تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 3 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 3

3- تفسير الصفحة رقم3 من المصحف
الآية 6{إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}
قوله تعالى: "إن الذين كفروا" لما ذكر المؤمنين وأحوالهم ذكر الكافرين ومآلهم. والكفر ضد الإيمان وهو المراد في الآية. وقد يكون بمعنى جحود النعمة والإحسان، ومنه قوله عليه السلام في النساء في حديث الكسوف: (ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع ورأيت أكثر أهلها النساء) قيل: بم يا رسول الله؟ قال: (بكفرهن)، قيل أيكفرن بالله؟ قال: (يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط) أخرجه البخاري وغيره.
وأصل الكفر في كلام العرب: الستر والتغطية، ومنه قول الشاعر:
في ليلة كفر النجومَ غمامُها
أي سترها. ومنه سمي الليل كافرا، لأنه يغطي كل شيء بسواده، قال الشاعر:
فتذكرا ثَقلا رثيدا بعدما ألقت ذُكاء يمينها في كافر
ذكاء (بضم الذال والمد): اسم للشمس، ومنه قول الآخر:
فوردت قبل انبلاج الفجر وابن ذكاء كامن في كَفر
أي في ليل. والكافر أيضا: البحر والنهر العظيم. والكافر: الزارع، والجمع كفار، قال الله تعالى: "كمثل غيث أعجب الكفار نباته" [الحديد: 20]. يعني الزراع لأنهم يغطون الحب. ورماد مكفور: سفت الريح عليه التراب. والكافر من الأرض: ما بعد عن الناس لا يكاد ينزله ولا يمر به أحد، ومن حل بتلك المواضع فهم أهل الكفور. ويقال الكفور: القرى.
قوله تعالى: "سواء عليهم" معناه معتدل عندهم الإنذار وتركه، أي سواء عليهم هذا. وجيء بالاستفهام من أجل التسوية، ومثله قوله تعالى: "سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين" [الشعراء: 136]. وقال الشاعر:
وليل يقول الناس من ظلماته سواء صحيحات العيون وعورها
قوله تعالى: "أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" الإنذار الإبلاغ والإعلام، ولا يكاد يكون إلا في تخويف يتسع زمانه للاحتراز، فإن لم يتسع زمانه للاحتراز كان إشعارا ولم يكن إنذارا، قال الشاعر:
أنذرت عَمرا وهو في مهَل قبل الصباح فقد عصى عمرو
وتناذر بنو فلان هذا الأمر إذا خوفه بعضهم بعضا
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل: هي عامة ومعناها الخصوص فيمن حقت عليه كلمة العذاب، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره. أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس من هذه حاله دون أن يعين أحدا. وقال ابن عباس والكلبي: نزلت في رؤساء اليهود، منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما. وقال الربيع بن أنس: نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب، والأول أصح، فإن من عين أحدا فإنما مثل بمن كشف الغيب عنه بموته على الكفر، وذلك داخل في ضمن الآية.
