تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 226 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 226

226- تفسير الصفحة رقم226 من المصحف
الآية: 38 {ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون}
قوله تعالى: "ويصنع الفلك" أي وطفق يصنع. قال زيد بن أسلم: مكث نوح صلى الله عليه وسلم مائة سنة يغرس الشجر ويقطعها وييبسها، ومائة سنة يعملها. وروى ابن القاسم عن ابن أشرس عن مالك قال: بلغني أن قوم نوح ملؤوا الأرض، حتى ملؤوا السهل والجبل، فما يستطيع هؤلاء أن ينزلوا إلى هؤلاء، ولا هؤلاء أن يصعدوا إلى هؤلاء فمكث نوح يغرس الشجر مائة عام لعمل السفينة، ثم جمعها ييبسها مائة عام، وقومه يسخرون؛ وذلك لما رأوه يصنع من ذلك، حتى كان من قضاء الله فيهم ما كان. وروي عن عمرو بن الحارث قال: عمل نوح سفينته ببقاع دمشق، وقطع خشبها من جبل لبنان. وقال، القاضي أبو بكر بن العربي: لما استنقذ الله سبحانه وتعالى من في الأصلاب والأرحام من المؤمنين أوحى الله إليه. "أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن" "فاصنع الفلك" قال: يا رب ما أنا بنجار، قال: "بلى فإن ذلك بعيني" فأخذ القدوم فجعله بيده، وجعلت يده لا تخطئ، فجعلوا يمرون به ويقولون: هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجارا؛ فعملها في أربعين سنة.
وحكى الثعلبي وأبو نصر القشيري عن، ابن عباس قال: (اتخذ نوح السفينة في سنتين). زاد الثعلبي: وذلك لأنه لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن اصنعها كجؤجؤ الطائر. وقال كعب: بناها في ثلاثين سنة، والله أعلم. المهدوي: وجاء في الخبر أن الملائكة كانت تعلمه كيف يصنعها. واختلفوا في طولها وعرضها؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما (كان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون، وسمكها ثلاثون ذراعا؛ وكانت من خشب الساج). وكذا قال الكلبي وقتادة وعكرمة كان طولها ثلاثمائة ذراع، والذراع إلى المنكب. قال سلمان الفارسي. وقال الحسن البصري: إن طول السفينة ألف ذراع ومائتا ذراع، وعرضها ستمائة ذراع. وحكاه الثعلبي في كتاب العرائس. وروى علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: (قال الحواريون لعيسى عليه السلام: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة يحدثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك التراب، قال أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا كعب حام بن نوح قال فضرب الكثيب بعصاه وقال: قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب من رأسه، وقد شاب؛ فقال له عيسى: أهكذا هلكت؟ قال: لا بل مت وأنا شاب، ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت. قال: أخبرنا عن سفينة نوح؟ قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات، طبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير. وذكر باقي الخير على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى). وقال الكلبي فيما حكاه النقاش: ودخل الماء فيها أربعة أذرع، وكان لها ثلاثة أبواب؛ باب فيه السباع والطير، وباب فيه الوحش، وباب فيه الرجال والنساء. ابن عباس جعلها ثلاث بطون؛ البطن الأسفل للوحوش والسباع والدواب، والأوسط للطعام والشراب، وركب هو في البطن الأعلى، وحمل معه جسد آدم عليه السلام معترضا ببن الرجال والنساء، ثم دفنه بعد ببيت المقدس؛ وكان إبليس معهم في الكوثل. وقيل: جاءت الحية والعقرب لدخول السفينة فقال نوح: لا أحملكما؛ لأنكما سبب الضرر والبلاء، فقالتا: احملنا فنحن نضمن لك ألا نضر أحدا ذكرك؛ فمن قرأ حين يخاف مضرتهما "سلام على نوح في العالمين" [الصافات: 79] لم تضراه؛ ذكره القشيري وغيره. وذكر الحافظ ابن عساكر في التاريخ له مرفوعا من حديث أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال حين يمسي صلى الله على نوح وعلى نوح السلام لم تلدغه عقرب تلك الليلة). قوله تعالى: "وكلما" ظرف. "مر عليه ملأ من قومه سخروا منه" قال الأخفش والكسائي يقال: سخرت به ومنه. وفي سخريتهم منه قولان: أحدهما: أنهم كانوا يرونه يبني سفينته في البر، فيسخرون به ويستهزئون ويقولون: يا نوح صرت بعد النبوة نجارا. الثاني: لما رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت قالوا: يا نوح ما تصنع؟ قال: أبني بيتا يمشي على الماء؛ فعجبوا من قوله وسخروا منه. قال ابن عباس: (ولم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر ولا بحر)؛ فلذلك سخروا منه؛ ومياه البحار هي بقية الطوفان. "إن تسخروا منا فإنا" أي من فعلنا اليوم عند بناء السفينة. "فإنا نسخر منكم" غدا عند الغرق. والمراد بالسخرية هنا الاستجهال؛ ومعناه إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلونا.
