تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 22 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 22

021

قوله: 142- "سيقول" هذا إخبار من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بأن السفهاء من اليهود والمنافقين سيقولون هذه المقالة عند أن تتحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. وقيل إن "سيقول" بمعنى قال، وإنما عبر عن الماضي بلفظ المستقبل للدلالة على استدامته واستمرار عليه وقيل: إن الإخبار بهذا الخبر كان قبل التحول إلى الكعبة، وأن فائدة ذلك أن الإخبار بالمكروه إذا وقع قبل وقوعه كان فيه تهويناً لصدمته وتخفيفاً لروعته وكسراً لسورته. والسفهاء جمع سفيه، وهو الكذاب البهات المعتمد خلاف ما يعلم، كذا قال بعض أهل اللغة. وقال في الكشاف: هم خفاف الأحلام، ومثله في القاموس. وقد تقدم في تفسير قوله: "إلا من سفه نفسه" ما ينبغي الرجوع إليه، ومعنى: "ما ولاهم" ما صرفهم "عن قبلتهم التي كانوا عليها" وهي بيت المقدس، فرد الله عليهم بقوله: "قل لله المشرق والمغرب" فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء. وفي قوله: "يهدي من يشاء" إشعار بأن تحويل القبلة إلى مكة من الهداية للنبي صلى الله عليه وسلم ولأهل ملته إلى الصراط المستقيم.
وقوله: 143- "وكذلك جعلناكم" أي مثل ذلك الجعل جعلناكم، قيل معناه: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطاً. والوسط الخيار أو العدل، والآية محتملة للأمرين، ومما يحتملهما قول زهير: هم وسط ترضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم ومثله قول الآخر: أنتم أوسط حي علموا بصغير الأمر أو إحدى الكبر وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير الوسط هنا بالعدل كما سيأتي، فوجب الرجوع إلى ذلك ومنه قول الراجز: لا تذهبن في الأمـــور مفرطا لا تسـألن إن سـألت شططا وكن من الناس جميعاً وسطا ولما كان الوسط مجانياً للغلو والتقصير كان محموداً: أي هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في عيسى ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم، ويقال فلان أوسط قومه وواسطتهم: أي خيارهم. وقوله: "لتكونوا شهداء على الناس" أي يوم القيامة تشهدون للأنبياء على أممهم قد بلغوهم ما أمرهم الله بتبليغه إليهم، ويكون الرسول شهيداً على أمته بأنهم قد فعلوا ما أمر بتبليغه إليهم، ومثله قوله تعالى: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً"، قيل: إن قوله: "عليكم" يعني لكم: أي يشهد لهم بالإيمان، وقيل معناه: يشهد عليكم بالتبليغ لكم. قال في الكشاف: لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له جيء بكلمة الاستعلاء، ومنه قوله تعالى: "والله على كل شيء شهيد". "كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد" انتهى. وقالت طائفة: معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت، وقيل: المراد لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول. وسيأتي من المرفوع ما يبين معنى الآية إن شاء الله، وإنما أخر لفظ على في شهادة الأمة على الناس، وقدمها في شهادة الرسول عليهم، لأن الغرض كما قال صاحب الكشاف في الأول: إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم. وقوله: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها" قيل: المراد بهذه القبلة هي بيت المقدس: أي ما جعلناها إلا لنعلم المتبع والمنقلب، ويؤيد هذا قوله: "كنت عليها" إذا كان نزول هذه الآية بعد صرف القبلة الكعبة، وقيل: المراد الكعبة: أي ما جعلنا القبلة التي أنت عليها الآن بعد أن كانت إلى بيت المقدس إلا لذلك الغرض، ويكون "كنت" بمعنى الحال، وقيل: المراد بذلك القبلة التي كان عليها قبل استقبال بيت المقدس فإنه كان يستقبل في مكة الكعبة، ثم لما هاجر توجه إلى بيت المقدس تألفاً لليهود ثم صرف إلى الكعبة. وقوله: "إلا لنعلم" قيل: المراد بالعلم هنا الرؤية، وقيل: المراد إلا لتعلموا أنا نعلم بأن المنافقين كانوا في شك، وقيل: ليعلم النبي، وقيل: المراد لنعلم ذلك موجوداً حاصلاً، وهكذا ما ورد معللاً بعلم الله سبحانه لا بد أن يؤول بمثل هذا كقوله: "وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء". وقوله: "وإن كانت لكبيرة" أي ما كانت إلا كبيرة، كما قاله الفراء في أن وإن أنهما بمعنى ما وإلا. وقال البصريون: هي الثقيلة خففت، والضمير في كانت راجع إلى ما يدل عليه قوله: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها" من التحويلة أو التولية أو الجعلة أو الردة، ذكر معنى ذلك الأخفش ولا مانع من أن يرجع الضمير إلى القبلة المذكورة: أي وإن كانت القبلة المتصفة بأنك كنت عليها لكبيرة إلا على الذين هداهم الله للإيمان، فانشرحت صدورهم لتصديقك، وقبلت ما جئت به عقولهم، وهذا الاستثناء مفرغ لأن ما قبله في قوة النفي: أي