قوله تعالى "لا يؤمنون" موضعه رفعٌ خبر "إنّ" أي إن الذين كفروا لا يؤمنون. وقيل: خبر "إن" "سواء" وما بعده يقوم مقام الصلة، قاله ابن كيسان. وقال محمد بن يزيد: "سواء" رفع بالابتداء، "أأنذرتهم أم لم تنذرهم" الخبر، والجملة خبر "إن". قال النحاس: أي إنهم تبالهوا فلم تغن فيهم النذارة شيئا. واختلف القراء في قراءة "أأنذرتهم" فقرأ أهل المدينة وأبو عمرو والأعمش وعبدالله بن أبي إسحاق: "آنذرتهم" بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، واختارها الخليل وسيبويه، وهي لغة قريش وسعد بن بكر، وعليها قول الشاعر:
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا آنت أمْ أمّ سالم
هجاء "آنت" ألف واحدة. وقال آخر:
تطاللت فاستشرفته فعرفته فقلت له آنت زيد الأرانب
وروي عن ابن مُحَيصِن أنه قرأ: "أنذرتهم أم لم تنذرهم" بهمزة لا ألف بعدها، فحذف لالتقاء الهمزتين، أو لأن أم تدل على الاستفهام، كما قال الشاعر:
تروح من الحي أم تبتكر وماذا يضيرك لو تنتظر
أراد: أتروح، فاكتفى بأم من الألف. وروي عن ابن أبي إسحاق أنه قرأ: "أأنذرتهم" فحقق الهمزتين وأدخل بينهما ألفا لئلا يجمع بينهما. قال أبو حاتم: ويجوز أن تدخل بينهما ألفا وتخفف الثانية، وأبو عمرو ونافع يفعلان ذلك كثيرا. وقرأ حمزة وعاصم والكسائي بتحقيق الهمزتين: "أأنذرتهم" وهو اختيار أبي عبيد، وذلك بعيد عند الخليل. وقال سيبويه: يشبه في الثقل ضَنِنوا. قال الأخفش: ويجوز تخفيف الأولى من الهمزتين وذلك رديء، لأنهم إنما يخففون بعد الاستثقال، وبعد حصول الواحدة. قال أبو حاتم: ويجوز تخفيف الهمزتين جميعا. فهذه سبعة أوجه من القراءات، ووجه ثامن يجوز في غير القرآن، لأنه مخالف للسواد. قال الأخفش سعيد: تبدل من الهمزة هاء تقول: هأنذرتهم، كما يقال هياك وإياك، وقال الأخفش في قوله تعالى: "ها أنتم" [آل عمران: 66] إنما هو أاأنتم.
الآية 7{ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم }
قوله تعالى: "ختم الله" بَيَّن سبحانه في هذه الآية المانع لهم من الإيمان بقوله: "ختم الله". والختم مصدر ختمت الشيء ختما فهو مختوم ومختم، شدد للمبالغة، ومعناه التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء، ومنه: ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك، حتى لا يوصل إلى ما فيه، ولا يوضع فيه غير ما فيه.
وقال أهل المعاني: وصف الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف: بالختم والطبع والضيق والمرض والرَّين والموت والقساوة والانصراف والحَمِية والإنكار. فقال في الإنكار: "قلوبهم منكرة وهم مستكبرون" [النحل: 22]. وقال في الحمية: "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية". [الفتح: 26] وقال في الانصراف: "ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون" [التوبة: 127]. وقال في القساوة: "فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله" [الزمر: 22]. وقال: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك" [البقرة: 74]. وقال في الموت: "أو من كان ميتا فأحييناه" [الأنعام: 122]. وقال: "إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله" [الأنعام: 36]. وقال في الرين: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون". [المطففين: 14]. وقال في المرض: "في قلوبهم مرض". [محمد: 29] وقال في الضيق: "ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا". [الأنعام: 125]. وقال في الطبع: "وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون" [التوبة: 87]. وقال: "بل طبع الله عليها بكفرهم" [النساء: 155]. وقال في الختم: "ختم الله على قلوبهم". [البقرة: 7]. وسيأتي بيانها كلها في مواضعها إن شاء الله تعالى.
الختم يكون محسوسا كما بينا، ومعنى كما في هذه الآية. فالختم على القلوب: عدم الوعي عن الحق - سبحانه - مفهوم مخاطباته والفكر في آياته. وعلى السمع: عدم فهمهم للقرآن إذا تلي عليهم أو دعوا إلى وحدانيته. وعلى الأبصار: عدم هدايتها للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته، هذا معنى قول ابن عباس وابن مسعود وقتادة وغيرهم.
في هذه الآية أدل دليل وأوضح سبيل على أن الله سبحانه خالق الهدى والضلال، والكفر والإيمان، فاعتبروا أيها السامعون، وتعجبوا أيها المفكرون من عقول القدرية القائلين بخلق إيمانهم وهداهم، فإن الختم هو الطبع فمن أين لهم الإيمان ولو جهدوا، وقد طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة، فمتى يهتدون، أو من يهديهم من بعد الله إذا أضلهم وأصمهم وأعمى أبصارهم "ومن يضلل الله فما له من هاد" [الزمر: 23] وكان فعل الله ذلك عدلا فيمن أضله وخذله، إذ لم يمنعه حقا وجب له فتزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم.