الآية: 39 {فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم}
قوله تعالى: "فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه" تهديد، و"من" متصلة بـ "سوف تعلمون" و"تعلمون" هنا من باب التعدية إلى مفعول؛ أي فسوف تعلمون الذي يأتيه العذاب. ويجوز أن تكون "من" استفهامية؛ أي أينا يأتيه العذاب؟. وقيل: "من" في موضع رفع بالابتداء و"يأتيه" الخبر، و"يخزيه" صفة لـ "عذاب". وحكى الكسائي: أن أناسا من أهل الحجاز يقولون: سو تعلمون؛ وقال من قال: "ستعلمون" أسقط الواو والفاء جميعا. وحكى الكوفيون: سف تعلمون؛ ولا يعرف البصريون إلا سوف تفعل، وستفعل لغتان ليست إحداهما من الأخرى "ويحل عليه" أي يجب عليه وينزل به. "عذاب مقيم" أي دائم، يريد عذاب الآخرة.
الآية: 40 {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل}
قوله تعالى: "حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور" اختلف في التنور على أقوال سبعة: الأول: أنه وجه الأرض، والعرب تسمي وجه الأرض تنورا؛ قاله ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة؛ وذلك أنه قيل له: إذا رأيت الماء على وجه الأرض فاركب أنت ومن معك. الثاني: أنه تنور الخبز الذي يخبز فيه؛ وكان تنورا من حجارة؛ وكان لحواء حتى صار لنوح؛ فقيل له: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك. وأنبع الله الماء من التنور، فعلمت به امرأته فقالت: يا نوح فار الماء من التنور؛ فقال: جاء وعد ربي حقا. هذا قول الحسن؛ وقال مجاهد وعطية عن ابن عباس. الثالث: أنه موضع اجتماع الماء في السفينة؛ عن الحسن أيضا.
الرابع: أنه طلوع الفجر، ونور الصبح؛ من قولهم: نور الفجر تنويرا؛ قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الخامس: أنه مسجد الكوفة؛ قاله علي بن أبي طالب أيضا؛ وقال مجاهد. قال مجاهد: كان ناحية التنور بالكوفة. وقال: اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة، وكان التنور على يمين الداخل مما يلي كندة. وكان فوران الماء منه علما لنوح، ودليلا على هلاك قومه. قال الشاعر وهو أمية:
فار تنورهم وجاش بماء صار فوق الجبال حتى علاها
السادس: أنه أعالي الأرض، والمواضع المرتفعة منها؛ قاله قتادة. السابع: أنه العين التي بالجزيرة "عين الوردة" رواه عكرمة. وقال مقاتل: كان ذلك تنور آدم، وإنما كان بالشام بموضع يقال له: "عين وردة" وقال ابن عباس أيضا: (فار تنور آدم بالهند). قال النحاس: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة؛ لأن الله عز وجل أخبرنا أن الماء جاء من السماء والأرض؛ قال: "ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر. وفجرنا الأرض عيونا" [القمر:11 - 12]. فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة. والفوران الغليان. والتنور اسم أعجمي عربته العرب، وهو على بناء فعل؛ لأن أصل بنائه تنر، وليس في كلام العرب نون قبل راء. وقيل: معنى "فار التنور" التمثيل لحضور العذاب؛ كقولهم: حمي الوطيس إذا اشتدت الحرب. والوطيس التنور. ويقال: فارت قدر القوم إذا اشتد حربهم؛ قال شاعرهم:
تركتم قدركم لا شيء فيها وقدر القوم حامية تفور
