تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 283 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 283

283- تفسير الصفحة رقم283 من المصحف
الآية: 8 {عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصير}
قوله تعالى: "عسى ربكم أن يرحمكم" وهذا مما أخبروا به في كتابهم. و"عسى" وعد من الله أن يكشف عنهم. و"عسى" من الله واجبة. "أن يرحمكم" بعد انتقامه منكم، وكذلك كان؛ فكثر عددهم وجعل منهم الملوك. "وإن عدتم عدنا" قال قتادة: فعادوا فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم؛ فهم يعطون الجزية بالصغار؛ وروي عن ابن عباس. وهذا خلاف ما تقدم في الحديث وغيره 0 وقال القشيري: وقد حل العقاب ببني إسرائيل مرتين على أيدي الكفار، ومرة على أيدي المسلمين. وهذا حين عادوا فعاد الله عليهم. وعلى هذا يصح قول قتادة. "وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا" أي محبسا وسجنا، من الحصر وهو الحبس. قال الجوهري: يقال حصره يحصره حصرا ضيق عليه وأحاط به. والحصير: الضيق البخيل. والحصير: البارية. والحصير: الجنب، قال الأصمعي: هو ما بين العرق الذي يظهر في جنب البعير والفرس معترضا فما فوقه إلى منقطع الجنب. والحصير: الملك؛ لأنه محجوب. قال لبيد:
وقماقم غلب الرقاب كأنهم جن لدى باب الحصير قيام
ويروى:
ومقامة غلب الرقاب...
على أن يكون (غلب) به لا من (مقامة) كأنه قال: ورب غلب الرقاب. وروي عن أبي عبيدة:
. .. لدى طرف الحصير قيام
أي عند طرف البساط للنعمان بن المنذر. والحصير: المحبس؛ قال الله تعالى: "وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا". قال القشيري: ويقال للذي يفرش حصير؛ لحصر بعضه على بعض بالنسج. وقال الحسن: أي فراشا ومهادا؛ ذهب إلى الحصير الذي يفرش، لأن العرب تسمي البساط الصغير حصيرا. قال الثعلبي: وهو وجه حسن.
الآيتان: 9 - 10 {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليم}
قوله تعالى: "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم" لما ذكر المعراج ذكر ما قضى إلى بني إسرائيل، وكان ذلك دلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بين أن الكتاب الذي أنزله الله عليه سبب اهتداء. ومعنى "للتي هي أقوم" أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب؛ فـ "التي" نعت لموصوف محذوف، أي الطريقة إلى نص أقوم. وقال الزجاج: للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمان برسله. وقاله الكلبي والفراء.
قوله تعالى: "ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات" تقدم. "أن لهم" في موضع نصب بـ "بشر" وقال الكسائي وجماعة من البصريين: "أن" في موضع خفض بإضمار الباء. أي بأن لهم. "أجرا كبيرا" أي الجنة. "وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة" أي ويبشرهم بأن لأعدائهم العقاب. والقرآن معظمه وعد ووعيد. وقرأ حمزة والكسائي "ويَبْشُر" مخففا بفتح الياء وضم الشين، وقد ذكر.
الآية: 11 {ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجول}
قوله تعالى: "ويدع الإنسان بالشر" قال ابن عباس وغيره: هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له: اللهم أهلكه، ونحوه. "دعاءه بالخير" أي كدعائه ربه أن يهب له العافية؛ فلو استجاب الله دعاءه على نفسه بالشر هلك لكن بفضله لا يستجيب له في ذلك. نظيره: "ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير" [يونس: 11] وقد تقدم. وقيل: نزلت في النضر بن الحارث، كان يدعو ويقول: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم" [الأنفال: 32]. وقيل: هو أن يدعو في طلب المحظور كما يدعو في طلب المباح، قال الشاعر وهو ابن جامع:
أطوف بالبيت فيمن يطوف وارفع من مئزري المسبل
وأسجد بالليل حتى الصباح واتلو من المحكم المنزل
عسى فارج الهم عن يوسف يسخر لي ربة المحمل
قال الجوهري: يقال ما على فلان محمل مثال مجلس أي معتمد. والمحمل أيضا: واحد محامل الحاج. والمحمل مثال المرجل: علاقة السيف. وحذفت الواو من "ويدع الإنسان" في اللفظ والحظ ولم تحذف في المعنى لأن موضعها رفع فحذفت لاستقبالها اللام الساكنة؛ كقوله تعالى: "سندع الزبانية" [العلق: 18] "ويمح الله الباطل" [الشورى: 24] "وسوف يؤت الله المؤمنين" [النساء: 146] "يناد المناد" [ق: 41] "فما تغن النذر" [القمر: 5]. "وكان الإنسان عجولا" أي طبعه العجلة، فيعجل بسؤال الشر كما يعجل بسؤال الخير. وقيل: أشار به إلى آدم عليه السلام حين نهض قبل أن يركب فيه الروح على الكمال. قال سلمان: أول ما خلق الله تعالى من آدم رأسه فجعل ينظر وهو يخلق جسده، فلما كان عند العصر بقيت رجلاه لم ينفخ فيهما الروح فقال: يا رب عجل قبل الليل؛ فذلك قوله: "وكان الإنسان عجولا". وقال ابن عباس: لما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فذهب لينهض فلم يقدر؛ فذلك قوله: "وكان الإنسان عجولا". وقال ابن مسعود: لما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة؛ فذلك حين يقول: "خلق الإنسان من عجل" ذكره البيهقي. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما صور الله تعالى آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك) وقد تقدم. وقيل: سلم عليه السلام أسيرا إلى سودة فبات يئن فسألته فقال: أنيني لشدة القد والأسر؛ فأرخت من كتافه فلما نامت هرب؛ فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (قطع الله يديك) فلما أصبحت كانت تتوقع الآفة؛ فقال عليه السلام: (إني سألت الله تعالى أن يجعل دعائي على من لا يستحق من أهلي لأني بشر أغضب كما يغضب البشر) ونزلت الآية؛ ذكره القشيري أبو نصر رحمه الله. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفينه فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة). وفي الباب عن عائشة وجابر. وقيل: معنى "وكان الإنسان عجولا" أي يؤثر العاجل وإن قل، على الآجل وإن جل.
الآية: 12 {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيل}
قوله تعالى: "وجعلنا الليل والنهار آيتين" أي علامتين على وحدانيتنا ووجودنا وكمال علمنا وقدرتنا. والآية فيهما: إقبال كل واحد منهما من حيث لا يعلم، وإدباره إلى حيث لا يعلم. ونقصان أحدهما بزيادة الآخر وبالعكس آية أيضا. وكذلك ضوء النهار وظلمة الليل. وقد مضى هذا. "فمحونا آية الليل" ولم يقل: فمحونا الليل، فلما أضاف الآية إلى الليل والنهار دل على أن الآيتين المذكورتين لهما لا هما. و"محونا" معناه طمسنا. وفي الخبر أن الله تعالى أمر جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجه القمر فطمس عنه الضوء وكان كالشمس في النور، والسواد الذي يرى في القمر من أثر المحو. قال ابن عباس: جعل الله الشمس سبعين جزءا والقمر سبعين جزءا، فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعله مع نور الشمس، فالشمس على مائة وتسع وثلاثين جزءا والقمر على جزء واحد. وعنه أيضا: خلق الله شمسين من نور عرشه، وجعل ما سبق في علمه أن يكون شمسا مثل الدنيا على قدرها ما بين مشارقها إلى مغاربها، وجعل القمر دون الشمس؛ فأرسل جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجهه ثلاث مرات وهو يومئذ شمس فطمس ضوءه وبقي نوره؛ فالسواد الذي ترونه في القمر أثر المحو، ولو تركه شمسا لم يعرف الليل من النهار ذكر عنه الأول الثعلبي والثاني المهدوي؛ وسيأتي مرفوعا. وقال علي رضي الله عنه وقتادة: يريد بالمحو اللطخة السوداء التي في القمر، ليكون ضوء القمر أقل من ضوء الشمس فيتميز به الليل من النهار. "وجعلنا آية النهار مبصرة" أي جعلنا شمسه مضيئة للأبصار. قال أبو عمرو بن العلاء: أي يبصر بها. قال الكسائي: وهو من قول العرب أبصر النهار إذا أضاء، وصار بحالة يبصر بها. وقيل: هو كقولهم خبيث مخبث إذا كان أصحابه خبثاء. ورجل مضعف إذا كانت دوابه ضعافا؛ فكذلك النهار مبصرا إذا كان أهله بصراء. "لتبتغوا فضلا من ربكم" يريد التصرف في المعاش. ولم يذكر السكون في الليل اكتفاء بما ذكر في النهار. وقد قال في موضع آخر: "هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا" [يونس: 67]. "ولتعلموا عدد السنين والحساب" أي لو لم يفعل ذلك لما عرف الليل من النهار، ولا كان يعرف الحساب والعدد. "وكل شيء فصلناه تفصيلا" أي من أحكام التكليف؛ وهو كقوله: "تبيانا لكل شيء" [النحل: 89] "ما فرطنا في الكتاب من شيء" [الأنعام: 38]. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما أبرم الله خلقه فلم يبق من خلقه غير آدم خلق شمسا من نور عرشه وقمرا فكانا جميعا شمسين فأما ما كان في سابق علم الله أن يدعها شمسا فخلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها وأما ما كان في علم الله أن يخلقها قمرا فخلقها دون الشمس في العظم ولكن إنما يرى صغرهما من شدة ارتفاع السماء وبعدها من الأرض فلو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولا كان الأجير يدري إلى متى يعمل ولا الصائم إلى متى يصوم ولا المرأة كيف تعتد ولا تدرى أوقات الصلوات والحج ولا تحل الديون ولا حين يبذرون ويزرعون ولا متى يسكنون للراحة لأبدانهم وكأن الله نظر إلى عباده وهو أرحم بهم من أنفسهم فأرسل جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات وهو يومئذ شمس فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور فذلك قوله "وجعلنا الليل والنهار آيتين" الآية.