فإن قالوا: إن معنى الختم والطبع والغشاوة التسميه والحكم والإخبار بأنهم لا يؤمنون، لا الفعل. قلنا: هذا فاسد، لأن حقيقة الختم والطبع إنما هو فعل ما يصير به القلب مطبوعا مختوما، لا يجوز أن تكون حقيقته التسمية والحكم، ألا ترى أنه إذا قيل: فلان طبع الكتاب وختمه، كان حقيقة أنه فعل ما صار به الكتاب مطبوعا ومختوما، لا التسمية والحكم. هذا ما لا خلاف فيه بين أهل اللغة، ولأن الأمة مجمعة على أن الله تعالى قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم، كما قال تعالى: "بل طبع الله عليها بكفرهم" [النساء: 155]. وأجمعت الأمة على أن الطبع والختم على قلوبهم من جهة النبي عليه السلام والملائكة والمؤمنين ممتنع، فلو كان الختم والطبع هو التسمية والحكم لما امتنع من ذلك الأنبياء والمؤمنون، لأنهم كلهم يسمون الكفار بأنهم مطبوع على قلوبهم، وأنهم مختوم عليها وأنهم في ضلال لا يؤمنون، ويحكمون عليهم بذلك. فثبت أن الختم والطبع هو معنى غير التسمية والحكم، وإنما هو معنى يخلقه الله في القلب يمنع من الإيمان به، دليله قوله تعالى: "كذلك نسلكه في قلوب المجرمين. لا يؤمنون به" [الحجر: 12]. وقال: "وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه" [الأنعام: 25]. أي يفقهوه، وما كان مثله.
قوله تعالى: "على قلوبهم" فيه دليل على فضل القلب على جميع الجوارح. والقلب للإنسان وغيره. وخالص كل شيء وأشرفه قلبه، فالقلب موضع الفكر. وهو في الأصل مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبا إذا رددته على بداءته. وقلبت الإناء: رددته على وجهه. ثم نقل هذا اللفظ فسمي به هذا العضو الذي هو أشرف الحيوان، لسرعة الخواطر إليه، ولترددها عليه، كما قيل:
ما سمي القلب إلا من تقلبه فاحذر على القلب من قلب وتحويل
ثم لما نقلت العرب هذا المصدر لهذا العضو الشريف التزمت فيه تفخيم قافه، تفريقا بينه وبين أصله. روى ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل القلب مثل ريشة تقلبها الرياح بفلاة). ولهذا المعنى كان عليه الصلاة والسلام يقول: (اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك). فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله مع عظيم قدره وجلال منصبه فنحن أولى بذلك اقتداء به، قال الله تعالى: "واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه" [الأنفال: 24]. وسيأتي.
الجوارح وإن كانت تابعة للقلب فقد يتأثر القلب - وإن رئيسها وملكها - بأعمالها للارتباط الذي بين الظاهر والباطن، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليصدق فتنكت في قلبه نكتة بيضاء وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسود قلبه). وروى الترمذي وصححه عن أبي هريرة: (أن الرجل ليصيب الذنب فيسود قلبه فإن هو تاب صقل قلبه). قال: وهو الرين الذي ذكره الله في القرآن في قوله: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" [المطففين: 14]. وقال مجاهد: القلب كالكف يقبض منه بكل ذنب إصبع، ثم يطبع.
قلت: وفي قول مجاهد هذا، وقوله عليه السلام: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) دليل على أن الختم يكون حقيقيا، والله أعلم. وقد قيل: إن القلب يشبه الصنوبرة، وهو يعضد قول مجاهد، والله أعلم.
