سورة البقرة | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الطبري تفسير الصفحة 22 من المصحف
تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 22
023
021
الآية : 142
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{سَيَقُولُ السّفَهَآءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ }
يعنـي بقوله جل ثناؤه: سَيَقُولُ السّفَهاءُ سيقول الـجهال من الناس, وهم الـيهود وأهل النفـاق. وإنـما سماهم الله عزّ وجلّ سفهاء لأنهم سَفِهوا الـحقّ, فتـجاهلت أحبـارُ الـيهود, وتعاظمت جهالُهم وأهلُ الغبـاء منهم عن اتبـاع مـحمد صلى الله عليه وسلم, إذ كان من العرب ولـم يكن من بنـي إسرائيـل, وتـحير الـمنافقون فتبلّدوا.
وبـما قلنا فـي السفهاء أنهم هم الـيهود وأهل النفـاق, قال أهل التأويـل. ذكر من قال هم الـيهود:
1637ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ: سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِم قال: الـيهود تقوله حين تركَ بـيتَ الـمقدس.
1638ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
1639ـ حدثت عن أحمد بن يونس, عن زهير, عن أبـي إسحاق, عن البراء: سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ قال: الـيهود.
1640ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن البراء: سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ قال: الـيهود.
1641ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحمانـي, قال: حدثنا شريك, عن أبـي إسحاق, عن البراء فـي قوله: سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ قال: أهل الكتاب.
1642ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس قال: الـيهود.
وقال آخرون: السفهاء: الـمنافقون. ذكر من قال ذلك:
1643ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي قال: نزلت: سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ فـي الـمنافقـين.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: ما وَلاّهُمْ أيّ شيء صرفهم عن قبلهم؟ وهو من قول القائل: ولانـي فلان دُبُرَه: إذا حوّل وجهه عنه واستدبره, فكذلك قوله: ما وَلاّهُمْ أيّ شيء حوّل وجوههم.
وأما قوله: عَنْ قِبْلَتِهِمُ فإن قِبْلَةَ كل شيء: ما قابل وجهه, وإنـما هي «فِعْلة» بـمنزلة الـجِلْسة والقِعْدة من قول القائل: قابلت فلانا: إذا صرت قبـالته أقابله, فهو لـي قِبْلة, وأنا له قبلة, إذا قابل كل واحد منهما بوجهه وجه صاحبه.
قال: فتأويـل الكلام إذن إذْ كان (ذلك) معناه: سيقول السفهاء من النّاس لكم أيها الـمؤمنون بـالله ورسوله, إذا حوّلتـم وجوهكم عن قبلة الـيهود التـي كانت لكم قبلة قبل أمري إياكم بتـحويـل وجوهكم عنها شطر الـمسجد الـحرام: أيّ شيء حوّل وجوه هؤلاء, فصرفها عن الـموضع الذي كانوا يستقبلونه بوجوههم فـي صلاتهم؟ فأعلـم الله جل ثناؤه نبـيه صلى الله عليه وسلم ما الـيهود والـمنافقون قائلون من القول عند تـحويـل قبلته وقبلة أصحابه عن الشام إلـى الـمسجد الـحرام, وعلّـمه ما ينبغي أن يكون من ردّه علـيهم من الـجواب, فقال له: إذا قالوا ذلك لك يا مـحمد, فقل لهم: لِلّهِ الـمَشْرقُ والـمَغْربُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلـى صِراطٍ مُسْتَقِـيـمٍ.
وكان سبب ذلك أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم صلّـى نـحو بـيت الـمقدس مدة سنذكر مبلغها فـيـما بعد إن شاء الله تعالـى, ثم أراد الله تعالـى صَرْفَ قبلة نبـيه صلى الله عليه وسلم إلـى الـمسجد الـحرام, فأخبره عما الـيهود قائلوه من القول عند صرفه وجهه ووجه أصحابه شطره, وما الذي ينبغي أن يكون من ردّه علـيهم من الـجواب.
ذكر الـمدة التـي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نـحو بـيت الـمقدس
وما كان سبب صلاته نـحوه وما الذي دعا الـيهود والـمنافقـين إلـى قـيـل ما قالوا
عند تـحويـل الله قبلة الـمؤمنـين عن بـيت الـمقدس إلـى الكعبة
اختلف أهل العلـم فـي الـمدّة التـي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم نـحو بـيت الـمقدس بعد الهجرة. فقال بعدهم بـما:
1644ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قالا جميعا: حدثنا مـحمد بن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, قال: أخبرنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة شكّ مـحمد عن ابن عبـاس قال: لـما صُرفت القبلة عن الشام إلـى الكعبة, وصرفت فـي رجب علـى رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الـمدينة, أتـى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رفـاعةُ بن قـيس, وقردم بن عمرو, وكعب بن الأشرف, ونافع بن أبـي نافع هكذا قال ابن حميد, وقال أبو كريب: ورافع بن أبـي رافع والـحجاج بن عمرو حلـيف كعب بن الأشرف والربـيع بن الربـيع بن أبـي الـحقـيق وكنانة بن الربـيع بن أبـي الـحقـيق, فقالوا: يا مـحمد ما ولاّك عن قبلتك التـي كنت علـيها وأنت تزعم أنك علـى ملة إبراهيـم ودينه؟ ارجع إلـى قبلتك التـي كنت علـيها نتبعك ونصدقك وإنـما يريدون فتنته عن دينه. فأنزل الله فـيهم: سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا إلـى قوله: إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبِعِ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ.
1645ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, قال البراء: صلّـى رسول الله صلى الله عليه وسلم نـحو بـيت الـمقدس سبعة عشر شهرا, وكان يشتهي أن يُصرف إلـى الكعبة. قال: فبـينا نـحن نصلّـي ذات يوم, فمرّ بنا مارّ فقال: ألا هل علـمتـم أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قد صُرف إلـى الكعبة؟ قال: وقد صلـينا ركعتـين إلـى هَهنا, وصلـينا ركعتـين إلـى هَهنا. قال أبو كريب: فقـيـل له: فـيه أبو إسحاق؟ فسكت.
1646ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن أبـي بكر بن عياش, عن أبـي إسحاق, عن البراء, قال: صلـينا بعد قدوم النبـيّ صلى الله عليه وسلم الـمدينة سبعة عشر شهرا إلـى بـيت الـمقدس.
1647ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى, عن سفـيان, قال: حدثنا أبو إسحاق عن البراء بن عازب قال: صلـيت مع النبـيّ صلى الله عليه وسلم نـحو بـيت الـمقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا شكّ سفـيان ثم صُرفنا إلـى الكعبة.
1648ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا النفـيـلـي, قال: حدثنا زهير, قال: حدثنا أبو إسحاق, عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوّل ما قدم الـمدينة نزل علـى أجداده أو أخواله من الأنصار, وأنه صلـى قِبل بـيت الـمقدس ستة عشر شهرا, وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البـيت, وأنه صلـى صلاة العصر ومعه قوم. فخرج رجل مـمن صلـى معه, فمرّ علـى أهل الـمسجد وهم ركوع, فقال: أشهد لقد صلـيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبل مكة. فداروا كما هم قبل البـيت, وكان يعجبه أن يحوّل قبل البـيت. وكان الـيهود أعجبهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلـي قِبَل بـيت الـمقدس وأهل الكتاب, فلـمّا وَلّـى وجهه قبل البـيت أنكروا ذلك.
1649ـ حدثنـي عمران بن موسى, قال: حدثنا عبد الوارث, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, عن سعيد بن الـمسيب قال: صلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم نـحو بـيت الـمقدس بعد أن قدم الـمدينة ستة عشر شهرا, ثم وُجّه نـحو الكعبة قبل بدر بشهرين.
وقال آخرون بـما:
1650ـ حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عثمان بن سعد الكاتب, قال: حدثنا أنس بن مالك, قال: صلـى نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم نـحو بـيت الـمقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر. فبـينـما هو قائم يصلـي الظهر بـالـمدينة وقد صلـى ركعتـين نـحو بـيت الـمقدس, انصرف بوجهه إلـى الكعبة, فقال السفهاء: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا.
وقال آخرون بـما:
1651ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا الـمسعودي, عن عمرو بن مرّة, عن ابن أبـي لـيـلـى, عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم الـمدينة, فصلـى نـحو بـيت الـمقدس ثلاثة عشر شهرا.
1652ـ حدثنا أحمد بن الـمقدام العجلـي, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, قال: سمعت أبـي, قال: حدثنا قتادة, عن سعيد بن الـمسيب أن الأنصار صلت القبلة الأولـى قبل قدوم النبـيّ صلى الله عليه وسلم بثلاث حجج, وأن النبـيّ صلى الله عليه وسلم صلـى القبلة الأولـى بعد قدومه الـمدينة ستة عشر شهرا, أو كما قال. وكلا الـحديثـين يحدّث قتادة عن سعيد.
ذكر السبب الذي كان من أجله يصلـي رسول الله صلى الله عليه وسلم
نـحو بـيت الـمقدس, قبل أن يفرض علـيه التوجه شطر الكعبة
اختلف أهل العلـم فـي ذلك فقال بعضهم: كان ذلك بـاختـيار من النبـيّ صلى الله عليه وسلم ذكر من قال ذلك:
1653ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح أبو تـميـلة, قال: حدثنا الـحسين بن واقد, عن عكرمة, وعن يزيد النـحوي, عن عكرمة, والـحسن البصري قالا: أوّل ما نسخ من القرآن القبلة, وذلك أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم كان يستقبل صخرة بـيت الـمقدس, وهي قبلة الـيهود, فـاستقبلها النبـيّ صلى الله عليه وسلم سبعة عشر شهرا, لـيؤمنوا به ويتبعوه, ويدعوا بذلك الأميـين من العرب, فقال الله عزّ وجلّ: ولِلّهِ الـمَشْرِقُ والـمَغْرِبُ فَأيْنَـما تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ إنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ.
1654ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كانُوا عَلَـيْهَا يعنون بـيت الـمقدس.
قال الربـيع, قال أبو العالـية: إن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم خُيّر أن يوجه وجهه حيث شاء, فـاختار بـيت الـمقدس لكي يتألف أهل الكتاب, فكانت قبلته ستة عشر شهرا, وهو فـي ذلك يقلب وجهه فـي السماء ثم وجهه الله إلـى البـيت الـحرام.
وقال آخرون: بل كان فعل ذلك من النبـيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بفرض الله عزّ ذكره علـيهم. ذكر من قال ذلك:
1655ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنا معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس قال: لـما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى الـمدينة, وكان أكثر أهلها الـيهود, أمره الله أن يستقبل بـيت الـمقدس, ففرحت الـيهود. فـاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ قبلة إبراهيـم علـيه السلام, وكان يدعو وينظر إلـى السماء, فأنزل الله عزّ وجلّ: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّماءِ الآية, فـارتاب من ذلك الـيهود, وقالوا: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا فأنزل الله عز وجل: قُلْ لِلّهِ الـمَشْرِقُ والـمَغْرِبُ.
1656ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: صلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّل ما صلـى إلـى الكعبة, ثم صرف إلـى بـيت الـمقدس, فصلت الأنصار نـحو بـيت الـمقدس قبل قدومه ثلاث حجج, وصلّـى بعد قدومه ستة عشر شهرا, ثم ولاّه الله جل ثناؤه إلـى الكعبة.
ذكر السبب الذي من أجله قال من قال ما ولاّهم عن قبلتهم التـي كانوا علـيها؟
اختلف أهل التأويـل فـي ذلك, فرُوي عن ابن عبـاس فـيه قولان: أحدهما ما:
1657ـ حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنا ابن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس قال: قال ذلك قوم من الـيهود للنبـيّ صلى الله عليه وسلم, فقالوا له: ارجع إلـى قبلتك التـي كنت علـيها نتبعك ونصدّقك يريدون فتنته عن دينه.
والقول الاَخر: ما ذكرت من حديث علـيّ بن أبـي طلـحة عنه الذي مضى قبل.
1658ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا قال: صلّت الأنصار نـحو بـيت الـمقدس حَوْلَـيْن قبل قدوم النبـيّ صلى الله عليه وسلم الـمدينة, وصلـى نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه الـمدينة مهاجرا نـحو بـيت الـمقدس ستة عشر شهرا, ثم وجهه الله بعد ذلك إلـى الكعبة البـيت الـحرام. فقال فـي ذلك قائلون من الناس: مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا لقد اشتاق الرجل إلـى مولده. فقال الله عز وجل: قُلْ لِلّهِ الـمَشْرِقُ والـمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ.
وقـيـل: قائل هذه الـمقالة الـمنافقون, وإنـما قالوا ذلك استهزاءً بـالإسلام. ذكر من قال ذلك:
1659ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: لـما وجه النبـيّ صلى الله عليه وسلم قبل الـمسجد الـحرام, اختلف الناس فـيها, فكانوا أصنافـا, فقال الـمنافقون: ما بـالهم كانوا علـى قبلة زمانا ثم تركوها وتوجهوا إلـى غيرها؟ فأنزل الله فـي الـمنافقـين: سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ الآية كلها.
هالقول فـي تأويـل قوله تعالـى: قُلْ لِلّهِ الـمَشْرِقُ والـمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ. يعنـي بذلك عزّ وجلّ: قل يا مـحمد لهؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك: ما ولاكم عن قبلتكم من بـيت الـمقدس التـي كنتـم علـى التوجه إلـيها, إلـى التوجه إلـى شطر الـمسجد الـحرام: لله ملك الـمشرق والـمغرب يعنـي بذلك مُلك ما بـين قطري مشرق الشمس, وقطري مغربها, وما بـينهما من العالـم, يهدي من يشاء من خـلقه فـيسدّده, ويوفقه إلـى الطريق القويـم, وهو الصراط الـمستقـيـم. ويعنـي بذلك إلـى قبلة إبراهيـم الذي جعله للناس إماما. ويخذل من يشاء منهم فـيضله عن سبـيـل الـحقّ. وإنـما عنى جلّ ثناؤه بقوله: يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ قل يا مـحمد إن الله هدانا بـالتوجه شطر الـمسجد الـحرام لقبلة إبراهيـم, وأضلكم أيها الـيهود والـمنافقون وجماعة الشرك بـالله, فخذلكم عما هدانا له من ذلك.
الآية : 143
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّن يَنقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ }
يعنـي جل ثناؤه بقوله: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا كما هديناكم أيها الـمؤمنون بـمـحمد علـيه الصلاة والسلام, وبـما جاءكم به من عند الله, فخصصناكم بـالتوفـيق لقبلة إبراهيـم وملّته, وفضلناكم بذلك علـى من سواكم من أهل الـملل كذلك خصصناكم ففضلناكم علـى غيركم من أهل الأديان بأن جعلناكم أمة وسطا. وقد بـينا أن الأمة هي القرن من الناس والصنف منهم وغيرهم. وأما الوسط فإنه فـي كلام العرب: الـخيار, يقال منه: فلان وسط الـحسب فـي قومه: أي متوسط الـحسب, إذا أرادوا بذلك الرفع فـي حسبه, وهو وسط فـي قومه وواسط, كما يقال شاة يابسة اللبن, ويَبَسة اللبن, وكما قال جل ثناؤه: فـاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقا فـي البَحْرِ يَبسا. وقال زهير بن أبـي سلـمى فـي الوسط:
هُمُ وَسَطٌ يَرْضَى الأنامُ يحُكمِهِمْإذَا نَزَلَتْ إحْدَى اللّـيالـي بِـمُعْظَمِ
قال: وأنا أرى أن الوسط فـي هذا الـموضع هو الوسط الذي بـمعنى الـجزء الذي هو بـين الطرفـين, مثل «وسط الدار», مـحرّك الوسط مثقّله, غير جائز فـي سينه التـخفـيف. وأرى أن الله تعالـى ذكره إنـما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم فـي الدين, فلا هم أهل غلوّ فـيه غلوّ النصارى الذين غلوا بـالترهب وقـيـلهم فـي عيسى ما قالوا فـيه, ولا هم أهل تقصير فـيه تقصير الـيهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبـياءهم وكذبوا علـى ربهم وكفروا به ولكنهم أهل توسط واعتدال فـيه, فوصفهم الله بذلك, إذ كان أحبّ الأمور إلـى الله أوسطها.
وأما التأويـل فإنه جاء بأن الوسط العدل, وذلك معنى الـخيار لأن الـخيار من الناس عدولهم. ذكر من قال: الوسط العدل.
1660ـ حدثنا سالـم بن جنادة ويعقوب بن إبراهيـم, قالا: حدثنا حفص بن غياث, عن الأعمش, عن أبـي صالـح عن أبـي سعيد, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي قوله: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: «عُدُولاً».
1661ـ حدثنا مـجاهد بن موسى ومـحمد بن بشار, قالا: حدثنا جعفر بن عون, عن الأعمش, عن أبـي صالـح عن أبـي سعيد, عن النبـي صلى الله عليه وسلم, مثله.
1662ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان عن الأعمش عن أبـي صالـح, عن أبـي سعيد الـخدري: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: «عُدُولاً.
1663ـ حدثنـي علـيّ بن عيسى, قال: حدثنا سعيد بن سلـيـمان, عن حفص بن غياث, عن أبـي صالـح, عن أبـي هريرة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي قوله: جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: عُدُولاً».
1664ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: عُدُولاً.
1665ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عز وجل: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: عُدُولاً.
1666ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله.
1667ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: أُمّةً وَسَطا قال: عُدولاً.
1668ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: أُمّةً وَسَطا قال: عُدولاً.
1669ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: أُمّةً وَسَطا قال: عدولاً.
1670ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا يقول: جعلكم أمة عدولاً.
1671ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن راشد بن سعد, قال: أخبرنا ابن أنعم الـمعافري, عن حبـان بن أبـي جبلة بسنده إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: «الوَسَطُ: العَدْلُ».
1672ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء ومـجاهد وعبد الله بن كثـير: أُمّةً وَسَطا قالوا: عدولاً, قال مـجاهد: عدولاً.
1673ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: هم وسط بـين النبـيّ صلى الله عليه وسلم وبـين الأمـم.
هالقول فـي تأويـل قوله تعالـى: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاس ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا.
