تفسير الطبري تفسير الصفحة 283 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 283
284
282
 الآية : 8
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {عَسَىَ رَبّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً }.
يقول تعالـى ذكره: لعلّ ربكم يا بنـي إسرائيـل أن يرحمكم بعد انتقامه منكم بـالقوم الذين يبعثهم الله علـيكم لـيسوء مبعثه علـيكم وجوهكم، ولـيدخـلوا الـمسجد كما دخـلوه أوّل مرّة، فـيستنقذكم من أيديهم، وينتشلكم من الذلّ الذي يحله بكم، ويرفعكم من الـخمولة التـي تصيرون إلـيها، فـيعزّكم بعد ذلك. و«عسى» من الله: واجب. وفعل الله ذلك بهم، فكثر عددهم بعد ذلك، ورفع خَساستهم، وجعل منهم الـملوك والأنبـياء، فقال جلّ ثناؤه لهم: وإن عدتـم يا معشر بنـي إسرائيـل لـمعصيتـي وخلاف أمري، وقتل رسلـي، عدنا علـيكم بـالقتل والسّبـاء، وإحلال الذلّ والصّغار بكم، فعادوا، فعاد الله علـيهم بعقابه وإحلال سخطه بهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16690ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، عن عمر بن ثابت، عن أبـيه، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس، فـي قوله: عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمكُمْ وَإنْ عُدْتُـمْ عَدْنا قال: عادوا فعاد، ثم عادوا فعاد، ثم عادوا فعاد. قال: فسلّط الله علـيهم ثلاثة ملوك من ملوك فـارس: سندبـادان وشهربـادان وآخر.
حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قال: قال الله تبـارك وتعالـى بعد الأولـى والاَخرة: عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدْتُـمْ عُدْنا قال: فعادوا فسلّط الله علـيهم الـمؤمنـين.
16691ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ فعاد الله علـيهم بعائدته ورحمته وَإنْ عُدْتُـمْ عُدْنا قال: عاد القوم بشرّ ما يحضرهم، فبعث الله علـيهم ما شاء أن يبعث من نقمته وعقوبته. ثم كان ختام ذلك أن بعث الله علـيهم هذا الـحيّ من العرب، فهم فـي عذاب منهم إلـى يوم القـيامة قال الله عزّ وجلّ فـي آية أخرى وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَـيَبْعَثنّ عَلَـيْهِمْ إلـى يَوْمِ القِـيامَةِ... الاَية، فبعث الله علـيهم هذا الـحيّ من العرب.
16692ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدْتُـمْ عُدْنا فعادوا، فبعث الله علـيهم مـحمدا صلى الله عليه وسلم، فهم يعطون الـجزية عن يد وهم صاغرون.
16693ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قول الله تعالـى: عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ قال بعد هذا وَإنْ عُدْتُـمْ لـما صنعتـم لـمثل هذا من قتل يحيى وغيره من الأنبـياء عُدْنا إلـيكم بـمثل هذا.
وقوله: وَجَعَلْنا جَهَنّـمَ للكافِرِينَ حَصِيرا اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: وجعلنا جهنـم للكافرين سجنا يسجنون فـيها. ذكر من قال ذلك:
16694ـ حدثنا مـحمد بن مَسْعدة، قال: حدثنا جعفر بن سلـيـمان، عن أبـي عمران وجَعَلْنا جَهَنّـمَ للكافِرِين حَصِيرا قال: سجنا.
16695ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: وَجَعَلْنا جَهَنّـمَ للكافِرِينَ حَصِيرا يقول: جعل الله مأواهم فـيها.
16696ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وَجَعَلْنا جَهَنّـمَ للكافِرِينَ حَصِيرا قال: مَـحْبِسا حَصُورا.
حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَجَعَلْنا جَهَنّـمَ للْكافِرِينَ حَصِيرا يقول: سجنا.
16697ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول الله تعالـى: حَصِيرا قال: يحصرون فـيها.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد وَجَعَلْنا جَهَنّـمَ للْكافِرِينَ حَصِيرا قال: يُحصرون فـيها.
16698ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَجَعَلْنا جَهَنّـمَ للكافِرِينَ حَصِيرا سجنا يسجنون فـيها حصروا فـيها.
حدثنا علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد الله بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله وَجَعَلْنا جَهَنّـمَ للكافِرِينَ حَصِيرا يقول: سجنا.
وقال آخرون: معناه: وجعلنا جهنـم للكافرين فراشا ومهادا. ذكر من قال ذلك:
16699ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، قال: قال الـحسن: الـحصير: فِراش ومِهاد.
وذهب الـحسن بقوله هذا إلـى أن الـحصير فـي هذا الـموضع عنـي به الـحصير الذي يُبْسط ويفترش، وذلك أن العرب تسمى البساط الصغير حصيرا، فوجّه الـحسن معنى الكلام إلـى أن الله تعالـى جعل جهنـم للكافرين به بساطا ومهادا، كما قال: لَهُمْ مِنْ جَهَنّـمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وهو وجه حسن وتأويـل صحيح. وأما الاَخرون، فوجهوه إلـى أنه فعيـل من الـحصر الذي هو الـحبس. وقد بـيّنت ذلك بشواهده فـي سورة البقرة، وقد تسمي العرب الـملك حصيرا بـمعنى أنه مـحصور: أي مـحجوب عن الناس، كما قال لبـيد:
وَمَقامَةٍ غُلْبِ الرّقابِ كأنّهُمْجِنّ لَدَى بـابِ الـحَصِيرِ قِـيامُ
يعنـي بـالـحصير: الـملك، ويقال للبخيـل: حصور وحصر: لـمنعه ما لديه من الـمال عن أهل الـحاجة، وحبسه إياه عن النفقة، كما قال الأخطل:
وَشارِبٍ مُرْبحٍ بـالكأْسِ نادَمَنِـيلا بـالـحَصُورِ وَلا فِـيها بِسَوّارِ
ويروى: بسآر. ومنه الـحصر فـي الـمنطق لامتناع ذلك علـيه، واحتبـاسه إذا أراده. ومنه أيضا الـحصور عن النساء لتعذّر ذلك علـيه، وامتناعه من الـجماع، وكذلك الـحصر فـي الغائط: احتبـاسه عن الـخروج، وأصل ذلك كله واحد وإن اختلفت ألفـاظه. فأما الـحصيران: فـالـجنبـان، كماقال الطرّماح:
قَلِـيلاً تَتَلّـى حاجَةً ثُمّ عُولِـيَتْعَلـى كُلّ مَفْرُوشِ الـحَصِيرَيْنِ بـادِنِ
يعنـي بـالـحصيرين: الـجنبـين.
