تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 22 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 22

22 : تفسير الصفحة رقم 22 من القرآن الكريم

** سَيَقُولُ السّفَهَآءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّن يَنقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ
قيل: المراد بالسفهاء ـ ههنا مشركوا العرب, قاله الزجاج, وقيل: أحبار يهود, قاله مجاهد, وقيل: المنافقون, قاله السدي, والاَية عامة في هؤلاء كلهم, واللهأعلم. قال البخاري: أخبرنا أبو نعيم, سمع زهيراً عن أبي إسحاق, عن البراء رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً, أو سبعة عشر شهراً, وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت, وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر, وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان يصلي معه, فمر على أهل المسجد وهم راكعون, قال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة, فداروا كما هم قبل البيت, وكان الذي مات على القبلة قبل ان تحول قبل البيت رجالا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم, فأنزل الله {وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم} انفرد به البخاري من هذا الوجه, ورواه مسلم من وجه آخر, وقال محمد بن إسحاق: حدثني إسماعيل بن أبي خالد عن أبي إسحاق, عن البراء, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس, ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله, فأنزل الله {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام} فقال رجل من المسلمين: وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة, وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس, فأنزل الله {وما كان الله ليضيع إيمانكم} وقال السفهاء من الناس, وهم أهل الكتاب: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها, فأنزل الله {سيقول السفهاء من الناس} إلى آخر الاَية, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا الحسن بن عطية, حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً, وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة, فأنزل الله {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام} قال: فوجه نحو الكعبة وقال السفهاء من الناس وهم اليهود {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليه} فأنزل الله {قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس, ففرحت اليهود, فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم, فكان يدعو الله وينظر إلى السماء, فأنزل الله عز وجل: {فولوا وجوهكم شطره} أي نحوه, فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ فأنزل الله {قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة, وحاصل الأمر أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس, فكان بمكة يصلي بين الركنين, فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس, فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما, فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس, قال ابن عباس والجمهور, ثم اختلفهؤلاء, هل كان الأمر به بالقرآن أو بغيره على قولين ؟ وحكى القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري: إن التوجه إلى بيت المقدس كان باجتهاده عليه السلام, والمقصود: إن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة, واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهراً وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم عليه السلام, فأجيب إلى ذلك وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق, فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فأعلمهم بذلك, وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر, كما تقدم في الصحيحين رواية البراء, ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى أنها الظهر, وقال: كنت أنا وصاحبي أول من صلى إلى الكعبة, وذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم: أن تحويل القبلة نزل على رسول الله وقد صلى ركعتين من الظهر, وذلك في مسجد بني سلمة, فسمي مسجد القبلتين, وفي حديث نويلة بنت مسلم: أنهم جاءهم الخبر بذلك وهم في صلاة الظهر, قالت: فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال, ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري, وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر اليوم الثاني, كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما, أنه قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح, إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها, وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وفي هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به, وإن تقدم نزوله وإبلاغه, لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء, والله أعلم. ولما وقع هذا, حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتياب, وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك, وقالوا {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليه} أي قالوا: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا ؟ فأنزل الله جوابهم في قوله {قل لله المشرق والمغرب} أي الحكم والتصرف والأمر كله لله {فأينما تولوا فثم وجه الله} و {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله} أي الشأن كله في امتثال أوامر الله, فحيثما وجهنا توجهنا, فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة: فنحن عبيده وفي تصرفه, وخدامه حيثما وجهنا توجهنا, وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه وأمته عناية عظيمة إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم خليل الرحمن, وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له أشرف بيوت الله في الأرض, إذ هي بناء إبراهيم الخليل عليه السلام ولهذا قال: {قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.
وقد روى الإمام أحمد عن علي بن عاصم عن حصين بن عبد الرحمن, عن عمرو بن قيس, عن محمد بن الأشعث, عن عائشة, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم, يعني في أهل الكتاب: «إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها, وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها, وعلى قولنا خلف الإمام: آمين».
وقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيد} يقول تعالى: إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام, واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم, لأن الجميع معترفون لكم بالفضل, والوسط ههنا الخيار, والأجود كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً, أي خيرها, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه, أي أشرفهم نسباً, ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي العصر, كما ثبت في الصحاح وغيرها: ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً, خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب, كما قال تعالى: {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس} وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يدعى نوح يوم القيامة, فيقال له: هل بلغت ؟ فيقول: نعم, فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد, فيقال لنوح: من يشهد لك ؟ فيقول: محمد وأمته, قال فذلك قوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسط} قال: والوسط العدل, فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم» رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن الأعمش, وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن أبي صالح, عن أبي سعيد الخدري, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك, فيدعى قومه, فيقال: هل بلغكم هذا ؟ فيقولون: لا فيقال له: هل بلغت قومك ؟ فيقول: نعم, فيقال: من يشهد لك ؟ فيقول: محمد وأمته, فيدعى محمد وأمته, فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه ؟ فيقولون: نعم, فيقال: وما علمكم ؟ فيقولون: جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا, فذلك قوله عز وجل {وكذلك جعلناكم أمة وسط} قال: عدلاً {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيد} وقال أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسط} قال عدلاً. وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه وابن أبي حاتم, من حديث عبد الواحد بن زياد عن أبي مالك الأشجعي عن المغيرة بن عتيبة بن نباس, حدثني مكاتب لنا عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا وأمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق, ما من الناس أحد إلا ود أنه منا وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه عز وجل», وروى الحاكم في مستدركه وابن مردويه أيضاً, واللفظ له من حديث مصعب بن ثابت عن محمد بن كعب القرظي عن جابر بن عبد الله قال: شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة في بني مسلمة وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: والله يا رسول الله لنعم المرء كان, لقد كان عفيفاً مسلماً وكان... وأثنوا عليه خيراً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت بما تقول. فقال الرجل: الله يعلم بالسرائر, فأما الذي بدا لنا منه فذاك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم وجبت وجبت, ثم شهد جنازة في بني حارثة وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: يا رسول الله بئس المرء كان إن كان لفظاً غليظاً فأثنوا عليه شراً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعضهم: أنت بالذي تقول. فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر, فأما الذي بدا لنا منه فذاك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجبت. قال مصعب بن ثابت: فقال لنا عند ذلك محمد بن كعب: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قرأ {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيد} ثم قال الحاكم: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه, وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد حدثنا داود بن أبي الفرات عن عبد الله بن بريدة عن أبي الأسود أنه قال: أتيت المدينة فوافقتها وقد وقع بها مرض فهم يموتون موتاً ذريعاً, فجلست إلى عمر بن الخطاب فمرت به جنازة فأثني على صاحبها خيراً, فقال: وجبت وجبت, ثم مر بأخرى فأثني عليها شراً, فقال عمر: وجبت. فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين قال, قلت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة» قال: فقلنا وثلاثة قال: فقال «وثلاثة» قال: فقلنا واثنان: قال «واثنان». ثم لم نسأله عن الواحد. وكذا رواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث داود بن أبي الفرات به. وقال ابن مردويه حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى حدثنا أبو قلابة الرقاشي, حدثني أبو الوليد حدثنا نافع بن عمر حدثني أمية بن صفوان عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنباءة يقول: «يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم» قالوا: بم يا رسول الله ؟ قال: «بالثناء الحسن والثناء السيء أنتم شهداء الله في الأرض», ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون, ورواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وعبد الملك بن عمر وشريح عن نافع عن ابن عمر به.
وقوله تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه, وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله} يقول تعالى: إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولاً إلى بيت المقدس, ثم صرفناك عنها إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ويطيعك, ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبه, أي مرتداً عن دينه وإن كانت لكبيرة, أي هذه الفعلة وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة, أي وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس إلا على الذين هدى الله قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول, وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه, وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء, وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك بخلاف الذين في قلوبهم مرض, فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكاً كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق, كما قال الله تعالى: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً ؟ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم}, وقال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسار} ولهذا كان من ثبت على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه في ذلك وتوجه حيث أمره الله من غير شك ولا ريب من سادات الصحابة, وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلوا إلى القبلتين. وقال البخاري في تفسير هذه الاَية: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: بينا الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاء رجل فقال: قد أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها, فتوجهوا إلى الكعبة. وقد رواه مسلم من وجه آخر عن ابن عمر ورواه الترمذي من حديث سفيان الثوري وعنده أنهم كانوا ركوعاً فاستداروا كما هم إلى الكعبة وهم ركوع, وكذا رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مثله, وهذا يدل على كمال طاعتهملله ولرسوله وانقيادهم لأوامر الله عز وجل رضي الله عنهم أجمعين.
وقوله: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك ما كان يضيع ثوابها عند الله, وفي الصحيح من حديث أبي إسحاق السبيعي عن البراء قال: مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس, فقال الناس: ما حالهم في ذلك ؟ فأنزل الله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه, وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أي بالقبلة الأولى وتصديقكم نبيكم واتباعه إلى القبلة الأخرى, أي ليعطيكم أجرهما جميعاً {إن الله بالناس لرؤوف رحيم} وقال الحسن البصري {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أي ما كان الله ليضيع محمداً صلى الله عليه وسلم وانصرافكم معه حيث انصرف, {إن الله بالناس لرؤوف رحيم} وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها فجعلت كلما وجدت صبياً من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها, فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه» ؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: «فوالله لله أرحم بعباده من هذه بولدها».

** قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَآءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنّ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس, ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً, وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء فأنزل الله {قد نرى تقلب وجهك في السماء} إلى قوله: {فولوا وجوهكم شطره} فارتابت من ذلك اليهود وقالوا: {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب} وقال: {فأينما تولوا فثم وجه الله} وقال الله تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} وروى ابن مردويه من حديث القاسم العمري عن عمه عبيد الله بن عمر عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء, فأنزل الله {فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام} إلى الكعبة إلى الميزاب يؤم به جبرائيل عليه السلام. وروى الحاكم في مستدركه من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء عن يحيى بن قمطة قال: رأيت عبد الله بن عمرو جالساً في المسجد الحرام بإزاء الميزاب فتلى هذه الاَية, {فلنولينك قبلة ترضاه} قال نحو ميزاب الكعبة. ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن عرفة عن هشام عن يعلى بن عطاء به. وهكذا قال غيره وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنه, إن الغرض إصابة عين الكعبة, والقول الاَخر وعليه الأكثرون: أن المراد المواجهة, كما رواه الحاكم من حديث محمد بن إسحاق عن عمير بن زياد الكندي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه {فول وجهك شطر المسجد الحرام} قال شطره قبله, ثم قال: صحيح الإسناد, ولم يخرجاه, وهذا قول أبي العالية ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم. وكما تقدم في الحديث الاَخر «ما بين المشرق والمغرب قبلة» وقال القرطبي: روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي» وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: حدثنا زهير عن أبي إسحاق عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً, أو سبعة عشر شهراً, وكان يعجبه قبلته قبل البيت ؟ وأنه صلى صلاة العصر وصلى معه قوم, فخرج رجل ممن كان يصلي معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يحول نحو الكعبة, فنزلت {قد نرى تقلب وجهك في السماء} فصرف إلى الكعبة وروى النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلي فيه فمررنا يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر, فقلت: لقد حدث أمر فجلست, فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاه} حتى فرغ من الاَية, فقلت لصاحبي تعال نركع ركعتبن قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنكون أول من صلى, فتوارينا فصليناها. ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم وصلى للناس الظهر يومئذ, وكذا روى ابن مردويه عن ابن عمر: أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة صلاة الظهر وإنها الصلاة الوسطى, والمشهور أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر ولهذا تأخر الخبر عن أهل قباء إلى صلاة الفجر, وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا الحسين بن إسحاق التستري, حدثنا رجاء بن محمد السقطي حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا إبراهيم بن جعفر, حدثني أبي عن جدته أم أبيه نويلة بنت مسلم قالت: صلينا الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين, ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء, فصلينا السجدتين الباقيتيتن ونحن مستقبلون البيت الحرام, فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أولئك رجال يؤمنون بالغيب» وقال ابن مردويه أيضاً, حدثنا محمد بن علي بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي حدثنا قيس عن زياد بن علامة عن عمارة بن أوس قال: بينما نحن في الصلاة نحو بيت المقدس ونحن ركوع إذ نادى مناد بالباب: إن القبلة قد حولت إلى الكعبة, قال فأشهد على إمامنا أنه انحرف فتحول هو والرجال والصبيان وهم ركوع نحو الكعبة, وقوله: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً, ولا يستثنى من هذا شيء سوى النافلة في حال السفر فإنه يصليها حيثما توجه قالبه وقلبه نحو الكعبة, وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال. وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده وإن كان مخطئاً في نفس الأمر, لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها.
(مسألة) وقد استدل المالكية بهذه الاَية على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة, قال المالكية بقوله: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء وهو ينافي كمال القيام, وقال بعضهم: ينظر المصلي في قيامه إلى صدره. وقال شريك القاضي: ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده كما قال جمهور الجماعة, لأنه أبلغ في الخضوع وآكد في الخشوع وقد ورد به الحديث, وأما في حال ركوعه فإلى موضع قدميه, وفي حال سجوده إلى موضع أنفه وفي حال قعوده إلى حجره.
وقوله: {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم} أي واليهود الذين أنكروا استقبالكم وانصرافكم عن بيت المقدس, يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها بما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت والصفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته, وما خصه الله تعالى به وشرفه من الشريعة الكاملة العظيمة, ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسداً وكفراً وعناداً ولهذا تهددهم تعالى بقوله: {وما الله بغافل عما يعملون}.

** وَلَئِنْ أَتَيْتَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلّ آيَةٍ مّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنّكَ إِذَاً لّمِنَ الظّالِمِينَ
يخبر تعالى عن كفر اليهود وعنادهم ومخالفتهم ما يعرفونه من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به لما اتبعوه وتركوا أهواءهم كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} ولهذا قال ههنا {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل أية ما تبعوا قبلتك} وقوله {وما أنت بتابع قبلتهم} إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى به وأنه كما هم مستمسكون بآرائهم وأهوائهم, فهو أيضاً مستمسك بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته, وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله ولا كونه متوجهاً إلى بيت المقدس لكونها قبلة اليهود, وإنما ذلك عن أمر الله تعالى, ثم حذر تعالى عن مخالفة الحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى, فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره, ولهذا قال مخاطباً للرسول والمراد به الأمة {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين}.