لأنها لا تخف ولا تسهل إلا على الذين هدى الله. وقوله: "ما كان الله ليضيع إيمانكم" قال القرطبي: اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس، ثم قال: فسمى الصلاة إيماناً لاجتماعها على نية وقول وعمل، وقيل: المراد ثبات المؤمنين على الإيمان عند تحويل القبلة، وعدم ارتيابهم كما ارتاب غيرهم. والأول يتعين القول به، والمصير إليه لما سيأتي من تفسيره صلى الله عليه وسلم للآية بذلك. والرؤوف كثير الرأفة، وهي أشد من الرحمة. قال أبو عمرو بن العلاء: الرأفة أكبر من الرحمة والمعنى متقارب. وقرأ أبو جعفر بن يزيد بن القعقاع لروف بغير همز، وهي لغة بني أسد، ومنه قول الوليد بن عتبة: وشر الغالبين فلا تكنه يقاتل عمه الروف الرحيم وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن البراء "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما نزل المدينة نزل على أخواله من الأنصار، وأنه صلى إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأن أول صلاة صلاها العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة، فداروا كما هم قبل البيت وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال، وقتلوا فلم ندر ما يقول فيهم، فأنزل الله: " وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم " " وله طرق أخر وألفاظ متقاربة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال: إن أول ما نسخ في القرآن القبلة. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود في ناسخه والبيهقي في سننه عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه، وبعد ما تحول إلى المدينة ستة عشر شهراً، ثم صرفه الله إلى الكعبة". وفي الباب أحاديث كثيرة بمضمون ما تقدم، وكذلك وردت أحاديث في الوقت الذي نزل فيه استقبال القبلة، وفي كيفية استدارة المصلين لما بلغهم ذلك، وقد كانوا في الصلاة فلا نطول بذكرها. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والنسائي والترمذي وصححه والحاكم وصححه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والإسماعيلي في صحيحه والحاكم وصححه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" قال: عدلاً. وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله. وأخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدعى نوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته" فذلك قوله: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" قال: والوسط العدل، فتدعون فتشهدون له بالبلاغ وأشهد عليكم. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا وأمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحد إلا ود أنه منا، وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه بلغ رسالة ربه". وأخرج ابن جرير عن أبي سعيد في قوله: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس" بأن الرسل قد بلغوا "ويكون الرسول عليكم شهيداً" بما عملتم، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال:" مروا بجنازة فأثني عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت، ومروا بجنازة فأثني عليها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت فسأله عمر فقال: من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض" زاد الحكيم الترمذي " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" الآية" وفي الباب أحاديث منها عن جابر مرفوعاً عند ابن المنذر والحاكم وصححه، ومنها عن عمر مرفوعاً عند ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري والترمذي والنسائي، ومنها عن أبي زهير الثقفي مرفوعاً عند أحمد وابن ماجه والطبراني والدارقطني في الإفراد والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن، ومنها عن أبي هريرة مرفوعاً عند ابن جرير وابن أبي حاتم، ومنها عن سلمة بن الأكوع مرفوعاً عند ابن أبي شيبة وابن جرير والطبراني. وأخرج ابن جرير عن عطاء في قوله تعالى: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها" قال: يعني بيت المقدس "إلا لنعلم" قال: نبتليهم لنعلم من يسلم لأمره. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "إلا لنعلم" قال: لنميز أهل اليقين من أهل الشك "وإن كانت لكبيرة" يعني تحويلها على أهل الشرك والريب. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: بلغني أن ناساً ممن أسلم رجعوا فقالوا: مرة ها هنا ومرة ها هنا. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه عن ابن عباس قال:" لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبلة، قالوا: يا رسول الله فكيف بالذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنزل الله: "وما كان الله ليضيع إيمانكم"". وقد تقدم حديث البراء. وفي الباب أحاديث كثيرة، وآثار عن السلف.