والصواب من القول فـي ذلك عندي أي يقال: معنى ذلك: وَجَعَلْنا جَهَنَـمٍ للْكافرِينَ حَصِيرا فراشا ومهادا لا يزايـله من الـحصير الذي بـمعنى البساط، لأن ذلك إذا كان كذلك كان جامعا معنى الـحبس والامتهاد، مع أن الـحصير بـمعنى البساط فـي كلام العرب أشهر منه بـمعنى الـحبس، وأنها إذا أرادت أن تصف شيئا بـمعنى حبس شيء، فإنـما تقول: هو له حاصر أو مـحصر فأما الـحصير فغير موجود فـي كلامهم، إلا إذا وصفته بأنه مفعول به، فـيكون فـي لفظ فعيـل، ومعناه مفعول به ألا ترى بـيت لبـيد: لدى بـاب الـحصير؟ فقل: لدى بـاب الـحصير، لأنه أراد: لدى بـاب الـمـحصور، فصرف مفعولاً إلـى فعيـل. فأما فعيـل فـي الـحصر بـمعنى وصفه بأنه الـحاصر. فذلك ما لا نـجده فـي كلام العرب، فلذلك قلت: قول الـحسن أولـى بـالصواب فـي ذلك. وقد زعم بعض أهل العربـية من أهل البصرة أن ذلك جائز، ولا أعلـم لـما قال وجها يصحّ إلا بعيدا وهو أن يقال: جاء حصير بـمعنى حاصر، كما قـيـل: علـيـم بـمعنى عالـم، وشهيد بـمعنى شاهد، ولـم يسمع ذلك مستعملاً فـي الـحاصر كما سمعنا فـي عالـم وشاهد.

الآية : 9 و10
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ هَـَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وأَنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }.
يقول تعالـى ذكره: إن هذا القرآن الذي أنزلناه علـى نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم يرشد ويسدّد من اهتدى به للّتِـي هِيَ أقْوَمُ يقول: للسبـيـل التـي هي أقوم من غيرها من السبل، وذلك دين الله الذي بعث به أنبـياءه وهو الإسلام. يقول جلّ ثناؤه: فهذا القرآن يهدي عبـاد الله الـمهتدين به إلـى قصد السبـيـل التـي ضلّ عنها سائر أهل الـملل الـمكذّبـين به، كما:
16700ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: إنّ هَذَا القُرآنَ يَهْدِي للّتِـي هِيَ أقْوَمُ قال: للتـي هي أصوب: هو الصواب وهو الـحقّ قال: والـمخالف هو البـاطل. وقرأ قول الله تعالـى: فِـيها كُتُبٌ قَـيّـمَةٌ قال: فـيها الـحقّ لـيس فـيها عوج. وقرأ ولَـمْ نَـجْعَلْ لَهُ عِوْجا قَـيّـما يقول: قـيـما مستقـيـما.
وقوله: وَيُبَشّرُ الـمُؤْمِنِـينَ يقول: ويبشر أيضا مع هدايته من اهتدى به للسبـيـل الأقصد الذين يؤمنون بـالله ورسوله، ويعملون فـي دنـياهم بـما أمرهم الله به، وينتهون عما نهاهم عنه بأن لهُمْ أجْرا من الله علـى إيـمانهم وعملهم الصالـحات كَبِـيرا يعنـي ثوابـا عظيـما، وجزاء جزيلاً، وذلك هو الـجنة التـي أعدّها الله تعالـى لـمن رضي عمله، كما:
16701ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج أنّ لَهُمْ أجْرا كَبِـيرا قال: الـجنة، وكلّ شيء فـي القرآن أجر كبـير، أجر كريـم، ورزق كريـم فهو الـجنة، وأن فـي قوله: أنّ لَهُمْ أجْرا كَبِـيرا نصب مه، كما:
16702ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج أنّ لَهُمْ أجْرا كَبِـيرا قال: الـجنة، وكلّ شيء فـي القرآن أجر كبـير، أجر كريـم، ورزق كريـم فهو الـجنة، وأن فـي قوله: أنّ لَهُمْ أجْرا كَبِـيرا نصب يقول: أعددنا لهم، لقدومهم علـى ربهم يوم القـيامة عَذَابـا ألِـيـما يعنـي موجعا، وذلك عذاب جهنـم.

الآية : 11
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً }.
يقول تعالـى ذكره مذكرا عبـاده أياديه عندهم، ويدعو الإنسان علـى نفسه وولده وماله بـالشرّ، فـيقول: اللهمّ أهلكه والعنه عند ضجره وغضبه، كدعائه بـالـخير: يقول: كدعائه ربه بأن يهب له العافـية، ويرزقه السلامة فـي نفسه وماله وولده، يقول: فلو استـجيب له فـي دعائه علـى نفسه وماله وولده بـالشرّ كما يستـجاب له فـي الـخير هلك، ولكن الله بفضله لا يستـجيب له فـي ذلك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16703ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: وَيَدْعُ الإنْسانُ بـالشّرّ دعاءَه بـالـخَيْرِ وكانَ الإنْسان عَجُولاً يعنـي قول الإنسان: اللهمّ العنه واغضب علـيه، فلو يُعَجل له ذلك كما يُعجِل له الـخير، لهلك، قال: ويقال: هو وإذَا مَسّ الإنْسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِـجَنِبِهْ أوْ قَاعِدا أَوْ قائِما أن يكشف ما به من ضرّ، يقول تبـارك وتعالـى: لو أنه ذكرنـي وأطاعنـي، واتبع أمري عند الـخير، كما يدعونـي عند البلاء، كان خيرا له.