والشهداء جمع شهيد. فمعنى ذلك: وكذلك جعلناكم أمة وسطا عدولاً (لتكونوا) شهداء لأنبـيائي ورسلـي علـى أمـمها بـالبلاغ أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتـي إلـى أمـمها, ويكون رسولـي مـحمد صلى الله عليه وسلم شهيدا علـيكم بإيـمانكم به, وبـما جاءكم به من عندي. كما:
1674ـ حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا حفص, عن الأعمش, عن أبـي صالـح, عن أبـي سعيد, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُدْعَىَ بِنُوحٍ عَلَـيْهِ السّلاَمُ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ, فَـيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلّغْتَ ما أُرْسِلْتَ بِهِ؟ فَـيَقُولُ: نَعَمْ, فَـيُقَالُ لِقَوْمِهِ: هَلْ بَلّغَكُمْ؟ فَـيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ, فَـيُقَالُ لَهُ: مَنْ يَعْلَـمُ ذَاكَ؟ فَـيَقُولُ مُـحَمّدٌ وأُمّتُهُ فهو قوله: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ ويَكُونُ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا».
1675ـ حدثنا مـجاهد بن موسى, قال: حدثنا جعفر بن عون, قال: حدثنا الأعمش, عن أبـي صالـح, عن أبـي سعيد عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بنـحوه, إلا أنه زاد فـيه: «فَـيُدْعَوْنَ وَيَشْهَدُونَ أنّهُ قَدْ بَلّغَ».
1676ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن أبـي صالـح, عن أبـي سعيد: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ بأن الرسل قد بلغوا, ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا: بـما عملتـم أو فعلتـم.
1677ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن فضيـل, عن أبـي مالك الأشجعي, عن الـمغيرة بن عيـينة بن النهاس, أن مكاتبـا لهم حدثهم عن جابر بن عبد الله, أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّـي وأُمّتِـي لَعَلَـىَ كَوْمٍ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ مُشْرِفِـينَ عَلَـىَ الْـخَلاَئِقِ مَا أحَدٌ مِنَ الأُمَـم إلاّ وَدّ أنّهُ مِنْهَا أيّتُها الأُمّةُ, وَمَا مِنْ نَبِـيَ كَذّبَهُ قَوْمُهُ إلاّ نَـحْنُ شُهَدَاؤُهُ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ أنّهُ قَدْ بَلّغَ رِسَالاتِ رَبّه وَنَصَحَ لَهُمْ» قال: «ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا».
1678ـ حدثنـي عصام بن روّاد بن الـجراح العسقلانـي, قال: حدثنا أبـي, قال: حدثنا الأوزاعي, عن يحيى بن أبـي كثـير, عن عبد الله بن الفضل, عن أبـي هريرة, قال: خرجت مع النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي جنازة, فلـمّا صلّـى علـى الـميت قال الناس: نعم الرجل فقال النبـي صلى الله عليه وسلم: «وَجَبَتْ». ثم خرجت معه فـي جنازة أخرى, فلـما صلوا علـى الـميت قال الناس: بئس الرجل فقال النبـي صلى الله عليه وسلم: «وَجَبَتْ». فقام إلـيه أبـيّ بن كعب فقال: يا رسول الله ما قولك وجبت؟ قال: «قول الله عَزّ وجَلّ: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ».
1679ـ حدثنـي علـيّ بن سهل الرملـي, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم, قال: حدثنـي أبو عمرو عن يحيى, قال: حدثنـي عبد الله بن أبـي الفضل الـمدينـي, قال: حدثنـي أبو هريرة, قال: أُتـي رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة, فقال الناس: نعم الرجل, ثم ذكر نـحو حديث عصام عن أبـيه.
1680ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا زيد بن حبـاب, قال: حدثنا عكرمة بن عمار, قال: حدثنـي إياس بن سلـمة بن الأكوع, عن أبـيه, قال: كنا مع النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فمرّ علـيه بجنازة فأثنى علـيها بثناء حسن, فقال: «وَجَبَتْ», ومرّ علـيه بجنازة أخرى, فأثنى علـيها دون ذلك, فقال: «وَجَبَتْ», قالوا: يا رسول الله ما وجبت؟ قال: «الـمَلاَئِكَةُ شُهَدَاءُ اللّهِ فـي السّماءِ وأنْتُـمْ شُهَداءُ اللّهِ فـي الأرْضِ فَمَا شَهِدْتُـمْ عَلَـيْهِ وَجَبَ». ثم قرأ: وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَىَ اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والـمُؤْمِنُونَ... الآية.
1681ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: لِتَكُونُوا شُهَدَاء علـى النّاس تكونوا شهداء لـمـحمد علـيه الصلاة والسلام علـى الأمـم الـيهود والنصارى والـمـجوس.
1682ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
1683ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, قال: يأتـي النبـيّ صلى الله عليه وسلم يوم القـيامة بإذنه لـيس معه أحد فتشهد له أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغهم.
1684ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن أبـي نـجيح, عن أبـيه أنه سمع عبـيد بن عمير, مثله.
1685ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, قال: حدثنـي ابن أبـي نـجيح, عن أبـيه قال: يأتـي النبـي صلى الله عليه وسلم يوم القـيامة, فذكر مثله, ولـم يذكر عبـيد بن عمير مثله.
1686ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ أي أن رسلهم قد بلغت قومها عن ربها, وَيَكُونُ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا علـى أنه قد بلغ رسالات ربه إلـى أمته.
1687ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن زيد بن أسلـم: أن قوم نوح يقولون يوم القـيامة: لـم يبلغنا نوح. فـيدعى نوح علـيه السلام فـيسأل: هل بلغتهم؟ فـيقول: نعم, فـيقال: من شهودك؟ فـيقول: أحمد صلى الله عليه وسلم وأمته. فتدعون فتسألون, فتقولون: نعم قد بلغهم. فتقول قوم نوح علـيه السلام: كيف تشهدون علـينا ولـم تدركونا؟ قالوا: قد جاء نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أنه قد بلغكم, وأنزل علـيه أنه قد بلغكم, فصدقناه. قال: فـيصدق نوح علـيه السلام ويكذّبونهم. قال: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا.
1688ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ لتكون هذه الأمة شهداء علـى الناس أن الرسل قد بلغتهم, ويكون الرسول علـى هذه الأمة شهيدا, أن قد بلغ ما أرسل به.
1689ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن زيد بن أسلـم: أن الأمـم يقولون يوم القـيامة: والله لقد كادت هذه الأمة أن تكون أنبـياء كلهم لـما يرون الله أعطاهم.
1690ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: حدثنا ابن الـمبـارك عن راشد بن سعد, قال: أخبرنـي ابن أنعم الـمعافري, عن حبـان بن أبـي جبلة بسنده إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذَا جَمَعَ اللّهُ عِبَـادَهُ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ, كَانَ أوّلَ مَنْ يُدْعَىَ إسْرَافِـيـلُ, فَـيَقُولُ لَهُ رَبّهُ: مَا فَعَلْتَ فِـي عَهْدِي, هَلْ بَلّغْتَ عَهْدِي؟ فَـيَقُولُ: نَعَمْ رَبّ قَدْ بَلّغْتُهُ جِبْرِيـلَ عَلَـيْهِمَا السّلاَمُ, فَـيُدْعَىَ جِبْرِيـلُ فَـيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلّغْتَ إسْرَافِـيـلَ عَهْدِي؟ فَـيَقُولُ: نَعَمْ رَبّ قَدْ بَلّغَنِـي. فَـيُخَـلّـى عَنْ إسْرَافِـيـلَ, ويُقَالُ لِـجِبْرِيـلَ: هَلْ بَلّغْتَ عَهْدِي؟ فَـيَقُولُ: نَعَمْ قَدْ بَلّغْتُ الرّسُلَ. فَتُدْعَىَ الرّسُلُ فَـيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلّغَكُمْ جِبْرِيـلُ عَهْدِي؟ فَـيَقُولُونَ نَعَمْ رَبّنا. فَـيُخَـلّـى عَنْ جِبْرِيـلُ, ثُمّ يُقَالُ للرّسُلِ: ما فَعَلْتُـمْ بِعَهْدِي؟ فَـيَقُولُونَ: بَلّغْنا أُمَـمَنا. فَتُدْعَىَ الأُمَـمُ فَـيُقَالُ: هَلْ بَلّغَكُمْ الرّسُلُ عَهْدِي؟ فَمِنْهُمْ الـمُكَذّبُ وَمِنْهُمْ الـمُصَدّقُ, فَتَقُولُ الرّسُلُ: إنّ لَنَا عَلَـيْهِمْ شُهُودا يَشْهَدُونَ أنْ قَدْ بَلغْنا مَعَ شَهَادَتِكَ. فَـيَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكُمْ؟ فَـيَقُولُونَ: أُمّةُ مُـحَمّدٍ. فَتُدْعَىَ أُمّةُ مُـحَمّدٍ صلى الله عليه وسلم, فَـيَقُولُ: أتَشْهَدُونَ أنّ رُسُلِـي هَؤُلاَءِ قَدْ بَلّغُوا عَهْدِي إلـى مَنْ أُرْسِلُوا إلَـيْهِ؟ فَـيَقُولُونَ: نَعَمْ رَبّنا شَهِدْنَا أنْ قَدْ بَلّغُوا. فَتَقُولُ تِلْكَ الأُمَـم: كَيْفَ يَشْهَدُ عَلَـيْنَا مَنْ لَـمْ يُدْرِكْنا؟ فَـيَقُولُ لَهُمُ الرّبّ تَبَـارَكَ وتَعَالَـىَ: كَيْفَ تَشْهَدُونَ عَلَـىَ مَنْ لَـمْ تُدْرِكُوا؟ فَـيَقُولُونَ: رَبّنَا بَعَثْتَ إلَـيْنَا رَسُولاً, وأنْزَلْتَ إلَـيْنَا عَهْدَكَ وكِتابَكَ, وقَصَصْتَ عَلَـيْنَا أنّهُمْ قَدْ بَلّغُوا, فَشَهِدْنا بِـمَا عَهِدْتَ إلَـيْنَا. فَـيَقُولُ الرّبّ: صَدَقُوا. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا». والوسط: العدل. «لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا».
قال ابن أنعم: فبلغنـي أنه يشهد يومئذ أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم إلا من كان فـي قلبه حِنَةٌ علـى أخيه.
1691ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك فـي قوله: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ يعنـي بذلك الذين استقاموا علـى الهدى, فهم الذين يكونون شهداء علـى الناس يوم القـيامة, لتكذيبهم رسل الله, وكفرهم بآيات الله.
1692ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ يقول: لتكونوا شهداء علـى الأمـم الذين خـلوا من قبلكم بـما جاءتهم رسلهم, وبـما كذّبوهم, فقالوا يوم القـيامة وعجبوا: إن أمة لـم يكونوا فـي زماننا, فآمنوا بـما جاءت به رسلنا, وكذّبنا نـحن بـما جاءوا به. فعجبوا كلّ العجب.
قوله: ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا يعنـي بإيـمانهم به, وبـما أنزل علـيه.
1693ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه, عن ابن عبـاس: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ يعنـي أنهم شهدوا علـى القرون بـما سمى الله عزّ وجلّ لهم.
1694ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما قوله: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـى النّاسِ؟ قال: أمة مـحمد شهدوا علـى من ترك الـحقّ حين جاءه الإيـمان والهدى مـمن كان قبلنا. قالها عبد الله بن كثـير. قال: وقال عطاء: شهداء علـى من ترك الـحقّ مـمن تركه من الناس أجمعين, جاء ذلك أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم فـي كتابهم: وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا علـى أنهم قد آمنوا بـالـحقّ حين جاءهم وصدّقوا به.
1695ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد علـى أمته, وهم شهداء علـى الأمـم, وهم أحد الأشهاد الذي قال الله عز وجلّ: وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ الأربعة الـملائكة الذين يحصون أعمالنا لنا وعلـينا. وقرأ قوله: وَجَاءَتْ كُلّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وشَهِيدٌ. وقال: هذا يوم القـيامة. قال: والنبـيون شهداء علـى أمـمهم. قال: وأمة مـحمد صلى الله عليه وسلم شهداء علـى الأمـم, (قال: والأطوار: الأجساد والـجلود).
القول فـي تأويـل قوله تعالـى وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ.
يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا ولـم نـجعل صَرْفَك عن القبلة التـي كنت علـى التوجه إلـيها يا مـحمد فصرفناك عنها إلا لنعلـم من يتبعك مـمن لا يتبعك مـمن ينقلب علـى عقبـيه. والقبلة التـي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم علـيها التـي عناها الله بقوله: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا هي القبلة التـي كنت تتوجه إلـيها قبل أن يصرفك إلـى الكعبة. كما:
1696ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَمَا جَعَلْنا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا يعنـي بـيت الـمقدس.
1697ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قلت لعطاء: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا؟ قال: القبلة: بـيت الـمقدس.
وإنـما ترك ذكر الصرف عنها اكتفـاء بدلالة ما قد ذكر من الكلام علـى معناه كسائر ما قد ذكرنا فـيـما مضى من نظائره.
وإنـما قلنا ذلك معناه لأن مـحنة الله أصحاب رسوله فـي القبلة إنـما كانت فـيـما تظاهرت به الأخبـار عند التـحويـل من بـيت الـمقدس إلـى الكعبة, حتـى ارتدّ فـيـما ذكر رجال مـمن كان قد أسلـم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأظهر كثـير من الـمنافقـين من أجل ذلك نفـاقهم, وقالوا: ما بـال مـحمد يحوّلنا مرّة إلـى هَهنا, ومرّة إلـى هَهنا؟ وقال الـمسلـمون فـيـما مضى من إخوانهم الـمسلـمين, وهم يصلون نـحو بـيت الـمقدس: بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت. وقال الـمشركون: تـحير مـحمد صلى الله عليه وسلم فـي دينه. فكان ذلك فتنة للناس وتـمـحيصا للـمؤمنـين, فلذلك قال جل ثناؤه: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـى عَقِبَـيْهِ أي: وما جعلنا صرفك عن القبلة التـي كنت علـيها, وتـحويـلك إلـى غيرها, كما قال جل ثناؤه: وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِـي أرَيْنَاكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ بـمعنى: وما جعلنا خبرك عن الرؤيا التـي أريناك. وذلك أنه لو لـم يكن أخبر القوم بـما كان أرى لـم يكن فـيه علـى أحد فتنة, وكذلك القبلة الأولـى التـي كانت نـحو بـيت الـمقدس لو لـم يكن صرف عنها إلـى الكعبة لـم يكن فـيها علـى أحد فتنة ولا مـحنة.
ذكر الأخبـار التـي رويت فـي ذلك بـمعنى ما قلنا:
1698ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة, قال: كانت القبلة فـيها بلاء وتـمـحيص صلت الأنصار نـحو بـيت الـمقدس حولـين قبل قدوم نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم, وصلـى نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه الـمدينة مهاجرا نـحو بـيت الـمقدس سبعة عشر شهرا, ثم وجهه الله بعد ذلك إلـى الكعبة البـيت الـحرام, فقال فـي ذلك قائلون من الناس: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا؟ لقد اشتاق الرجل إلـى مولده قال الله عزّ وجلّ: قُلْ لِلّهِ الـمَشْرِقُ والـمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ فقال أناس لـما صرفت القبلة نـحو البـيت الـحرام: كيف بأعمالنا التـي كنا نعمل فـي قبلتنا الأولـى؟ فأنزل الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمانَكُمْ وقد يبتلـي الله العبـاد بـما شاء من أمره الأمر بعد الأمر, لـيعلـم من يطيعه مـمن يعصيه. وكل ذلك مقبول إذا كان فـي إيـمان بـالله, وإخلاص له, وتسلـيـم لقضائه.
1699ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم يصلـي قبل بـيت الـمقدس, فنسختها الكعبة. فلـما وُجّه قبل الـمسجد الـحرام, اختلف الناس فـيها, فكانوا أصنافـا فقال الـمنافقون: ما بـالهم كانوا علـى قبلة زمانا ثم تركوها وتوجهوا إلـى غيرها؟ وقال الـمسلـمون: لـيت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل بـيت الـمقدس, هل تقبل الله منا ومنهم أو لا؟ وقالت الـيهود: إن مـحمدا اشتاق إلـى بلد أبـيه ومولده, ولو ثبت علـى قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر. وقال الـمشركون من أهل مكة: تـحير علـى مـحمد دينه, فتوجه بقبلته إلـيكم, وعلـم أنكم كنتـم أهدى منه, ويوشك أن يدخـل فـي دينكم. فأنزل الله جل ثناؤه فـي الـمنافقـين: سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا إلـى قوله: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ وأنزل فـي الاَخرين الاَيات بعدها.
1700ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قلت لعطاء: إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ؟ فقال عطاء: يبتلـيهم لـيعلـم من يسلـم لأمره. قال ابن جريج: بلغنـي أن ناسا مـمن أسلـم رجعوا فقالوا: مرّة هَهنا ومرّة هَهنا.
فإن قال لنا قائل: أوَما كان الله عالـما بـمن يتبع الرسول مـمن ينقلب علـى عقبـيه إلا بعد اتبـاع الـمتبع, وانقلاب الـمنقلب علـى عقبـيه, حتـى قال: ما فعلنا الذي فعلنا من تـحويـل القبلة إلا لنعلـم الـمتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الـمنقلب علـى عقبـيه؟ قـيـل: إن الله جل ثناؤه هو العالـم بـالأشياء كلها قبل كونها, ولـيس قوله: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ يخبر أنه لـم يعلـم ذلك إلا بعد وجوده.
فإن قال: فما معنى ذلك؟ قـيـل له: أما معناه عندنا فإنه: وما جعلنا القبلة التـي كنت علـيها إلا لـيعلـم رسولـي وحزبـي وأولـيائي من يتبع الرسول مـمن ينقلب علـى عقبـيه. فقال جل ثناؤه: إلاّ لِنَعْلَـمَ ومعناه: لـيعلـم رسولـي وأولـيائي, إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولـياؤه من حزبه, وكان من شأن العرب إضافة ما فعلته أتبـاع الرئيس إلـى الرئيس, وما فعل بهم إلـيه نـحو قولهم: فتـح عمر بن الـخطاب سواد العراق, وجبى خراجها, وإنـما فعل ذلك أصحابه عن سبب كان منه فـي ذلك.
وكالذي رُوي فـي نظيره عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يَقُولُ اللّهُ جَلّ ثَنَاؤُهُ: مَرِضْتُ فَلَـمْ يَعُدْنِـي عَبْدِي, وَاسْتَقْرَضْتُهُ فَلَـمْ يُقْرِضْنِـي, وَشَتَـمَنِـي وَلَـمْ يَنْبَغِ لَهُ أنْ يَشْتِـمَنِـي».