وقد روى مسلم عن حذيفة قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن (الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة). ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال: (ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المَجْل كجمر دحرجته على رجلك فنَفطَ فتراه منتبرا وليس فيه شيء - ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلا أمينا حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما ليردنه علي دينه ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه علي ساعيه وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلانا وفلانا).
ففي قوله: (الوكت) وهو الأثر اليسير. ويقال للبُسر إذا وقعت فيه نكتة من الإرطاب: قد وكَّت، فهو موكت. وقوله: (المَجْل)، وهو أن يكون بين الجلد واللحم ماء، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (كجمر دحرجته) أي دورته على رجلك فنفط. (فتراه منتبرا) أي مرتفعا - ما يدل على أن ذلك كله محسوس في القلب يفعل فيه، وكذلك الختم والطبع، والله أعلم. وفي حديث حذيفة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أُشْرِبها نُكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخر أسودُ مُربادٌّ كالكوز مُجَخِّيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه...) وذكر الحديث (مجخيا): يعني مائلا.
القلب قد يعبر عنه بالفؤاد والصدر، قال الله تعالى: "كذلك لنثبت به فؤادك" [الفرقان: 32] وقال: "ألم نشرح لك صدرك" [الشرح: 1] يعني في الموضعين قلبك. وقد يعبر به عن العقل، قال الله تعالى: "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب" [ق: 37] أي عقل، لأن القلب محل العقل في قول الأكثرين. والفؤاد محل القلب، والصدر محل الفؤاد، والله أعلم.
قوله تعالى: "وعلى سمعهم" استدل بها من فضل السمع على البصر لتقدمه عليه، وقال تعالى: "قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم" [الأنعام: 46]. وقال: "وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة" [السجدة: 9]. قال: والسمع يدرك به من الجهات الست، وفي النور والظلمة، ولا يدرك بالبصر إلا من الجهة المقابلة، وبواسطة من ضياء وشعاع. وقال أكثر المتكلمين بتفضيل البصر على السمع، لأن السمع لا يدرك به إلا الأصوات والكلام، والبصر يدرك به الأجسام والألوان والهيئات كلها. قالوا: فلما كانت تعلقاته أكثر كان أفضل، وأجازوا الإدراك بالبصر من الجهات الست.
إن قال قائل: لم جمع الأبصار ووحد السمع؟ قيل له: إنما وحده لأنه مصدر يقع للقليل والكثير، يقال: سمعت الشيء أسمعه سمعا وسماعا، فالسمع مصدر سمعت، والسمع أيضا اسم للجارحة المسموع بها سميت بالمصدر. وقيل: إنه لما أضاف السمع إلى الجماعة دل على أنه يراد به أسماع الجماعة، كما قال الشاعر:
بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
إنما يريد جلودها فوحد، لأنه قد علم أنه لا يكون للجماعة جلد واحد. وقال آخر في مثله:
لا تنكر القتل وقد سبينا في حلقكم عظم وقد شجينا
يريد في حلوقكم، ومثله قول الآخر:
كأنه وجه تركيين قد غضبا مستهدف لطعان غير تذبيب
وإنما يريد وجهين، فقال وجه تركيين، لأنه قد علم أنه لا يكون للاثنين وجه واحد، ومثله كثير جدا. وقرئ: "وعلى أسماعهم" ويحتمل أن يكون المعنى وعلى مواضع سمعهم، لأن السمع لا يختم وإنما يختم موضع السمع، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقد يكون السمع بمعنى الاستماع، يقال: سَمْعُك حديثي - أي استماعك إلى حديثي - يعجبني، ومنه قول ذي الرمة يصف ثورا تسمع إلى صوت صائد وكلاب:
وقد توجس رِكزا مقفر نَدُسٌ بنبأة الصوت ما في سمعه كذب
أي ما في استماعه كذب، أي هو صادق الاستماع. والندس: الحاذق. والنبأة: الصوت الخفي، وكذلك الركز. والسِّمع (بكسر السين وإسكان الميم): ذكر الإنسان بالجميل، يقال: ذهب سمعه في الناس أي ذكره. والسمع أيضا: ولد الذئب من الضبع. والوقف هنا: "وعلى سمعهم". و"غشاوة" رفع على الابتداء وما قبله خبر. والضمائر في "قلوبهم" وما عطف عليه لمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن من كفار قريش، وقيل من المنافقين، وقيل من اليهود، وقيل من الجميع، وهو أصوب، لأنه يعم. فالختم على القلوب والأسماع. والغشاوة على الأبصار. والغشاء: الغطاء. ومنه غاشية السرج، وغشيت الشيء أغشيه. قال النابغة:
هلا سألت بنى ذبيان ما حسبي إذا الدخان تغشى الأشمط البَرَمَا
وقال آخر:
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
قال ابن كيسان: فإن جمعت غشاوة قلت: غشاء بحذف الهاء. وحكى الفراء: غشاوى مثل أداوى. وقرئ: "غشاوة" بالنصب على معنى وجعل، فيكون من باب قوله:
علفتها تبنا وماء باردا
وقول الآخر:
يا ليت زوجك قد غدا متقلدا سيفا ورمحا
المعنى وأسقيتها ماء، وحاملا رمحا، لأن الرمح لا يتقلد. قال الفارسي: ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار، فقراءة الرفع أحسن، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة. قال: ولم أسمع من الغشاوة فعلا متصرفا بالواو. وقال بعض المفسرين: الغشاوة على الأسماع والأبصار، والوقف على "قلوبهم". وقال آخرون: الختم في الجميع، والغشاوة هي الختم، فالوقف على هذا على "غشاوة". وقرأ الحسن "غشاوة" بضم الغين، وقرأ أبو حَيْوة بفتحها، وروي عن أبي عمرو: غشوة، رده إلى أصل المصدر. قال ابن كيسان: ويجوز غَشوة وغِشوة وأجودها غِشاوة، كذلك تستعمل العرب في كل ما كان مشتملا على الشيء، نحو عمامة وكنانة وقلادة وعصابة وغير ذلك.
قوله تعالى: "ولهم" أي للكافرين المكذبين "عذاب عظيم" نعته. والعذاب مثل الضرب بالسوط والحرق بالنار والقطع بالحديد، إلى غير ذلك مما يؤلم الإنسان. وفي التنزيل: "وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين" [النور: 2] وهو مشتق من الحبس والمنع، يقال في اللغة: أعْذِبه عن كذا أي أحبسه وأمنعه، ومنه سمي عذوبة الماء، لأنها قد أعذبت. واستعذب بالحبس في الوعاء ليصفو ويفارقه ما خالطه، ومنه قول علي رضي الله عنه: أعذبوا نساءكم عن الخروج، أي احبسوهن. وعنه رضي الله عنه وقد شيع سرية فقال: أعذبوا عن ذكر النساء [أنفسكم] فإن ذلك يكسركم عن الغزو، وكل من منعته شيئا فقد أعذبته، وفي المثل: "لألجمنك لجاما معذِبا" أي مانعا عن ركوب الناس. ويقال: أعذب أي امتنع. وأعذب غيره، فهو لازم ومتعد، فسمي العذاب عذابا لأن صاحبه يحبس ويمنع عنه جميع ما يلائم الجسد من الخير ويهال عليه أضدادها.
الآية 8{ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}
روى ابن جريج عن مجاهد قال: نزلت أربع آيات من سورة البقرة في المؤمنين، واثنتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين. وروى أسباط عن السدي في قوله: "ومن الناس" قال: هم المنافقون. وقال علماء الصوفية: الناس اسم جنس، واسم الجنس لا يخاطب به الأولياء.