قوله: 144- "قد نرى تقلب وجهك" قال القرطبي في تفسيره: قال العلماء: هذه الآية مقدمة في النزول على قوله: "سيقول السفهاء"، ومعنى: "قد" تكثير الرؤية، كما قاله صاحب الكشاف، ومعنى: "تقلب وجهك" تحول وجهك إلى السماء، قاله قطرب. قال الزجاج: تقلب عينيك في النظر إلى السماء، والمعنى متقارب. وقوله: "فلنولينك" هو إما من الولاية: أي فلنعطينك ذلك. أو من التولي: أي فلنجعلنك متولياً إلى جهتها، وهذا أولى لقوله: "فول وجهك شطر المسجد الحرام". والمراد بالشطر هنا: الناحية والجهة، وهو منتصب على الظرفية ومنه قول الشاعر: أقول لأم زنباع أقيمي صدور العيس شطر بني تميم ومنه أيضاً قول الآخر: ألا من مبلغ عمراً رسولاً وما تغني الرسالة شطر عمرو وقد يراد بالشطر النصف، ومنه "الوضوء شطر الإيمان"، ومنه قول عنترة: إني امرؤ من خير عبس منصباً شطري وأحمي سائري بالمنصل قال ذلك لأن أباه من سادات عبس وأمه أمة، ويرد بمعنى البعض مطلقاً. ولا خلاف أن المراد بشطر المسجد هنا الكعبة. وقد حكى القرطبي الإجماع على أن استقبال عين الكعبة فرض على المعاين، وعلى أن غير المعاين يستقبل الناحية، ويستدل على ذلك بما يمكنه الاستدلال به، والضمير في قوله: "أنه الحق" راجع إلى ما يدل عليه الكلام من التحول إلى جهة الكعبة، وعلم أهل الكتاب بذلك إما لكونه قد بلغهم عن أنبيائهم أو وجدوا في كتب الله المنزلة عليهم أن هذا النبي يستقبل الكعبة، أو لكونهم قد علموا من كتبهم أو أنبيائهم أن النسخ سيكون في هذه الشريعة فيكون ذلك موجباً عليهم الدخول في الإسلام ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "وما الله بغافل عما يعملون" قد تقدم معناه. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي تعملون بالمثناة الفوقية على مخاطبة أهل الكتاب أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقرأ الباقون بالياء التحتية.
