن يطرأ عليه موجب بغير حكم عبادته وهو فيها، قياسا على مسألة قباء، فمن صلى على حال ثم تغيرت به حاله تلك قبل أن يتم صلاته إنه يتمها ولا يقطعها ويجزيه ما مضى. وكذلك كمن صلى عريانا ثم وجد ثوبا في الصلاة، أو ابتدأ صلاته صحيحا فمرض، أو مريضا فصح، أو قاعدا ثم قدر على القيام، أو أمة عتقت وهي في الصلاة إنها تأخذ قناعها وتبني.
قلت: وكمن دخل في الصلاة بالتيمم فطرأ عليه الماء إنه لا يقطع، كما يقوله مالك والشافعي - رحمهما الله - وغيرهما. وقيل: يقطع، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وسيأتي.
وفيها دليل على قبول خبر الواحد، وهو مجمع عليه من السلف معلوم بالتواتر من عادة النبي صلى الله عليه وسلم في توجيهه ولاته ورسله آحادا للأفاق، ليعلموا الناس دينهم فيبلغوهم سنة رسولهم صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي.
وفيها دليل على أن القرآن كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بعد شيء وفي حال بعد حال، على حسب الحاجة إليه، حتى أكمل الله دينه، كما قال: "اليوم أكملت لكم دينكم" [المائدة:3].
قوله تعالى: "قل لله المشرق والمغرب" أقامه حجة، أي له ملك المشارق والمغارب وما بينهما، فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء، وقد تقدم.
قوله تعالى: "يهدي من يشاء" إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الأمة إلى قبلة إبراهيم، والله تعالى اعلم. والصراط. الطريق. والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه، وقد تقدم.
الآية : 143 {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم}
قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا، أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم. والوسط: العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" قال: (عدلا). قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي التنزيل: "قال أوسطهم" [القلم: 28] أي أعدلهم وخيرهم. وقال زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
آخر:
أنتم أوسط حي علموا بصغير الأمر أو إحدى الكبر
وقال آخر:
لا تذهبن في الأمور فرطا لا تسألن إن سألت شططا
وكن من الناس جميعا وسطا
ووسط الوادي: خير موضع فيه وأكثره كلأ وماء. ولما كان الوسط مجانبا للغلو والتقصير كان محمودا، أي هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم. وفي الحديث: (خير الأمور أوسطها). وفيه عن علي رضي الله عنه: "عليكم بالنمط الأوسط، فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل". وفلان من أوسط قومه، وإنه لواسطة قومه، ووسط قومه، أي من خيارهم وأهل الحسب منهم. وقد وسط وساطة وسطة، وليس من الوسط الذي بين شيئين في شيء. والوسط (بسكون السين) الظرف، تقول: صليت وسط القوم. وجلست وسط الدار (بالتحريك) لأنه اسم. قال الجوهري: وكل موضع صلح فيه "بين" فهو وسط، وإن لم يصلح فيه "بين" فهو وسط بالتحريك، وربما يسكن وليس بالوجه.
قوله تعالى: "لتكونوا" نصب بلام كي، أي لأن تكونوا. "شهداء" خبر كان. "على الناس" أي في المحشر للأنبياء على أممهم، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت فيقول نعم فيقال لأمته هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا فذلك قوله عز وجل وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا...). وذكر هذا الحديث مطولا ابن المبارك بمعناه، وفيه: (فتقول تلك الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا فيقول لهم الرب سبحانه كيف تشهدون على من لم تدركوا فيقولون ربنا بعثت إلينا رسولا وأنزلت إلينا عهدك وكتابك وقصصت علينا أنهم قد بلغوا فشهدنا بما عهدت إلينا فيقول الرب صدقوا فذلك قوله عز وجل وكذلك جعلناكم أمة وسطا - والوسط العدل - لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا). قال ابن أنعم: فبلغني أنه يشهد يومئذ أمة محمد عليه السلام، إلا من كان في قلبه حنة على أخيه. وقالت طائفة: معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين مرت به جنازة فأثني عليها خير فقال: (وجبت وجبت وجبت). ثم مر عليه بأخرى فأثني عليها شر فقال: (وجبت وجبت وجبت). فقال عمر: فدى لك أبي وأمي، مر بجنازة فأثني عليها خير فقلت: (وجبت وجبت وجبت) ومر بجنازة فأثني عليها شر فقلت: (وجبت وجبت وجبت)؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض). أخرجه البخاري بمعناه. وفي بعض طرقه في غير الصحيحين وتلا: "لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا". وروى أبان وليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء كان الله إذا بعث نبيا قال له ادعني استجب لك وقال لهذه الأمة ادعوني استجب لكم وكان الله إذا بعث النبي قال له ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة وما جعل عليكم في الدين من حرج وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الأمة شهداء على الناس). خرجه الترمذي الحكيم أبو عبدالله في "نوادر الأصول".