قوله تعالى: "قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين" يعني ذكرا وأنثى؛ لبقاء أصل النسل بعد الطوفان. وقرأ حفص "من كل زوجين اثنين" بتنوين "كل" أي من كل شيء زوجين. والقراءتان ترجعان إلى معنى واحد: شيء معه آخر لا يستغني عنه. ويقال للاثنين: هما زوجان، في كل اثنين لا يستغني أحدهما عن صاحبه؛ فإن العرب تسمي كل واحد منهما زوجا يقال: له زوجا نعل إذا كان له نعلان. وكذلك عنده زوجا حمام، وعليه زوجا قيود؛ قال الله تعالى: "وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى". [النجم: 45]. ويقال للمرأة هي زوج الرجل، وللرجل هو زوجها. وقد يقال للاثنين هما زوج، وقد يكون الزوجان بمعنى الضربين، والصنفين، وكل ضرب يدعى زوجا؛ قال الله تعالى: "وأنبتت من كل زوج بهيج" [الحج: 5] أي من كل لون وصنف. وقال الأعشى:
وكل زوج من الديباج يلبسه أبو قدامة محبو بذاك معا
أراد كل ضرب ولون. و"ومن كل زوجين" في موضع نصب بـ "احمل". "اثنين" تأكيد. "وأهلك" أي وأحمل أهلك. "إلا من" "من" في موضع نصب بالاستثناء. "عليه القول" منهم أي بالهلاك؛ وهو ابنه كنعان وامرأته واعلة كانا كافرين. "ومن آمن" قال الضحاك وابن جريج: أي احمل من آمن بي، أي من صدقك؛ فـ "من" في موضع نصب بـ "احمل". "وما آمن معه إلا قليل" قال ابن عباس رضي الله عنهما: (آمن من قومه ثمانون إنسانا، منهم ثلاثة من بنيه؛ سام وحام ويافث، وثلاث كنائن له. ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية وهي اليوم تدعى قرية الثمانين بناحية الموصل). وورد في الخبر أنه كان في السفينة ثمانية أنفس؛ نوح وزوجته غير التي عوقبت، وبنوه الثلاثة وزوجاتهم؛ وهو قول قتادة والحكم بن عتيبة وابن جريج ومحمد بن كعب؛ فأصاب حام امرأته في السفينة، فدعا نوح الله أن يغير نطفته فجاء بالسودان. قال عطاء: ودعا نوح على حام ألا يعدو شعر أولاده آذانهم، وأنهم حيثما كان ولده يكونون عبيدا لولد سام ويافث. وقال الأعمش: كانوا سبعة؛ نوح وثلاث كنائن وثلاثة بنين؛ وأسقط امرأة نوح. وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم؛ نوح وبنوه سام وحام ويافث، وستة أناس ممن كان آمن به، وأزواجهم جميعا. و"قليل" رفع بآمن، ولا يجوز نصبه على الاستثناء، لأن الكلام قبله لم يتم، إلا أن الفائدة في دخول "إلا" و"ما" لأنك لو قلت: آمن معه فلان وفلان جاز أن يكون غيرهم قد أمن؛ فإذا جئت بما وإلا، أوجبت لما بعد إلا ونفيت عن غيرهم.
الآية: 41 {وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم}
قوله تعالى: "وقال اركبوا فيها" أمر بالركوب؛ ويحتمل أن يكون من الله تعالى، ويحتمل أن يكون من نوح لقومه. والركوب العلو على ظهر الشيء. ويقال: ركبه الدين. وفي الكلام حذف؛ أي اركبوا الماء في السفينة. وقيل: المعنى اركبوها. و"في" للتأكيد كقوله تعالى: "إن كنتم للرؤيا تعبرون" [يوسف: 43] وفائدة "في" أنهم أمروا أن يكونوا في جوفها لا على ظهرها. قال عكرمة: ركب نوح عليه السلام في الفلك لعشر خلون من رجب، واستوت على الجودي لعشر خلون من المحرم؛ فذلك ستة أشهر؛ وقال قتادة وزاد؛ وهو يوم عاشوراء؛ فقال لمن كان معه: من كان صائما فليتم صومه، ومن لم يكن صائما فليصمه. وذكر الطبري في هذا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن نوحا ركب في السفينة أول يوم من رجب، وصام الشهر أجمع، وجرت بهم السفينة إلى يوم عاشوراء، ففيه أرست على الجودي، فصامه نوح ومن معه). وذكر الطبري عن ابن إسحاق ما يقتضي أنه أقام على الماء نحو السنة، ومرت بالبيت فطافت به سبعا، وقد رفعه الله عن الغرق فلم ينله غرق، ثم مضت إلى اليمن ورجعت إلى الجودي فاستوت عليه.