واختلف النحاة في لفظ الناس، فقيل: هو اسم من أسماء الجموع، جمع إنسان وإنسانة، على غير اللفظ، وتصغيره نويس. فالناس من النوس وهو الحركة، يقال: ناس ينوس أي تحرك، ومنه حديث أم زرع: "أناسَ من حُليٍّ أذني". وقيل: أصله من نسي، فأصل ناس نسي قلب فصار نيس تحركت الياء فانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، ثم دخلت الألف واللام فقيل: الناس. قال ابن عباس: نسي آدم عهد الله فسمي إنسانا. وقال عليه السلام: (نسي آدم فنسيت ذريته). وفي التنزيل: "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي" [طه: 115] وسيأتي وعلى هذا فالهمزة زائدة، قال الشاعر:
لا تنسين تلك العهود فإنما سميت إنسانا لأنك ناسي
وقال آخر:
فإن نسيت عهودا منك سالفة فاغفر فأول ناس أول الناس
وقيل: سمي إنسانا لأنسه بحواء. وقيل: لأنسه بربه، فالهمزة أصلية، قال الشاعر:
وما سمي الإنسان إلا لأنسه ولا القلب إلا أنه يتقلب
لما ذكر الله جل وتعالى المؤمنين أولا، وبدأ بهم لشرفهم وفضلهم، ذكر الكافرين في مقابلتهم، إذ الكفر والإيمان طرفان. ثم ذكر المنافقين بعدهم وألحقهم بالكافرين قبلهم، لنفي الإيمان عنهم بقوله الحق: "وما هم بمؤمنين". ففي هذا رد على الكرَّامية حيث قالوا: إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب، واحتجوا بقوله تعالى: "فأثابهم الله بما قالوا" [المائدة: 85]. ولم يقل: بما قالوا وأضمروا، وبقوله عليه السلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم). وهذا منهم قصور وجمود، وترك نظر لما نطق به القرآن والسنة من العمل مع القول والاعتقاد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان). أخرجه ابن ماجة في سننه. فما ذهب إليه محمد بن كرام السجستاني وأصحابه هو النفاق وعين الشقاق، ونعوذ بالله من الخذلان وسوء الاعتقاد.
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: المؤمن ضربان: مؤمن يحبه الله ويواليه، ومؤمن لا يحبه الله ولا يواليه، بل يبغضه ويعاديه، فكل من علم الله أنه يوافي بالإيمان، فالله محب له، موال له، راض عنه. وكل من علم الله أنه يوافي بالكفر، فالله مبغض له، ساخط عليه، معاد له، لا لأجل إيمانه، ولكن لكفره وضلاله الذي يوافي به. والكافر ضربان: كافر يعاقب لا محالة، وكافر لا يعاقب. فالذي يعاقب هو الذي يوافي بالكفر، فالله ساخط عليه معاد له. والذي لا يعاقب هو الموافي بالإيمان، فالله غير ساخط على هذا ولا مبغض له، بل محب له موال، لا لكفره لكن لإيمانه الموافي به. فلا يجوز أن يطلق القول وهي: -
بأن المؤمن يستحق الثواب، والكافر يستحق العقاب، بل يجب تقييده بالموافاة، ولأجل هذا قلنا: إن الله راض عن عمر في الوقت الذي كان يعبد الأصنام، ومريد لثوابه ودخوله الجنة، لا لعبادته الصنم، لكن لإيمانه الموافي به. وإن الله تعالى ساخط على إبليس في حال عبادته، لكفره الموافي به.
وخالفت القدرية في هذا وقالت: إن الله لم يكن ساخطا على إبليس وقت عبادته، ولا راضيا عن عمر وقت عبادته للصنم. وهذا فاسد، لما ثبت أن الله سبحانه عالم بما يوافي به إبليس لعنه الله، وبما يوافي به عمر رضي الله عنه فيما لم يزل، فثبت أنه كان ساخطا على إبليس محبا لعمر. ويدل عليه إجماع الأمة على أن الله سبحانه وتعالى غير محب لمن علم أنه من أهل النار، بل هو ساخط عليه، وأنه محب لمن علم أنه من أهل الجنة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإنما الأعمال بالخواتيم) ولهذا قال علماء الصوفية: ليس الإيمان ما يتزين به العبد قولا وفعلا، لكن الإيمان جَرْيُ السعادة في سوابق الأزل، وأما ظهوره على الهياكل فربما يكون عاريا، وربما يكون حقيقة.
