تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 276 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 276

275

قوله: 80- "والله جعل لكم" معطوف على ما قبله وهذا المذكور من جملة أحوال الإنسان، ومن تعديد نعم الله عليه، والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع، وهو بمعنى مسكون: أي تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة، وهذه نعمة، فإن الله سبحانه لو شاء لخلق العبد مضطرباً دائماً كالأفلاك، ولو شاء لخلقه ساكناً أبداً كالأرض "وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً" لما ذكر سبحانه بيوت المدن، وهي التي للإقامة الطويلة عقبها بذكر بيوت البادية والرحلة: أي جعل لكم من جلود الأنعام، وهي الأنطاع والأدم بيوتاً كالخيام والقباب "تستخفونها" أي يخف عليكم حملها في الأسفار وغيرها، ولهذا قال "يوم ظعنكم" والظعن بفتح العين وسكونها، وقرئ بهما: سير أهل البادية للانتجاع والتحول من موضع إلى موضع، ومنه قول عنترة: ظعن الذين فراقهم أتوقع وجرى ببينهم الغراب الأبقع والظعن الهودج أيضاً "ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً" معطوف على "جعل" أي وجعل لكم من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها، والأنعام تعم الإبل والبقر والغنم كما تقدم، والأصواف للغنم، والأوبار للإبل، والأشعار للمعز، وهي من جملة الغنم، فيكون ذكر هذه الثلاثة على وجه التنويع كل واحد منها لواحد من الثلاثة، أعني الإبل، ونوعي الغنم، والأثاث متاع البيت، وأصله الكثرة والاجتماع، ومنه شعر أثيث: أي كثير مجتمع، قال الشاعر: وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل قال الخليل أثاثاً: أي منضماً بعضه إلى بعض، من أث إذا أكثر، قال الفراء: لا واحد له، والمتاع: ما يتمتع به بأنواع التمتع، وعلى قول أبي زيد الأنصاري: إن الأثاث المال أجمع: الإبل والغنم والعبيد والمتاع، يكون عطف المتاع على الأثاث من عطف الخاص على العام، وقيل إن الأثاث ما يكتسي به الإنسان ويستعمله من الغطاء والوطاء، والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به، ومعنى "إلى حين" إلى أن تقضوا أوطاركم منه، أو إلى أن يبلى ويفنى، أو إلى الموت، أو إلى القيامة.
ثم لما كان الإنسان قد لا يكون له خيام، أو أبنية يستظل بها لفقر، أو لعارض آخر فيحتاج إلى أن يستظل بشجر أو جدار أو غمام أو نحو ذلك نبه سبحانه على ذلك فقال: 81- " جعل لكم مما خلق ظلالا " أي أشياء تستظلون بها كالأشياء المذكورة. والحاصل أن الظلال تعم الأشياء التي تظل، ثم لما كان المسافر قد يحتاج إلى ركن يأوي إليه في نزوله، وإلى ما يدفع به عن نفسه آفات الحر والبرد، نبه سبحانه على ذلك فقال: "وجعل لكم من الجبال أكناناً" وهي جمع كن: وهو ما يستكن به من المطر، وهي هنا الغيران في الجبال، جعلها الله سبحانه عدة للخلق يأوون إليها ويتحصنون بها ويعتزلون عن الخلق فيها "وجعل لكم سرابيل" جمع سربال، وهي القمصان والثياب من الصوف والقطن والكتان وغيرها. قال الزجاج: كل ما لبسته فهو سربال، ومعنى "تقيكم الحر" تدفع عنكم ضرر الحر، وخص الحر ولم يذكر البرد اكتفاء بذكر أحد الضدين عن ذكر الآخر، لأن ما وقى من الحر وقى من البرد. ووجه تخصيص الحر بالذكر أن الوقاية منه كانت أهم عندهم من الوقاية من البرد لغلبة الحر في بلادهم "وسرابيل تقيكم بأسكم" وهي الدروع والجواشن يتقون بها الطعن والضرب والرمي. والمعنى: أنها تقيم البأس الذي يصل من بعضكم إلى بعض في الحرب "كذلك يتم نعمته عليكم" أي مثل ذلك الإتمام البالغ يتم نعمته عليكم، فإنه سبحانه قد من على عباده بصنوف النعم المذكورة ها هنا وبغيرها، وهو بفضله وإحسانه سيتم لهم نعمة الدين