قوله تعالى: "بسم الله مُجراها ومُرساها" قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة بضم الميم فيهما إلا من شذ، على معنى بسم الله إجراؤها وإرساؤها؛ فمجراها ومرساها في موضع رفع بالابتداء؛ ويجوز أن تكون في موضع نصب، ويكون التقدير: بسم الله وقت إجرائها ثم حذف وقت، وأقيم "مجراها" مقامه. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي: "بسم الله مَجريها" بفتح الميم و"مُرساها" بضم الميم. وروى يحيى بن عيسى عن الأعمش عن يحيى بن وثاب "بسم الله مَجراها ومَرساها" بفتح الميم فيهما؛ على المصدر من جرت تجري جريا ومجرى، ورست رسوا ومرسى إذا ثبتت. وقرأ مجاهد وسليمان بن جندب وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي: "بسم الله مُجريها ومُرسيها" نعت لله عز وجل في موضع جر. ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ؛ أي هو مجريها ومرسيها. ويجوز النصب على الحال. وقال الضحاك. كان نوح عليه السلام إذا قال بسم الله مجراها جرت، وإذا قال بسم الله مرساها رست. وروى مروان بن سالم عن طلحة بن عبدالله بن كريز عن الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في الفلك بسم الله الرحمن الرحيم "وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون" [الزمر: 67] "بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم". وفي هذه الآية دليل، على ذكر البسملة عند ابتداء كل فعل؛ كما بيناه في البسملة؛ والحمد لله.
قوله تعالى: "إن ربي لغفور رحيم" أي لأهل السفينة. وروي عن ابن عباس قال: (لما كثرت الأرواث والأقذار أوحى الله إلى نوح اغمز ذنب الفيل، فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث؛ فقال نوح: لو غمزت ذنب هذا الخنزير! ففعل، فخرج منه فأر وفأرة فلما وقعا أقبلا على السفينة وحبالها تقرضها، وتقرض الأمتعة والأزواد حتى خافوا عل حبال السفينة؛ فأوحى الله إلى نوح أن امسح جبهة الأسد فمسحها، فخرج منها سنوران فأكلا الفئرة. ولما حمل الأسد في السفينة قال: يا رب من أين أطعمه؟ قال: سوف أشغله؛ فأخذته الحمى؛ فهو الدهر محموم. قال ابن عباس: (وأول ما حمل نوح من البهائم في الفلك حمل الإوزة، وآخر ما حمل حمل الحمار)؛ قال: وتعلق إبليس بذنبه، ويداه قد دخلتا في السفينة، ورجلاه خارجة بعد فجعل الحمار يضطرب ولا يستطيع أن يدخل، فصاح به نوح: ادخل ويلك فجعل يضطرب؛ فقال: ادخل ويلك وإن كان معك الشيطان، كلمة زلت على لسانه، فدخل ووثب الشيطان فدخل. ثم إن نوحا رآه يغني في السفينة، فقال له: يا لعين ما أدخلك بيتي؟ قال: أنت أذنت لي؛ فذكر له؛ فقال له: قم فأخرج. قال: مالك بد في أن تحملني معك، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك. وكان مع نوح عليه السلام خرزتان مضيئتان، واحدة مكان الشمس، والأخرى مكان القمر. ابن عباس: (إحداهما بيضاء كبياض النهار، والأخرى سوداء كسواد الليل)؛ فكان يعرف بهما مواقيت الصلاة؛ فإذا أمسوا غلب سواد هذه بياض هذه، وإذا أصبحوا غلب بياض هذه سواد هذه؛ على قدر الساعات.