قلت: هذا كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبدالله بن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). فإن قيل وهي: -
فقد خرج الإمام الحافظ أبو محمد عبدالغني بن سعيد المصري من حديث محمد بن سعيد الشامي المصلوب في الزندقة، وهو محمد بن أبي قيس، عن سليمان بن موسى وهو الأشدق، عن مجاهد بن جبر عن ابن عباس أخبرنا أبو رَزين العقيلي قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأشربن أنا وأنت يا أبا رزين من لبن لم يتغير طعمه) قال قلت: كيف يحيي الله الموتى؟ قال: (أما مررت بأرض لك مجدبة ثم مررت بها مخصبة ثم مررت بها مجدبة ثم مررت بها مخصبة) قلت: بلى. قال: (كذلك النشور) قال قلت: كيف لي أن أعلم أني مؤمن؟ قال: (ليس أحد من هذه الأمة - قال ابن أبي قيس: أو قال من أمتي - عمل حسنة وعلم أنها حسنة وأن الله جازيه بها خيرا أو عمل سيئة وعلم أنها سيئة وأن الله جازيه بها شرا أو يغفرها إلا مؤمن).
قلت: وهذا الحديث وإن كان سنده ليس بالقوي فإن معناه صحيح وليس بمعارض لحديث ابن مسعود، فإن ذلك موقوف على الخاتمة، كما قال عليه السلام: (وإنما الأعمال بالخواتيم). وهذا إنما يدل على أنه مؤمن في الحال، والله أعلم.
قال علماء اللغة: إنما سمي المنافق منافقا لإظهاره غير ما يضمر، تشبيها باليربوع، له جحر يقال له: النافقاء، وآخر يقال له: القاصعاء. وذلك أنه يخرق الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض أرق التراب، فإذا رابه ريب دفع ذلك التراب برأسه فخرج، فظاهر جحره تراب، وباطنه حفر. وكذلك المنافق ظاهره إيمان، وباطنه كفر، وقد تقدم هذا المعنى.
الآية 9{يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون}
قال علماؤنا: معنى "يخادعون الله" أي يخادعونه عند أنفسهم وعلى ظنهم. وقيل: قال ذلك لعملهم عمل المخادع. وقيل: في الكلام حذف، تقديره: يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الحسن وغيره. وجعل خداعهم لرسوله خداعا له، لأنه دعاهم برسالته، وكذلك إذا خادعوا المؤمنين فقد خادعوا الله. ومخادعتهم: ما أظهروه من الإيمان خلاف ما أبطنوه من الكفر، ليحقنوا دماءهم وأموالهم، ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا، قاله جماعة من المتأولين. وقال أهل اللغة: أصل المخدع في كلام العرب الفساد، حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي. وأنشد:
أبيض اللون لذيذ طعمه طيب الريق إذا الريق خدع
قلت: فـ "يخادعون الله" على هذا، أي يفسدون إيمانهم وأعمالهم فيما بينهم وبين الله تعالى بالرياء. وكذا جاء مفسر عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما يأتي. وفي التنزيل: "يراؤون الناس". [النساء: 142] وقيل: أصله الإخفاء، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء، حكاه ابن فارس وغيره. وتقول العرب: أنخدع الضب في جحره.
قوله تعالى: "وما يخدعون إلا أنفسهم" نفي وإيجاب، أي ما تحل عاقبة الخدع إلا بهم. ومن كلامهم: من خدع من لا يخدع فإنما يخدع نفسه. وهذا صحيح، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن، وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه. ودل هذا على أن المنافقين لم يعرفوا الله إذ لو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع، وقد تقدم من قوله عليه السلام أنه قال: (لا تخادع الله فإنه من يخادع الله يخدعه الله ونفسه يخدع لو يشعر) قالوا: يا رسول الله، وكيف يخادع الله؟ قال: (تعمل بما أمرك الله به وتطلب به غيره). وسيأتي بيان الخدع من الله تعالى كيف هو عند قوله تعالى: "الله يستهزئ بهم" [البقرة: 15]. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: "يخادعون" في الموضعين، ليتجانس اللفظان. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر: "يخدعون" الثاني. والمصدر خدع (بكسر الخاء) وخديعة، حكى ذلك أبو زيد. وقرأ مورِّق العجلي: "يخدِّعون الله" (بضم الياء وفتح الخاء وتشديد الدال) على التكثير. وقرأ أبو طالوت عبدالسلام بن شداد والجارود بضم الياء وإسكان الخاء وفتح الدال، على معنى وما يخدعون إلا عن أنفسهم، فحذف حرف الجر، كما قال تعالى: "واختار موسى قومه" [الأعراف: 155] أي من قومه.