1701ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا خالد عن مـحمد بن جعفر, عن العلاء بن عبد الرحمَن, عن أبـيه, عن أبـي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قالَ اللّهُ: اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَـمْ يُقْرِضنِـي, وشَتَـمَنِـي وَلَـمْ يَنْبَغِ لَهُ أنْ يَشْتِـمَنِـي, يَقُولُ: وَادَهْرَاهُ وأنا الدّهْرُ أنا الدّهْرُ».
1702ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن العلاء بن عبد الرحمَن, عن أبـيه, عن أبـي هريرة عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بنـحوه.
فأضاف تعالـى ذكره الاستقراض والعيادة إلـى نفسه, وقد كان ذلك بغيره إذ كان ذلك عن سببه.
وقد حُكي عن العرب سماعا: أجوع فـي غير بطنـي, وأعرى فـي غير ظهري, بـمعنى جُوعَ أهله وعياله وعُرْيَ ظهورهم, فكذلك قوله: إلاّ لِنَعْلَـمَ بـمعنى يعلـم أولـيائي وحزبـي.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
1703ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ قال ابن عبـاس: لنـميز أهل الـيقـين من أهل الشرك والريبة.
وقال بعضهم: إنـما قـيـل ذلك من أجل أن العرب تضع العلـم مكان الرؤية, والرؤية مكان العلـم, كما قال جل ذكره: ألَـمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بأصحابِ الفِـيـلِ. فزعم أن معنى: ألَـمْ تَرَ: ألـم تعلـم, وزعم أن معنى قوله: إلاّ لِنَعْلَـمَ بـمعنى: إلا لنرى من يتبع الرسول. وزعم أن قول القائل: رأيت وعلـمت وشهدت حروف تتعاقب فـيوضع بعضها موضع بعض, كما قال جرير بن عطية:
كأنّك لـمْ تَشْهَدْ لَقِـيطا وَحاجِبـاوعَمْرَو بْنَ عَمْرٍو إذْ دَعا يالَ دارِمِ
بـمعنى: كأنك لـم تعلـم لقـيطا لأن بـين هلك لقـيط وحاجب وزمان جرير ما لا يخفـى بعده من الـمدّة. وذلك أن الذين ذكرهم هلكوا فـي الـجاهلـية, وجرير كان بعد برهة مضت من مـجيء الإسلام. وهذا تأويـل بعيد, من أجل أن الرؤية وإن استعملت فـي موضع العلـم من أجل أنه مستـحيـل أن يرى أحد شيئا, فلا توجب رؤيته إياه علـما بأنه قد رآه إذا كان صحيح الفطرة, فجاز من الوجه الذي أثبته رؤية أن يضاف إلـيه إثبـاته إياه علـما, وصحّ أن يدلّ بذكر الرؤية علـى معنى العلـم من أجل ذلك. فلـيس ذلك وإن كان فـي الرؤية لـما وصفنا بجائز فـي العلـم, فـيدلّ بذكر الـخبر عن العلـم علـى الرؤية لأن الـمرء قد يعلـم أشياء كثـيرة لـم يرها ولا يراها, ويستـحيـل أن يرى شيئا إلا علـمه, كما قد قدمنا البـيان, مع أنه غير موجود فـي شيء من كلام العرب أن يقال: علـمت كذا بـمعنى رأيته, وإنـما يجوز توجيه معانـي ما فـي كتاب الله الذي أنزله علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم من الكلام إلـى ما كان موجودا مثله فـي كلام العرب دون ما لـم يكن موجودا فـي كلامها, فموجود فـي كلامها «رأيت» بـمعنى «علـمت», وغير موجود فـي كلامها «علـمت» بـمعنى «رأيت», فـيجوز توجيه إلاّ لِنَعلـمَ إلـى معنى: إلا لنرى.
وقال آخرون: إنـما قـيـل: إلاّ لِنَعْلَـمَ من أجل أن الـمنافقـين والـيهود وأهل الكفر بـالله أنكروا أن يكون الله تعالـى ذكره يعلـم الشيء قبل كونه, وقالوا إذ قـيـل لهم: إن قوما من أهل القبلة سيرتدّون علـى أعقابهم, إذا حوّلت قبلة مـحمد صلى الله عليه وسلم إلـى الكعبة: ذلك غير كائن, أو قالوا: ذلك بـاطل. فلـما فعل الله ذلك, وحوّل القبلة, وكفر من أجل ذلك من كفر, قال الله جل ثناؤه: ما فعلت إلا لنعلـم ما عندكم أيها الـمشركون الـمنكرون علـمي بـما هو كائن من الأشياء قبل كونه, أنـي عالـم بـما هو كائن مـما لـم يكن بعد.
فكأن معنى قائل هذا القول فـي تأويـل قوله: إلا لِنَعْلَـمَ إلا لنبـين لكم أنا نعلـم من يتبع الرسول مـمن ينقلب علـى عقبـيه. وهذا وإن كان وجها له مخرج, فبعيد من الـمفهوم.
وقال آخرون: إنـما قـيـل: إلاّ لِنَعْلَـمَ وهو بذلك عالـم قبل كونه وفـي كل حال, علـى وجه الترفّق بعبـاده, واستـمالتهم إلـى طاعته, كما قال جل ثناؤه: قُل اللّهُ وإنّا أو إيّاكُمْ لَعَلَـىَ هُدًى أوْ فِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ وقد علـم أنه علـى هدى وأنهم علـى ضلال مبـين, ولكنه رفق بهم فـي الـخطاب, فلـم يقل: أنا علـى هدى, وأنتـم علـى ضلال. فكذلك قوله: إلاّ لِنَعْلَـمَ معناه عندهم: إلا لتعلـموا أنتـم إذ كنتـم جهالاً به قبل أن يكون فأضاف العلـم إلـى نفسه رفقا بخطابهم. وقد بـينا القول الذي هو أولـى فـي ذلك بـالـحقّ.
وأما قوله: مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ فإنه يعنـي: الذي يتبع مـحمدا صلى الله عليه وسلم فـيـما يأمره الله به, فـيوجه نـحو الوجه الذي يتوجه نـحوه مـحمد صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ فإنه يعنـي: من الذي يرتدّ عن دينه, فـينافق, أو يكفر, أو يخالف مـحمدا صلى الله عليه وسلم فـي ذلك مـمن يظهر اتبـاعه. كما:
1704ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلاّ لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبعُ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ قال: من إذا دخـلته شبهة رجع عن الله, وانقلب كافرا علـى عقبـيه.
وأصل الـمرتدّ علـى عقبـيه: هو الـمنقلب علـى عقبـيه الراجع مستدبرا فـي الطريق الذي قد كان قطعه منصرفـا عنه, فقـيـل ذلك لكل راجع عن أمر كان فـيه من دين أو خير, ومن ذلك قوله: فـارْتَدّا علـى آثارِهِما قَصصا بـمعنى رجعا فـي الطريق الذي كانا سلكاه.
وإنـما قـيـل للـمرتدّ مرتدّ, لرجوعه عن دينه وملّته التـي كان علـيها. وإنـما قـيـل رجع علـى عقبـيه لرجوعه دبرا علـى عقبه إلـى الوجه الذي كان فـيه بدء سيره قبل رجعه عنه, فـيجعل ذلك مثلاً لكل تارك أمرا وآخذ آخر غيره إذا انصرف عما كان فـيه إلـى الذي كان له تاركا فأخذه, فقـيـل ارتدّ فلان علـى عقبه, وانقلب علـى عقبـيه.
هالقول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ.
اختلف أهل التأويـل فـي التـي وصفها الله جلّ وعزّ بأنها كانت كبـيرة إلا علـى الذين هدى الله.
فقال بعضهم: عنى جل ثناؤه بـالكبـيرة: التولـية من بـيت الـمقدس شطر الـمسجد الـحرام والتـحويـل, وإنـما أنّث الكبـيرة لتأنـيث التولـية. ذكر من قال ذلك:
1705ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: قال الله: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَى اللّهُ يعنـي تـحويـلها.
1706ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميـمون, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجل: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَى اللّهُ قال: ما أمروا به من التـحوّل إلـى الكعبة من بـيت الـمقدس.
1707ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
1708ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَى اللّهُ قال: كبـيرة حين حوّلت القبلة إلـى الـمسجد الـحرام, فكانت كبـيرة إلا علـى الذين هدى الله.
وقال آخرون: بل الكبـيرة هي القبلة بعينها التـي كان صلى الله عليه وسلم يتوجه إلـيها من بـيت الـمقدس قبل التـحويـل. ذكر من قال ذلك.
1709ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً أي قبلة بـيت الـمقدس, إلاّ علـى الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ.
وقال بعضهم: بل الكبـيرة: هي الصلاة التـي كانوا يصلّونها إلـى القبلة الأولـى. ذكر من قال ذلك.
1710ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَى اللّهُ قال: صلاتكم حتـى يهديكم الله عزّ وجل القبلة.
1711ـ وقد حدثنـي به يونس مرّة أخرى قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً قال: صلاتك هَهنا يعنـي إلـى بـيت الـمقدس ستة عشر شهرا وانـحرافك هَهنا.
وقال بعض نـحويـي البصرة: أنثت الكبـيرة لتأنـيث القبلة, وإياها عنى جل ثناؤه بقوله: وَإنْ كانَتْ لَكَبِـيرَةً. وقال بعض نـحويـي الكوفة: بل أنثت الكبـيرة لتأنـيث التولـية والتـحويـلة.
فتأويـل الكلام علـى ما تأوله قائلو هذه الـمقالة: وما جعلنا تـحويـلتنا إياك عن القبلة التـي كنت علـيها وتولـيتناك عنها إلا لنعلـم من يتبع الرسول مـمن ينقلب علـى عقبـيه, وإن كانت تـحويـلتنا إياك عنها وتولـيتناك لكبـيرة إلا علـى الذين هدى الله.
وهذا التأويـل أولـى التأويلات عندي بـالصواب, لأن القوم إنـما كبر علـيهم تـحويـل النبـيّ صلى الله عليه وسلم وجهه عن القبلة الأولـى إلـى الأخرى لا عين القبلة ولا الصلاة لأن القبلة الأولـى والصلاة قد كانت وهي غير كبـيرة علـيهم إلا أن يوجه موجّه تأنـيث الكبـيرة إلـى القبلة, ويقول: اجتزىء بذكر القبلة من ذكر التولـية والتـحويـلة لدلالة الكلام علـى معنى ذلك, كما قد وصفنا لك فـي نظائره, فـيكون ذلك وجها صحيحا ومذهبـا مفهوما. ومعنى قوله: كَبِـيرَةً عظيـمة. كما:
1712ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ قال: كبـيرة فـي صدور الناس فـيـما يدخـل الشيطان به ابن آدم, قال: ما لهم صلوا إلـى هَهنا ستة عشر شهرا ثم انـحرفوا فكبرُ ذلك فـي صدور من لا يعرف ولا يعقل والـمنافقـين, فقالوا: أيّ شيء هذا الدين؟ وأما الذين آمنوا فثبت الله جل ثناؤه ذلك فـي قلوبهم. وقرأ قول الله: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَى اللّهُ قال صلاتكم حتـى يهديكم إلـى القبلة.
قال أبو جعفر: وأما قوله: إلاّ عَلَـىَ الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ فإنه يعنـي به: وإن كان تقلـيبَتُناك عن القبلة التـي كنت علـيها لعظيـمة إلا علـى من وفّقه الله جل ثناؤه فهداه لتصديقك, والإيـمان بك وبذلك, واتبـاعك فـيه وفـيـما أنزل الله تعالـى ذكره علـيك. كما:
1713ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَى اللّهُ يقول: إلا علـى الـخاشعين, يعنـي الـمصدّقـين بـما أنزل الله تبـارك وتعالـى.
هالقول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُم قـيـل: عنى بـالإيـمان فـي هذا الـموضع الصلاة. ذكر الأخبـار التـي رُويت بذلك وذكر قول من قاله:
1714ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع وعبـيد الله, وحدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا عبـيد الله بن موسى جميعا, عن إسرائيـل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: لـما وجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى الكعبة قالوا: كيف بـمن مات من إخواننا قبل ذلك وهم يصلون نـحو بـيت الـمقدس؟ فأنزل الله جل ثناؤه: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ.
1715ـ حدثنـي إسماعيـل بن موسى, قال: أخبرنا شريك, عن أبـي إسحاق, عن البراء فـي قول الله عزّ وجلّ: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ قال: صلاتكم نـحو بـيت الـمقدس.
1716ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا شريك, عن أبـي إسحاق, عن البراء نـحوه.
1717ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن مـحمد بن نفـيـل عن الـحرّانـي, قال: حدثنا زهير, قال: حدثنا أبو إسحاق, عن البراء قال: مات علـى القبلة قبل أن تـحوّل إلـى البـيت رجال وقُتلوا, فلـم ندر ما نقول فـيهم, فأنزل الله تعالـى ذكره: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ.
1718ـ حدثنا بشر بن معاذ العقديّ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: قال أناس من الناس لـما صرفت القبلة نـحو البـيت الـحرام: كيف بأعمالنا التـي كنا نعمل فـي قبلتنا؟ فأنزل الله جل ثناؤه: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ. 1719ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنـي عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: لـما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الـمسجد الـحرام, قال الـمسلـمون: لـيت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل بـيت الـمقدس, هل تقبل الله منا ومنهم أم لا؟ فأنزل الله جل ثناؤه فـيهم: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضيعَ إيـمَانَكُمْ قال: صلاتكم قبل بـيت الـمقدس, يقول: إن تلك طاعة وهذه طاعة.
1720ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قال: قال ناس لـما صرفت القبلة إلـى البـيت الـحرام: كيف بأعمالنا التـي كنا نعمل فـي قبلتنا الأولـى؟ فأنزل الله تعالـى ذكره: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضيعَ إيـمَانَكُمْ الآية.
1721ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: أخبرنـي داود بن أبـي عاصم, قال: لـما صرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى الكعبة, قال الـمسلـمون: هلك أصحابنا الذين كانوا يصلون إلـى بـيت الـمقدس, فنزلت: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ.
1722ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه, عن ابن عبـاس فـي قوله: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ يقول: صلاتكم التـي صلـيتـموها من قبل أن تكون القبلة, فكان الـمؤمنون قد أشفقوا علـى من صلـى منهم أن لا تقبل صلاتهم.
1723ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ صلاتكم.
1724ـ حدثنا مـحمد بن إسماعيـل الفزاري, قال: أخبرنا الـمؤمل, قال: حدثنا سفـيان, حدثنا يحيى بن سعيد, عن سعيد بن الـمسيب فـي هذه الآية: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ قال: صلاتكم نـحو بـيت الـمقدس.
قد دللنا فـيـما مضى علـى أن الإيـمان التصديق, وأن التصديق قد يكون بـالقول وحده وبـالفعل وحده وبهما جميعا فمعنى قوله: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ علـى ما تظاهرت به الرواية من أنه الصلاة: وما كان الله لـيضيع تصديق رسوله علـيه الصلاة والسلام بصلاتكم التـي صلـيتـموها نـحو بـيت الـمقدس عن أمره لأن ذلك كان منكم تصديقا لرسولـي, واتبـاعا لأمري, وطاعة منكم لـي. قال: وإضاعته إياه جل ثناؤه لو أضاعه ترك إثابة أصحابه وعاملـيه علـيه, فـيذهب ضياعا ويصير بـاطلاً, كهيئة إضاعة الرجل ماله, وذلك إهلاكه إياه فـيـما لا يعتاض منه عوضا فـي عاجل ولا آجل. فأخبر الله جل ثناؤه أنه لـم يكن يبطل عمل عامل عمل له عملاً وهو له طاعة فلا يثـيبه علـيه, وإن نسخ ذلك الفرض بعد عمل العامل إياه علـى ما كلفه من عمله.
فإن قال قائل: وكيف قال الله جل ثناؤه: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ فأضاف الإيـمان إلـى الأحياء الـمخاطبـين, والقوم الـمخاطبون بذلك إنـما كانوا أشفقوا علـى إخوانهم الذين كانوا ماتوا وهم يصلون نـحو بـيت الـمقدس, وفـي ذلك من أمرهم أنزلت هذه الآية؟ قـيـل: إن القوم وإن كانوا أشفقوا من ذلك, فإنهم أيضا قد كانوا مشفقـين من حبوط ثواب صلاتهم التـي صلوها إلـى بـيت الـمقدس قبل التـحويـل إلـى الكعبة, وظنوا أن عملهم ذلك قد بطل وذهب ضياعا, فأنزل الله جل ثناؤه هذه الآية حينئذ, فوجه الـخطاب بها إلـى الأحياء, ودخـل فـيهم الـموتـى منهم لأن من شأن العرب إذا اجتـمع فـي الـخبر الـمخاطب والغائب أن يغلبوا الـمخاطب, فـيدخـل الغائب فـي الـخطاب, فـيقولوا لرجل خاطبوه علـى وجه الـخبر عنه وعن آخر غائب غير حاضر: فعلنا بكما وصنعنا بكما, كهيئة خطابهم لهما وهما حاضران, ولا يستـجيزون أن يقولوا فعلنا بهما وهم يخاطبون أحدهما فـيردّوا الـمخاطب إلـى عداد الغَيَبِ.
هالقول فـي تأويـل قوله تعالـى: إن اللّهَ بـالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيـمٌ.
ويعنـي بقوله جل ثناؤه: إنّ اللّهَ بـالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيـمٌ أن الله بجميع عبـاده ذو رأفة. والرأفة أعْلـى معانـي الرحمة, وهي عامة لـجميع الـخـلق فـي الدنـيا ولبعضهم فـي الاَخرة. وأما الرحيـم, فإنه ذو الرحمة للـمؤمنـين فـي الدنـيا والاَخرة علـى ما قد بـينا فـيـما مضى قبل. وإنـما أراد جل ثناؤه بذلك أن الله عزّ وجلّ أرحم بعبـاده من أن يضيع لهم طاعة أطاعوه بها فلا يثـيبهم علـيها, وأرأف بهم من أن يؤاخذهم بترك ما لـم يفرضه علـيهم. أي ولا تأسوا علـى موتاكم الذين ماتوا وهم يصلون إلـى بـيت الـمقدس, فإنـي لهم علـى طاعتهم إياي بصلاتهم التـي صلوها كذلك مثـيب, لأنـي أرحم بهم من أن أضيع لهم عملاً عملوه لـي. ولا تـحزنوا علـيهم, فإنـي غير مؤاخذهم بتركهم الصلاة إلـى الكعبة, لأنـي لـم أكن فرضت ذلك علـيهم, وأنا أرأف بخـلقـي من أن أعاقبهم علـى تركهم ما لـم آمرهم بعمله. وفـي الرءوف لغات: إحداها «رَؤُف» علـى مثال «فَعُل» كما قال الولـيد بن عقبة:
وَشَرّ الطّالِبِـينَ وَلاَ تَكُنْهُبِقاتِلِ عَمّهِ الرّؤُفُ الرّحِيـما
وهي قراءة عامة قرّاء أهل الكوفة. والأخرى «رءوف» علـى مثال «فَعُول», وهي قراءة عامة قرّاء الـمدينة. و «رَئِف», وهي لغة غطفـان, علـى مثال «فَعِل» مثل «حَذِر». و «رَأْف» علـى مثال «فَعْل» بجزم العين, وهي لغة لبنـي أسد, والقراءة علـى أحد الوجهين الأوّلـين.