الآية: 42 {وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين}
قوله تعالى: "وهي تجري بهم في موج كالجبال" الموج جمع موجة؛ وهي ما ارتفع من جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح. والكاف للتشبيه، وهي في موضع خفض نعت للموج. وجاء في التفسير أن الماء جاوز كل شيء بخمسة عشر ذراعا. "ونادى نوح ابنه" قيل: كان كافرا واسمه كنعان. وقيل: يام. ويجوز على قول سيبويه: "ونادى نوح ابنهُ" بحذف الواو من "ابنه" في اللفظ، وأنشد:
له زجل كأنه صوت حاد
فأما "ونادى نوح ابْنَهَ وَكان" فقراءة شاذة، وهي مروية عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وعروة بن الزبير. وزعم أبو حاتم أنها تجوز على أنه يريد "ابنها" فحذف الألف كما تقول: "ابنه"؛ فتحذف الواو. وقال النحاس: وهذا الذي قال أبو حاتم لا يجوز على مذهب سيبويه؛ لأن الألف خفيفة فلا يجوز حذفها، والواو ثقيلة يجوز حذفها "وكان في معزل" أي من دين أبيه. وقيل: عن السفينة. وقيل: إن نوحا لم يعلم أن ابنه كان كافرا، وأنه ظن أنه مؤمن؛ ولذلك قال له: "ولا تكن مع الكافرين" وسيأتي. وكان هذا النداء من قبل أن يستيقن القوم الغرق؛ وقبل رؤية اليأس، بل كان في أول ما فار التنور، وظهرت العلامة لنوح. وقرأ عاصم: "يا بني اركب معنا" بفتح الياء، والباقون بكسرها. وأصل "يا بني" أن تكون بثلاث ياءات؛ ياء التصغير، وياء الفعل، وياء الإضافة؛ فأدغمت ياء التصغير في لام الفعل، وكسرت لام الفعل من أجل ياء الإضافة، وحذفت ياء الإضافة لوقوعها موقع التنوين، أو لسكونها وسكون الراء في هذا الموضع؛ هذا أصل قراءة من كسر الياء، وهو أيضا أصل قراءة من فتح؛ لأنه قلب ياء الإضافة ألفا لخفة الألف، ثم حذف الألف لكونها عوضا من حرف يحذف، أو لسكونها وسكون الراء. قال النحاس: أما قراءة عاصم فمشكلة؛ قال أبو حاتم: يريد يا بنياه ثم يحذف؛ قال النحاس: رأيت علي بن سليمان يذهب إلى أن هذا لا يجوز؛ لأن الألف خفيفة. قال أبو جعفر النحاس: ما علمت أن أحدا من النحويين جوز الكلام في هذا إلا أبا إسحاق؛ فإنه زعم أن الفتح من جهتين، والكسر من جهتين؛ فالفتح على أنه يبدل من الياء ألفا؛ قال الله عز وجل إخبارا: "يا ويلتا" [هود: 72] وكما قال الشاعر:
فيا عجبا من رحلها المتحمل
فيريد يا بنيا، ثم تحذف الألف، لالتقاء الساكنين، كما تقول: جاءني عبدا الله في التثنية. والجهة الأخرى أن تحذف الألف؛ لأن النداء موضع حذف. والكسر على أن تحذف الياء للنداء. والجهة الأخرى على أن تحذفها لالتقاء الساكنين.
