تفسير السعدي تفسير الصفحة 283 من المصحف


عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ( 8 ) .
( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ) فيديل لكم الكرة عليهم، فرحمهم وجعل لهم الدولة. وتوعدهم على المعاصي فقال: ( وَإِنْ عُدْتُمْ ) إلى الإفساد في الأرض ( عُدْنَا ) إلى عقوبتكم، فعادوا لذلك فسلط الله عليهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم
فانتقم الله به منهم، فهذا جزاء الدنيا وما عند الله من النكال أعظم وأشنع، ولهذا قال: ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) يصلونها ويلازمونها لا يخرجون منها أبدا. وفي هذه الآيات التحذير لهذه الأمة من العمل بالمعاصي لئلا يصيبهم ما أصاب بني إسرائيل، فسنة الله واحدة لا تبدل ولا تغير.
ومن نظر إلى تسليط الكفرة على المسلمين والظلمة، عرف أن ذلك من أجل ذنوبهم عقوبة لهم وأنهم إذا أقاموا كتاب الله وسنة رسوله، مكن لهم في الأرض ونصرهم على أعدائهم.
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ( 9 ) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 10 ) .
يخبر تعالى عن شرف القرآن وجلالته وأنه ( يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) أي: أعدل وأعلى من العقائد والأعمال والأخلاق، فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن كان أكمل الناس وأقومهم وأهداهم في جميع أموره.
( وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ ) من الواجبات والسنن، ( أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ) أعده الله لهم في دار كرامته لا يعلم وصفه إلا هو.
( وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) فالقرآن مشتمل على البشارة والنذارة وذكر الأسباب التي تنال بها البشارة وهو الإيمان والعمل الصالح والتي تستحق بها النذارة وهو ضد ذلك.
وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا ( 11 ) .
وهذا من جهل الإنسان وعجلته حيث يدعو على نفسه وأولاده وماله بالشر عند الغضب ويبادر بذلك الدعاء كما يبادر بالدعاء في الخير، ولكن الله - بلطفه - يستجيب له في الخير ولا يستجيب له بالشر. وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا ( 12 ) .
يقول تعالى: ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ) أي: دالتين على كمال قدرة الله وسعة رحمته وأنه الذي لا تنبغي العبادة إلا له. ( فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ ) أي: جعلناه مظلما للسكون فيه والراحة، ( وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ) أي: مضيئة ( لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ ) في معايشكم وصنائعكم وتجاراتكم وأسفاركم.
( وَلِتَعْلَمُوا ) بتوالي الليل والنهار واختلاف القمر ( عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ) فتبنون عليها ما تشاءون من مصالحكم.
( وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا ) أي: بينا الآيات وصرفناه لتتميز الأشياء ويستبين الحق من الباطل كما قال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ( 13 ) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ( 14 ) .
وهذا إخبار عن كمال عدله أن كل إنسان يلزمه طائره في عنقه، أي: ما عمل من خير وشر يجعله الله ملازما له لا يتعداه إلى غيره، فلا يحاسب بعمل غيره ولا يحاسب غيره بعمله.
( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ) فيه ما عمله من الخير والشر حاضرا صغيره وكبيره ويقال له: ( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) وهذا من أعظم العدل والإنصاف أن يقال للعبد: حاسب نفسك ليعرف بما عليه من الحق الموجب للعقاب.
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ( 15 ) .
أي: هداية كل أحد وضلاله لنفسه لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يدفع عنه مثقال ذرة من الشر، والله تعالى أعدل العادلين لا يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ثم يعاند الحجة.
وأما من انقاد للحجة أو لم تبلغه حجة الله تعالى فإن الله تعالى لا يعذبه.
واستدل بهذه الآية على أن أهل الفترات وأطفال المشركين، لا يعذبهم الله حتى يبعث إليهم رسولا لأنه منزه عن الظلم.
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ( 16 ) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ( 17 ) .
يخبر تعالى أنه إذا أراد أن يهلك قرية من القرى الظالمة ويستأصلها بالعذاب أمر مترفيها أمرا قدريا ففسقوا فيها واشتد طغيانهم، ( فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ) أي: كلمة العذاب التي لا مرد لها ( فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا )
وهؤلاء أمم كثيرة أبادهم الله بالعذاب من بعد قوم نوح كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ممن عاقبهم الله لما كثر بغيهم واشتد كفرهم أنزل [ الله ] بهم عقابه العظيم.
( وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) فلا يخافوا منه ظلما وأنه يعاقبهم على ما عملوه.