16704ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَيَدْع الإنْسَانُ بـالشّرّ دعاءَهُ بـالـخَيْرِ وكانَ الإنْسَانُ عَجُولاً يدعو علـى ماله، فـيـلعن ماله وولده، ولو استـجاب الله له لأهلكه.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ويَدْعُ الإنْسانُ بـالشّرّ دُعاءَهُ بـالـخَيْرِ قال: يدعو علـى نفسه بـما لو استـجيب له هلك، وعلـى خادمه، أو علـى ماله.
16705ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد وَيَدْعُ الإنْسانُ بـالشّرّ دُعاءَهُ بـالـخَيْرِ وكانَ الإنْسانُ عَجولاً قال: ذلك دعاء الإنسان بـالشرّ علـى ولده وعلـى امرأته، فـيعجل: فـيدعو علـيه، ولا يحب أن يصيبه.
واختلف فـي تأويـل قوله: وكانَ الإنْسانُ عَجُولاً فقال مـجاهد ومن ذكرت قوله: معناه: وكان الإنسان عَجولاً، بـالدعاء علـى ما يكره، أن يُستـجاب له فـيه.
وقال آخرون: عنى بذلك آدم أنه عجل حين نفخ فـيه الروح قبل أن تـجري فـي جميع جسده، فرام النهوض، فوصف ولده بـالاستعجال، لـما كان من استعجال أبـيهم آدم القـيام، قبل أن يتـمّ خـلقه. ذكر من قال ذلك:
16706ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شُعبة، عن الـحكم، عن إبراهيـم، أن سلـمان الفـارسيّ، قال: أوّل ما خـلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر وهو يُخـلق، قال: وبقـيت رجلاه فلـما كان بعد العصر قال: يا ربّ عَجّل قبل اللـيـل، فذلك قوله: وكانَ الإنْسانُ عَجُولاً.
16707ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي رَوْق، عن الضحاك عن ابن عبـاس، قال: لـما نفخ الله فـي آدم من روحه أتت النفخة من قبَل رأسه، فجعل لا يجرى شيء منها فـي جسده، إلا صار لـحما ودما فلـما انتهت النفخة إلـى سرّته، نظر إلـى جسده، فأعجبه ما رأى من جسده فذهب لـينهض فلـم يقدر، فهو قول الله تبـارك وتعالـى: وكانَ الإنْسانُ عَجُولاً قال: ضَجِرا لا صبر له علـى سرّاء، ولا ضرّاء.

الآية : 12
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَجَعَلْنَا الْلّيْلَ وَالنّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ الْلّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلّ شَيْءٍ فَصّلْنَاهُ تَفْصِيلاً }.
يقول تعالـى ذكره: ومن نعمته علـيكم أيها الناس، مخالفته بـين علامة اللـيـل وعلامة النهار، بإظلامه علامة اللـيـل، وإضاءته علامة النهار، لتسكنوا فـي هذا، وتتصرّفوا فـي ابتغاء رزق الله الذي قدره لكم بفضله فـي هذا، ولتعلـموا بـاختلافهما عدد السنـين وانقضاءها، وابتداء دخولها، وحساب ساعات النهار واللـيـل وأوقاتها وكُلّ شَيْءٍ فَصّلْناه تَفْصِيلاً يقول: وكلّ شيء بـيناه بـيانا شافـيا لكم أيها الناس لتشكروا الله علـى ما أنعم به علـيكم من نعمه، وتـخـلصوا له العبـادة، دون الاَلهة والأوثان. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16708ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عبد العزيز بن رُفـيع، عن أبـي الطُفـيـل، قال: قال ابن الكَوّاء لعلـيّ: يا أمير الـمؤمنـين، ما هذه اللّطْخة التـي فـي القمر؟ فقال: ويْحَك أما تقرأ القرآن فَمَـحَوْنا آيَةَ اللّـيْـلِ، فهذه مـحوه.
16709ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا طلق، عن زائدة، عن عاصم، عن علـيّ بن ربـيعة، قال: سأل ابن الكوّاء علـيا فقال: ما هذا السواد فـي القمر؟ فقال علـيّ: فَمَـحَوْنا آيَةَ اللّـيْـلِ وجَعَلْنا آيَةَ النهارِ مُبْصِرَةً هُوَ الـمَـحْو.
16710ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن عبد الله بن عمر، قال: كنت عند علـيّ، فسأله ابن الكَوّاء عن السواد الذي فـي القمر؟ فقال: ذاك آية اللـيـل مُـحِيت.
16711ـ حدثنا ابن أبـي الشوارب، قال: حدثنا يزيد بن زُريع، قال: حدثنا عمران بن حُدير، عن رفـيع بن أبـي كثـير قال: قال علـيّ بن أبـي طالب رضوان الله علـيه: سَلُوا عما شئتـم، فقام ابن الكوّاء فقال: ما السواد الذي فـي القمر، فقال: قاتلك الله، هلا سألت عن أمر دينك وآخرتك؟ قال: ذلك مَـحْو اللـيـل.
16712ـ حدثنـي زكريا بن يحيى بن أبـان الـمصريّ، قال: حدثنا ابن عُفَـير، قال: حدثنا ابن لَهيعة، عن حُيَـيّ بن عبد الله، عن أبـي عبد الرحمن الـحُبُلـي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رجلاً قال لعلـيّ: ما السواد الذي فـي القمر؟ قال: إن الله يقول: وجَعَلْنا اللّـيْـلَ والنّهار آيَتَـيْنِ فَمَـحَوْنا آيَةَ اللّـيْـلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النّهارِ مُبْصِرَةً.