الآية : 144
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَآءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنّ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ }
يعنـي بذلك جل ثناؤه: قد نرى يا مـحمد نـحن تقلب وجهك فـي السماء. ويعنـي بـالتقلب: التـحوّل والتصرّف. ويعنـي بقوله: فـي السّماء نـحو السماء وقِبَلها.
وإنـما قـيـل له ذلك صلى الله عليه وسلم فـيـما بلغنا, لأنه كان قبل تـحويـل قبلته من بـيت الـمقدس إلـى الكعبة يرفع بصره إلـى السماء ينتظر من الله جل ثناؤه أمره بـالتـحويـل نـحو الكعبة. كما:
1725ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّماءِ قال: كان صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه فـي السماء يحبّ أن يصرفه الله عزّ وجلّ إلـى الكعبة حتـى صرفه الله إلـيها.
1726ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّماءِ فكان نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم يصلـي نـحو بـيت الـمقدس, يَهْوَى ويشتهي القبلة نـحو البـيت الـحرام, فوجهه الله جل ثناؤه لقبلة كان يهواها ويشتهيها.
1727ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنـي إسحاق, قال: حدثنـي ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّماءِ يقول: نظرك فـي السماء. وكان النبـيّ صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه فـي الصلاة وهو يصلـي نـحو بـيت الـمقدس, وكان يَهْوَى قبلة البـيت الـحرام, فولاه الله قبلة كان يهواها.
1728ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: كان الناس يصلون قِبَل بـيت الـمقدس, فلـما قدم النبـيّ صلى الله عليه وسلم الـمدينة علـى رأس ثمانـية عشر شهرا من مهاجره, كان إذا صلـى رفع رأسه إلـى السماء ينظر ما يؤمر, وكان يصلـي قبل بـيت الـمقدس. فنسختها الكعبة, فكان النبـي صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يصلـي قِبَل الكعبة, فأنزل الله جل ثناؤه: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّماءِ الآية.
ثم اختلف فـي السبب الذي من أجله كان صلى الله عليه وسلم يهوى قبلة الكعبة.
قال بعضهم: كره قبلة بـيت الـمقدس, من أجل أن الـيهود قالوا: يتبع قبلتنا ويخالفنا فـي ديننا. ذكر من قال ذلك:
1729ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قال: قالت الـيهود: يخالفنا مـحمد, ويتبع قبلتنا فكان يدعو الله جل ثناؤه, ويستفرض للقبلة, فنزلت: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّمَاءِ فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ وانقطع قول يهود: يخالفنا ويتبع قبلتنا فـي صلاة الظهر, فجعل الرجال مكان النساء, والنساء مكان الرجال.
1730ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سمعته, يعنـي ابن زيد يقول: قال الله تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: فأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ الله قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَؤُلاَءِ قَوْمُ يَهُودَ يَسْتَقْبِلُونَ بَـيْتا مِنْ بُـيُوتِ اللّهِ» لبـيت الـمقدس «لو أنا اسْتَقْبَلْنَاهُ», فـاستقبله النبـيّ صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا, فبلغه أن يهود تقول: والله ما درى مـحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أين قبلتهم حتـى هديناهم. فكره ذلك النبـي صلى الله عليه وسلم, ورفع وجهه إلـى السماء, فقال الله جل ثناؤه: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّمَاءِ فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ الآية.
وقال آخرون: بل كان يَهْوَى ذلك من أجل أنه كان قبلة أبـيه إبراهيـم علـيه السلام. ذكر من قال ذلك:
1731ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنا معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لـما هاجر إلـى الـمدينة وكان أكثر أهلها الـيهود أمره الله عزّ وجل أن يستقبل بـيت الـمقدس, ففرحت الـيهود, فـاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ قبلة إبراهيـم, فكان يدعو وينظر إلـى السماء, فأنزل الله عزّ وجل: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّمَاءِ... الآية.
فأما قوله: فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فإنه يعنـي: فلنصرفنك عن بـيت الـمقدس إلـى قبلة ترضاها, تهواها وتـحبها.
وأما قوله: فَوَلّ وَجْهَكَ يعنـي اصرف وجهك وحوّله. وقوله: شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ يعنـي بـالشطر: النـحو والقصد والتلقاء, كما قال الهذلـي:
إنّ العَسِير بِهَا دَاءٌ مُخامِرُهافَشَطْرَها نَظَرُ العَيْنَـيْن مَـحْسُورُ
يعنـي بقوله شطرها: نـحوها. وكما قال ابن أحمر:
تَعْدُو بِنا شَطْرَ جَمْعٍ وهْيَ عاقِدَةٌقَدْ كارَبَ العَقْدُ مِنْ إيفَـادِها الـحَقَبـا
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
1732ـ حدثنـي سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا أبـيّ, عن سفـيان, عن داود بن أبـي هند, عن ابن أبـي العالـية: شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَام يعنـي تلقاءه.
1733ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح قال: حدثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ نـحوه.
1734ـ حدثنا مـحمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد قوله: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ نـحوه.
1735ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
1736ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ أي تلقاء الـمسجد الـحرام.
1737ـ حدثنا الـحسين بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ قال: نـحو الـمسجد الـحرام.
1738ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ أي تلقاءه.
1739ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: أخبرنـي عمرو بن دينار, عن ابن عبـاس أنه قال: شطره: نـحوه.
1740ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحمانـي, قال: حدثنا شريك, عن أبـي إسحاق, عن البراء: فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ قال: قِبَله.
1741ـ حدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: شَطْرَهُ ناحيته جانبه, قال: وجوانبه: شطوره.
ثم اختلفوا فـي الـمكان الذي أمر الله نبـيه صلى الله عليه وسلم أن يولـي وجهه إلـيه من الـمسجد الـحرام.
فقال بعضهم: القبلة التـي حوّل إلـيها النبـي صلى الله عليه وسلم وعناها الله تعالـى ذكره بقوله: فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا حيال ميزاب الكعبة. ذكر من قال ذلك:
1742ـ حدثنـي عبد الله بن أبـي زياد, قال: حدثنا عثمان, قال: أنا شعبة, عن يعلـى بن عطاء, عن يحيى بن قمطة, عن عبد الله بن عمرو: فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا حيال ميزاب الكعبة.
1743ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: حدثنا هشيـم, عن يعلـى بن عطاء, عن يحيى بن قمطة, قال: رأيت عبد الله بن عمرو جالسا فـي الـمسجد الـحرام بإزاء الـميزاب, وتلا هذه الآية: فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا قال: هذه القبلة هي هذه القبلة.
1744ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا هشيـم بإسناده عن عبد الله بن عمرو نـحوه, إلا أنه قال: استقبل الـميزاب فقال: هذا القبلة التـي قال الله لنبـيه: فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا.
وقال آخرون: بل ذلك البـيت كله قبلة, وقبلة البـيت البـاب. ذكر من قال ذلك:
1745ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: البـيت كله قبلة, وهذه قبلة البـيت, يعنـي التـي فـيها البـاب.
والصواب من القول فـي ذلك عندي ما قال الله جل ثناؤه: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ فـالـمولّـي وجهه شطر الـمسجد الـحرام هو الـمصيب القبلة. وإنـما علـى من توجه إلـيه النـية بقلبه أنه إلـيه متوجه, كما أن علـى من ائتـمّ بإمام فإنـما علـيه الائتـمام به وإن لـم يكن مـحاذيا بدنه بدنه, وإن كان فـي طرف الصف والإمام فـي طرف آخر عن يـمينه أو عن يساره, بعد أن يكون من خـلفه مؤتـما به مصلـيا إلـى الوجه الذي يصلـي إلـيه الإمام. فكذلك حكم القبلة, وإن لـم يكن يحاذيها كل مصلّ ومتوجه إلـيها ببدنه غير أنه متوجه إلـيها, فإن كان عن يـمينها أو عن يسارها مقابلها فهو مستقبلها بعد ما بـينه وبـينها, أو قرب من عن يـمينها أو عن يسارها بعد أن يكون غير مستدبرها ولا منـحرف عنها ببدنه ووجهه. كما:
1746ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: أخبرنا إسرائيـل عن أبـي إسحاق عن عميرة بن زياد الكندي, عن علـيّ: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ قال: شطره قِبَله.
قال أبو جعفر: وقبلة البـيت: بـابه. كما:
1747ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, والفضل بن الصبـاح, قالا: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا عبد الـملك, عن عطاء قال: قال أسامة بن زيد: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من البـيت أقبل بوجهه إلـى البـاب فقال: «هَذِهِ القِبْلَةُ, هَذِهِ القِبْلَةُ».
1748ـ حدثنا ابن حميد وسفـيان بن وكيع قالا: حدثنا جرير, عن عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان, عن عطاء, قال: حدثنـي أسامة بن زيد, قال: خرج النبـيّ صلى الله عليه وسلم من البـيت, فصلـى ركعتـين مستقبلاً بوجهه الكعبة, فقال: «هذه القِبْلَةُ» مرّتـين.
1749ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عبد الرحيـم بن سلـيـمان, عن عبد الـملك, عن عطاء, عن أسامة بن زيد, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نـحوه.
1750ـ حدثنا سعيد بن يحيى الأموي, قال: حدثنا أبـيّ, قال: حدثنا ابن جريج, قال: قلت لعطاء: سمعت ابن عبـاس يقول: إنـما أمرتـم بـالطواف, ولـم تؤمروا بدخوله. قال: لـم يكن ينهى عن دخوله, ولكنـي سمعته يقول: أخبرنـي أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لـما دخـل البـيت دعا فـي نواحيه كلها, ولـم يصلّ حتـى خرج, فلـما خرج ركع فـي قبل القبلة ركعتـين وقال: «هذه القِبْلَةُ».
قال أبو جعفر: فأخبر صلى الله عليه وسلم أن البـيت هو القبلة, وأن قبلة البـيت بـابه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَحَيْثُمَا كُنْتُـمْ فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.
يعنـي جل ثناؤه بذلك: فأينـما كنتـم من الأرض أيها الـمؤمنون فحوّلوا وجوهكم فـي صلاتكم نـحو الـمسجد الـحرام وتلقاءه. والهاء التـي فـي «شطره» عائدة إلـى الـمسجد الـحرام. فأوجب جلّ ثناؤه بهذه الآية علـى الـمؤمنـين فرض التوجه نـحو الـمسجد الـحرام فـي صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبـارك وتعالـى. وأدخـلت الفـاء فـي قوله: فَوَلّوا جوابـا للـجزاء, وذلك أن قوله: حَيْثُمَا كُنْتُـمْ جزاء, ومعناه: حيثما تكونوا فولّوا وجوهكم شطره.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: وإن الذين أوتوا الكتاب أحبـار الـيهود وعلـماء النصارى. وقد قـيـل إنـما عنى بذلك الـيهود خاصة. ذكر من قال ذلك:
1751ـ حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ أنزل ذلك فـي الـيهود. وقوله: لَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ يعنـي هؤلاء الأحبـار والعلـماء من أهل الكتاب, يعلـمون أن التوجه نـحو الـمسجد الـحقّ الذي فرضه الله عزّ وجلّ علـى إبراهيـم وذرّيته وسائر عبـاده بعده.
ويعنـي بقوله: مِنْ رَبّهِمْ أنه الفرض الواجب علـى عبـاد الله تعالـى ذكره, وهو الـحقّ من عند ربهم فرضه علـيهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ.
يعنـي بذلك تبـارك وتعالـى: ولـيس الله بغافل عما تعملون أيها الـمؤمنون فـي اتبـاعكم أمره وانتهائكم إلـى طاعته فـيـما ألزمكم من فرائضه وإيـمانكم به فـي صلاتكم نـحو بـيت الـمقدس ثم صلاتكم من بعد ذلك شطر الـمسجد الـحرام, ولا هو ساهٍ عنه, ولكنه جل ثناؤه يحصيه لكم ويدّخره لكم عنده حتـى يجازيكم به أحسن جزاء, ويثـيبكم علـيه أفضل ثواب.
الآية : 145
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلّ آيَةٍ مّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنّكَ إِذَاً لّمِنَ الظّالِمِينَ }
يعنـي بذلك تبـارك اسمه: ولئن جئت يا مـحمد الـيهود والنصارى بكل برهان وحجة وهي الآية بأن الـحقّ هو ما جئتهم به من فرض التـحوّل من قبلة بـيت الـمقدس فـي الصلاة إلـى قبلة الـمسجد الـحرام, ما صدّقوا به ولا اتبعوا مع قـيام الـحجة علـيهم بذلك قبلتك التـي حوّلتك إلـيها وهي التوجه شطر الـمسجد الـحرام. وأجيبت «لئن» بـالـماضي من الفعل وحكمها الـجواب بـالـمستقبل تشبـيها لها ب«لو», فأجيبت بـما تـجاب به لو لتقارب معنـيـيهما وقد مضى البـيان عن نظير ذلك فـيـما مضى. وأجيبت «لو» بجواب الأيـمان, ولا تفعل العرب ذلك إلا فـي الـجزاء خاصة لأن الـجزاء مشابه الـيـمين فـي أن كل واحد منهما لا يتـمّ أوّله إلا بآخره, ولا يتـمّ وحده, ولا يصحّ إلا بـما يؤكد به بعده, فلـما بدأ بـالـيـمين فأدخـلت علـى الـجزاء صارت اللام الأولـى بـمنزلة يـمين, والثانـية بـمنزلة جواب لها, كما قـيـل: لعمرك لتقومنّ, إذ كثرت اللام من «لعمرك» حتـى صارت كحرف من حروفه, فأجيب بـما يجاب به الأيـمان, إذ كانت اللام تنوب فـي الأيـمان عن الأيـمان دون سائر الـحروف غير التـي هي أحقّ به الأيـمان, فتدلّ علـى الأيـمان وتعمل عمل الأجوبة, ولا تدلّ سائر أجوبة الأيـمان لنا علـى الأيـمان فشبهت اللام التـي فـي جواب الأيـمان بـالأيـمان لـما وصفنا, فأجيبت بأجوبتها. فكان معنى الكلام إذ كان الأمر علـى ما وصفنا: لو أتـيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك.
وأما قوله: وَمَا أنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ يقول: وما لك من سبـيـل يا مـحمد إلـى اتبـاع قبلتهم, وذلك أن الـيهود تستقبل بـيت الـمقدس بصلاتها, وأن النصارى تستقبل الـمشرق, فأنى يكون لك السبـيـل إلـى اتبـاع قبلتهم مع اختلاف وجوهها. يقول: فـالزم قبلتك التـي أمرت بـالتوجه إلـيها, ودع عنك ما تقوله الـيهود والنصارى, وتدعوك إلـيه من قبلتهم واستقبـالها.
وأما قوله: وَمَا بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ فإنه يعنـي بقوله: وما الـيهود بتابعة قبلة النصارى, ولا النصارى بتابعة قبلة الـيهود فمتوجهة نـحوها. كما:
1752ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَمَا بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ يقول: ما الـيهود بتابعي قبلة النصارى, ولا النصارى بتابعي قبلة الـيهود. قال: وإنـما أنزلت هذه الآية من أجل أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم لـما حوّل إلـى الكعبة, قالت الـيهود: إن مـحمدا اشتاق إلـى بلد أبـيه ومولده, ولو ثبت علـى قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر فأنزل الله عز وجلّ فـيهم: وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ إلـى قوله: لَـيَكْتُـمُونَ الـحَقّ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ.
1753ـ حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ مثل ذلك.
وإنـما يعنـي جل ثناؤه بذلك أن الـيهود والنصارى لا تـجتـمع علـى قبلة واحدة مع إقامة كل حزب منهم علـى ملتهم, فقال تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: يا مـحمد لا تُشعر نفسك رضا هؤلاء الـيهود والنصارى, فإنه أمر لا سبـيـل إلـيه, لأنهم مع اختلاف مللهم لا سبـيـل لك إلـى إرضاء كل حزب منهم, من أجل أنك إن اتبعت قبلة الـيهود أسخطت النصارى, وإن اتبعت قبلة النصارى أسخطت الـيهود, فدع ما لا سبـيـل إلـيه, وادعهم إلـى ما لهم السبـيـل إلـيه من الاجتـماع علـى ملتك الـحنـيفـية الـمسلـمة, وقبلتك قبلة إبراهيـم والأنبـياء من بعده.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْـمِ إنّكَ إذا لَـمِنَ الظّالِـمِينَ.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ: ولئن التـمست يا مـحمد رضا هؤلاء الـيهود والنصارى الذين قالوا لك ولأصحابك: كُونُوا هُودا أوْ نَصَارَىَ تَهْتَدُوا فـاتبعت قبلتهم يعنـي فرجعت إلـى قبلتهم.
ويعنـي بقوله: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْـمِ من بعد ما وصل إلـيك من العلـم بإعلامي إياك أنهم مقـيـمون علـى بـاطل وعلـى عناد منهم للـحقّ, ومعرفة منهم أن القبلة التـي وجهتك إلـيها هي القبلة التـي فرضت علـى أبـيك إبراهيـم علـيه السلام وسائر ولده من بعده من الرسل التوجه نـحوها إنّكَ إذا لَـمِنَ الظّالِـمِينَ يعنـي أنك إذا فعلت ذلك من عبـادي الظلـمة أنفسهم, الـمخالفـين أمري, والتاركين طاعتـي, وأحدُهم وفـي عدادهم
023
021
الآية : 142
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{سَيَقُولُ السّفَهَآءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ }
يعنـي بقوله جل ثناؤه: سَيَقُولُ السّفَهاءُ سيقول الـجهال من الناس, وهم الـيهود وأهل النفـاق. وإنـما سماهم الله عزّ وجلّ سفهاء لأنهم سَفِهوا الـحقّ, فتـجاهلت أحبـارُ الـيهود, وتعاظمت جهالُهم وأهلُ الغبـاء منهم عن اتبـاع مـحمد صلى الله عليه وسلم, إذ كان من العرب ولـم يكن من بنـي إسرائيـل, وتـحير الـمنافقون فتبلّدوا.