والدنيا "لعلكم تسلمون" إرادة أن تسلموا، فإن من أنعم النظر في هذه العم لم يسعه إلا الإسلام والانقياد للحق. وقرأ ابن محيصن وحميد " ويتم نعمته " بتاءين فوقيتين على أن فاعله نعمته، وقرأ الباقون بالتحتية على أن الفاعل هو الله سبحانه. وقرأ ابن عباس وعكرمة "تسلمون" بفتح التاء واللام من السلامة على الجراح، وقرأ الباقون بضم التاء وكسر اللام من الإسلام. قال أبو عبيد: والاختيار قراءة العامة، لأن ما أنعم الله به علينا من الإسلام أفضل مما أنعم به من السلامة من الجراح، وقيل الخطاب لأهل مكة: أي لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية، والأولى الحمل على العموم، وإفراد النعمة هنا لأن المراد بها المصدر.
82- " فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين " أي إن تولوا عنك ولم يقبلوا ما جئت به فقد تمهد عذرك، فإنما عليك البلاغ لما أرسلت به إليهم المبين: أي الواضح، وليس عليك غير ذلك، وصرف الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلية له.
وجملة 83- "يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها" استئناف لبيان توليهم: أي هم يعرفون نعمة الله التي عددها، ويعترفون بأنها من عند الله سبحانه ثم ينكرونها بما يقع من أفعالهم القبيحة من عبادة غير الله وبأقوالهم الباطلة، حيث يقولون هي من الله ولكنها بشفاعة الأصنام، وحيث يقولون إنهم ورثوا تلك النعم من آبائهم، وأيضاً كونهم لا يستعملون هذه النعم في مرضاة الرب سبحانه، وفي وجوه الخير التي أمرهم الله بصرفها فيها، وقيل نعمة الله نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفونه ثم ينكرون نبوته "وأكثرهم الكافرون" أي الجاحدون لنعم الله أو الكافرون بالله، وعبر هنا بالأكثر عن الكل، أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم، أو أراد كفر الجحود ولم يكن كفر كلهم كذلك، بل كان كفر بعضهم كفر جهل، وكفر بعضهم بسبب تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم مع اعترافهم بالله وعدم الجحد لربوبيته، ومثل هذه الآية قوله تعالى: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين". وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد سكناً قال: تسكنون فيها. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي نحوه قال: "وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً" وهي خيام العرب "تستخفونها" يقول: في الحمل "ومتاعاً" يقول بلاغاً "إلى حين" قال: إلى الموت. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "تستخفونها يوم ظعنكم" قال: بعض بيوت السيارة بنيانه في ساعة، وفي قوله: "وأوبارها" قال: الإبل "وأشعارها" قال الغنم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله "أثاثاً" قال: الأثاث المتاع. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: الأثاث المال "ومتاعاً إلى حين" يقول: تنتفعون به إلى حين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "والله جعل لكم مما خلق ظلالاً" قال: من الشجر ومن غيرها "وجعل لكم من الجبال أكناناً" قال: غارات يسكن فيها "وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر" قال: من القطن والكتان والصوف "وسرابيل تقيكم بأسكم" من الحديد " كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون " ولذلك هذه السورة تسمى سورة النعم. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "سرابيل تقيكم الحر" قال: يعني الثياب، "وسرابيل تقيكم بأسكم" قال: يعني الدروع والسلاح "كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون" يعني من الجراحات وكان ابن عباس يقرأها تسلمون كما قدمنا، وإسناده ضعيف.