16713ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: وَجَعَلْنا اللّـيْـلَ والنّهارَ آيَتَـيْنِ فَمَـحَوْنا آيَةَ اللّـيْـلِ قال: هو السواد بـاللـيـل.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس: كان القمر يضيء كما تضيء الشمس، والقمر آية اللـيـل، والشمس آية النهار، فمـحونا آية اللـيـل: السواد الذي فـي القمر.
16714ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، قال: ذكر ابن جريج، عن مـجاهد، فـي قوله: وَجَعَلْنا اللـيْـلَ والنّهَارَ آيَتَـيْنِ قال: الشمس آية النهار، والقمر آية اللـيـل فَمَـحَوْنا آيَةَ اللّـيْـلِ قال: السواد الذي فـي القمر، وكذلك خـلقه الله.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد وَجَعَلْنا اللّـيْـل والنهارَ آيَتَـيْنِ قال: لـيلاً ونهارا، كذلك خـلقهما الله.
16715ـ قال ابن جريج: وأخبرنا عبد الله بن كثـير، قال: فَمَـحَوْنا آيَةَ اللّـيْـلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النّهارِ مُبْصِرَةً قال: ظلـمة اللـيـل وسُدْفَة النهار.
16716ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَجَعَلْنا اللّـيْـلَ والنّهارَ آيَتَـيْنِ فَمَـحَوْنا آيَةَ اللّـيْـلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النّهارِ مُبْصِرَةً: أي منـيرة، وخـلق الشمس أنور من القمر وأعظم.
حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وَجَعَلْنا اللّـيْـلَ والنّهارَ آيَتَـيْنِ قال: لـيلاً ونهارا، كذلك جعلهما الله.
واختلف أهل العربـية فـي معنى قوله: وَجَعَلْنا آيَةَ النّهارِ مُبْصِرَةً فقال بعض نـحويـي الكوفة معناها: مضيئة، وكذلك قوله: والنّهار مُبْصرا معناه: مضيئا، كأنه ذهب إلـى أنه قـيـل مبصرا، لإضاءته للناس البصر. وقال آخرون: بل هو من أبصر النهار: إذا صار الناس يبصرون فـيه فهو مبصر، كقولهم: رجل مـجبن: إذا كان أهله وأصحابه جبناء، ورجل مضعف: إذا كانت رواته ضعفـاء، فكذلك النهار مبصرا: إذا كان أهله بصراء.
16717ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة لتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال: جعل لكم سبحا طويلاً.
16718ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وكُلّ شَيْءٍ فَصّلْناهُ تَفْصِيلاً: أي بـيّناه تبـيـينا.

الآية : 13
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَكُلّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً }.
يقول تعالـى ذكره: وكلّ إنسان ألزمناه ما قضى له أنه عامله، وهو صائر إلـيه من شقاء أو سعادة بعمله فـي عنقه لا يفـارقه. وإنـما قوله ألْزَمْناهُ طائِرَهُ مثل لـما كانت العرب تتفـاءل به أو تتشاءم من سوانـح الطير وبوارحها، فأعلـمهم جلّ ثناؤه أن كلّ إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره فـي عنقه نـحسا كان ذلك الذي ألزمه من الطائر، وشقاء يورده سعيرا، أو كان سعدا يورده جنات عدن. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16719ـ حدثنـي مـحمد بن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: ثنـي أبـي، عن قتادة، عن جابر بن عبد الله أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ وكُلّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَه فِـي عُنُقِهِ».
16720ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس وكُلّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ فِـي عُنُقِهِ قال: الطائر: عمله، قال: والطائر فـي أشياء كثـيرة، فمنه التشاؤم الذي يتشاءم به الناس بعضهم من بعض.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي عطاء الـخراسانـي عن ابن عبـاس، قوله: وكُلّ إنْسانٍ ألْزمْناهُ طائِرَهُ فِـي عُنُقِهِ قال: عمله وما قدر علـيه، فهو ملازمه أينـما كان، فزائل معه أينـما زال. قال ابن جريج: وقال: طائره: عمله.
16721ـ قال: ابن جريج: وأخبرنـي عبد الله بن كثـير، عن مـجاهد، قال: عمله وما كتب الله له.
حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: طائره: عمله.
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو جميعا عن منصور، عن مـجاهد وكُلّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ فِـي عُنُقِهِ قال: عمله.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مـجاهد، مثله.
16722ـ حدثنـي واصل بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا ابن فضيـل، عن الـحسن بن عمرو الفقـيـمي، عن الـحكم، عن مـجاهد، فـي قوله: وكُلّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ فِـي عُنُقِهِ قال: ما من مولدو يولد إلا وفـي عنقه ورقة مكتوب فـيها شقـيّ أو سعيد. قال: وسمعته يقول: أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب، قال: هو ما سبق.
16723ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وكُلّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ فِـي عُنُقِهِ: إي والله بسعادته وشقائه بعمله.
حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: طائره: عمله.