وبـما قلنا فـي السفهاء أنهم هم الـيهود وأهل النفـاق, قال أهل التأويـل. ذكر من قال هم الـيهود:
1637ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ: سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِم قال: الـيهود تقوله حين تركَ بـيتَ الـمقدس.
1638ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
1639ـ حدثت عن أحمد بن يونس, عن زهير, عن أبـي إسحاق, عن البراء: سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ قال: الـيهود.
1640ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن البراء: سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ قال: الـيهود.
1641ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحمانـي, قال: حدثنا شريك, عن أبـي إسحاق, عن البراء فـي قوله: سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ قال: أهل الكتاب.
1642ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس قال: الـيهود.
وقال آخرون: السفهاء: الـمنافقون. ذكر من قال ذلك:
1643ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي قال: نزلت: سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ فـي الـمنافقـين.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: ما وَلاّهُمْ أيّ شيء صرفهم عن قبلهم؟ وهو من قول القائل: ولانـي فلان دُبُرَه: إذا حوّل وجهه عنه واستدبره, فكذلك قوله: ما وَلاّهُمْ أيّ شيء حوّل وجوههم.
وأما قوله: عَنْ قِبْلَتِهِمُ فإن قِبْلَةَ كل شيء: ما قابل وجهه, وإنـما هي «فِعْلة» بـمنزلة الـجِلْسة والقِعْدة من قول القائل: قابلت فلانا: إذا صرت قبـالته أقابله, فهو لـي قِبْلة, وأنا له قبلة, إذا قابل كل واحد منهما بوجهه وجه صاحبه.
قال: فتأويـل الكلام إذن إذْ كان (ذلك) معناه: سيقول السفهاء من النّاس لكم أيها الـمؤمنون بـالله ورسوله, إذا حوّلتـم وجوهكم عن قبلة الـيهود التـي كانت لكم قبلة قبل أمري إياكم بتـحويـل وجوهكم عنها شطر الـمسجد الـحرام: أيّ شيء حوّل وجوه هؤلاء, فصرفها عن الـموضع الذي كانوا يستقبلونه بوجوههم فـي صلاتهم؟ فأعلـم الله جل ثناؤه نبـيه صلى الله عليه وسلم ما الـيهود والـمنافقون قائلون من القول عند تـحويـل قبلته وقبلة أصحابه عن الشام إلـى الـمسجد الـحرام, وعلّـمه ما ينبغي أن يكون من ردّه علـيهم من الـجواب, فقال له: إذا قالوا ذلك لك يا مـحمد, فقل لهم: لِلّهِ الـمَشْرقُ والـمَغْربُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلـى صِراطٍ مُسْتَقِـيـمٍ.
وكان سبب ذلك أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم صلّـى نـحو بـيت الـمقدس مدة سنذكر مبلغها فـيـما بعد إن شاء الله تعالـى, ثم أراد الله تعالـى صَرْفَ قبلة نبـيه صلى الله عليه وسلم إلـى الـمسجد الـحرام, فأخبره عما الـيهود قائلوه من القول عند صرفه وجهه ووجه أصحابه شطره, وما الذي ينبغي أن يكون من ردّه علـيهم من الـجواب.
ذكر الـمدة التـي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نـحو بـيت الـمقدس
وما كان سبب صلاته نـحوه وما الذي دعا الـيهود والـمنافقـين إلـى قـيـل ما قالوا
عند تـحويـل الله قبلة الـمؤمنـين عن بـيت الـمقدس إلـى الكعبة
اختلف أهل العلـم فـي الـمدّة التـي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم نـحو بـيت الـمقدس بعد الهجرة. فقال بعدهم بـما:
1644ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قالا جميعا: حدثنا مـحمد بن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, قال: أخبرنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة شكّ مـحمد عن ابن عبـاس قال: لـما صُرفت القبلة عن الشام إلـى الكعبة, وصرفت فـي رجب علـى رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الـمدينة, أتـى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رفـاعةُ بن قـيس, وقردم بن عمرو, وكعب بن الأشرف, ونافع بن أبـي نافع هكذا قال ابن حميد, وقال أبو كريب: ورافع بن أبـي رافع والـحجاج بن عمرو حلـيف كعب بن الأشرف والربـيع بن الربـيع بن أبـي الـحقـيق وكنانة بن الربـيع بن أبـي الـحقـيق, فقالوا: يا مـحمد ما ولاّك عن قبلتك التـي كنت علـيها وأنت تزعم أنك علـى ملة إبراهيـم ودينه؟ ارجع إلـى قبلتك التـي كنت علـيها نتبعك ونصدقك وإنـما يريدون فتنته عن دينه. فأنزل الله فـيهم: سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا إلـى قوله: إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبِعِ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ.
1645ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, قال البراء: صلّـى رسول الله صلى الله عليه وسلم نـحو بـيت الـمقدس سبعة عشر شهرا, وكان يشتهي أن يُصرف إلـى الكعبة. قال: فبـينا نـحن نصلّـي ذات يوم, فمرّ بنا مارّ فقال: ألا هل علـمتـم أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قد صُرف إلـى الكعبة؟ قال: وقد صلـينا ركعتـين إلـى هَهنا, وصلـينا ركعتـين إلـى هَهنا. قال أبو كريب: فقـيـل له: فـيه أبو إسحاق؟ فسكت.
1646ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن أبـي بكر بن عياش, عن أبـي إسحاق, عن البراء, قال: صلـينا بعد قدوم النبـيّ صلى الله عليه وسلم الـمدينة سبعة عشر شهرا إلـى بـيت الـمقدس.
1647ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى, عن سفـيان, قال: حدثنا أبو إسحاق عن البراء بن عازب قال: صلـيت مع النبـيّ صلى الله عليه وسلم نـحو بـيت الـمقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا شكّ سفـيان ثم صُرفنا إلـى الكعبة.
1648ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا النفـيـلـي, قال: حدثنا زهير, قال: حدثنا أبو إسحاق, عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوّل ما قدم الـمدينة نزل علـى أجداده أو أخواله من الأنصار, وأنه صلـى قِبل بـيت الـمقدس ستة عشر شهرا, وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البـيت, وأنه صلـى صلاة العصر ومعه قوم. فخرج رجل مـمن صلـى معه, فمرّ علـى أهل الـمسجد وهم ركوع, فقال: أشهد لقد صلـيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبل مكة. فداروا كما هم قبل البـيت, وكان يعجبه أن يحوّل قبل البـيت. وكان الـيهود أعجبهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلـي قِبَل بـيت الـمقدس وأهل الكتاب, فلـمّا وَلّـى وجهه قبل البـيت أنكروا ذلك.
1649ـ حدثنـي عمران بن موسى, قال: حدثنا عبد الوارث, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, عن سعيد بن الـمسيب قال: صلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم نـحو بـيت الـمقدس بعد أن قدم الـمدينة ستة عشر شهرا, ثم وُجّه نـحو الكعبة قبل بدر بشهرين.
وقال آخرون بـما:
1650ـ حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عثمان بن سعد الكاتب, قال: حدثنا أنس بن مالك, قال: صلـى نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم نـحو بـيت الـمقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر. فبـينـما هو قائم يصلـي الظهر بـالـمدينة وقد صلـى ركعتـين نـحو بـيت الـمقدس, انصرف بوجهه إلـى الكعبة, فقال السفهاء: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا.
وقال آخرون بـما:
1651ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا الـمسعودي, عن عمرو بن مرّة, عن ابن أبـي لـيـلـى, عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم الـمدينة, فصلـى نـحو بـيت الـمقدس ثلاثة عشر شهرا.
1652ـ حدثنا أحمد بن الـمقدام العجلـي, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, قال: سمعت أبـي, قال: حدثنا قتادة, عن سعيد بن الـمسيب أن الأنصار صلت القبلة الأولـى قبل قدوم النبـيّ صلى الله عليه وسلم بثلاث حجج, وأن النبـيّ صلى الله عليه وسلم صلـى القبلة الأولـى بعد قدومه الـمدينة ستة عشر شهرا, أو كما قال. وكلا الـحديثـين يحدّث قتادة عن سعيد.
ذكر السبب الذي كان من أجله يصلـي رسول الله صلى الله عليه وسلم
نـحو بـيت الـمقدس, قبل أن يفرض علـيه التوجه شطر الكعبة
اختلف أهل العلـم فـي ذلك فقال بعضهم: كان ذلك بـاختـيار من النبـيّ صلى الله عليه وسلم ذكر من قال ذلك:
1653ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح أبو تـميـلة, قال: حدثنا الـحسين بن واقد, عن عكرمة, وعن يزيد النـحوي, عن عكرمة, والـحسن البصري قالا: أوّل ما نسخ من القرآن القبلة, وذلك أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم كان يستقبل صخرة بـيت الـمقدس, وهي قبلة الـيهود, فـاستقبلها النبـيّ صلى الله عليه وسلم سبعة عشر شهرا, لـيؤمنوا به ويتبعوه, ويدعوا بذلك الأميـين من العرب, فقال الله عزّ وجلّ: ولِلّهِ الـمَشْرِقُ والـمَغْرِبُ فَأيْنَـما تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ إنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ.
1654ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كانُوا عَلَـيْهَا يعنون بـيت الـمقدس.
قال الربـيع, قال أبو العالـية: إن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم خُيّر أن يوجه وجهه حيث شاء, فـاختار بـيت الـمقدس لكي يتألف أهل الكتاب, فكانت قبلته ستة عشر شهرا, وهو فـي ذلك يقلب وجهه فـي السماء ثم وجهه الله إلـى البـيت الـحرام.
وقال آخرون: بل كان فعل ذلك من النبـيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بفرض الله عزّ ذكره علـيهم. ذكر من قال ذلك:
1655ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنا معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس قال: لـما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى الـمدينة, وكان أكثر أهلها الـيهود, أمره الله أن يستقبل بـيت الـمقدس, ففرحت الـيهود. فـاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ قبلة إبراهيـم علـيه السلام, وكان يدعو وينظر إلـى السماء, فأنزل الله عزّ وجلّ: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّماءِ الآية, فـارتاب من ذلك الـيهود, وقالوا: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا فأنزل الله عز وجل: قُلْ لِلّهِ الـمَشْرِقُ والـمَغْرِبُ.
1656ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: صلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّل ما صلـى إلـى الكعبة, ثم صرف إلـى بـيت الـمقدس, فصلت الأنصار نـحو بـيت الـمقدس قبل قدومه ثلاث حجج, وصلّـى بعد قدومه ستة عشر شهرا, ثم ولاّه الله جل ثناؤه إلـى الكعبة.
ذكر السبب الذي من أجله قال من قال ما ولاّهم عن قبلتهم التـي كانوا علـيها؟
اختلف أهل التأويـل فـي ذلك, فرُوي عن ابن عبـاس فـيه قولان: أحدهما ما:
1657ـ حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنا ابن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس قال: قال ذلك قوم من الـيهود للنبـيّ صلى الله عليه وسلم, فقالوا له: ارجع إلـى قبلتك التـي كنت علـيها نتبعك ونصدّقك يريدون فتنته عن دينه.
والقول الاَخر: ما ذكرت من حديث علـيّ بن أبـي طلـحة عنه الذي مضى قبل.
1658ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا قال: صلّت الأنصار نـحو بـيت الـمقدس حَوْلَـيْن قبل قدوم النبـيّ صلى الله عليه وسلم الـمدينة, وصلـى نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه الـمدينة مهاجرا نـحو بـيت الـمقدس ستة عشر شهرا, ثم وجهه الله بعد ذلك إلـى الكعبة البـيت الـحرام. فقال فـي ذلك قائلون من الناس: مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا لقد اشتاق الرجل إلـى مولده. فقال الله عز وجل: قُلْ لِلّهِ الـمَشْرِقُ والـمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ.
وقـيـل: قائل هذه الـمقالة الـمنافقون, وإنـما قالوا ذلك استهزاءً بـالإسلام. ذكر من قال ذلك:
1659ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: لـما وجه النبـيّ صلى الله عليه وسلم قبل الـمسجد الـحرام, اختلف الناس فـيها, فكانوا أصنافـا, فقال الـمنافقون: ما بـالهم كانوا علـى قبلة زمانا ثم تركوها وتوجهوا إلـى غيرها؟ فأنزل الله فـي الـمنافقـين: سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ الآية كلها.
هالقول فـي تأويـل قوله تعالـى: قُلْ لِلّهِ الـمَشْرِقُ والـمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ. يعنـي بذلك عزّ وجلّ: قل يا مـحمد لهؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك: ما ولاكم عن قبلتكم من بـيت الـمقدس التـي كنتـم علـى التوجه إلـيها, إلـى التوجه إلـى شطر الـمسجد الـحرام: لله ملك الـمشرق والـمغرب يعنـي بذلك مُلك ما بـين قطري مشرق الشمس, وقطري مغربها, وما بـينهما من العالـم, يهدي من يشاء من خـلقه فـيسدّده, ويوفقه إلـى الطريق القويـم, وهو الصراط الـمستقـيـم. ويعنـي بذلك إلـى قبلة إبراهيـم الذي جعله للناس إماما. ويخذل من يشاء منهم فـيضله عن سبـيـل الـحقّ. وإنـما عنى جلّ ثناؤه بقوله: يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ قل يا مـحمد إن الله هدانا بـالتوجه شطر الـمسجد الـحرام لقبلة إبراهيـم, وأضلكم أيها الـيهود والـمنافقون وجماعة الشرك بـالله, فخذلكم عما هدانا له من ذلك.
الآية : 143
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّن يَنقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ }
يعنـي جل ثناؤه بقوله: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا كما هديناكم أيها الـمؤمنون بـمـحمد علـيه الصلاة والسلام, وبـما جاءكم به من عند الله, فخصصناكم بـالتوفـيق لقبلة إبراهيـم وملّته, وفضلناكم بذلك علـى من سواكم من أهل الـملل كذلك خصصناكم ففضلناكم علـى غيركم من أهل الأديان بأن جعلناكم أمة وسطا. وقد بـينا أن الأمة هي القرن من الناس والصنف منهم وغيرهم. وأما الوسط فإنه فـي كلام العرب: الـخيار, يقال منه: فلان وسط الـحسب فـي قومه: أي متوسط الـحسب, إذا أرادوا بذلك الرفع فـي حسبه, وهو وسط فـي قومه وواسط, كما يقال شاة يابسة اللبن, ويَبَسة اللبن, وكما قال جل ثناؤه: فـاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقا فـي البَحْرِ يَبسا. وقال زهير بن أبـي سلـمى فـي الوسط:
هُمُ وَسَطٌ يَرْضَى الأنامُ يحُكمِهِمْإذَا نَزَلَتْ إحْدَى اللّـيالـي بِـمُعْظَمِ
قال: وأنا أرى أن الوسط فـي هذا الـموضع هو الوسط الذي بـمعنى الـجزء الذي هو بـين الطرفـين, مثل «وسط الدار», مـحرّك الوسط مثقّله, غير جائز فـي سينه التـخفـيف. وأرى أن الله تعالـى ذكره إنـما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم فـي الدين, فلا هم أهل غلوّ فـيه غلوّ النصارى الذين غلوا بـالترهب وقـيـلهم فـي عيسى ما قالوا فـيه, ولا هم أهل تقصير فـيه تقصير الـيهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبـياءهم وكذبوا علـى ربهم وكفروا به ولكنهم أهل توسط واعتدال فـيه, فوصفهم الله بذلك, إذ كان أحبّ الأمور إلـى الله أوسطها.
وأما التأويـل فإنه جاء بأن الوسط العدل, وذلك معنى الـخيار لأن الـخيار من الناس عدولهم. ذكر من قال: الوسط العدل.
1660ـ حدثنا سالـم بن جنادة ويعقوب بن إبراهيـم, قالا: حدثنا حفص بن غياث, عن الأعمش, عن أبـي صالـح عن أبـي سعيد, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي قوله: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: «عُدُولاً».
1661ـ حدثنا مـجاهد بن موسى ومـحمد بن بشار, قالا: حدثنا جعفر بن عون, عن الأعمش, عن أبـي صالـح عن أبـي سعيد, عن النبـي صلى الله عليه وسلم, مثله.
1662ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان عن الأعمش عن أبـي صالـح, عن أبـي سعيد الـخدري: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: «عُدُولاً.
1663ـ حدثنـي علـيّ بن عيسى, قال: حدثنا سعيد بن سلـيـمان, عن حفص بن غياث, عن أبـي صالـح, عن أبـي هريرة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي قوله: جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: عُدُولاً».
1664ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: عُدُولاً.
1665ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عز وجل: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: عُدُولاً.
1666ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله.
1667ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: أُمّةً وَسَطا قال: عُدولاً.
1668ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: أُمّةً وَسَطا قال: عُدولاً.
1669ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: أُمّةً وَسَطا قال: عدولاً.
1670ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا يقول: جعلكم أمة عدولاً.
1671ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن راشد بن سعد, قال: أخبرنا ابن أنعم الـمعافري, عن حبـان بن أبـي جبلة بسنده إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: «الوَسَطُ: العَدْلُ».
1672ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء ومـجاهد وعبد الله بن كثـير: أُمّةً وَسَطا قالوا: عدولاً, قال مـجاهد: عدولاً.
1673ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: هم وسط بـين النبـيّ صلى الله عليه وسلم وبـين الأمـم.
هالقول فـي تأويـل قوله تعالـى: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاس ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا.
