تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 276 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 276

276- تفسير الصفحة رقم276 من المصحف
الآية: 80 {والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين}
قوله تعالى: "جعل لكم" معناه صير. وكل ما علاك فأظلك فهو سقف وسماء، وكل ما أقلك فهو أرض، وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار؛ فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت. وهذه الآية فيها تعديد نعم الله تعالى على الناس في البيوت، فذكر أولا بيوت المدن وهي التي للإقامة الطويلة. وقوله: "سكنا" أي تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة، وقد تتحرك فيه وتسكن في غيره؛ إلا أن القول خرج على الغالب. وعد هذا في جملة النعم فإنه لو شاء خلق العبد مضطربا أبدا كالأفلاك لكان ذلك كما خلق وأراد، لو خلقه ساكنا كالأرض لكان كما خلق وأراد، ولكنه أوجده خلقا يتصرف للوجهين، ويختلف حاله بين الحالتين، وردده كيف وأين. والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع.
قوله تعالى: "وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها" ذكر تعالى بيوت القلة والرحلة فقال "وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها" أي من الأنطاع والأدم. "بيوتا" يعني الخيام والقباب يخف عليكم حملها في الأسفار. "يوم ظعنكم" الظعن: سير البادية في الانتجاع والتحول من موضع إلى موضع؛ ومنه قول عنترة:
ظعن الذين فراقهم أتوقع وجرى ببينهم الغراب الأبقع
والظعن الهودج أيضا؛ قال:
ألا هل هاجك الأظعان إذ بانوا وإذ جادت بوشك البين غربان
وقرئ بإسكان العين وفتحها كالشعر والشعر. وقيل: يحتمل أن يعم بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف؛ لأن هذه من الجلود لكونها ثابتة فيها؛ نحا إلى ذلك ابن سلام. وهو احتمال حسن، ويكون قوله "ومن أصوافها" ابتداء كلام، كأنه قال جعل أثاثا؛ يريد الملابس والوطاء، وغير ذلك؛ قال الشاعر:
أهاجتك الظعائن يوم بانوا بذي الزي الجميل من الأثاث
ويحتمل أن يريد بقوله "من جلود الأنعام" بيوت الأدم فقط كما قدمناه أولا. ويكون قوله "ومن أصوافها" عطفا على قوله "من جلود الأنعام" أي جعل بيوتا أيضا. قال ابن العربي: وهذا أمر انتشر في تلك الديار، وعزبت عنه بلادنا، فلا تضرب الأخبية عندنا إلا من الكتان والصوف، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم قبة من أدم، وناهيك من أدم الطائف غلاء في القيمة، واعتلاء في الصنعة، وحسنا في البشرة، ولم يعد ذلك صلى الله عليه وسلم ترفا ولا رآه سرفا؛ لأنه مما امتن الله سبحانه من نعمته وأذن فيه من متاعه، وظهرت وجوه منفعته في الاكتنان والاستظلال الذي لا يقدر على الخروج عنه جنس الإنسان. ومن غريب ما جرى أني زرت بعض المتزهدين من الغافلين مع بعض المحدثين، فدخلنا عليه في خباء كتان فعرض عليه صاحبي المحدث أن يحمله إلى منزله ضيفا، وقال: إن هذا موضع يكثر فيه الحر والبيت أرفق بك وأطيب لنفسي فيك؛ فقال: هذا الخباء لنا كثير، وكان في صنعنا من الحقير؛ فقلت: ليس كما زعمت فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رئيس الزهاد قبة من أدم طائفي يسافر معها ويستظل بها؛ فبهت، ورأيته على منزلة من العي فتركته مع صاحبي وخرجت عنه.