وقوله: 145- "ولئن أتيت" هذه اللام هي موطئة للقسم، والتقدير: والله لئن أتيت. وقوله: "ما تبعوا" جواب القسم المقدر قال الأخفش والفراء: أجيب لئن بجواب لو لأن المعنى: ولو أتيت، ومثله قوله تعالى: "ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا" أي ولو أرسلنا، وإنما قالا هكذا لأن لئن هي ضد لو، وذلك أن الأولى تطلب في جوابها المضي والوقوع ولئن تطلب في جوابها الاستقبال. وقال سيبويه: إن معنى لئن يخالف معنى لو فلا تدخل إحداهما على الأخرى، فالمعنى: " ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ". قال سيبويه: ومعنى: "ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً" ليظللن انتهى. وفي هذه الآية مبالغة عظيمة وهي متضمنة للتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وترويح خاطره لأن هؤلاء لا تؤثر فيهم كل آية، ولا يرجعون إلى الحق وإن جاءهم بكل برهان فضلاً عن برهان واحد وذلك أنهم لم يتركوا اتباع الحق لدليل عندهم أو لشبهة طرأت عليهم، حتى يوازنوا بين ما عندهم وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقلعوا عن غوايتهم عند وضوح الحق، بل كان تركهم للحق تمرداً وعناداً مع علمهم بأنهم ليسو على شيء، ومن كان هكذا فهو لا ينتفع بالبرهان أبداً. وقوله: "وما أنت بتابع قبلتهم" هذه الإخبار ممكن أن يكون بمعنى النهي من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: أي لا تتبع يا محمد قبلتهم ويمكن أن يكون على ظاهره دفعاً لأطماع أهل الكتاب، وقطعاً لما يرجونه من رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى القبلة التي كان عليها. وقوله: "وما بعضهم بتابع قبلة بعض" فيه إخبار بأن اليهود والنصارى مع حرصهم على مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما عندهم مختلفون في دينهم حتى في هذا الحكم الخاص الذي قصه الله سبحانه على رسوله، فإن بعضهم لا يتابع الآخر في استقبال قبلته. قال في الكشاف: وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس والنصارى تستقبل مطلع الشمس انتهى. وقوله: "ولئن اتبعت أهواءهم" إلى آخر الآية، فيه من التهديد العظيم والزجر البليغ ما تقشعر له الجلود وترجف منه الأفئدة، وإذا كان الميل إلى أهوية المخالفين لهذه الشريعة الغراء والملة الشريفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد ولد آدم يوجب عليه أن يكون وحاشاه من الظالمين، فما ظنك بغيره من أمته، وقد صان الله هذه الفرقة الإسلامية يعد ثبوت قدم الإسلام وارتفاع مناره عن أن يميلوا إلى شيء من هوى أهل الكتاب، ولم تبق إلا دسيسة شيطانية ووسيلة طاغوتية، وهي ميل بعض من تحمل حجج الله إلى هوى بعض طوائف المبتدعة، لما يرجوه من الحطام العاجل من أيديهم أو الجاه لديهم إن كان لهم في الناس دولة، أو كانوا من ذوي الصولة، وهذا الميل ليس بدون ذلك الميل، بل اتباع أهوية المبتدعة تشبه اتباع أهوية أهل الكتاب، كما يشبه الماء الماء، والبيضة البيضة، والتمرة التمرة، وقد تكون مفسدة اتباع أهوية المبتدعة أشد على هذه الملة من مفسدة اتباع أهوية أهل الملل، فإن المبتدعة ينتمون إلى الإسلام، ويظهرون للناس أنهم ينصرون الذين ويتبعون أحسنه، وهم على العكس من ذلك والضد لما هنالك، فلا يزالون ينقلون من يميل إلى أهويتهم من بدعة إلى بدعة ويدفعونه من شنعة إلى شنعة، حتى يسلخوه من الدين ويخرجوه منه، وهو يظن أنه منه في الصميم، وأن الصراط الذي هو عليه هو الصراط المستقيم، هذا إن كان في عداد المقصرين، ومن جملة الجاهلين، وإن كان من أهل العلم والفهم المميزين بين الحق والباطل كان في اتباعه لأهويتهم ممن أظله الله على علم وختم على قلبه، وصار نقمة على عباد الله ومصيبة صبها الله على المقصرين، لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه لا يميل إلا إلى الحق، ولا يتبع إلا الصواب، فيضلون بضلاله، فيكون عليه إثمه وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة، نسأل الله اللطف والسلامة والهداية.