الآية: 43 {قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}
قوله تعالى: "قال سآوي" أي ارجع وانضم. "إلى جبل يعصمني" أي يمنعني "من الماء" فلا أغرق. "قال لا عاصم اليوم من أمر الله" أي لا مانع؛ فإنه يوم حق فيه العذاب على الكفار. وانتصب "عاصم" على التبرئة. ويجوز "لا عاصم اليوم" تكون لا بمعني ليس. "إلا من رحم" في موضع نصب استثناء ليس من الأول؛ أي لكن من رحمه الله فهو يعصمه، قال الزجاج. ويجوز أن يكون في موضع رفع، على أن عاصما بمعنى معصوم؛ مثل: "ماء دافق" [الطارق: 6] أي مدفوق؛ فالاستثناء. على هذا متصل؛ قال الشاعر:
بطيء القيام رخيم الكلا م أمسى فؤادي به فاتنا
أي مفتونا. وقال آخر:
دع المكارم لا تنهض لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
أي المطعوم المكسو. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه أن تكون "من" في موضع رفع؛ بمعنى لا يعصم اليوم من أمر الله إلا الراحم؛ أي إلا الله. وهذا اختيار الطبري. ويحسن هذا أنك لم تجعل عاصما بمعنى معصوم فتخرجه من بابه، ولا "إنه" بمعنى "لكن" "وحال بينهما الموج" يعني بين نوح وابنه. "فكان من المغرقين" قيل: إنه كان راكبا على فرس قد بطر بنفسه، وأعجب بها؛ فلما رأى الماء جاء قال: يا أبت فار التنور، فقال له أبوه: "يا بني اركب معنا" فما استتم المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة فالتقمته هو وفرسه، وحيل بينه وبين نوح فغرق. وقيل: إنه اتخذ لنفسه بيتا من زجاج يتحصن فيه من الماء، فلما فار التنور دخل فيه وأقفله عليه من داخل، فلم يزل يتغوط فيه ويبول حتى غرق بذلك. وقيل: إن الجبل الذي أوى إليه "طور سيناء".
الآية: 44 {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين}
قوله تعالى: "وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي" هذا مجاز لأنها موات. وقيل: جعل فيها ما تميز به. والذي قال إنه مجاز قال: لو فتش كلام العرب والعجم ما وجد فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها، وبلاغة رصفها، واشتمال المعاني فيها. وفي الأثر: إن الله تعالى لا يخلي الأرض من مطر عام أو عامين، وأنه ما نزل من السماء ماء قط إلا بحفظ ملك موكل به إلا ما كان من ماء الطوفان؛ فإنه خرج منه ما لا يحفظه الملك. وذلك قوله تعالى: "إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية" [الحاقة: 11] فجرت بهم السفينة إلى أن تناهى الأمر؛ فأمر الله الماء المنهمر من السماء بالإمساك، وأمر الله الأرض بالابتلاع. ويقال: بلع الماء يبلعه مثل منع يمنع وبلع يبلع مثل حمد ويحمد؛ لغتان حكاهما الكسائي والفراء. والبالوعة الموضع الذي يشرب الماء. قال ابن العربي: التقى الماءان على أمر قد قدر، ما كان في الأرض وما نزل من السماء؛ فأمر الله ما نزل من السماء بالإقلاع، فلم تمتص الأرض منه قطرة، وأمر الأرض بابتلاع ما خرج منها فقط. وذلك قوله تعالى: "وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء" وقيل: ميز الله بين الماءين، فما كان من ماء الأرض أمرها فبلعته، وصار ماء السماء بحارا.
قوله تعالى: "وغيض الماء" أي نقص؛ يقال: غاض الشيء وغضته أنا؛ كما يقال: نقص بنفسه ونقصه غيره، ويجوز "غيض" بضم الغين. "وقضي الأمر" أي أحكم وفرغ منه؛ يعني أهلك قوم نوح على تمام وإحكام. ويقال: إن الله تعالى أعقم أرحامهم أي أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة، فلم يكن فيمن هلك صغير. والصحيح أنه أهلك الولدان بالطوفان، كما هلكت الطير والسباع. ولم يكن الغرق عقوبة للصبيان والبهائم والطير، بل ماتوا بآجالهم. وحكي أنه لما كثر الماء في السكك خشيت أم صبي عليه؛ وكانت تحبه حبا شديدا، فخرجت به إلى الجبل، حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء استوت على الجبل؛ فلما بلغ الماء رقبتها رفعت يديها بابنها حتى ذهب بها الماء؛ فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي.
قوله تعالى: "واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين" أي هلاكا لهم. الجودي جبل بقرب الموصل؛ استوت عليه في العاشر من المحرم يوم عاشوراء؛ فصامه نوح وأمر جميع من معه من الناس والوحش والطير والدواب وغيرها فصاموه، شكرا لله تعالى؛ وقد تقدم هذا المعنى. وقيل: كان ذلك يوم الجمعة. وروي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال أن السفينة ترسي على واحد منها فتطاولت، وبقي الجودي لم يتطاول تواضعا لله، فاستوت السفينة عليه: وبقيت عليه أعوادها. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة). وقال مجاهد: تشامخت الجبال وتطاولت لئلا ينالها الغرق؛ فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعا، وتطامن الجودي، وتواضع لأمر الله تعالى فلم يغرق، ورست السفينة عليه. وقد قيل: إن الجودي اسم لكل جبل، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل.