فإن قال قائل: وكيف قال: ألزمناه طائره فـي عنقه إن كان الأمر علـى ما وصفت، ولـم يقل: ألزمناه فـي يديه ورجلـيه أو غير ذلك من أعضاء الـجسد؟ قـيـل: لأن العنق هو موضع السمات، وموضع القلائد والأطوقة، وغير ذلك مـما يزين أو يشين، فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة بنـي آدم وغيرهم من ذلك إلـى أعناقهم وكثر استعمالهم ذلك حتـى أضافوا الأشياء اللازمة سائر الأبدان إلـى الأعناق، كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلـى الـيد، فقالوا: ذلك بـما كسبت يداه، وإن كان الذي جرّ علـيه لسانه أو فرجه، فكذلك قوله ألْزَمْناهُ طائِرَهُ فِـي عُنُقِهِ.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: ونُـخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِـيامَةِ كتابـا يَـلْقاهُ مَنْشُورا فقرأه بعض أهل الـمدينة ومكة، وهو نافع وابن كثـير وعامة قرّاء العراق ونُـخْرِجُ بـالنون لَهُ يَوْمَ القِـيامَةِ كِتابـا يَـلْقاه مَنْشُورا بفتـح الـياء من يَـلْقاه وتـخفـيف القاف منه، بـمعنى: ونـخرج له نـحن يوم القـيامة ردّا علـى قوله ألْزَمْناهُ ونـحن نـخرج له يوم القـيامة كتاب عمله منشورا. وكان بعض قرّاء أهل الشام يوافق هؤلاء علـى قراءة قوله ونُـخْرِجُ ويخالفهم فـي قوله يَـلْقاهُ فـيقرؤه: «يُـلَقّاهُ» بضم الـياء وتشديد القاف، بـمعنى: ونـخرج له نـحن يوم القـيامة كتابـا يـلقاه، ثم يردّه إلـى ما لـم يسمّ فـاعله، فـيقول: يـلقـى الإنسان ذلك الكتاب منشورا. وذكر عن مـجاهد ما:
16724ـ حدثنا أحمد بن يوسف، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا يزيد، عن جرير بن حازم عن حميد، عن مـجاهد أنه قرأها، «وَيَخْرَجُ لَهُ يَوْمَ القِـيامَةِ كِتابـا» قال: يزيد: يعنـي يَخرج الطائر كتابـا، هكذا أحسبه قرأها بفتـح الـياء، وهي قراءة الـحسن البصري وابن مـحيصن وكأن من قرأ هذه القراءة وجّه تأويـل الكلام إلـى: ويخرج له الطائر الذي ألزمناه عنق الإنسان يوم القـيامة، فـيصير كتابـا يقرؤه منشورا.
وقرأ ذلك بعض أهل الـمدينة: «ويُخَرجُ لَهُ» بضم الـياء علـى مذهب ما لـم يسمّ فـاعله، وكأنه وجّه معنى الكلام إلـى ويخرج له الطائر يوم القـيامة كتابـا، يريد: ويخرج الله ذلك الطائر قد صيره كتابـا، إلا أنه نـحاه نـحو ما لـم يسمّ فـاعله.
وأولـى القراءات فـي ذلك بـالصواب، قراءة من قرأه: ونُـخْرِجُ بـالنون وضمها لَهُ يَوْمَ القـيامَةِ كِتابـا يَـلقاهُ منْشُورا بفتـح الـياء وتـخفـيف القاف، لأن الـخبر جري قبل ذلك عن الله تعالـى أنه الذي ألزم خـلقه ما ألزم من ذلك فـالصواب أن يكون الذي يـلـيه خبرا عنه، أنه هو الذي يخرجه لهم يوم القـيامة، أن يكون بـالنون كما كان الـخبر الذي قبله بـالنون. وأما قوله: يَـلقاهُ فإنّ فـي إجماع الـحجة من القرّاء علـى تصويب ما اخترنا من القراءة فـي ذلك، وشذوذ ما خالفه الـحجة الكافـية لنا علـى تقارب معنى القراءتـين: أعنـي ضمّ الـياء وفتـحها فـي ذلك، وتشديد القاف وتـخفـيفها فـيه فإذا كان الصواب فـي القراءة هو ما اخترنا بـالذي علـيه دللنا، فتأويـل الكلام: وكلّ إنسان منكم يا معشر بنـي آدم، ألزمناه نـحسه وسعده، وشقاءه وسعادته، بـما سبق له فـي علـمنا أنه صائر إلـيه، وعامل من الـخير والشرّ فـي عنقه، فلا يجاوز فـي شيء من أعماله ما قضينا علـيه أنه عامله، وما كتبنا له أنه صائر إلـيه، ونـحن نـخرج له إذا وافـانا كتابـا يصادفه منشورا بأعماله التـي عملها فـي الدنـيا، وبطائره الذي كتبنا له، وألزمناه إياه فـي عنقه، قد أحصى علـيه ربه فـيه كلّ ما سلف فـي الدنـيا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16725ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، ونُـخرِجُ لَهُ يَوْمَ القِـيامَةِ كِتابـا يَـلقاهُ مَنْشُورا قال: هو عمله الذي عمل أحصي علـيه، فأخرج له يوم القـيامة ما كتب علـيه من العمل يـلقاه منشورا.
16726ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ونُـخرِجُ لَهُ يَوْمَ القِـيامَةِ كِتابـا يَـلقاهُ مَنْشُورا: أي عمله.
16727ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو سفـيان، عن معمر، عن قتادة ألزَمناهُ طائِرَهُ فِـي عُنُقِهِ قال: عمله ونُـخرِجُ لَهُ قال: نـخرج ذلك العمل كِتابـا يَـلقاهُ مَنْشُورا قال معمر: وتلا الـحسن: عَنِ الـيَـمِينِ وَعَنِ الشّمالِ قَعِيدٌ يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك، ووكل بك ملَكان كريـمان، أحدهما عن يـمينك، والاَخر عن يسارك. فأما الذي عن يـمينك فـيحفظ حسناتك. وأما الذي عن شمالك فـيحفظ سيئاتك، فـاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتـى إذا متّ طُويت صحيفتك، فجعلت فـي عنقك معك فـي قبرك، حتـى تـخرج يوم القـيامة كتابـا يـلقاه منشورا اقرأ كِتابَكَ كَفَـى بِنَفْسِكَ الـيَوْمَ عَلَـيكَ حَسِيبـا قد عدل والله علـيك من جعلك حسيب نفسك.
حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: طائره: عمله، ونـخرج له بذلك العمل كتابـا يـلقاه منشورا.
وقد كان بعض أهل العربـية يتأوّل قوله وكُلّ إنْسانٍ ألزَمناهُ طائِرَهُ فِـي عُنُقِهِ: أي حظه، من قولهم: طار سهم فلان بكذا: إذا خرج سهمه علـى نصيب من الأنصبـاء وذلك وإن كان قولاً له وجه، فإن تأويـل أهل التأويـل علـى ما قد بـينت، وغير جائز أن يتـجاوز فـي تأويـل القرآن ما قالوه إلـى غيره، علـى أن ما قاله هذا القائل، إن كان عنى بقوله حظه من العمل والشقاء والسعادة، فلـم يبعد معنى قوله من معنى قولهم.