والشهداء جمع شهيد. فمعنى ذلك: وكذلك جعلناكم أمة وسطا عدولاً (لتكونوا) شهداء لأنبـيائي ورسلـي علـى أمـمها بـالبلاغ أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتـي إلـى أمـمها, ويكون رسولـي مـحمد صلى الله عليه وسلم شهيدا علـيكم بإيـمانكم به, وبـما جاءكم به من عندي. كما:
1674ـ حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا حفص, عن الأعمش, عن أبـي صالـح, عن أبـي سعيد, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُدْعَىَ بِنُوحٍ عَلَـيْهِ السّلاَمُ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ, فَـيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلّغْتَ ما أُرْسِلْتَ بِهِ؟ فَـيَقُولُ: نَعَمْ, فَـيُقَالُ لِقَوْمِهِ: هَلْ بَلّغَكُمْ؟ فَـيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ, فَـيُقَالُ لَهُ: مَنْ يَعْلَـمُ ذَاكَ؟ فَـيَقُولُ مُـحَمّدٌ وأُمّتُهُ فهو قوله: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ ويَكُونُ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا».
1675ـ حدثنا مـجاهد بن موسى, قال: حدثنا جعفر بن عون, قال: حدثنا الأعمش, عن أبـي صالـح, عن أبـي سعيد عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بنـحوه, إلا أنه زاد فـيه: «فَـيُدْعَوْنَ وَيَشْهَدُونَ أنّهُ قَدْ بَلّغَ».
1676ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن أبـي صالـح, عن أبـي سعيد: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ بأن الرسل قد بلغوا, ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا: بـما عملتـم أو فعلتـم.
1677ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن فضيـل, عن أبـي مالك الأشجعي, عن الـمغيرة بن عيـينة بن النهاس, أن مكاتبـا لهم حدثهم عن جابر بن عبد الله, أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّـي وأُمّتِـي لَعَلَـىَ كَوْمٍ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ مُشْرِفِـينَ عَلَـىَ الْـخَلاَئِقِ مَا أحَدٌ مِنَ الأُمَـم إلاّ وَدّ أنّهُ مِنْهَا أيّتُها الأُمّةُ, وَمَا مِنْ نَبِـيَ كَذّبَهُ قَوْمُهُ إلاّ نَـحْنُ شُهَدَاؤُهُ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ أنّهُ قَدْ بَلّغَ رِسَالاتِ رَبّه وَنَصَحَ لَهُمْ» قال: «ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا».
1678ـ حدثنـي عصام بن روّاد بن الـجراح العسقلانـي, قال: حدثنا أبـي, قال: حدثنا الأوزاعي, عن يحيى بن أبـي كثـير, عن عبد الله بن الفضل, عن أبـي هريرة, قال: خرجت مع النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي جنازة, فلـمّا صلّـى علـى الـميت قال الناس: نعم الرجل فقال النبـي صلى الله عليه وسلم: «وَجَبَتْ». ثم خرجت معه فـي جنازة أخرى, فلـما صلوا علـى الـميت قال الناس: بئس الرجل فقال النبـي صلى الله عليه وسلم: «وَجَبَتْ». فقام إلـيه أبـيّ بن كعب فقال: يا رسول الله ما قولك وجبت؟ قال: «قول الله عَزّ وجَلّ: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ».
1679ـ حدثنـي علـيّ بن سهل الرملـي, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم, قال: حدثنـي أبو عمرو عن يحيى, قال: حدثنـي عبد الله بن أبـي الفضل الـمدينـي, قال: حدثنـي أبو هريرة, قال: أُتـي رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة, فقال الناس: نعم الرجل, ثم ذكر نـحو حديث عصام عن أبـيه.
1680ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا زيد بن حبـاب, قال: حدثنا عكرمة بن عمار, قال: حدثنـي إياس بن سلـمة بن الأكوع, عن أبـيه, قال: كنا مع النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فمرّ علـيه بجنازة فأثنى علـيها بثناء حسن, فقال: «وَجَبَتْ», ومرّ علـيه بجنازة أخرى, فأثنى علـيها دون ذلك, فقال: «وَجَبَتْ», قالوا: يا رسول الله ما وجبت؟ قال: «الـمَلاَئِكَةُ شُهَدَاءُ اللّهِ فـي السّماءِ وأنْتُـمْ شُهَداءُ اللّهِ فـي الأرْضِ فَمَا شَهِدْتُـمْ عَلَـيْهِ وَجَبَ». ثم قرأ: وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَىَ اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والـمُؤْمِنُونَ... الآية.
1681ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: لِتَكُونُوا شُهَدَاء علـى النّاس تكونوا شهداء لـمـحمد علـيه الصلاة والسلام علـى الأمـم الـيهود والنصارى والـمـجوس.
1682ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
1683ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, قال: يأتـي النبـيّ صلى الله عليه وسلم يوم القـيامة بإذنه لـيس معه أحد فتشهد له أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغهم.
1684ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن أبـي نـجيح, عن أبـيه أنه سمع عبـيد بن عمير, مثله.
1685ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, قال: حدثنـي ابن أبـي نـجيح, عن أبـيه قال: يأتـي النبـي صلى الله عليه وسلم يوم القـيامة, فذكر مثله, ولـم يذكر عبـيد بن عمير مثله.
1686ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ أي أن رسلهم قد بلغت قومها عن ربها, وَيَكُونُ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا علـى أنه قد بلغ رسالات ربه إلـى أمته.
1687ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن زيد بن أسلـم: أن قوم نوح يقولون يوم القـيامة: لـم يبلغنا نوح. فـيدعى نوح علـيه السلام فـيسأل: هل بلغتهم؟ فـيقول: نعم, فـيقال: من شهودك؟ فـيقول: أحمد صلى الله عليه وسلم وأمته. فتدعون فتسألون, فتقولون: نعم قد بلغهم. فتقول قوم نوح علـيه السلام: كيف تشهدون علـينا ولـم تدركونا؟ قالوا: قد جاء نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أنه قد بلغكم, وأنزل علـيه أنه قد بلغكم, فصدقناه. قال: فـيصدق نوح علـيه السلام ويكذّبونهم. قال: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا.
1688ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ لتكون هذه الأمة شهداء علـى الناس أن الرسل قد بلغتهم, ويكون الرسول علـى هذه الأمة شهيدا, أن قد بلغ ما أرسل به.
1689ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن زيد بن أسلـم: أن الأمـم يقولون يوم القـيامة: والله لقد كادت هذه الأمة أن تكون أنبـياء كلهم لـما يرون الله أعطاهم.
1690ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: حدثنا ابن الـمبـارك عن راشد بن سعد, قال: أخبرنـي ابن أنعم الـمعافري, عن حبـان بن أبـي جبلة بسنده إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذَا جَمَعَ اللّهُ عِبَـادَهُ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ, كَانَ أوّلَ مَنْ يُدْعَىَ إسْرَافِـيـلُ, فَـيَقُولُ لَهُ رَبّهُ: مَا فَعَلْتَ فِـي عَهْدِي, هَلْ بَلّغْتَ عَهْدِي؟ فَـيَقُولُ: نَعَمْ رَبّ قَدْ بَلّغْتُهُ جِبْرِيـلَ عَلَـيْهِمَا السّلاَمُ, فَـيُدْعَىَ جِبْرِيـلُ فَـيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلّغْتَ إسْرَافِـيـلَ عَهْدِي؟ فَـيَقُولُ: نَعَمْ رَبّ قَدْ بَلّغَنِـي. فَـيُخَـلّـى عَنْ إسْرَافِـيـلَ, ويُقَالُ لِـجِبْرِيـلَ: هَلْ بَلّغْتَ عَهْدِي؟ فَـيَقُولُ: نَعَمْ قَدْ بَلّغْتُ الرّسُلَ. فَتُدْعَىَ الرّسُلُ فَـيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلّغَكُمْ جِبْرِيـلُ عَهْدِي؟ فَـيَقُولُونَ نَعَمْ رَبّنا. فَـيُخَـلّـى عَنْ جِبْرِيـلُ, ثُمّ يُقَالُ للرّسُلِ: ما فَعَلْتُـمْ بِعَهْدِي؟ فَـيَقُولُونَ: بَلّغْنا أُمَـمَنا. فَتُدْعَىَ الأُمَـمُ فَـيُقَالُ: هَلْ بَلّغَكُمْ الرّسُلُ عَهْدِي؟ فَمِنْهُمْ الـمُكَذّبُ وَمِنْهُمْ الـمُصَدّقُ, فَتَقُولُ الرّسُلُ: إنّ لَنَا عَلَـيْهِمْ شُهُودا يَشْهَدُونَ أنْ قَدْ بَلغْنا مَعَ شَهَادَتِكَ. فَـيَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكُمْ؟ فَـيَقُولُونَ: أُمّةُ مُـحَمّدٍ. فَتُدْعَىَ أُمّةُ مُـحَمّدٍ صلى الله عليه وسلم, فَـيَقُولُ: أتَشْهَدُونَ أنّ رُسُلِـي هَؤُلاَءِ قَدْ بَلّغُوا عَهْدِي إلـى مَنْ أُرْسِلُوا إلَـيْهِ؟ فَـيَقُولُونَ: نَعَمْ رَبّنا شَهِدْنَا أنْ قَدْ بَلّغُوا. فَتَقُولُ تِلْكَ الأُمَـم: كَيْفَ يَشْهَدُ عَلَـيْنَا مَنْ لَـمْ يُدْرِكْنا؟ فَـيَقُولُ لَهُمُ الرّبّ تَبَـارَكَ وتَعَالَـىَ: كَيْفَ تَشْهَدُونَ عَلَـىَ مَنْ لَـمْ تُدْرِكُوا؟ فَـيَقُولُونَ: رَبّنَا بَعَثْتَ إلَـيْنَا رَسُولاً, وأنْزَلْتَ إلَـيْنَا عَهْدَكَ وكِتابَكَ, وقَصَصْتَ عَلَـيْنَا أنّهُمْ قَدْ بَلّغُوا, فَشَهِدْنا بِـمَا عَهِدْتَ إلَـيْنَا. فَـيَقُولُ الرّبّ: صَدَقُوا. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا». والوسط: العدل. «لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا».
قال ابن أنعم: فبلغنـي أنه يشهد يومئذ أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم إلا من كان فـي قلبه حِنَةٌ علـى أخيه.
1691ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك فـي قوله: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ يعنـي بذلك الذين استقاموا علـى الهدى, فهم الذين يكونون شهداء علـى الناس يوم القـيامة, لتكذيبهم رسل الله, وكفرهم بآيات الله.
1692ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ يقول: لتكونوا شهداء علـى الأمـم الذين خـلوا من قبلكم بـما جاءتهم رسلهم, وبـما كذّبوهم, فقالوا يوم القـيامة وعجبوا: إن أمة لـم يكونوا فـي زماننا, فآمنوا بـما جاءت به رسلنا, وكذّبنا نـحن بـما جاءوا به. فعجبوا كلّ العجب.
قوله: ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا يعنـي بإيـمانهم به, وبـما أنزل علـيه.
1693ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه, عن ابن عبـاس: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ يعنـي أنهم شهدوا علـى القرون بـما سمى الله عزّ وجلّ لهم.
1694ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما قوله: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـى النّاسِ؟ قال: أمة مـحمد شهدوا علـى من ترك الـحقّ حين جاءه الإيـمان والهدى مـمن كان قبلنا. قالها عبد الله بن كثـير. قال: وقال عطاء: شهداء علـى من ترك الـحقّ مـمن تركه من الناس أجمعين, جاء ذلك أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم فـي كتابهم: وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا علـى أنهم قد آمنوا بـالـحقّ حين جاءهم وصدّقوا به.
1695ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد علـى أمته, وهم شهداء علـى الأمـم, وهم أحد الأشهاد الذي قال الله عز وجلّ: وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ الأربعة الـملائكة الذين يحصون أعمالنا لنا وعلـينا. وقرأ قوله: وَجَاءَتْ كُلّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وشَهِيدٌ. وقال: هذا يوم القـيامة. قال: والنبـيون شهداء علـى أمـمهم. قال: وأمة مـحمد صلى الله عليه وسلم شهداء علـى الأمـم, (قال: والأطوار: الأجساد والـجلود).
القول فـي تأويـل قوله تعالـى وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ.
يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا ولـم نـجعل صَرْفَك عن القبلة التـي كنت علـى التوجه إلـيها يا مـحمد فصرفناك عنها إلا لنعلـم من يتبعك مـمن لا يتبعك مـمن ينقلب علـى عقبـيه. والقبلة التـي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم علـيها التـي عناها الله بقوله: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا هي القبلة التـي كنت تتوجه إلـيها قبل أن يصرفك إلـى الكعبة. كما:
1696ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَمَا جَعَلْنا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا يعنـي بـيت الـمقدس.
1697ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قلت لعطاء: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا؟ قال: القبلة: بـيت الـمقدس.
وإنـما ترك ذكر الصرف عنها اكتفـاء بدلالة ما قد ذكر من الكلام علـى معناه كسائر ما قد ذكرنا فـيـما مضى من نظائره.
وإنـما قلنا ذلك معناه لأن مـحنة الله أصحاب رسوله فـي القبلة إنـما كانت فـيـما تظاهرت به الأخبـار عند التـحويـل من بـيت الـمقدس إلـى الكعبة, حتـى ارتدّ فـيـما ذكر رجال مـمن كان قد أسلـم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأظهر كثـير من الـمنافقـين من أجل ذلك نفـاقهم, وقالوا: ما بـال مـحمد يحوّلنا مرّة إلـى هَهنا, ومرّة إلـى هَهنا؟ وقال الـمسلـمون فـيـما مضى من إخوانهم الـمسلـمين, وهم يصلون نـحو بـيت الـمقدس: بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت. وقال الـمشركون: تـحير مـحمد صلى الله عليه وسلم فـي دينه. فكان ذلك فتنة للناس وتـمـحيصا للـمؤمنـين, فلذلك قال جل ثناؤه: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـى عَقِبَـيْهِ أي: وما جعلنا صرفك عن القبلة التـي كنت علـيها, وتـحويـلك إلـى غيرها, كما قال جل ثناؤه: وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِـي أرَيْنَاكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ بـمعنى: وما جعلنا خبرك عن الرؤيا التـي أريناك. وذلك أنه لو لـم يكن أخبر القوم بـما كان أرى لـم يكن فـيه علـى أحد فتنة, وكذلك القبلة الأولـى التـي كانت نـحو بـيت الـمقدس لو لـم يكن صرف عنها إلـى الكعبة لـم يكن فـيها علـى أحد فتنة ولا مـحنة.
ذكر الأخبـار التـي رويت فـي ذلك بـمعنى ما قلنا:
1698ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة, قال: كانت القبلة فـيها بلاء وتـمـحيص صلت الأنصار نـحو بـيت الـمقدس حولـين قبل قدوم نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم, وصلـى نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه الـمدينة مهاجرا نـحو بـيت الـمقدس سبعة عشر شهرا, ثم وجهه الله بعد ذلك إلـى الكعبة البـيت الـحرام, فقال فـي ذلك قائلون من الناس: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا؟ لقد اشتاق الرجل إلـى مولده قال الله عزّ وجلّ: قُلْ لِلّهِ الـمَشْرِقُ والـمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ فقال أناس لـما صرفت القبلة نـحو البـيت الـحرام: كيف بأعمالنا التـي كنا نعمل فـي قبلتنا الأولـى؟ فأنزل الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمانَكُمْ وقد يبتلـي الله العبـاد بـما شاء من أمره الأمر بعد الأمر, لـيعلـم من يطيعه مـمن يعصيه. وكل ذلك مقبول إذا كان فـي إيـمان بـالله, وإخلاص له, وتسلـيـم لقضائه.
1699ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم يصلـي قبل بـيت الـمقدس, فنسختها الكعبة. فلـما وُجّه قبل الـمسجد الـحرام, اختلف الناس فـيها, فكانوا أصنافـا فقال الـمنافقون: ما بـالهم كانوا علـى قبلة زمانا ثم تركوها وتوجهوا إلـى غيرها؟ وقال الـمسلـمون: لـيت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل بـيت الـمقدس, هل تقبل الله منا ومنهم أو لا؟ وقالت الـيهود: إن مـحمدا اشتاق إلـى بلد أبـيه ومولده, ولو ثبت علـى قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر. وقال الـمشركون من أهل مكة: تـحير علـى مـحمد دينه, فتوجه بقبلته إلـيكم, وعلـم أنكم كنتـم أهدى منه, ويوشك أن يدخـل فـي دينكم. فأنزل الله جل ثناؤه فـي الـمنافقـين: سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا إلـى قوله: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ وأنزل فـي الاَخرين الاَيات بعدها.
1700ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قلت لعطاء: إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ؟ فقال عطاء: يبتلـيهم لـيعلـم من يسلـم لأمره. قال ابن جريج: بلغنـي أن ناسا مـمن أسلـم رجعوا فقالوا: مرّة هَهنا ومرّة هَهنا.
فإن قال لنا قائل: أوَما كان الله عالـما بـمن يتبع الرسول مـمن ينقلب علـى عقبـيه إلا بعد اتبـاع الـمتبع, وانقلاب الـمنقلب علـى عقبـيه, حتـى قال: ما فعلنا الذي فعلنا من تـحويـل القبلة إلا لنعلـم الـمتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الـمنقلب علـى عقبـيه؟ قـيـل: إن الله جل ثناؤه هو العالـم بـالأشياء كلها قبل كونها, ولـيس قوله: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ يخبر أنه لـم يعلـم ذلك إلا بعد وجوده.
فإن قال: فما معنى ذلك؟ قـيـل له: أما معناه عندنا فإنه: وما جعلنا القبلة التـي كنت علـيها إلا لـيعلـم رسولـي وحزبـي وأولـيائي من يتبع الرسول مـمن ينقلب علـى عقبـيه. فقال جل ثناؤه: إلاّ لِنَعْلَـمَ ومعناه: لـيعلـم رسولـي وأولـيائي, إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولـياؤه من حزبه, وكان من شأن العرب إضافة ما فعلته أتبـاع الرئيس إلـى الرئيس, وما فعل بهم إلـيه نـحو قولهم: فتـح عمر بن الـخطاب سواد العراق, وجبى خراجها, وإنـما فعل ذلك أصحابه عن سبب كان منه فـي ذلك.
وكالذي رُوي فـي نظيره عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يَقُولُ اللّهُ جَلّ ثَنَاؤُهُ: مَرِضْتُ فَلَـمْ يَعُدْنِـي عَبْدِي, وَاسْتَقْرَضْتُهُ فَلَـمْ يُقْرِضْنِـي, وَشَتَـمَنِـي وَلَـمْ يَنْبَغِ لَهُ أنْ يَشْتِـمَنِـي».