الآيتان: 13 - 14 {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيب}
قوله تعالى: "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه" قال الزجاج: ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق. وقال ابن عباس: "طائره" عمله وما قدر عليه من خير وشر، وهو ملازمه أينما كان. وقال مقاتل والكلبي: خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسب به. وقال مجاهد: عمله ورزقه، وعنه: ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة فيها مكتوب شقي أو سعيد. وقال الحسن: "ألزمناه طائره" أي شقاوته وسعادته وما كتب له من خير وشر وما طار له من التقدير، أي صار له عند القسمة في الأزل. وقيل: أراد به التكليف، أي قدرناه إلزام الشرع، وهو بحيث لو أراد أن يفعل ما أمر به وينزجر عما زجر به أمكنه ذلك. "ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا" يعني كتاب طائره الذي في عنقه. وقرأ الحسن وأبو رجاء ومجاهد: "طيره" بغير ألف؛ ومنه ما روي في الخبر (اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا رب غيرك). وقرأ ابن عباس والحسن ومجاهد وابن محيصن وأبو جعفر ويعقوب "ويخرج" بفتح الياء وضم الراء، على معنى ويخرج له الطائر كتابا؛ فـ "كتابا" منصوب على الحال. ويحتمل أن يكون المعنى: ويخرج الطائر فيصير كتابا. وقرأ يحيى بن وثاب "ويخرج" بضم الياء وكسر الراء؛ وروي عن مجاهد؛ أي يخرج الله. وقرأ شيبة ومحمد بن السميقع، وروي أيضا عن أبي جعفر: "ويخرج" بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول، ومعناه: ويخرج له الطائر كتابا. الباقون "ونخرج" بنون مضمومة وكسر الراء؛ أي ونحن نخرج. احتج أبو عمرو في هذه القراءة بقوله "ألزمناه". وقرأ أبو جعفر والحسن وابن عامر "يلقاه" بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف، بمعنى يؤتاه. الباقون بفتح الياء خفيفة، أي يراه منشورا. وقال "منشورا" تعجيلا للبشرى بالحسنة والتوبيخ بالسيئة. وقال أبو السوار العدوي وقرأ هذه الآية "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه" قال: هما نشرتان وطية؛ أما ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك المنشورة فأمل فيها ما شئت؛ فإذا مت طويت حتى إذا بعثت نشرت. "اقرأ كتابك" قال الحسن: يقرأ الإنسان كتابه أميا كان أو غير أمي. "كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا" أي محاسبا. وقال بعض الصلحاء: هذا كتاب، لسانك قلمه، وريقك مداده، وأعضاؤك قرطاسه، أنت كنت المملي على حفظتك، ما زيد فيه ولا نقص منه، ومتى أنكرت منه شيئا يكون فيه الشاهد منك عليك.