الآية : 14
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىَ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً }.
يقول تعالـى ذكره: ونُـخرِجُ لَهُ يَوْمَ القِـيامَةِ كِتابـا يَـلقاهُ مَنْشُورا فـيقال له: اقرأْ كِتابَكَ كَفَـى بِنَفسكَ الـيَوْمَ عَلَـيكَ حَسِيبـا فترك ذكر قوله: فنقول له، اكتفـاء بدلالة الكلام علـيه. وعنى بقوله: اقرأْ كِتابَكَ: اقرأ كتاب عملك الذي عملته فـي الدنـيا، الذي كان كاتبـانا يكتبـانه، ونـحصيه علـيك كَفَـى بَنَفسِكَ الـيَوْمَ عَلَـيكَ حَسِيبـا يقول: حسبك الـيوم نفسك علـيك حاسبـا يحسب علـيك أعمالك، فـيحصيها علـيك، لا نبتغي علـيك شاهدا غيرها، ولا نطلب علـيك مـحصيا سواها.
16728ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة اقرأ كِتابَكَ كَفَـى بِنَفسِكَ الـيَوْمَ عَلَـيكَ حَسِيبـا سيقرأ يومئذٍ من لـم يكن قارئا فـي الدنـيا.

الآية : 15
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مّنِ اهْتَدَىَ فَإِنّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلّ فَإِنّمَا يَضِلّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ وَمَا كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّىَ نَبْعَثَ رَسُولاً }.
يقول تعالـى ذكره: من استقام علـى طريق الـحقّ فـاتبعه، وذلك دين الله الذي ابتعث به نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم علـيه وسلـم فإنّـما يَهتَدي لِنَفسِهِ يقول: فلـيس ينفع بلزومه الاستقامة، وإيـمانه بـالله ورسوله غير نفسه وَمَنْ ضَلّ يقول: ومن جار عن قصد السبـيـل، فأخذ علـى غير هدى، وكفر بـالله وبـمـحمد صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به من عند الله من الـحقّ، فلـيس يضرّ بضلاله وجوره عن الهدى غير نفسه، لأنه يوجب لها بذلك غضب الله وألـيـم عذابه.. وإنـما عنى بقوله فإنّـمَا يَضِلّ عَلَـيها فإنـما يكسب إثم ضلاله علـيها لا علـى غيرها. وقوله: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى يعنـي تعالـى ذكره: ولا تـحمل حاملة حمل أخرى غيرها من الاَثام. وقال: وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى لأن معناها: ولا تزر نفس وازرة وزر نفس أخرى. يقال منه: وزرت كذا أزره وزرا، والوزر: هو الإثم، يجمع أوزارا، كما قال تعالـى: وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزَارا مِنْ زِينَةِ القَوْمِ وكأن معنى الكلام: ولا تأثم آثمة إثم أخرى، ولكن علـى كل نفس إثمها دون إثم غيرها من الأنفس، كما:
16729ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرَى: والله ما يحمل الله علـى عبد ذنب غيره، ولا يؤاخذ إلا بعمله.
وقوله: وَما كُنّا مَعَذّبِـينَ حتـى نَبْعَثَ رَسُولاً يقول تعالـى ذكره: وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار إلـيهم بـالرسل، وإقامة الـحجة علـيهم بـالاَيات التـي تقطع عذرهم. كما:
16730ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَما كُنّا مُعَذّبِـينَ حتـى نَبَعَثَ رَسُولاً: إن الله تبـارك وتعالـى لـيس يعذب أحدا حتـى يسبق إلـيه من الله خبرا، أو يأتـيه من الله بـيّنة، ولـيس معذّبـا أحدا إلا بذنبه.
16731ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن أبـي هريرة، قال: إذا كان يوم القـيامة، جمع الله تبـارك وتعالـى نسم الذين ماتوا فـي الفترة والـمعتوه والأصمّ والأبكم، والشيوخ الذين جاء الإسلام وقد خرفوا، ثم أرسل رسولاً، أن ادخـلوا النار، فـيقولون: كيف ولـم يأتنا رسول، وايـم الله لو دخـلوها لكانت علـيهم بردا وسلاما، ثم يرسل إلـيهم، فـيطيعه من كان يريد أن يطيعه قبل قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتـم وَما كُنا مُعَذّبِـينَ حتـى نَبعَثَ رَسُولاً.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو سفـيان، عن معمر، عن همام، عن أبـي هريرة نـحوه.

الآية : 16
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمّرْنَاهَا تَدْمِيراً }.
اختلف القرّاء فـي قراءة قوله أمَرْنا مُتْرَفِـيها فقرأت ذلك عامة قرّاء الـحجاز والعراق أمَرْنا بقصر الألف وغير مدها وتـخفـيف الـميـم وفتـحها. وإذا قرىء ذلك كذلك، فإن الأغلب من تأويـله: أمرنا مترفـيها بـالطاعة، ففسقوا فـيها بـمعصيتهم الله، وخلافهم أمره، كذلك تأوّله كثـير مـمن قرأه كذلك. ذكر من قال ذلك:
16732ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس أمَرْنا مُتْرَفـيها قال: بطاعة الله، فعصوا.
16733ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا شريك، عن سلـمة أو غيره، عن سعيد بن جبـير، قال: أمرنا بـالطاعة فعصوا.