1701ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا خالد عن مـحمد بن جعفر, عن العلاء بن عبد الرحمَن, عن أبـيه, عن أبـي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قالَ اللّهُ: اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَـمْ يُقْرِضنِـي, وشَتَـمَنِـي وَلَـمْ يَنْبَغِ لَهُ أنْ يَشْتِـمَنِـي, يَقُولُ: وَادَهْرَاهُ وأنا الدّهْرُ أنا الدّهْرُ».
1702ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن العلاء بن عبد الرحمَن, عن أبـيه, عن أبـي هريرة عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بنـحوه.
فأضاف تعالـى ذكره الاستقراض والعيادة إلـى نفسه, وقد كان ذلك بغيره إذ كان ذلك عن سببه.
وقد حُكي عن العرب سماعا: أجوع فـي غير بطنـي, وأعرى فـي غير ظهري, بـمعنى جُوعَ أهله وعياله وعُرْيَ ظهورهم, فكذلك قوله: إلاّ لِنَعْلَـمَ بـمعنى يعلـم أولـيائي وحزبـي.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
1703ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ قال ابن عبـاس: لنـميز أهل الـيقـين من أهل الشرك والريبة.
وقال بعضهم: إنـما قـيـل ذلك من أجل أن العرب تضع العلـم مكان الرؤية, والرؤية مكان العلـم, كما قال جل ذكره: ألَـمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بأصحابِ الفِـيـلِ. فزعم أن معنى: ألَـمْ تَرَ: ألـم تعلـم, وزعم أن معنى قوله: إلاّ لِنَعْلَـمَ بـمعنى: إلا لنرى من يتبع الرسول. وزعم أن قول القائل: رأيت وعلـمت وشهدت حروف تتعاقب فـيوضع بعضها موضع بعض, كما قال جرير بن عطية:
كأنّك لـمْ تَشْهَدْ لَقِـيطا وَحاجِبـاوعَمْرَو بْنَ عَمْرٍو إذْ دَعا يالَ دارِمِ
بـمعنى: كأنك لـم تعلـم لقـيطا لأن بـين هلك لقـيط وحاجب وزمان جرير ما لا يخفـى بعده من الـمدّة. وذلك أن الذين ذكرهم هلكوا فـي الـجاهلـية, وجرير كان بعد برهة مضت من مـجيء الإسلام. وهذا تأويـل بعيد, من أجل أن الرؤية وإن استعملت فـي موضع العلـم من أجل أنه مستـحيـل أن يرى أحد شيئا, فلا توجب رؤيته إياه علـما بأنه قد رآه إذا كان صحيح الفطرة, فجاز من الوجه الذي أثبته رؤية أن يضاف إلـيه إثبـاته إياه علـما, وصحّ أن يدلّ بذكر الرؤية علـى معنى العلـم من أجل ذلك. فلـيس ذلك وإن كان فـي الرؤية لـما وصفنا بجائز فـي العلـم, فـيدلّ بذكر الـخبر عن العلـم علـى الرؤية لأن الـمرء قد يعلـم أشياء كثـيرة لـم يرها ولا يراها, ويستـحيـل أن يرى شيئا إلا علـمه, كما قد قدمنا البـيان, مع أنه غير موجود فـي شيء من كلام العرب أن يقال: علـمت كذا بـمعنى رأيته, وإنـما يجوز توجيه معانـي ما فـي كتاب الله الذي أنزله علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم من الكلام إلـى ما كان موجودا مثله فـي كلام العرب دون ما لـم يكن موجودا فـي كلامها, فموجود فـي كلامها «رأيت» بـمعنى «علـمت», وغير موجود فـي كلامها «علـمت» بـمعنى «رأيت», فـيجوز توجيه إلاّ لِنَعلـمَ إلـى معنى: إلا لنرى.
وقال آخرون: إنـما قـيـل: إلاّ لِنَعْلَـمَ من أجل أن الـمنافقـين والـيهود وأهل الكفر بـالله أنكروا أن يكون الله تعالـى ذكره يعلـم الشيء قبل كونه, وقالوا إذ قـيـل لهم: إن قوما من أهل القبلة سيرتدّون علـى أعقابهم, إذا حوّلت قبلة مـحمد صلى الله عليه وسلم إلـى الكعبة: ذلك غير كائن, أو قالوا: ذلك بـاطل. فلـما فعل الله ذلك, وحوّل القبلة, وكفر من أجل ذلك من كفر, قال الله جل ثناؤه: ما فعلت إلا لنعلـم ما عندكم أيها الـمشركون الـمنكرون علـمي بـما هو كائن من الأشياء قبل كونه, أنـي عالـم بـما هو كائن مـما لـم يكن بعد.
فكأن معنى قائل هذا القول فـي تأويـل قوله: إلا لِنَعْلَـمَ إلا لنبـين لكم أنا نعلـم من يتبع الرسول مـمن ينقلب علـى عقبـيه. وهذا وإن كان وجها له مخرج, فبعيد من الـمفهوم.
وقال آخرون: إنـما قـيـل: إلاّ لِنَعْلَـمَ وهو بذلك عالـم قبل كونه وفـي كل حال, علـى وجه الترفّق بعبـاده, واستـمالتهم إلـى طاعته, كما قال جل ثناؤه: قُل اللّهُ وإنّا أو إيّاكُمْ لَعَلَـىَ هُدًى أوْ فِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ وقد علـم أنه علـى هدى وأنهم علـى ضلال مبـين, ولكنه رفق بهم فـي الـخطاب, فلـم يقل: أنا علـى هدى, وأنتـم علـى ضلال. فكذلك قوله: إلاّ لِنَعْلَـمَ معناه عندهم: إلا لتعلـموا أنتـم إذ كنتـم جهالاً به قبل أن يكون فأضاف العلـم إلـى نفسه رفقا بخطابهم. وقد بـينا القول الذي هو أولـى فـي ذلك بـالـحقّ.
وأما قوله: مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ فإنه يعنـي: الذي يتبع مـحمدا صلى الله عليه وسلم فـيـما يأمره الله به, فـيوجه نـحو الوجه الذي يتوجه نـحوه مـحمد صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ فإنه يعنـي: من الذي يرتدّ عن دينه, فـينافق, أو يكفر, أو يخالف مـحمدا صلى الله عليه وسلم فـي ذلك مـمن يظهر اتبـاعه. كما:
1704ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلاّ لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبعُ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ قال: من إذا دخـلته شبهة رجع عن الله, وانقلب كافرا علـى عقبـيه.
وأصل الـمرتدّ علـى عقبـيه: هو الـمنقلب علـى عقبـيه الراجع مستدبرا فـي الطريق الذي قد كان قطعه منصرفـا عنه, فقـيـل ذلك لكل راجع عن أمر كان فـيه من دين أو خير, ومن ذلك قوله: فـارْتَدّا علـى آثارِهِما قَصصا بـمعنى رجعا فـي الطريق الذي كانا سلكاه.
وإنـما قـيـل للـمرتدّ مرتدّ, لرجوعه عن دينه وملّته التـي كان علـيها. وإنـما قـيـل رجع علـى عقبـيه لرجوعه دبرا علـى عقبه إلـى الوجه الذي كان فـيه بدء سيره قبل رجعه عنه, فـيجعل ذلك مثلاً لكل تارك أمرا وآخذ آخر غيره إذا انصرف عما كان فـيه إلـى الذي كان له تاركا فأخذه, فقـيـل ارتدّ فلان علـى عقبه, وانقلب علـى عقبـيه.
هالقول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ.
اختلف أهل التأويـل فـي التـي وصفها الله جلّ وعزّ بأنها كانت كبـيرة إلا علـى الذين هدى الله.
فقال بعضهم: عنى جل ثناؤه بـالكبـيرة: التولـية من بـيت الـمقدس شطر الـمسجد الـحرام والتـحويـل, وإنـما أنّث الكبـيرة لتأنـيث التولـية. ذكر من قال ذلك:
1705ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: قال الله: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَى اللّهُ يعنـي تـحويـلها.
1706ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميـمون, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجل: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَى اللّهُ قال: ما أمروا به من التـحوّل إلـى الكعبة من بـيت الـمقدس.
1707ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
1708ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَى اللّهُ قال: كبـيرة حين حوّلت القبلة إلـى الـمسجد الـحرام, فكانت كبـيرة إلا علـى الذين هدى الله.
وقال آخرون: بل الكبـيرة هي القبلة بعينها التـي كان صلى الله عليه وسلم يتوجه إلـيها من بـيت الـمقدس قبل التـحويـل. ذكر من قال ذلك.
1709ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً أي قبلة بـيت الـمقدس, إلاّ علـى الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ.
وقال بعضهم: بل الكبـيرة: هي الصلاة التـي كانوا يصلّونها إلـى القبلة الأولـى. ذكر من قال ذلك.
1710ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَى اللّهُ قال: صلاتكم حتـى يهديكم الله عزّ وجل القبلة.
1711ـ وقد حدثنـي به يونس مرّة أخرى قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً قال: صلاتك هَهنا يعنـي إلـى بـيت الـمقدس ستة عشر شهرا وانـحرافك هَهنا.
وقال بعض نـحويـي البصرة: أنثت الكبـيرة لتأنـيث القبلة, وإياها عنى جل ثناؤه بقوله: وَإنْ كانَتْ لَكَبِـيرَةً. وقال بعض نـحويـي الكوفة: بل أنثت الكبـيرة لتأنـيث التولـية والتـحويـلة.
فتأويـل الكلام علـى ما تأوله قائلو هذه الـمقالة: وما جعلنا تـحويـلتنا إياك عن القبلة التـي كنت علـيها وتولـيتناك عنها إلا لنعلـم من يتبع الرسول مـمن ينقلب علـى عقبـيه, وإن كانت تـحويـلتنا إياك عنها وتولـيتناك لكبـيرة إلا علـى الذين هدى الله.
وهذا التأويـل أولـى التأويلات عندي بـالصواب, لأن القوم إنـما كبر علـيهم تـحويـل النبـيّ صلى الله عليه وسلم وجهه عن القبلة الأولـى إلـى الأخرى لا عين القبلة ولا الصلاة لأن القبلة الأولـى والصلاة قد كانت وهي غير كبـيرة علـيهم إلا أن يوجه موجّه تأنـيث الكبـيرة إلـى القبلة, ويقول: اجتزىء بذكر القبلة من ذكر التولـية والتـحويـلة لدلالة الكلام علـى معنى ذلك, كما قد وصفنا لك فـي نظائره, فـيكون ذلك وجها صحيحا ومذهبـا مفهوما. ومعنى قوله: كَبِـيرَةً عظيـمة. كما:
1712ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ قال: كبـيرة فـي صدور الناس فـيـما يدخـل الشيطان به ابن آدم, قال: ما لهم صلوا إلـى هَهنا ستة عشر شهرا ثم انـحرفوا فكبرُ ذلك فـي صدور من لا يعرف ولا يعقل والـمنافقـين, فقالوا: أيّ شيء هذا الدين؟ وأما الذين آمنوا فثبت الله جل ثناؤه ذلك فـي قلوبهم. وقرأ قول الله: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَى اللّهُ قال صلاتكم حتـى يهديكم إلـى القبلة.
قال أبو جعفر: وأما قوله: إلاّ عَلَـىَ الّذِينَ هَدَىَ اللّهُ فإنه يعنـي به: وإن كان تقلـيبَتُناك عن القبلة التـي كنت علـيها لعظيـمة إلا علـى من وفّقه الله جل ثناؤه فهداه لتصديقك, والإيـمان بك وبذلك, واتبـاعك فـيه وفـيـما أنزل الله تعالـى ذكره علـيك. كما:
1713ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَى اللّهُ يقول: إلا علـى الـخاشعين, يعنـي الـمصدّقـين بـما أنزل الله تبـارك وتعالـى.
هالقول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُم قـيـل: عنى بـالإيـمان فـي هذا الـموضع الصلاة. ذكر الأخبـار التـي رُويت بذلك وذكر قول من قاله:
1714ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع وعبـيد الله, وحدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا عبـيد الله بن موسى جميعا, عن إسرائيـل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: لـما وجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى الكعبة قالوا: كيف بـمن مات من إخواننا قبل ذلك وهم يصلون نـحو بـيت الـمقدس؟ فأنزل الله جل ثناؤه: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ.
1715ـ حدثنـي إسماعيـل بن موسى, قال: أخبرنا شريك, عن أبـي إسحاق, عن البراء فـي قول الله عزّ وجلّ: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ قال: صلاتكم نـحو بـيت الـمقدس.
1716ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا شريك, عن أبـي إسحاق, عن البراء نـحوه.
1717ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن مـحمد بن نفـيـل عن الـحرّانـي, قال: حدثنا زهير, قال: حدثنا أبو إسحاق, عن البراء قال: مات علـى القبلة قبل أن تـحوّل إلـى البـيت رجال وقُتلوا, فلـم ندر ما نقول فـيهم, فأنزل الله تعالـى ذكره: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ.
1718ـ حدثنا بشر بن معاذ العقديّ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: قال أناس من الناس لـما صرفت القبلة نـحو البـيت الـحرام: كيف بأعمالنا التـي كنا نعمل فـي قبلتنا؟ فأنزل الله جل ثناؤه: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ. 1719ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنـي عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: لـما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الـمسجد الـحرام, قال الـمسلـمون: لـيت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل بـيت الـمقدس, هل تقبل الله منا ومنهم أم لا؟ فأنزل الله جل ثناؤه فـيهم: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضيعَ إيـمَانَكُمْ قال: صلاتكم قبل بـيت الـمقدس, يقول: إن تلك طاعة وهذه طاعة.
1720ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قال: قال ناس لـما صرفت القبلة إلـى البـيت الـحرام: كيف بأعمالنا التـي كنا نعمل فـي قبلتنا الأولـى؟ فأنزل الله تعالـى ذكره: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضيعَ إيـمَانَكُمْ الآية.
1721ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: أخبرنـي داود بن أبـي عاصم, قال: لـما صرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى الكعبة, قال الـمسلـمون: هلك أصحابنا الذين كانوا يصلون إلـى بـيت الـمقدس, فنزلت: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ.
1722ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه, عن ابن عبـاس فـي قوله: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ يقول: صلاتكم التـي صلـيتـموها من قبل أن تكون القبلة, فكان الـمؤمنون قد أشفقوا علـى من صلـى منهم أن لا تقبل صلاتهم.
1723ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ صلاتكم.
1724ـ حدثنا مـحمد بن إسماعيـل الفزاري, قال: أخبرنا الـمؤمل, قال: حدثنا سفـيان, حدثنا يحيى بن سعيد, عن سعيد بن الـمسيب فـي هذه الآية: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ قال: صلاتكم نـحو بـيت الـمقدس.
قد دللنا فـيـما مضى علـى أن الإيـمان التصديق, وأن التصديق قد يكون بـالقول وحده وبـالفعل وحده وبهما جميعا فمعنى قوله: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ علـى ما تظاهرت به الرواية من أنه الصلاة: وما كان الله لـيضيع تصديق رسوله علـيه الصلاة والسلام بصلاتكم التـي صلـيتـموها نـحو بـيت الـمقدس عن أمره لأن ذلك كان منكم تصديقا لرسولـي, واتبـاعا لأمري, وطاعة منكم لـي. قال: وإضاعته إياه جل ثناؤه لو أضاعه ترك إثابة أصحابه وعاملـيه علـيه, فـيذهب ضياعا ويصير بـاطلاً, كهيئة إضاعة الرجل ماله, وذلك إهلاكه إياه فـيـما لا يعتاض منه عوضا فـي عاجل ولا آجل. فأخبر الله جل ثناؤه أنه لـم يكن يبطل عمل عامل عمل له عملاً وهو له طاعة فلا يثـيبه علـيه, وإن نسخ ذلك الفرض بعد عمل العامل إياه علـى ما كلفه من عمله.
فإن قال قائل: وكيف قال الله جل ثناؤه: وَمَا كَانَ اللّهُ لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ فأضاف الإيـمان إلـى الأحياء الـمخاطبـين, والقوم الـمخاطبون بذلك إنـما كانوا أشفقوا علـى إخوانهم الذين كانوا ماتوا وهم يصلون نـحو بـيت الـمقدس, وفـي ذلك من أمرهم أنزلت هذه الآية؟ قـيـل: إن القوم وإن كانوا أشفقوا من ذلك, فإنهم أيضا قد كانوا مشفقـين من حبوط ثواب صلاتهم التـي صلوها إلـى بـيت الـمقدس قبل التـحويـل إلـى الكعبة, وظنوا أن عملهم ذلك قد بطل وذهب ضياعا, فأنزل الله جل ثناؤه هذه الآية حينئذ, فوجه الـخطاب بها إلـى الأحياء, ودخـل فـيهم الـموتـى منهم لأن من شأن العرب إذا اجتـمع فـي الـخبر الـمخاطب والغائب أن يغلبوا الـمخاطب, فـيدخـل الغائب فـي الـخطاب, فـيقولوا لرجل خاطبوه علـى وجه الـخبر عنه وعن آخر غائب غير حاضر: فعلنا بكما وصنعنا بكما, كهيئة خطابهم لهما وهما حاضران, ولا يستـجيزون أن يقولوا فعلنا بهما وهم يخاطبون أحدهما فـيردّوا الـمخاطب إلـى عداد الغَيَبِ.
هالقول فـي تأويـل قوله تعالـى: إن اللّهَ بـالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيـمٌ.
ويعنـي بقوله جل ثناؤه: إنّ اللّهَ بـالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيـمٌ أن الله بجميع عبـاده ذو رأفة. والرأفة أعْلـى معانـي الرحمة, وهي عامة لـجميع الـخـلق فـي الدنـيا ولبعضهم فـي الاَخرة. وأما الرحيـم, فإنه ذو الرحمة للـمؤمنـين فـي الدنـيا والاَخرة علـى ما قد بـينا فـيـما مضى قبل. وإنـما أراد جل ثناؤه بذلك أن الله عزّ وجلّ أرحم بعبـاده من أن يضيع لهم طاعة أطاعوه بها فلا يثـيبهم علـيها, وأرأف بهم من أن يؤاخذهم بترك ما لـم يفرضه علـيهم. أي ولا تأسوا علـى موتاكم الذين ماتوا وهم يصلون إلـى بـيت الـمقدس, فإنـي لهم علـى طاعتهم إياي بصلاتهم التـي صلوها كذلك مثـيب, لأنـي أرحم بهم من أن أضيع لهم عملاً عملوه لـي. ولا تـحزنوا علـيهم, فإنـي غير مؤاخذهم بتركهم الصلاة إلـى الكعبة, لأنـي لـم أكن فرضت ذلك علـيهم, وأنا أرأف بخـلقـي من أن أعاقبهم علـى تركهم ما لـم آمرهم بعمله. وفـي الرءوف لغات: إحداها «رَؤُف» علـى مثال «فَعُل» كما قال الولـيد بن عقبة:
وَشَرّ الطّالِبِـينَ وَلاَ تَكُنْهُبِقاتِلِ عَمّهِ الرّؤُفُ الرّحِيـما
وهي قراءة عامة قرّاء أهل الكوفة. والأخرى «رءوف» علـى مثال «فَعُول», وهي قراءة عامة قرّاء الـمدينة. و «رَئِف», وهي لغة غطفـان, علـى مثال «فَعِل» مثل «حَذِر». و «رَأْف» علـى مثال «فَعْل» بجزم العين, وهي لغة لبنـي أسد, والقراءة علـى أحد الوجهين الأوّلـين.