لما بين سبحانه من حال هؤلاء أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها، وأن أكثرهم كافرون أتبعه بأصناف وعيد يوم القيامة، فقال: 84- "ويوم نبعث من كل أمة شهيداً" أي واذكر يوم نبعث، أو يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه، وشهيد كل أمة نبيها يشهد لهم بالإيمان والتصديق، وعليهم بالكفر والجحود والتكذيب "ثم لا يؤذن للذين كفروا" أي في الاعتذار، إذ لا حجة لهم ولا عذر كقوله سبحانه: "ولا يؤذن لهم فيعتذرون" أو في كثرة الكلام، أو في الرجوع إلى دار الدنيا، وإيراد ثم ها هنا للدلالة على أن ابتلاءهم بالمنع عن الاعتذار المنبئ عن الإقناط الكلي أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء "ولا هم يستعتبون" لأن العتاب إنما يطلب لأجل العود إلى الرضا، فإذا كان على عزم السخط فلا فائدة في العتاب. والمعنى: أنهم لا يسترضون: أي لا يكلفون أن يرضوا ربهم، لأن الآخرة ليست بدار تكليف، ولا تركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون، وأصل الكلمة من العتب وهو الموجد، يقال عتب عليه يعتب: إذا وجد عليه، فإذا أفاض عليه ما عتب فيه عليه قيل عاتبه، فإذا رجع إلى مسرته قيل أعتبه، والاسم العتبى، وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب قاله الهروي، ومنه قول النابغة: فإن كنت مظلوماً فعبداً ظلمته وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب
85- "وإذا رأى الذين ظلموا العذاب" أي وإذا رأى الذين أشركوا العذاب الذي يستحقونه بشركهم، وهو عذاب جهنم "فلا يخفف" ذلك العذاب "عنهم ولا هم ينظرون" أي ولا هم يمهلون ليتوبوا إذ لا توبة هنالك.
86- "وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم" أي أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها، لما تقرر من أنهم يبعثون مع المشركين ليقال لهم من كان يعبد شيئاً فليتبعه، كما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم. "قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك" أي الذين كنا نعبدهم من دونك. قال أبو مسلم الأصفهاني: مقصود المشركين بهذا القول إحالة الذنب على تلك الأصنام تعللاً بذلك واسترواحاً مع كونهم يعلمون أن العذاب واقع بهم لا محالة، ولكن الغريق يتعلق بكل ما تقع يده عليه "فألقوا إليهم القول" أي ألقى أولئك الأصنام والأوثان والشياطين ونحوهم إلى المشركين القول "إنكم لكاذبون" أي قالوا لهم إنكم أيها المشركون لكاذبون فيما تزعمون من إحالة الذنب علينا الذي هو مقصودكم من هذا القول. فإن قيل إن المشركين أشاروا إلى الأصنام ونحوها أن هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك، وقد كانوا صادقين في ذلك، فكيف كذبتهم الأصنام ونحوها أن هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك، وقد كانوا صادقين في ذلك، فكيف كذبتهم الأصنام ونحوها؟ فالجواب بأن مرادهم من قولهم هؤلاء شركاؤنا: هؤلاء شركاء الله في المعبودية، فكذبتهم الأصنام في دعوى هذه الشركة، والأصنام والأوثان وإن كانت لا تقدر على النطق فإن الله سبحانه ينطقها في تلك الحال لتخجيل المشركين وتوبيخهم، وهذا كما قالت الملائكة "بل كانوا يعبدون الجن" يعنون أن الجن هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لهم.
87- "وألقوا إلى الله يومئذ السلم" أي ألقى المشركون يوم القيامة الاستسلام والانقياد لعذابه والخضوع لعزته، وقيل استسلم العابد والمعبود وانقادوا لحكمه فيهم "وضل عنهم ما كانوا يفترون" أي ضاع وبطل ما كانوا يفترونه من أن لله سبحانه شركاء وما كانوا يزعمون من شفاعتهم لهم، وأن عبادتهم لهم تقربهم إلى الله سبحانه.