قوله تعالى: "ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها" أذن الله سبحانه بالانتفاع بصوف الغنم ووبر الإبل وشعر المعز، كما أذن في الأعظم، وهو ذبحها وأكل لحومها، ولم يذكر القطن والكتان لأنه لم يكن في بلاد العرب المخاطبين به، وإنما عدد عليهم ما أنعم به عليهم، وخوطبوا فيما عرفوا بما فهموا. وما قام مقام هذه وناب منابها فيدخل في الاستعمال والنعمة مدخلها؛ وهذا كقوله تعالى: "وينزل من السماء من جبال فيها من برد" [النور: 43]؛ فخاطبهم بالبرد لأنهم كانوا يعرفون نزوله كثيرا عندهم، وسكت عن ذكر الثلج؛ لأنه لم يكن في بلادهم، وهو مثله في الصفة والمنفعة، وقد ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم معا في التطهير فقال: (اللهم اغسلني بماء وثلج وبرد). قال ابن عباس: الثلج شيء أبيض ينزل من السماء وما رأيته قط. وقيل: إن ترك ذكر القطن والكتان إنما كان إعراضا عن الترف؛ إذ ملبس عباد الله الصالحين إنما هو الصوف. وهذا فيه نظر؛ فإنه سبحانه يقول: "يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم" [الأعراف: 26] وقال هنا: "وجعل لكم سرابيل" فأشار إلى القطن والكتان في لفظة "سرابيل" والله أعلم. و"أثاثا" قال الخليل: متاعا منضما بعضه إلى بعض؛ من أث إذا كثر. قال:
وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل
ابن عباس: "أثاثا" ثيابا.
وتضمنت هذه الآية جواز الانتفاع بالأصواف والأوبار والأشعار على كل حال، ولذلك قال أصحابنا: صوف الميتة وشعرها طاهر يجوز الانتفاع به على كل حال، ويغسل مخافة أن يكون علق به وسخ؛ وكذلك روت أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا بأس بجلد الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل) لأنه مما لا يحله الموت، سواء كان شعر ما يؤكل لحمه أو لا، كشعر ابن آدم والخنزير، فإنه طاهر كله؛ وبه قال أبو حنيفة، ولكنه زاد علينا فقال: القرن والسن والعظم مثل الشعر؛ قال: لأن هذه الأشياء كلها لا روح فيها لا تنجس بموت الحيوان. وقال الحسن البصري والليث بن سعد والأوزاعي: إن الشعور كلها نجسة ولكنها تطهر بالغسل. وعن الشافعي ثلاث روايات: الأولى: طاهرة لا تنجس بالموت. الثانية: تنجس. الثالثة: الفرق بين شعر ابن آدم وغيره، فشعر ابن آدم طاهر وما عداه نجس. ودليلنا عموم قوله تعالى: "ومن أصوافها" الآية. فمن علينا بأن جعل لنا الانتفاع بها، ولم يخصى شعر الميتة من المذكاة، فهو عموم إلا أن يمنع منه دليل. وأيضا فإن الأصل كونها طاهرة قبل الموت بإجماع، فمن زعم أنه انتقل إلى نجاسة فعليه الدليل. فإن قيل قوله: "حرمت عليكم الميتة" [المائدة: 3] وذلك عبارة عن الجملة. قلنا: نخصه بما ذكرنا؛ فإنه منصوص عليه في ذكر الصوف، وليس في آيتكم ذكره صريحا، فكان دليلنا أولى. والله أعلم. وقد عول الشيخ الإمام أبو إسحاق إمام الشافعية ببغداد على أن الشعر جزء متصل بالحيوان خِلقة، فهو ينمي بنمائه ويتنجس بموته كسائر الأجزاء. وأجيب بأن الماء ليس بدليل على الحياة؛ لأن النبات ينمي وليس بحي. وإذا عولوا على النماء المتصل لما على الحيوان عولنا نحن على الإبانة التي تدل على عدم الإحساس الذي يدل على عدم الحياة. وأما ما ذكره الحنفيون في العظم والسن والقرن أنه مثل الشعر، فالمشهور عندنا أن ذلك نجس كاللحم. وقال ابن وهب مثل قول أبي حنيفة. ولنا قول ثالث: هل تلحق أطراف القرون والأظلاف بأصولها أو بالشعر، قولان. وكذلك الشعري من الريش حكمه حكم الشعر، والعظمي منه حكمه حكمه. ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنتفعوا من الميتة بشيء) وهذا عام فيها وفي كل جزء منها، إلا ما قام دليله؛ ومن الدليل القاطع على ذلك قوله تعالى: "قال من يحيي العظام وهي رميم" [يس: 78]، وقال تعالى: "وانظر إلى العظام كيف ننشزها" [البقرة: 259]، وقال: "فكسونا العظام لحما" [المؤمنون: 14]، وقال: "أئذا كنا عظاما نخرة" [النازعات: 11] فالأصل هي العظام، والروح والحياة فيها كما في اللحم والجلد. وفي حديث عبدالله بن عكيم: (لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب). فإن قيل: قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شاة ميمونة: (ألا انتفعتم بجلدها)؟ فقالوا: يا رسول الله، إنها ميتة. فقال: (إنما حرم أكلها) والعظم لا يؤكل. قلنا: العظم يؤكل، وخاصة عظم الجمل الرضيع والجدي والطير، وعظم الكبير يشوى ويؤكل. وما ذكرناه قبل يدل على وجود الحياة فيه، وما كان طاهرا بالحياة ويستباح بالذكاة ينجس بالموت. والله أعلم.
قوله تعالى: "من جلود الأنعام" عام في جلد الحي والميت، فيجوز الانتفاع بجلود الميتة وإن لم تدبغ؛ وبه قال ابن شهاب الزهري والليث بن سعد. قال الطحاوي: لم نجد عن أحد من الفقهاء جواز بيع جلد الميتة قبل الدباغ إلا عن الليث. قال أبو عمر: يعني من الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار بعد التابعين، وأما ابن شهاب فذلك عنه صحيح، وهو قول أباه جمهور أهل العلم. وقد روي عنهما خلاف هذا القول، والأول أشهر.
قلت: قد ذكر الدارقطني في سننه حديث يحيى بن أيوب عن يونس وعقيل عن الزهري، وحديث بقية عن الزبيدي، وحديث محمد بن كثير العبدي وأبي سلمة المنقري عن سليمان بن كثير عن الزهري، وقال في آخرها: هذه أسانيد صحاح.
اختلف العلماء في جلد الميتة إذا دبغ هل يطهر أم لا؛ فذكر ابن عبدالحكم عن مالك ما يشبه مذهب ابن شهاب في ذلك. وذكره ابن خويز منداد في كتابه عن ابن عبدالحكم أيضا. قال ابن خويز منداد: وهو قول الزهري والليث. قال: والظاهر من مذهب مالك ما ذكره ابن عبدالحكم، وهو أن الدباغ لا يطهر جلد الميتة، ولكن يبيح الانتفاع به في الأشياء اليابسة، ولا يصلى عليه ولا يؤكل فيه. وفي المدونة لابن القاسم: من اغتصب جلد ميتة غير مدبوغ فأتلفه كان عليه قيمته. وحكى أن ذلك قول مالك. وذكر أبو الفرج أن مالكا قال: من اغتصب لرجل جلد ميتة غير مدبوغ فلا شيء عليه. قال إسماعيل: إلا أن يكون لمجوسي. وروى ابن وهب، وابن عبدالحكم عن مالك جواز بيعه، وهذا في جلد كل ميتة إلا الخنزير وحده؛ لأن الزكاة لا تعمل فيه، فالدباغ أولى. قال أبو عمر: وكل جلد ذكي فجائز استعماله للوضوء وغيره. وكان مالك يكره الوضوء في إناء جلد الميتة بعد الدباغ على اختلاف من قوله، ومرة قال: إنه لم يكرهه إلا في خاصة نفسه، وتكره الصلاة عليه وبيعه، وتابعه على ذلك جماعة من أصحابه. وأما أكثر المدنيين فعلى إباحة ذلك وإجازته؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما إهاب دبغ فقد طهر). وعلى هذا أكثر أهل الحجاز والعراق من أهل الفقه والحديث، وهو اختيار ابن وهب.
ذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه إلى أنه لا يجوز الانتفاع بجلود الميتة في شيء وإن دبغت؛ لأنها كلحم الميتة. والأخبار بالانتفاع بعد الدباغ ترد قوله. واحتج بحديث عبدالله بن عكيم - رواه أبو داود - قال: قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرض جهينة وأنا غلام شاب: (ألا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب). وفي رواية: قبل موته بشهر. رواه القاسم بن مخيمرة عن عبدالله بن عكيم، قال: حدثنا مشيخة لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم.. قال داود بن علي: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث، فضعفه وقال: ليس بشيء، إنما يقول حدثني الأشياخ، قال أبو عمر: ولو كان ثابتا لاحتمل أن يكون مخالفا للأحاديث المروية عن ابن عباس وعائشة وسلمة بن المحبق وغيرهم، لأنه جائز أن يكون معنى حديث ابن عكيم (ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب) قبل الدباغ؛ وإذا احتمل ألا يكون مخالف ا فليس لنا أن نجعله مخالفا، وعلينا أن نستعمل الخبرين ما أمكن، وحديث عبدالله بن عكيم وإن كان قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بشهر كما جاء في الخبر فيمكن أن تكون قصة ميمونة وسماع ابن عباس منه (أيما إهاب دبغ فقد طهر) قبل موته بجمعة أو دون جمعة، والله أعلم.
المشهور عندنا أن جلد الخنزير لا يدخل في الحديث ولا يتناوله العموم، وكذلك الكلب عند الشافعي. وعند الأوزاعي وأبي ثور: لا يطهر بالدباغ إلا جلد ما يؤكل لحمه. وروى معن بن عيسى عن مالك أنه سئل عن جلد الخنزير إذا دبغ فكرهه. قال ابن وضاح: وسمعت سحنونا يقول لا بأس به؛ وكذلك قال محمد بن عبدالحكم وداود بن علي وأصحابه؛ لقوله عليه السلام: (أيما مسك دبغ فقد طهر). قال أبو عمر: يحتمل أن يكون أراد بهذا القول عموم الجلود المعهود الانتفاع بها، فأما الخنزير فلم يدخل في المعنى لأنه غير معهود الانتفاع بجلده، إذ لا تعمل فيه الذكاة. ودليل آخر وهو ما قاله النضر بن شميل: إن الإهاب جلد البقر والغنم والإبل، وما عداه فإنما يقال له: جلد لا إهاب.
قلت: وجلد الكلب وما لا يؤكل لحمه أيضا غير معهود الانتفاع به فلا يطهر؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أكل كل ذي ناب من السباع حرام) فليست الذكاة فيها ذكاة، كما أنها ليست في الخنزير ذكاة. وروى النسائي عن المقدام بن معد يكرب قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير والذهب ومياثر النمور )
اختلف الفقهاء في الدباغ التي تطهر به جلود الميتة ما هو؟ فقال أصحاب مالك وهو المشهور من مذهبه: كل شيء دبغ الجلد من ملح أو قرظ أو شب أو غير ذلك فقد جاز الانتفاع به. وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول داود. وللشافعي في هذه المسألة قولان: أحدهما: هذا، والآخر أنه لا يطهر إلا الشب والقرظ؛ لأنه الدباغ المعهود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه خرج الخطابي - والله أعلم - ما رواه النسائي عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحصان؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أخذتم إهابها) قالوا. إنها ميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يطهرها الماء والقرظ).