الآية : 144
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَآءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنّ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ }
يعنـي بذلك جل ثناؤه: قد نرى يا مـحمد نـحن تقلب وجهك فـي السماء. ويعنـي بـالتقلب: التـحوّل والتصرّف. ويعنـي بقوله: فـي السّماء نـحو السماء وقِبَلها.
وإنـما قـيـل له ذلك صلى الله عليه وسلم فـيـما بلغنا, لأنه كان قبل تـحويـل قبلته من بـيت الـمقدس إلـى الكعبة يرفع بصره إلـى السماء ينتظر من الله جل ثناؤه أمره بـالتـحويـل نـحو الكعبة. كما:
1725ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّماءِ قال: كان صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه فـي السماء يحبّ أن يصرفه الله عزّ وجلّ إلـى الكعبة حتـى صرفه الله إلـيها.
1726ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّماءِ فكان نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم يصلـي نـحو بـيت الـمقدس, يَهْوَى ويشتهي القبلة نـحو البـيت الـحرام, فوجهه الله جل ثناؤه لقبلة كان يهواها ويشتهيها.
1727ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنـي إسحاق, قال: حدثنـي ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّماءِ يقول: نظرك فـي السماء. وكان النبـيّ صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه فـي الصلاة وهو يصلـي نـحو بـيت الـمقدس, وكان يَهْوَى قبلة البـيت الـحرام, فولاه الله قبلة كان يهواها.
1728ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: كان الناس يصلون قِبَل بـيت الـمقدس, فلـما قدم النبـيّ صلى الله عليه وسلم الـمدينة علـى رأس ثمانـية عشر شهرا من مهاجره, كان إذا صلـى رفع رأسه إلـى السماء ينظر ما يؤمر, وكان يصلـي قبل بـيت الـمقدس. فنسختها الكعبة, فكان النبـي صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يصلـي قِبَل الكعبة, فأنزل الله جل ثناؤه: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّماءِ الآية.
ثم اختلف فـي السبب الذي من أجله كان صلى الله عليه وسلم يهوى قبلة الكعبة.
قال بعضهم: كره قبلة بـيت الـمقدس, من أجل أن الـيهود قالوا: يتبع قبلتنا ويخالفنا فـي ديننا. ذكر من قال ذلك:
1729ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قال: قالت الـيهود: يخالفنا مـحمد, ويتبع قبلتنا فكان يدعو الله جل ثناؤه, ويستفرض للقبلة, فنزلت: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّمَاءِ فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ وانقطع قول يهود: يخالفنا ويتبع قبلتنا فـي صلاة الظهر, فجعل الرجال مكان النساء, والنساء مكان الرجال.
1730ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سمعته, يعنـي ابن زيد يقول: قال الله تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: فأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ الله قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَؤُلاَءِ قَوْمُ يَهُودَ يَسْتَقْبِلُونَ بَـيْتا مِنْ بُـيُوتِ اللّهِ» لبـيت الـمقدس «لو أنا اسْتَقْبَلْنَاهُ», فـاستقبله النبـيّ صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا, فبلغه أن يهود تقول: والله ما درى مـحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أين قبلتهم حتـى هديناهم. فكره ذلك النبـي صلى الله عليه وسلم, ورفع وجهه إلـى السماء, فقال الله جل ثناؤه: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّمَاءِ فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ الآية.
وقال آخرون: بل كان يَهْوَى ذلك من أجل أنه كان قبلة أبـيه إبراهيـم علـيه السلام. ذكر من قال ذلك:
1731ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنا معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لـما هاجر إلـى الـمدينة وكان أكثر أهلها الـيهود أمره الله عزّ وجل أن يستقبل بـيت الـمقدس, ففرحت الـيهود, فـاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ قبلة إبراهيـم, فكان يدعو وينظر إلـى السماء, فأنزل الله عزّ وجل: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّمَاءِ... الآية.
فأما قوله: فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فإنه يعنـي: فلنصرفنك عن بـيت الـمقدس إلـى قبلة ترضاها, تهواها وتـحبها.
وأما قوله: فَوَلّ وَجْهَكَ يعنـي اصرف وجهك وحوّله. وقوله: شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ يعنـي بـالشطر: النـحو والقصد والتلقاء, كما قال الهذلـي:
إنّ العَسِير بِهَا دَاءٌ مُخامِرُهافَشَطْرَها نَظَرُ العَيْنَـيْن مَـحْسُورُ
يعنـي بقوله شطرها: نـحوها. وكما قال ابن أحمر:
تَعْدُو بِنا شَطْرَ جَمْعٍ وهْيَ عاقِدَةٌقَدْ كارَبَ العَقْدُ مِنْ إيفَـادِها الـحَقَبـا
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
1732ـ حدثنـي سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا أبـيّ, عن سفـيان, عن داود بن أبـي هند, عن ابن أبـي العالـية: شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَام يعنـي تلقاءه.
1733ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح قال: حدثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ نـحوه.
1734ـ حدثنا مـحمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد قوله: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ نـحوه.
1735ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
1736ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ أي تلقاء الـمسجد الـحرام.
1737ـ حدثنا الـحسين بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ قال: نـحو الـمسجد الـحرام.
1738ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ أي تلقاءه.
1739ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: أخبرنـي عمرو بن دينار, عن ابن عبـاس أنه قال: شطره: نـحوه.
1740ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحمانـي, قال: حدثنا شريك, عن أبـي إسحاق, عن البراء: فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ قال: قِبَله.
1741ـ حدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: شَطْرَهُ ناحيته جانبه, قال: وجوانبه: شطوره.
ثم اختلفوا فـي الـمكان الذي أمر الله نبـيه صلى الله عليه وسلم أن يولـي وجهه إلـيه من الـمسجد الـحرام.
فقال بعضهم: القبلة التـي حوّل إلـيها النبـي صلى الله عليه وسلم وعناها الله تعالـى ذكره بقوله: فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا حيال ميزاب الكعبة. ذكر من قال ذلك:
1742ـ حدثنـي عبد الله بن أبـي زياد, قال: حدثنا عثمان, قال: أنا شعبة, عن يعلـى بن عطاء, عن يحيى بن قمطة, عن عبد الله بن عمرو: فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا حيال ميزاب الكعبة.
1743ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: حدثنا هشيـم, عن يعلـى بن عطاء, عن يحيى بن قمطة, قال: رأيت عبد الله بن عمرو جالسا فـي الـمسجد الـحرام بإزاء الـميزاب, وتلا هذه الآية: فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا قال: هذه القبلة هي هذه القبلة.
1744ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا هشيـم بإسناده عن عبد الله بن عمرو نـحوه, إلا أنه قال: استقبل الـميزاب فقال: هذا القبلة التـي قال الله لنبـيه: فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا.
وقال آخرون: بل ذلك البـيت كله قبلة, وقبلة البـيت البـاب. ذكر من قال ذلك:
1745ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: البـيت كله قبلة, وهذه قبلة البـيت, يعنـي التـي فـيها البـاب.
والصواب من القول فـي ذلك عندي ما قال الله جل ثناؤه: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ فـالـمولّـي وجهه شطر الـمسجد الـحرام هو الـمصيب القبلة. وإنـما علـى من توجه إلـيه النـية بقلبه أنه إلـيه متوجه, كما أن علـى من ائتـمّ بإمام فإنـما علـيه الائتـمام به وإن لـم يكن مـحاذيا بدنه بدنه, وإن كان فـي طرف الصف والإمام فـي طرف آخر عن يـمينه أو عن يساره, بعد أن يكون من خـلفه مؤتـما به مصلـيا إلـى الوجه الذي يصلـي إلـيه الإمام. فكذلك حكم القبلة, وإن لـم يكن يحاذيها كل مصلّ ومتوجه إلـيها ببدنه غير أنه متوجه إلـيها, فإن كان عن يـمينها أو عن يسارها مقابلها فهو مستقبلها بعد ما بـينه وبـينها, أو قرب من عن يـمينها أو عن يسارها بعد أن يكون غير مستدبرها ولا منـحرف عنها ببدنه ووجهه. كما:
1746ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: أخبرنا إسرائيـل عن أبـي إسحاق عن عميرة بن زياد الكندي, عن علـيّ: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ قال: شطره قِبَله.
قال أبو جعفر: وقبلة البـيت: بـابه. كما:
1747ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, والفضل بن الصبـاح, قالا: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا عبد الـملك, عن عطاء قال: قال أسامة بن زيد: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من البـيت أقبل بوجهه إلـى البـاب فقال: «هَذِهِ القِبْلَةُ, هَذِهِ القِبْلَةُ».
1748ـ حدثنا ابن حميد وسفـيان بن وكيع قالا: حدثنا جرير, عن عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان, عن عطاء, قال: حدثنـي أسامة بن زيد, قال: خرج النبـيّ صلى الله عليه وسلم من البـيت, فصلـى ركعتـين مستقبلاً بوجهه الكعبة, فقال: «هذه القِبْلَةُ» مرّتـين.
1749ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عبد الرحيـم بن سلـيـمان, عن عبد الـملك, عن عطاء, عن أسامة بن زيد, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نـحوه.
1750ـ حدثنا سعيد بن يحيى الأموي, قال: حدثنا أبـيّ, قال: حدثنا ابن جريج, قال: قلت لعطاء: سمعت ابن عبـاس يقول: إنـما أمرتـم بـالطواف, ولـم تؤمروا بدخوله. قال: لـم يكن ينهى عن دخوله, ولكنـي سمعته يقول: أخبرنـي أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لـما دخـل البـيت دعا فـي نواحيه كلها, ولـم يصلّ حتـى خرج, فلـما خرج ركع فـي قبل القبلة ركعتـين وقال: «هذه القِبْلَةُ».
قال أبو جعفر: فأخبر صلى الله عليه وسلم أن البـيت هو القبلة, وأن قبلة البـيت بـابه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَحَيْثُمَا كُنْتُـمْ فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.
يعنـي جل ثناؤه بذلك: فأينـما كنتـم من الأرض أيها الـمؤمنون فحوّلوا وجوهكم فـي صلاتكم نـحو الـمسجد الـحرام وتلقاءه. والهاء التـي فـي «شطره» عائدة إلـى الـمسجد الـحرام. فأوجب جلّ ثناؤه بهذه الآية علـى الـمؤمنـين فرض التوجه نـحو الـمسجد الـحرام فـي صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبـارك وتعالـى. وأدخـلت الفـاء فـي قوله: فَوَلّوا جوابـا للـجزاء, وذلك أن قوله: حَيْثُمَا كُنْتُـمْ جزاء, ومعناه: حيثما تكونوا فولّوا وجوهكم شطره.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: وإن الذين أوتوا الكتاب أحبـار الـيهود وعلـماء النصارى. وقد قـيـل إنـما عنى بذلك الـيهود خاصة. ذكر من قال ذلك:
1751ـ حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ أنزل ذلك فـي الـيهود. وقوله: لَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ يعنـي هؤلاء الأحبـار والعلـماء من أهل الكتاب, يعلـمون أن التوجه نـحو الـمسجد الـحقّ الذي فرضه الله عزّ وجلّ علـى إبراهيـم وذرّيته وسائر عبـاده بعده.
ويعنـي بقوله: مِنْ رَبّهِمْ أنه الفرض الواجب علـى عبـاد الله تعالـى ذكره, وهو الـحقّ من عند ربهم فرضه علـيهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ.
يعنـي بذلك تبـارك وتعالـى: ولـيس الله بغافل عما تعملون أيها الـمؤمنون فـي اتبـاعكم أمره وانتهائكم إلـى طاعته فـيـما ألزمكم من فرائضه وإيـمانكم به فـي صلاتكم نـحو بـيت الـمقدس ثم صلاتكم من بعد ذلك شطر الـمسجد الـحرام, ولا هو ساهٍ عنه, ولكنه جل ثناؤه يحصيه لكم ويدّخره لكم عنده حتـى يجازيكم به أحسن جزاء, ويثـيبكم علـيه أفضل ثواب.
الآية : 145
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلّ آيَةٍ مّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنّكَ إِذَاً لّمِنَ الظّالِمِينَ }
يعنـي بذلك تبـارك اسمه: ولئن جئت يا مـحمد الـيهود والنصارى بكل برهان وحجة وهي الآية بأن الـحقّ هو ما جئتهم به من فرض التـحوّل من قبلة بـيت الـمقدس فـي الصلاة إلـى قبلة الـمسجد الـحرام, ما صدّقوا به ولا اتبعوا مع قـيام الـحجة علـيهم بذلك قبلتك التـي حوّلتك إلـيها وهي التوجه شطر الـمسجد الـحرام. وأجيبت «لئن» بـالـماضي من الفعل وحكمها الـجواب بـالـمستقبل تشبـيها لها ب«لو», فأجيبت بـما تـجاب به لو لتقارب معنـيـيهما وقد مضى البـيان عن نظير ذلك فـيـما مضى. وأجيبت «لو» بجواب الأيـمان, ولا تفعل العرب ذلك إلا فـي الـجزاء خاصة لأن الـجزاء مشابه الـيـمين فـي أن كل واحد منهما لا يتـمّ أوّله إلا بآخره, ولا يتـمّ وحده, ولا يصحّ إلا بـما يؤكد به بعده, فلـما بدأ بـالـيـمين فأدخـلت علـى الـجزاء صارت اللام الأولـى بـمنزلة يـمين, والثانـية بـمنزلة جواب لها, كما قـيـل: لعمرك لتقومنّ, إذ كثرت اللام من «لعمرك» حتـى صارت كحرف من حروفه, فأجيب بـما يجاب به الأيـمان, إذ كانت اللام تنوب فـي الأيـمان عن الأيـمان دون سائر الـحروف غير التـي هي أحقّ به الأيـمان, فتدلّ علـى الأيـمان وتعمل عمل الأجوبة, ولا تدلّ سائر أجوبة الأيـمان لنا علـى الأيـمان فشبهت اللام التـي فـي جواب الأيـمان بـالأيـمان لـما وصفنا, فأجيبت بأجوبتها. فكان معنى الكلام إذ كان الأمر علـى ما وصفنا: لو أتـيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك.
وأما قوله: وَمَا أنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ يقول: وما لك من سبـيـل يا مـحمد إلـى اتبـاع قبلتهم, وذلك أن الـيهود تستقبل بـيت الـمقدس بصلاتها, وأن النصارى تستقبل الـمشرق, فأنى يكون لك السبـيـل إلـى اتبـاع قبلتهم مع اختلاف وجوهها. يقول: فـالزم قبلتك التـي أمرت بـالتوجه إلـيها, ودع عنك ما تقوله الـيهود والنصارى, وتدعوك إلـيه من قبلتهم واستقبـالها.
وأما قوله: وَمَا بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ فإنه يعنـي بقوله: وما الـيهود بتابعة قبلة النصارى, ولا النصارى بتابعة قبلة الـيهود فمتوجهة نـحوها. كما:
1752ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَمَا بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ يقول: ما الـيهود بتابعي قبلة النصارى, ولا النصارى بتابعي قبلة الـيهود. قال: وإنـما أنزلت هذه الآية من أجل أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم لـما حوّل إلـى الكعبة, قالت الـيهود: إن مـحمدا اشتاق إلـى بلد أبـيه ومولده, ولو ثبت علـى قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر فأنزل الله عز وجلّ فـيهم: وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ إلـى قوله: لَـيَكْتُـمُونَ الـحَقّ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ.
1753ـ حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ مثل ذلك.
وإنـما يعنـي جل ثناؤه بذلك أن الـيهود والنصارى لا تـجتـمع علـى قبلة واحدة مع إقامة كل حزب منهم علـى ملتهم, فقال تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: يا مـحمد لا تُشعر نفسك رضا هؤلاء الـيهود والنصارى, فإنه أمر لا سبـيـل إلـيه, لأنهم مع اختلاف مللهم لا سبـيـل لك إلـى إرضاء كل حزب منهم, من أجل أنك إن اتبعت قبلة الـيهود أسخطت النصارى, وإن اتبعت قبلة النصارى أسخطت الـيهود, فدع ما لا سبـيـل إلـيه, وادعهم إلـى ما لهم السبـيـل إلـيه من الاجتـماع علـى ملتك الـحنـيفـية الـمسلـمة, وقبلتك قبلة إبراهيـم والأنبـياء من بعده.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْـمِ إنّكَ إذا لَـمِنَ الظّالِـمِينَ.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ: ولئن التـمست يا مـحمد رضا هؤلاء الـيهود والنصارى الذين قالوا لك ولأصحابك: كُونُوا هُودا أوْ نَصَارَىَ تَهْتَدُوا فـاتبعت قبلتهم يعنـي فرجعت إلـى قبلتهم.
ويعنـي بقوله: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْـمِ من بعد ما وصل إلـيك من العلـم بإعلامي إياك أنهم مقـيـمون علـى بـاطل وعلـى عناد منهم للـحقّ, ومعرفة منهم أن القبلة التـي وجهتك إلـيها هي القبلة التـي فرضت علـى أبـيك إبراهيـم علـيه السلام وسائر ولده من بعده من الرسل التوجه نـحوها إنّكَ إذا لَـمِنَ الظّالِـمِينَ يعنـي أنك إذا فعلت ذلك من عبـادي الظلـمة أنفسهم, الـمخالفـين أمري, والتاركين طاعتـي, وأحدُهم وفـي عدادهم
الصفحة رقم 22 من المصحف تحميل و استماع mp3