تفسير السعدي تفسير الصفحة 226 من المصحف

 فامتثل أمر ربه، وجعل يصنع الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ ورأوا ما يصنع سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا الآن فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ نحن أم أنتم. وقد علموا ذلك، حين حل بهم العقاب.
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا أي قدرنا بوقت نزول العذاب بهم وَفَارَ التَّنُّورُ أي: أنزل الله السماء بالماء بالمنهمر، وفجر الأرض كلها عيونا حتى التنانير التي هي محل النار في العادة، وأبعد ما يكون عن الماء، تفجرت فالتقى الماء على أمر، قد قدر.
قُلْنَا لنوح: احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي: من كل صنف من أصناف المخلوقات، ذكر وأنثى، لتبقى مادة سائر الأجناس وأما بقية الأصناف الزائدة عن الزوجين، فلأن السفينة لا تطيق حملها وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ممن كان كافرا، كابنه الذي غرق.
وَمَنْ آمَنَ ( و ) الحال أنه مَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ .
وَقَالَ نوح لمن أمره الله أن يحملهم: ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا أي: تجري على اسم الله، وترسو على اسم الله، وتجري بتسخيره وأمره.
إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ حيث غفر لنا ورحمنا، ونجانا من القوم الظالمين.
ثم وصف جريانها كأنا نشاهدها فقال: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ أي: بنوح، ومن ركب معه فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ والله حافظها وحافظ أهلها وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ لما ركب، ليركب معه وَكَانَ ابنه فِي مَعْزِلٍ عنهم، حين ركبوا، أي: مبتعدا وأراد منه، أن يقرب ليركب، فقال له: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ فيصيبك ما يصيبهم.
فـ قَالَ ابنه، مكذبا لأبيه أنه لا ينجو إلا من ركب معه السفينة.
سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ أي: سأرتقي جبلا أمتنع به من الماء، فـ قَالَ نوح: لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ فلا يعصم أحدا، جبل ولا غيره، ولو تسبب بغاية ما يمكنه من الأسباب، لما نجا إن لم ينجه الله. وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ الابن مِنَ الْمُغْرَقِينَ .
فلما أغرقهم الله ونجى نوحا ومن معه وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ الذي خرج منك، والذي نزل إليك، أي: ابلعي الماء الذي على وجهك وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي فامتثلتا لأمر الله، فابتلعت الأرض ماءها, وأقلعت السماء، فنضب الماء من الأرض، وَقُضِيَ الأَمْرُ بهلاك المكذبين ونجاة المؤمنين.
وَاسْتَوَتْ السفينة عَلَى الْجُودِيِّ أي: أرست على ذلك الجبل المعروف في أرض الموصل.
وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: أتبعوا بعد هلاكهم لعنة وبعدا, وسحقا لا يزال معهم.
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ أي: وقد قلت لي: فـ احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ولن تخلف ما وعدتني به.
لعله عليه الصلاة والسلام، حملته الشفقة، وأن الله وعده بنجاة أهله، ظن أن الوعد لعمومهم، من آمن، ومن لم يؤمن، فلذلك دعا ربه بذلك الدعاء، ومع هذا، ففوض الأمر لحكمة الله البالغة.