قوله تعالى: "أثاثا" الأثاث متاع البيت، واحدها أثاثة؛ هذا قول أبي زيد الأنصاري. وقال الأموي: الأثاث متاع البيت، وجمعه آثة وأثث. وقال غيرهما: الأثاث جميع أنواع المال ولا واحد له من لفظه. وقال الخليل: أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إلى بعض حتى يكثر؛ ومنه شعر أثيث أي كثير. وأث شعر فلان يأث أثا إذا كثر والتف؛ قال امرؤ القيس:
وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل
وقيل: الأثاث ما يلبس ويفترش. وقد تأثثت إذا اتخذت أثاثا. وعن ابن عباس رضي الله عنه "أثاثا" مالا. وقد تقدم القول في الحين؛ وهو هنا وقت غير معين بحسب كل إنسان، إما بموته وإما بفقد تلك الأشياء التي هي أثاث. ومن هذه اللفظة قول الشاعر:
أهاجتك الظعائن يوم بانوا بذي الزي الجميل من الأثاث
الآية: 81 {والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون}
قوله تعالى: "والله جعل لكم مما خلق ظلالا" الظلال: كل ما يستظل به من البيوت والشجر. وقوله "مما خلق" يعم جميع الأشخاص المظلة. "أكنانا" الأكنان: جمح كن، وهو الحافظ من المطر والريح وغير ذلك؛ وهي هنا الغيران في الجبال، جعلها الله عدة للخلق يأوون إليها ويتحصنون به أو يعتزلون عن الخلق فيها. وفي الصحيح أنه عليه السلام كان في أول أمره يتعبد بغار حراء ويمكث فيه الليالي.. الحديث، وفي صحيح البخاري قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا هاربا من قومه فارا بدينه مع صاحبه أبي بكر حتى لحقا بغار في جبل ثور، فمكنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما فيه عبدالله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث... وذكر الحديث. انفراد بإخراجه البخاري.
قوله تعالى: "وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر" يعني القمص، واحدها سربال. "وسرابيل تقيكم بأسكم" يعني الدروع التي تقي الناس في الحرب؛ ومنه قول كعب بن زهير:
شم العرانين أبطال لبوسهم من نسج داود في الهيجا سرابيل
إن قال قائل: كيف قال "وجعل لكم من الجبال أكنانا" ولم يذكر السهل، فالجواب أن القوم كانوا أصحاب جبال ولم يكونوا أصحاب سهل، وأيضا: فذكر أحدهما يدال على الآخر؛ ومنه قول الشاعر:
وما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني
أألخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي هو يبتغيني
قال العلماء: في قوله تعالى: "وسرابيل تقيكم بأسكم" دليل على اتخاذ العباد عدة الجهاد ليستعينوا بها على قتال الأعداء، وقد لبسها النبي صلى الله عليه وسلم تقاة الجراحة وإن كان يطلب الشهادة، وليس للعبد أن يطلبها بأن يستسلم للحتوف وللطعن بالسنان وللضرب بالسيوف، ولكنه يلبس لأمة حرب لتكون له قوة على قتال عدوه، ويقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويفعل الله بعد ما يشاء.
قوله تعالى: "كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون" قرأ ابن محيصن وحميد "تتم" بتاءين، "نعمته" رفعا على أنها الفاعل. الباقون "يتم" بضم الياء على أن الله هو يتمها. و"تسلمون" قراءة ابن عباس وعكرمة "تسلمون" بفتح التاء واللام، أي تسلمون من الجراح، وإسناده ضعيف؛ رواه عباد بن العوام عن حنظلة عن شهر عن ابن عباس. الباقون بضم التاء، ومعناه تستسلمون وتنقادون إلى معرفة الله وطاعته شكرا على نعمه. قال أبو عبيد: والاختيار قراءة العامة؛ لأن ما أنعم الله به علينا من الإسلام أفضل مما أنعم به من السلامة من الجراح.
الآية: 82 {فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين}
قوله تعالى: "فإن تولوا" أي أعرضوا عن النظر والاستدلال والإيمان. "فإنما عليك البلاغ" أي ليس عليك إلا التبليغ، وأما الهداية فإلينا.