الآية: 15 {من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسول}
قوله تعالى: "من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها" أي إنما كل أحد يحاسب عن نفسه لا عن غيره؛ فمن اهتدى فثواب اهتدائه له، ومن ضل فعقاب كفره عليه. "ولا تزر وازرة وزر أخرى" تقدم في الأنعام. وقال ابن عباس: نزلت في الوليد بن المغيرة، قال لأهل مكة: اتبعون واكفروا بمحمد وعلي أوزاركم، فنزلت هذه الآية؛ أي إن الوليد لا يحمل آثامكم وإنما إثم كل واحد عليه. يقال: وزر يزر وزرا، ووزرة، أي أثم. والوزر: الثقل المثقل والجمع أوزار؛ ومنه "يحملون أوزارهم على ظهورهم" [الأنعام: 31] أي أثقال ذنوبهم. وقد وزر إذا حمل فهو وازر؛ ومنه وزير السلطان الذي يحمل ثقل دولته. والهاء في قوله كناية عن النفس، أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى، حتى أن الوالدة تلقي ولدها يوم القيامة فتقول: يا بني ألم يكن حجري لك وطاء، ألم يكن ثديي لك سقاء، ألم يكن بطني لك وعاء، فيقول: بلى يا أمه فتقول: يا بني فإن ذنوبي أثقلتني فاحمل عني منها ذنبا واحدا فيقول: إليك عني يا أمه فإني بذنبي عنك اليوم مشغول.
مسألة: نزعت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية في الرد على ابن عمر حيث قال: إن الميت ليعذب ببكاء أهله. قال علماؤنا: وإنما حملها على ذلك أنها لم تسمعه، وأنه معارض للآية. ولا وجه لإنكارها، فإن الرواة لهذا المعنى كثير، كعمر وابنه والمغيرة بن شعبة وقيلة بنت مخرمة، وهم جازمون بالرواية؛ فلا وجه لتخطئتهم. ولا معارضة بين الآية والحديث؛ فإن الحديث محمله على ما إذا كان النوح من وصية الميت وسنته، كما كانت الجاهلية تفعله، حتى قال طرفة:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا بنت معبد
وقال:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وإلى هذا نحا البخاري. وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم داود إلى اعتقاد ظاهر الحديث، وأنه إنما يعذب بنوحهم؛ لأنه أهمل نهيهم عنه قبل موته وتأديبهم بذلك، فيعذب بتفريطه في ذلك؛ وبترك ما أمره الله به من قوله: "قوا أنفسكم وأهليكم نارا" [التحريم: 6] لا بذنب غيره، والله أعلم.
قوله تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" أي لم نترك الخلق سدى، بل أرسلنا الرسل. وفي هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع، خلافا للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبح ويحسن ويبيح ويحظر. وقد تقدم في البقرة القول فيه. والجمهور على أن هذا في حكم الدنيا؛ أي أن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم والإنذار. وقالت فرقة: هذا عام في الدنيا والآخرة، لقوله تعالى: "كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا" [الملك: 8]. قال ابن عطية: والذي يعطيه النظر أن بعثه آدم عليه السلام بالتوحيد وبث المعتقدات في بنيه مع نصب الأدلة الدالة على الصانع مع سلامة الفطر توجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة الله، ثم تجدد ذلك في زمن نوح عليه السلام بعد غرق الكفار. وهذه الآية أيضا يعطي احتمال ألفاظها نحو هذا في الذين لم تصلهم رسالة، وهم أهل الفترات الذين قد قدر وجودهم بعض أهل العلم. وأما ما روي من أن الله تعالى يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والأطفال فحديث لم يصح، ولا يقتضي ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف. قال المهدوي: وروي عن أبي هريرة أن الله عز وجل يبعث يوم القيامة رسولا إلى أهل الفطرة والأبكم والأخرس والأصم؛ فيطيعه منهم من كان يريد أن يطيعه في الدنيا، وتلا الآية؛ رواه معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة، ذكره النحاس.
قلت: هذا موقوف، وسيأتي مرفوعا في آخر سورة [طه] إن شاء الله تعالى؛ ولا يصح. وقد استدل قوم في أن أهل الجزائر إذا سمعوا بالإسلام وآمنوا فلا تكليف عليهم فيما مضى؛ وهذا صحيح، ومن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق للعذاب من جهة العقل، والله أعلم.
الآية: 16 {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدمير}
أخبر الله تعالى في الآية التي قبل أنه لم يهلك القرى قبل ابتعاث الرسل، لا لأنه يقبح منه ذلك إن فعل، ولكنه وعد منه، ولا خلف في وعده. فإذا أراد إهلاك قرية مع تحقيق وعده على ما قاله تعالى أمر مترفيها بالفسق والظلم فيها فحق عليها القول بالتدمير. يعلمك أن من هلك هلك بإرادته، فهو الذي يسبب الأسباب ويسوقها إلى غاياتها ليحق القول السابق من الله تعالى.