وقد يحتـمل أيضا إذا قرىء كذلك أن يكون معناه: جعلناهم أمراء ففسقوا فـيها، لأن العرب تقول: هو أمير غير مأمور. وقد كان بعض أهل العلـم بكلام العرب من أهل البصرة يقول: قد يتوجّه معناه إذا قرىء كذلك إلـى معنى أكثرنا مترفـيها، ويحتـجّ لتصحيحه ذلك بـالـخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خَيْرُ الـمَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ أوْ سِكّةٌ مَأْبُورَةٌ» ويقول: إن معنى قوله: مأمورة: كثـيرة النسل. وكان بعض أهل العلـم بكلام العرب من الكوفـيـين ينكر ذلك من قـيـله، ولا يجيزنا أمرنا، بـمعنى أكثرنا إلا بـمدّ الألف من أمرنا. ويقول فـي قوله «مهرة مأمورة»: إنـما قـيـل ذلك علـى الاتبـاع لـمـجيء مأبورة بعدها، كما قـيـل: «ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غيرَ مَأْجُورَات» فهمز مأزورات لهمز مأجورات، وهي من وزرت إتبـاعا لبعض الكلام بعضا. وقرأ ذلك أبو عثمان «أمّرْنا» بتشديد الـميـم، بـمعنى الإمارة.
16734ـ حدثنا أحمد بن يوسف، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا هشيـم عن عوف، عن أبـي عثمان النهدي أنه قرأ: «أمّرْنا» مشدّدة من الإمارة.
وقد تأوّل هذا الكلام علـى هذا التأويـل، جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16735ـ حدثنا علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: «أمّرْنا مُترَفِـيها» يقول: سلطنا أشرارها فعصوا فـيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم بـالعذاب، وهو قوله: وكذلكَ جَعَلنا فِـي كُلّ قَرْيَةٍ أكابِرَ مُـجْرِمِيها لِـيَـمْكُرُوا فِـيها.
16736ـ حدثنـي الـحرث، قال: حدثنا القاسم، قال: سمعت الكسائي يحدّث عن أبـي جعفر الرازي، عن الربـيع بن أنس، أنه قرأها: «أمّرْنا» وقال: سلّطنا.
16737ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن أبـي حفص، عن الربـيع، عن أبـي العالـية، قال: «أمّرْنا» مثقلة: جعلنا علـيها مترفـيها: مستكبريها.
16738ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، وحدثنـي الـحرث قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول الله تبـارك وتعالـى: «أمّرْنا مُترَفِـيها» قال: بعثنا.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله.
وذكر عن الـحسن البصري أنه قرأ ذلك: «آمَرْنا» بـمدّ الألف من أمرنا، بـمعنى: أكثرنا فسقتها. وقد وجّه تأويـل هذا الـحرف إلـى هذا التأويـل جماعة من أهل التأويـل، إلا أن الذين حدّثونا لـم يـميزوا لنا اختلاف القراءات فـي ذلك، وكيف قرأ ذلك الـمتأوّلون، إلا القلـيـل منهم. ذكر من تأوّل ذلك كذلك:
16739ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: «وَإذَا أرَدْنا أنْ نُهِلكَ قَرْيَةً آمَرْنا مُترَفِـيها فَفَسَقُوا فِـيها» يقول: أكثرنا عددهم.
16740ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة قوله: «آمَرْنا مُتْرَفِـيها» قال: أكثرناهم.
16741ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن أبـي رجاء، عن الـحسن، فـي قوله أمَرْنا مُتْرَفِـيها قال: أكثرناهم.
16742ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، يقول: أخبرنا عبد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله أمَرْنا مُتْرَفـيها يقول: أكثرنا مترفـيها: أي كبراءها.
16743ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: «وَإذَا أرَدْنا أنْ نُهْلكَ قَرْيَةً آمَرْنا مُتْرَفِـيها فَفَسَقُوا فِـيها، فَحَقّ عَلَـيْها القَوْلُ» يقول: أكثرنا مترفـيها: أي جبـابرتها، ففسقوا فـيها وعملوا بـمعصية الله فَدَمّرْناها تَدْميرا. وكان يقول: إذا أراد الله بقوم صلاحا، بعث علـيهم مصلـحا. وإذا أراد بهم فسادا بعث علـيهم مفسدا، وإذا أراد أن يهلكها أكثر مترفـيها.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة آمَرْنا مُتْرَفِـيها قال: أكثرناهم.
16744ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، قال: دخـل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما علـى زينب وهو يقول: «لا إلَهَ إلاّ اللّهُ وَيْـلٌ للْعَرَبِ مِنْ شَرَ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِـحَ الـيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمأْجُوجَ مِثُلُ هَذَا» وحلق بـين إبهامه والتـي تلـيها، قالت: يا رسول الله أنهلك وفـينا الصالـحون؟ قال: «نَعَمْ إذَا كَثُرَ الـخَبَثُ».
16745ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَإذَا أرَدْنا أنْ نُهْلكَ قَرْيَةٍ أمَرْنا مُتْرَفِـيها فَفَسَقُوا فِـيها قال: ذكر بعض أهل العلـم أن أمرنا: أكثرنا. قال: والعرب تقول للشيء الكثـير أمِرَ لكثرته. فأما إذا وصف القوم بأنهم كثروا، فإنه يقال: أمر بنو فلان، وأمر القوم يأمرون أمرا، وذلك إذا كثروا وعظم أمرهم، كما قال لبـيد.
إنْ يُغْبَطُوا يُهْبَطُوا وَإنْ أَمَرُوايَوْما يَصِيرُوا للقُلّ والنّفَدِ
والأمر الـمصدر، والاسم الإمر، كما قال الله جلّ ثناؤه لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا قال: عظيـما، وحكي فـي مثل شرّ إمْر: أي كثـير.
وأولـى القراءات فـي ذلك عندي بـالصواب قراءة من قرأ أمَرْنا مُتْرَفِـيها بقصر الألف من أمرنا وتـخفـيف الـميـم منها، لإجماع الـحجة من القرّاء علـى تصويبها دون غيرها. وإذا كان ذلك هو الأولـى بـالصواب بـالقراءة، فأولـى التأويلات به تأويـل من تأوّله: أمرنا أهلها بـالطاعة فعصوا وفسقوا فـيها، فحقّ علـيهم القول: لأن الأغلب من معنى أمرنا: الأمر، الذي هو خلاف النهي دون غيره، وتوجيه معانـي كلام الله جلّ ثناؤه إلـى الأشهر الأعرف من معانـيه، أولـى ما وجد إلـيه سبـيـل من غيره.