سبحانه ثم سبحانا يعود له وقبلنا سبح الجودي والجمد
ويقال: إن الجودي من جبال الجنة؛ فلهذا استوت عليه. ويقال: أكرم الله ثلاثة جبال بثلاثة نفر: الجودي بنوح، وطور سيناء بموسى، وحراء بمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
[مسألة]: لما تواضع الجودي وخضع عز، ولما ارتفع غيره واستعلى ذل، وهذه سنة الله في خلقه، يرفع من تخشع، ويضع من ترفع؛ ولقد أحسن القائل:
وإذا تذللت الرقاب تخشعا منا إليك فعزها في ذلها
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال: كانت ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء؛ وكانت لا تسبق؛ فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين؛ وقالوا: سبقت العضباء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن حقا على الله ألا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه). وخرج مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد). خرجه البخاري.
مسألة: نذكر فيها من قصة نوح مع قومه وبعض ذكر السفينة. ذكر الحافظ ابن عساكر في التاريخ له عن الحسن: أن نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض؛ فذلك قوله تعالى: "ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما" [العنكبوت: 14] وكان قد كثرت فيهم المعاصي، وكثرت الجبابرة وعتوا عتوا كبيرا، وكان نوح يدعوهم ليلا ونهارا، سرا وعلانية، وكان صبورا حليما، ولم يلق أحد من الأنبياء أشد مما لقي نوح، فكانوا يدخلون عليه فيخنقونه حتى يترك وقيذا، ويضربونه في المجالس ويطرد، وكان لا يدعو على من يصنع به بل يدعوهم ويقول: "رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" فكان لا يزيدهم ذلك إلا فرارا منه، حتى أنه ليكلم الرجل منهم فيلف رأسه بثوبه، ويجعل أصبعيه في أذنيه لكيلا يسمع شيئا من كلامه، فذلك قوله تعالى: "وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم" [نوح: 7]. وقال مجاهد وعبيد بن عمير: كانوا يضربونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال: "رب اغفر لقومي فأنهم لا يعلمون". وقال ابن عباس: (إن نوحا كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات، ثم يخرج فيدعوهم؛ حتى إذا يئس من إيمان قومه جاءه رجل معه ابنه وهو يتوكأ على عصا؛ فقال: يا بني أنظر هذا الشيخ لا يغرنك، قال: يا أبت أمكني من العصا، فأمكنه فأخذ العصا ثم قال: ضعني في الأرض فوضعه، فمشى إليه بالعصا فضربه فشجه شجة موضحة في رأسه، وسالت الدماء؛ فقال نوح: "رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك خيرية فاهدهم وإن يك غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين" فأوحى الله إليه وآيسه من إيمان قومه، وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن)؛
قال: "وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون"؛ أي لا تحزن عليهم. "واصنع الفلك بأعيننا ووحينا" قال: يا رب وأين الخشب؟ قال: اغرس الشجر. قال: فغرس الساج عشرين سنه، وكف عن الدعاء، وكفوا عن الاستهزاء. وكانوا يسخرون منه؛ فلما أدرك الشجر أمره ربه فقطعها وجففها: فقال: يا رب كيف أتخذ هذا البيت؟ قال: اجعله على ثلاثة صور؛ رأسه كرأس الديك، وجؤجؤه كجؤجؤ الطير، وذنبه كذنب الديك؛ واجعلها مطبقة واجعل لها أبوابا في جنبها، وشدها بدسر، يعني مسامير الحديد. وبعث الله جبريل فعلمه صنعة السفينة، وجعلت يده لا تخطئ. قال ابن عباس: (كانت دار نوح عليه السلام دمشق، وأنشأ سفينته من خشب لبنان بين زمزم وبين الركن والمقام)، فلما كملت حمل فيها السباع والدواب في الباب الأول، وجعل الوحش والطير في الباب الثاني، وأطبق عليهما وجعل أولاد آدم أربعين رجلا وأربعين امرأة في الباب الأعلى وأطبق عليهم، وجعل الذر معه في الباب الأعلى لضعفها ألا تطأها الدواب.