الآية: 83 {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون}
قوله تعالى: "يعرفون نعمة الله" قال السدي: يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، أي يعرفون نبوته "ثم ينكرونها" ويكذبونه. وقال مجاهد: يريد ما عدد الله عليهم في هذه السورة من النعم؛ أي يعرفون أنها من عند الله وينكرونها بقولهم إنهم ورثوا ذلك عن آبائهم. وبمثله قال قتادة. وقال عون بن عبدالله: هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا، ولولا فلان ما أصبت كذا، وهم يعرفون النفع والضر من عند الله. وقال الكلبي: هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرفهم بهذه النعم كلها عرفوها وقالوا: نعم، هي كلها نعم من الله، ولكنها بشفاعة آلهتنا. وقيل: يعرفون نعمة الله بتقلبهم فيها، وينكرونها بترك الشكر عليها. ويحتمل سادسا: يعرفونها في الشدة وينكرونها في الرخاء. ويحتمل سابعا: يعرفونها بأقوالهم وينكرونها بأفعالهم. ويحتمل ثامنا: يعرفونها بقلوبهم ويجحدونها بألسنتهم؛ نظيرها "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم" [النمل: 14] "وأكثرهم الكافرون" يعني جميعهم؛ حسبما تقدم.
الآية: 84 {ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون}
قوله تعالى: "ويوم نبعث من كل أمة شهيدا" نظيره: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد" [النساء: 41] وقد تقدم. "ثم لا يؤذن للذين كفروا" أي في الاعتذار والكلام؛ كقوله: "ولا يؤذن لهم فيعتذرون" [المرسلات: 36]. وذلك حين تطبق عليهم جهنم، كما تقدم في أول "الحجر" ويأتي.
قوله تعالى: "ولا هم يستعتبون" يعني يسترضون، أي لا يكلفون أن يرضوا ربهم؛ لأن الآخرة ليست بدار تكليف، ولا يتركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون. وأصل الكلمة من العتب وهي الموجدة؛ يقال: عتب عليه يعتب إذا وجد عليه، فإذا فاوضه ما عتب عليه فيه قيل عاتبه، فإذا رجع إلى مسرتك فقد أعتب، والاسم العتبى وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب؛ قال الهروي. وقال النابغة:
فإن كنت مظلوما فعبدا ظلمته وإن كنت ذا عتبى فمثلك يُعْتِب
الآية: 85 {وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون}
قوله تعالى: "وإذا رأى الذين ظلموا" أي أشركوا. "العذاب" أي عذاب جهنم بالدخول فيها. "فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون" أي لا يمهلون؛ إذ لا توبة لهم ثم.
الآيتان: 86 - 87 {وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون، وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون}
قوله تعالى: "وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم" أي أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها وذلك أن الله يبعث معبوديهم فيتبعونهم حتى يوردوهم النار. وفي صحيح مسلم: (من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت...) الحديث، خرجه من حديث أنس، والترمذي من حديث أبي هريرة، وفيه: (فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون...) وذكر الحديث. "قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك" أي الذين جعلناهم لك شركاء. "فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون" أي ألقت إليهم الآلهة القول، أي نطقت بتكذيب من عبدها بأنها لم تكن آلهة، ولا أمرتهم بعبادتها، فيُنطق الله الأصنام حتى تظهر عند ذلك فضيحة الكفار. وقيل: المراد بذلك الملائكة الذين عبدوهم. "وألقوا إلى الله يومئذ السلم" يعني المشركين، أي استسلموا لعذابه وخضعوا لعزه. وقيل: استسلم العابد والمعبود وانقادوا لحكمه فيهم. "وضل عنهم ما كانوا يفترون" أي زال عنهم ما زين لهم الشيطان وما كانوا يؤملون من شفاعة آلهتهم.