ومعنى قوله: فَفَسَقُوا فِـيهَا: فخالفوا أمر الله فـيها، وخرجوا عن طاعته فَحَقّ عَلَـيْها القَوْلُ يقول: فوجب علـيهم بـمعصيتهم الله وفسوقهم فـيها، وعيد لله الذي أوعد من كفر به، وخالف رسله، من الهلاك بعد الإعذار والإنذار بـالرسل والـحجج فَدَمّرْناها تَدْميرا يقول: فخرّبناها عند ذلك تـخريبـا، وأهلكنا من كان فـيها من أهلها إهلاكا، كما قال الفرزدق:
وكانَ لَهُمْ كَبكْرِ ثَمُودَ لَـمّارَغا ظُهْرا فَدَمّرَهُمْ دَمارا

الآية : 17
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىَ بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً }.
وهذا وعيد من الله تعالـى ذكره مكذّبـي رسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش، وتهديدهم لهم بـالعقاب، وإعلام منه لهم، أنهم إن لـم ينتهوا عما هم علـيه مقـيـمون من تكذيبهم رسوله علـيه الصلاة والسلام أنه مـحلّ بهم سخطه، ومنزل بهم من عقابه ما أنزل بـمن قبلهم من الأمـم الذين سلكوا فـي الكفر بـالله، وتكذيب رسله سبـيـلهم. يقول الله تعالـى ذكره: وقد أهلكنا أيها القوم من قبلكم من بعد نوح إلـى زمانكم قرونا كثـيرة كانوا من جحود آيات الله والكفر به، وتكذيب رسله، علـى مثل الذي أنتـم علـيه، ولستـم بأكرم علـى الله تعالـى منهم، لأنه لا مناسبة بـين أحد وبـين الله جلّ ثناؤه، فـيعذّب قوما بـما لا يعذّب به آخرين، أو يعفو عن ذنوب ناس فـيعاقب علـيها آخرين يقول جلّ ثناؤه: فأنـيبوا إلـى طاعة الله ربكم، فقد بعثنا إلـيكم رسولاً ينبهكم علـى حججنا علـيكم، ويوقظكم من غفلتكم، ولـم نكن لنعذّب قوما حتـى نبعث إلـيهم رسولاً منبها لهم علـى حجج الله، وأنتـم علـى فسوقكم مقـيـمون، وكفـى بربك يا مـحمد بذنوب عبـاده خبـيرا يقول: وحسبك يا مـحمد بـالله خابرا بذنوبن خـلقه عالـما، فإنه لا يخفـى علـيه شيء من أفعال مشركي قومك هؤلاء، ولا أفعال غيرهم من خـلقه، هو بجميع ذلك عالـم خابر بصير، يقول: يبصر ذلك كله فلا يغيب عنه منه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة فـي الأرض ولا فـي السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. وقد اختلف فـي مبلغ مدّة القرن:
16746ـ فحدثنا مـجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، عن أبـي مـحمد بن عبد الله بن أبـي أوفـى، قال: القرن: عشرون ومئة سنة، فبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي أوّل قرن كان، وآخرهم يزيد بن معاوية.
وقال آخرون: بل هو مئة سنة. ذكر من قال ذلك:
16747ـ حدثنا حسان بن مـحمد بن عبد الرحمن الـحمصي أبو الصلت الطائي، قال: حدثنا سلامة بن حواس، عن مـحمد بن القاسم، عن عبد الله بن بسر الـمازنـي، قال: وضع النبـيّ صلى الله عليه وسلم يده علـى رأسه وقال: «سَيَعِيشُ هذَا الغُلام قَرْنا» قلت: كم القرن؟ قال: «مِئَةُ سَنَةٍ».
16748ـ حدثنا حسان بن مـحمد، قال: حدثنا سلامة بن حواس، عن مـحمد بن القاسم، قال: ما زلنا نعدّ له حتـى تـمّت مئة سنة ثم مات، قال أبو الصلت: أخبرنـي سلامة أن مـحمد بن القاسم هذا كان ختن عبد الله بن بسر. وقال آخرون فـي ذلك بـما:
16749ـ حدثنا إسماعيـل بن موسى الفزاري، قال: أخبرنا عمر بن شاكر، عن ابن سيرين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القَرْنُ أرْبَعُونَ سَنَةً».
وقوله: وكَفَـى بِرَبّكَ أدخـلت البـاء فـي قوله: بِرَبّكَ وهو فـي مـحلّ رفع، لأن معنى الكلام: وكفـاك ربك، وحسبك ربك بذنوب عبـاده خبـيرا، دلالة علـى الـمدح وكذلك تفعل العرب فـي كلّ كلام كان بـمعنى الـمدح أو الذمّ، تدخـل فـي الاسم البـاء والاسم الـمدخـلة علـيه البـاء فـي موضع رفع لتدلّ بدخولها علـى الـمدح أو الذمّ كقولهم: أكرم به رجلاً، وناهيك به رجلاً، وجاد بثوبك ثوبـا، وطاب بطعامكم طعاما، وما أشبه ذلك من الكلام، ولو أسقطت البـاء مـما دخـلت فـيه من هذه الأسماء رفعت، لأنها فـي مـحلّ رفع، كما قال الشاعر:
ويُخْبِرنُـي عَنْ غائبِ الـمَرْءِ هَدْيُه ُكَفَـى الهَدْىُ عَمّا غَيّبَ الـمَرْءُ مُخْبرا
فأما إذا لـم يكن فـي الكلام مدح أو ذمّ فلا يدخـلون فـي الاسم البـاء لا يجوز أن يقال: قام بأخيك، وأنت تريد: قام أخوك، إلا أن تريد: قام رجل آخر به، وذلك معنى غير الـمعنى الأوّل