قال علماؤنا: أنبأنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعلنا أولا مكانا وإن كنا آخرا زمانا، كما قال عليه السلام: (نحن الآخرون الأولون). وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول الغير على الغير إلا أن يكون عدلا. وسيأتي بيان العدالة وحكمها في آخر السورة إن شاء الله تعالى.
وفيه دليل على صحة الإجماع ووجوب الحكم به، لأنهم إذا كانوا عدولا شهدوا على الناس. فكل عصر شهيد على من بعده، فقول الصحابة حجة وشاهد على التابعين، وقول التابعين على من بعدهم. وإذ جعلت الأمة شهداء فقد وجب قبول قولهم. ولا معنى لقول من قال: أريد به جميع الأمة، لأنه حينئذ لا يثبت مجمع عليه إلى قيام الساعة. وبيان هذا في كتب أصول الفقه.
قوله تعالى: "ويكون الرسول عليكم شهيدا" قيل: معناه بأعمالكم يوم القيامة. وقيل: "عليكم" بمعنى لكم، أي يشهد لكم بالإيمان. وقيل: أي يشهد عليكم بالتبليغ لكم.
قوله تعالى: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها" قيل: المراد بالقبلة هنا القبلة الأولى، لقوله "كنت عليها". وقيل: الثانية، فتكون الكاف زائدة، أي أنت الآن عليها، كما تقدم، وكما قال: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" [آل عمران: 110] أي أنتم، في قول بعضهم، وسيأتي.
قوله تعالى: "إلا لنعلم من يتبع الرسول" قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: معنى "لنعلم" لنرى. والعرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم، كقوله تعالى: "ألم تر كيف فعل ربك" [الفيل: 1] بمعنى ألم تعلم. وقيل: المعنى إلا لتعلموا أننا نعلم، فإن المنافقين كانوا في شك من علم الله تعالى بالأشياء قبل كونها. وقيل: المعنى لنميز أهل اليقين من أهل الشك، حكاه ابن فورك، وذكره الطبري عن ابن عباس. وقيل: المعنى إلا ليعلم النبي واتباعه، وأخبر تعالى بذلك عن نفسه، كما يقال: فعل الأمير كذا، وإنما فعله اتباعه، ذكره المهدوي وهو جيد. وقيل: معناه ليعلم محمد، فأضاف علمه إلى نفسه تعالى تخصيصا وتفضيلا، كما كنى عن نفسه سبحانه في قوله: (يا ابن آدم مرضت فلم تعدني) الحديث. والأول أظهر، وأن معناه علم المعاينة الذي يوجب الجزاء، وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة، علم ما يكون قبل أن يكون، تختلف الأحوال على المعلومات وعلمه لا يختلف بل يتعلق بالكل تعلقا واحدا. وهكذا كل ما ورد في الكتاب من هذا المعنى من قوله تعالى: "وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء" [آل عمران: 140]، "ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين" [محمد: 31] وما أشبه. والآية جواب لقريش في قولهم: "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها" [البقرة: 142] وكانت قريش تألف الكعبة، فأراد الله عز وجل أن يمتحنهم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه. وقرأ الزهري "إلا ليعلم" "فمن" في موضع رفع على هذه القراءة، لأنها اسم ما لم يسم فاعله. وعلى قراءة الجماعة في موضع نصب على المفعول. "يتبع الرسول" يعني فيما أمر به من استقبال الكعبة. "ممن ينقلب على عقبيه" يعني ممن يرتد عن دينه، لأن القبلة لما حولت ارتد من المسلمين قوم ونافق قوم، ولهذا قال: "وإن كانت لكبيرة" أي تحويلها، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة. والتقدير في العربية: وإن كانت التحويلة.
قوله تعالى: "وإن كانت لكبيرة" ذهب الفراء إلى أن "إن" واللام بمعنى ما وإلا، والبصريون يقولون: هي إن الثقيلة خففت. وقال الأخفش: أي وإن كانت القبلة أو التحويلة أو التولية لكبيرة. "إلا على الذين هدى الله" أي خالق الهدى الذي هو الإيمان في قلوبهم، كما قال تعالى: "أولئك كتب في قلوبهم الإيمان" [المجادلة: 22].