"أمرنا" قرأ أبو عثمان النهدي وأبو رجاء وأبو العالية، والربيع ومجاهد والحسن "أمرنا" بالتشديد، وهي قراءة علي رضي الله عنه؛ أي سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم. وقال أبو عثمان النهدي "أمرنا" بتشديد الميم، جعلناهم أمراء مسلطين؛ وقاله ابن عزيز. وتأمر عليهم تسلط عليهم. وقرأ الحسن أيضا وقتادة وأبو حيوة الشامي ويعقوب وخارجة عن نافع وحماد بن سلمة عن ابن كثير وعلى وابن عباس باختلاف عنهما "آمرنا" بالمد والتخفيف، أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها؛ قاله الكسائي. وقال أبو عبيدة: آمرته بالمد وأمرته، لغتان بمعنى كثرته؛ ومنه الحديث (خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة) أي كثيرة النتاج والنسل. وكذلك قال ابن عزيز: آمرنا وأمرنا بمعنى واحد؛ أي أكثرنا. وعن الحسن أيضا ويحيى بن يعمر "أمرنا" بالقصر وكسر الميم على فعلنا، ورويت عن ابن عباس. قال قتادة والحسن: المعنى أكثرنا؛ وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد، وأنكره الكسائي وقال: لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد؛ قال وأصلها "أأمرنا" فخفف، حكاه المهدوي. وفي الصحاح: وقال أبو الحسن أمر ماله بالكسر أي كثر. وأمر القوم أي كثروا؛ قال الشاعر:
أمرون لا يرثون سهم القعدد
وآمر الله ماله: بالمد: الثعلبي: ويقال للشيء الكثير أمر، والفعل منه: أمر القوم يأمرون أمرا إذا كثروا. قال ابن مسعود: كنا نقول في الجاهلية للحي إذا كثروا: أمر أمر بني فلان؛ قال لبيد:
كل بني حرة مصيرهم قل وإن أكثرت من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا يوما يصيروا للهلك والنكد
قلت: وفي حديث هرقل الحديث الصحيح: (لقد أمِر أمْرُ ابن أبي كبشة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر) أي كثر. وكله غير متعد ولذلك أنكره الكسائي، والله اعلم. قال المهدوي: ومن قرأ "أمر" فهي لغة، ووجه تعدية "أمر" أنه شبهه بعمر من حيث كانت الكثرة أقرب شيء إلى العمارة، فعدي كما عدي عمر. الباقون "أمرنا" من الأمر؛ أي أمرناهم بالطاعة إعذارا وإنذارا وتخويفا ووعيدا. "ففسقوا فيها" أي فخرجوا عن الطاعة عاصين لنا. "فحق عليها القول" فوجب، عليها الوعيد؛ عن ابن عباس. وقيل: "أمرنا" جعلناهم أمراء؛ لأن العرب تقول: أمير غير مأمور، أي غير مؤمر. وقيل: معناه بعثنا مستكبريها. قال هارون: وهي قراءة أُبَي "بعثنا أكابر مجرميها ففسقوا" ذكره الماوردي. وحكى النحاس: وقال هارون في قراءة أبي "وإذا أردنا أن نهلك قرية بعثنا فيها أكابر مجرميها فمكروا فيها فحق عليها القول". ويجوز أن يكون "أمرنا" بمعنى أكثرنا؛ ومنه (خير المال مهرة مأمورة) على ما تقدم. وقال قوم: مأمورة اتباع لمأبورة؛ كالغدايا والعشايا. وكقوله: (ارجعن مأزورات غير مأجورات). وعلى هذا لا يقال: أمرهم الله، بمعنى كثرهم، بل يقال: آمره وأمره. واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة العامة. قال أبو عبيد: وإنما اخترنا "أمرنا" لأن المعاني الثلاثة تجتمع فيها من الأمر والإمارة والكثرة. والمترف: المنعم؛ وخصوا بالأمر لأن غيرهم تبع لهم.
قوله تعالى: "فدمرناها" أي استأصلناها بالهلاك. "تدميرا" وذكر المصدر للمبالغة في العذاب الواقع بهم. وفي الصحيح من حديث بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فزعا محمرا وجهه يقول: (لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها. قالت: فقلت يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث). وقد تقدم الكلام في هذا الباب، وأن المعاصي إذا ظهرت ولم تغير كانت سببا لهلاك الجميع؛ والله اعلم.
الآية: 17 {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصير}
قوله تعالى: "وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح" أي كم من قوم كفروا حل بهم البوار. يخوف كفار مكة، وقد تقدم. "وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا" "خبيرا" عليما بهم. "بصيرا" يبصر أعمالهم؛ وقد تقدم.