قال الزهري: إن الله عز وجل بعث ريحا فحمل إليه من كل زوجين اثنين؛ من السباع والطير والوحش والبهائم. وقال جعفر بن محمد: بعث الله جبريل فحشرهم، فجعل يضرب بيديه على الزوجين فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى، فيدخله السفينة وقال زيد بن ثابت: استصعبت على نوح الماعزة أن تدخل السفينة، فدفعها بيده في ذنبها؛ فمن ثم انكسر ذنبها فصار معقوفا وبدا حياؤها. ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على، ذنبها فستر حياؤها؛ قال إسحاق: أخبرنا رجل من أهل العلم أن نوحا حمل أهل السفينة، وجعل فيها من كل زوجين اثنين، وحمل من الهدهد زوجين، فماتت الهدهدة في السفينة قبل أن تظهر الأرض. فحملها الهدهد فطاف بها الدنيا ليصيب لها مكانا، فلم يجد طينا ولا ترابا، فرحمه ربه فحفر لها في قفاه قبرا فدفنها فيه، فذلك الريش الناتئ في قفا الهدهد موضع القبر؛ فلذلك نتأت أقفية الهداهد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان حمل نوح معه في السفينة من جميع الشجر وكانت العجوة من الجنة مع نوح في السفينة). وذكر صاحب كتاب (العروس) وغيره: أن نوحا عليه السلام لما أراد أن يبعث من يأتيه بخبر الأرض قال الدجاج: أنا؛ فأخذها وختم على جناحها وقال لها: أنت مختومة بخاتمي لا تطيري أبدا، أنت ينتفع بك أمتي؛ فبعث الغراب فأصاب جيفة فوقع عليها فاحتبس فلعنه، ولذلك يقتل في الحل والحرم ودعا عليه بالخوف؛ فلذلك لا يألف البيوت. وبعث الحمامة فلم تجد قرارا فوقعت على شجرة بأرض سيناء فحملت ورقة زيتونة، ورجعت إلى نوح فعلم أنها لم تستمكن من الأرض، ثم بعثها بعد ذلك فطارت حتى وقعت بوادي الحرم، فإذا الماء قد نضب من مواضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء، فاختضبت رجلاها، ثم جاءت إلى نوح عليه السلام فقالت: بشراي منك أن تهب لي الطوق في عنقي، والخضاب في رجلي، وأسكن الحرم؛ فمسح يده على عنقها وطوقها، ووهب لها الحمرة في رجليها، ودعا لها ولذريتها بالبركة. وذكر الثعلبي أنه بعث بعد الغراب التدرج وكان من جنس الدجاج؛ وقال: إياك أن تعتذر، فأصاب الخضرة والفرجة فلم يرجع، وأخذ أولاده عنده رهنا إلى يوم القيامة.
الآية: 45 {ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين}
قوله تعالى: "ونادى نوح ربه" أي دعاه. "فقال رب إن ابني من أهلي" أي من أهلي الذين وعدتهم أن تنجيهم من الغرق؛ ففي الكلام حذف. "وإن وعدك الحق" يعني الصدق. وقال علماؤنا: وإنما سأل نوح ربه ابنه لقوله: "وأهلك" وترك قوله: "إلا من سبق عليه القول" [هود: 40] فلما كان عنده من أهله قال: "رب إن ابني من أهلي" يدل على ذلك قوله: "ولا تكن من الكافرين" أي لا تكن ممن لست منهم؛ لأنه كان عنده مؤمنا في ظنه، ولم يك نوح يقول لربه: "إن ابني من أهلي" إلا وذلك عنده كذلك؛ إذ محال أن يسأل هلاك الكفار، ثم يسأل في إنجاء بعضهم؛ وكان ابنه يسر الكفر ويظهر الإيمان؛ فأخبر الله تعالى نوحا بما هو منفرد به من علم الغيوب؛ أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت. وقال الحسن: كان منافقا؛ ولذلك استحل نوح أن يناديه. وعنه أيضا: كان ابن امرأته؛ دليله قراءة علي "ونادى نوح ابنها". "وأنت أحكم الحاكمين" ابتداء وخبر. أي حكمت على قوم بالنجاة، وعلى قوم بالغرق.