قوله تعالى: "وما كان الله ليضيع إيمانكم" اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس، كما ثبت في البخاري من حديث البراء بن عازب، على ما تقدم. وخرج الترمذي عن ابن عباس قال: لما وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: "وما كان الله ليضيع إيمانكم" الآية، قال: هذا حديث حسن صحيح. فسمى الصلاة إيمانا لاشتمالها على نية وقول وعمل. وقال مالك: إني لأذكر بهذه الآية قول المرجئة: إن الصلاة ليست من الإيمان. وقال محمد بن إسحاق: "وما كان الله ليضيع إيمانكم" أي بالتوجه إلى القبلة وتصديقكم لنبيكم، وعلى هذا معظم المسلمين والأصوليين. وروى ابن وهب وابن القاسم وابن عبدالحكم وأشهب عن مالك "وما كان الله ليضيع إيمانكم" قال: صلاتكم.
قوله تعالى: "إن الله بالناس لرؤوف رحيم" الرأفة أشد من الرحمة. وقال أبو عمرو بن العلاء: الرأفة أكثر من الرحمة، والمعنى متقارب. وقد أتينا على لغته وأشعاره ومعانيه في الكتاب "الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" فلينظر هناك. وقرأ الكوفيون وأبو عمرو "لرؤف" على وزن فعل، وهي لغة بني أسد، ومنه قول الوليد بن عقبة:
وشر الطالبين فلا تكنه يقاتل عمه الرؤف الرحيم
وحكى الكسائي أن لغة بني أسد "لرأف"، على فعل. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع "لروف" مثقلا بغير همز، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله تعالى، ساكنة كانت أو متحركة.
الآية : 144 {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون}
قال العلماء: هذه الآية مقدمة في النزول على قوله تعالى: "سيقول السفهاء من الناس "[البقرة: 142]. ومعنى "تقلب وجهك": تحول وجهك إلى السماء، قاله الطبري. الزجاج: تقلب عينيك في النظر إلى السماء، والمعنى متقارب. وخص السماء بالذكر إذ هي مختصة بتعظيم ما أضيف إليها ويعود منها كالمطر والرحمة والوحي. ومعنى "ترضاها" تحبها. قال السدي: كان إذا صلى نحو بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر به، وكان يحب أن يصلي إلى قبل الكعبة فأنزل الله تعالى: "قد نرى تقلب وجهك في السماء". وروى أبو إسحاق عن البراء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى: "قد نرى تقلب وجهك في السماء". وقد تقدم هذا المعنى والقول فيه، والحمد لله.
قوله تعالى: "فول" أمر "وجهك شطر" أي ناحية "المسجد الحرام" يعني الكعبة، ولا خلاف في هذا. قيل: حيال البيت كله، عن ابن عباس. وقال ابن عمر: حيال الميزاب من الكعبة، قال ابن عطية. والميزاب: هو قبلة المدينة وأهل الشام، وهناك قبلة أهل الأندلس.
قلت: قد روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي).
قوله تعالى: "شطر المسجد الحرام" الشطر له محامل: يكون الناحية والجهة، كما في هذه الآية، وهو ظرف مكان، كما تقول: تلقاءه وجهته. وانتصب الظرف لأنه فضلة بمنزلة المفعول [به]، وأيضا فإن الفعل واقع فيه. وقال داود بن أبي هند: إن في حرف ابن مسعود "فول وجهك تلقاء المسجد الحرام". وقال الشاعر:
أقول لأم زنباع أقيمي صدور العيس شطر بني تميم.
وقال آخر:
وقد أظلكم من شطر ثغركم هول له ظلم يغشاكم قطعا
وقال آخر:
ألا من مبلغ عمرا رسولا وما تغني الرسالة شطر عمرو
وشطر الشيء: نصفه، ومنه الحديث: (الطهور شطر الإيمان). ويكون من الأضداد، يقال: شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه، وشطر عن كذا إذا أبعد منه وأعرض عنه. فأما الشاطر من الرجال فلأنه قد أخذ في نحو غير الاستواء، وهو الذي أعيا أهله خبثا، وقد شطر وشطر (بالضم) شطارة فيهما وسئل بعضهم عن الشاطر، فقال: هو من أخذ في البعد عما نهى الله عنه.
لا خلاف بين العلماء أن الكعبة قبلة في كل أفق، وأجمعوا على أن من شاهدها وعاينها فرض عليه استقبالها، وأنه إن ترك استقبالها وهو معاين لها وعالم بجهتها فلا صلاة له، وعليه إعادة كل ما صلى ذكره أبو عمر. وأجمعوا على أن كل من غاب عنها أن يستقبل ناحيتها وشطرها وتلقاءها، فإن خفيت عليه فعليه أن يستدل على ذلك بكل ما يكنه من النجوم والرياح والجبال وغير ذلك مما يمكن أن يستدل به على ناحيتها. ومن جلس في المسجد الحرام فليكن وجهه إلى الكعبة وينظر إليها إيمانا واحتسابا، فإنه يروى أن النظر إلى الكعبة عبادة، قاله عطاء ومجاهد.
واختلفوا هل فرض الغائب استقبال العين أو الجهة، فمنهم من قال بالأول. قال ابن العربي: وهو ضعيف، لأنه تكليف لما لا يصل إليه. ومنهم من قال بالجهة، وهو الصحيح لثلاثة أوجه: الأول: أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف. الثاني: أنه المأمور به في القرآن، لقوله تعالى: "فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم" يعني من الأرض من شرق أو غرب "فولوا وجوهكم شطره". الثالث: أن العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت.
في هذه الآية حجة واضحة لما ذهب إليه مالك ومن وافقه في أن المصلي حكمه أن ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده. وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي والحسن بن حي. يستحب أن يكون نظره إلى موضع سجوده. وقال شريك القاضي: ينظر في القيام إلى موضع السجود، وفي الركوع إلى موضع قدميه، وفي السجود إلى موضع أنفه، وفي القعود إلى حجره. قال ابن العربي: إنما ينظر أمامه إن حنى رأسه ذهب بعض القيام المفترض عليه في الرأس وهو أشرف الأعضاء، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج. وما جعل علينا في الدين من حرج، أما إن ذلك أفضل لمن قدر عليه.
قوله تعالى: "وإن الذين أوتوا الكتاب" يريد اليهود والنصارى "ليعلمون أنه الحق من ربهم" يعني تحويل القبلة من بيت المقدس. فإن قيل: كيف يعلمون ذلك وليس من دينهم ولا في كتابهم؟ قيل عنه جوابان: أحدهما: أنهم لما علموا من كتابهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي علموا أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا به. الثاني: أنهم علموا من دينهم جواز النسخ وإن جحده بعضهم، فصاروا عالمين بجواز القبلة.
قوله تعالى: "وما الله بغافل عما يعملون" تقدم معناه. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي "تعملون" بالتاء على مخاطبة أهل الكتاب أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى الوجهين فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل أعمال العباد ولا يغفل عنها، وضمنه الوعيد. وقرأ الباقون بالياء من تحت.
الآية : 145 {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين}
قوله تعالى: "ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك" لأنهم كفروا وقد تبين لهم الحق، وليس تنفعهم الآيات، أي العلامات. وجمع قبلة في التكسير: قبل. وفي التسليم: قبلات. ويجوز أن تبدل من الكسرة فتحة، فتقول قبلات. ويجوز أن تحذف الكسرة وتسكن الباء فتقول قبلات. وأجيبت "لئن" بجواب "لو" وهي ضدها في أن "لو" تطلب في جوابها المضي والوقوع، و"لئن" تطلب الاستقبال، فقال الفراء والأخفش: أجيبت بجواب "لو" لأن المعنى: ولو أتيت. وكذلك تجاب "لو" بجواب "لئن"، تقول: لو أحسنت أحسن إليك، ومثله قوله تعالى: "ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا" [الروم: 51] أي ولو أرسلنا ريحا. وخالفهما سيبويه فقال: إن معنى "لئن" مخالف لمعنى "لو" فلا يدخل واحد منهما على الآخر، فالمعنى: ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية لا يتبعون قبلتك. قال سيبويه: ومعنى "ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا" ليظلن.
قوله تعالى: "وما أنت بتابع قبلتهم" لفظ خبر ويتضمن الأمر، أي فلا تركن إلى شيء من ذلك ثم أخبر تعالى أن اليهود ليست متبعة قبلة النصارى ولا النصارى متبعة قبلة اليهود، عن السدي وابن زيد. فهذا إعلام باختلافهم وتدابرهم وضلالهم. وقال قوم: المعنى وما من اتبعك ممن أسلم منهم بمتبع قبلة من لم يسلم، ولا من لم يسلم قبلة من أسلم. والأول أظهر، والله تعالى اعلم.
قوله تعالى: "ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين" الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته ممن يجوز أن يتبع هواه فيصير باتباعه ظالما، وليس يجوز أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما يكون به ظالما، فهو محمول على إرادة أمته لعصمة النبي صلى الله عليه وسلم وقطعنا أن ذلك لا يكون منه، وخوطب النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما للأمر ولأنه المنزل عليه. والأهواء: جمع هوى، وقد تقدم، وكذا "من العلم" [البقرة: 120] تقدم أيضا، فلا معنى للإعادة.