قوله تعالى: "وما يشعرون" أي يفطنون أن وبال خدعهم راجع عليهم، فيظنون أنهم قد نجوا بخدعهم وفازوا، وإنما ذلك في الدنيا، وفي الآخرة يقال لهم: "ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا" [الحديد: 13] على ما يأتي. قال أهل اللغة: شعرت بالشيء أي فطنت له، ومنه الشاعر لفطنته، لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره من غريب المعاني. ومنه قولهم: ليت شعري، أي ليتني علمت.
الآية 10{في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون}
قوله تعالى: "في قلوبهم مرض" ابتداء وخبر. والمرض عبارة مستعارة للفساد الذي في عقائدهم. وذلك إما أن يكون شكا ونفاقا، وإما جحدا وتكذيبا. والمعنى: قلوبهم مرضى لخلوها عن العصمة والتوفيق والرعاية والتأييد. قال ابن فارس اللغوي: المرض كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة أو نفاق أو تقصير في أمر. والقراء مجمعون على فتح الراء من "مرض" إلا ما روى الأصمعي عن أبي عمرو أنه سكن الراء.
قوله تعالى: "فزادهم الله مرضا" قيل: هو دعاء عليهم. ويكون معنى الكلام: زادهم الله شكا ونفاقا جزاء على كفرهم وضعفا عن الانتصار وعجزا عن القدرة، كما قال الشاعر:
يا مرسل الريح جنوبا وصبا إذ غضبت زيد فزدها غضبا
أي لا تهدها على الانتصار فيما غضبت منه. وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز الدعاء على المنافقين والطرد لهم، لأنهم شر خلق الله. وقيل: هو إخبار من الله تعالى عن زيادة مرضهم، أي فزادهم الله مرضا إلى مرضهم، كما قال في آية أخرى: "فزادتهم رجسا إلى رجسهم" [التوبة: 125]. وقال أرباب المعاني: "في قلوبهم مرض" أي بسكونهم إلى الدنيا وحبهم لها وغفلتهم عن الآخرة وإعراضهم عنها. وقوله: "فزادهم الله مرضا" أي وكلهم إلى أنفسهم، وجمع عليهم هموم الدنيا فلم يتفرغوا من ذلك إلى اهتمام بالدين. "ولهم عذاب أليم" بما يفنى عما يبقى. وقال الجنيد: علل القلوب من اتباع الهوى، كما أن علل الجوارح من مرض البدن.
قوله تعالى: "ولهم عذاب أليم" (أليم) في كلام العرب معناه مؤلم أي موجع، مثل السميع بمعنى المسمع، قال ذو الرمة يصف إبلا:
ونرفع من صدور شمردلات يصُك وجوهها وهج أليم
وآلم إذا أوجع. والإيلام: الإيجاع. والألم: الوجع، وقد ألِم يألم ألما. والتألم: التوجع. ويجمع أليم على ألماء مثل كريم وكرماء، وآلام مثل أشراف.
قوله تعالى: "بما كانوا يكذبون" ما مصدرية، أي بتكذيبهم الرسل وردهم على الله جل وعز وتكذيبهم بآياته، قاله أبو حاتم. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف، ومعناه بكذبهم وقولهم آمنا وليسوا بمؤمنين.
مسألة: واختلف العلماء في إمساك النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع علمه بنفاقهم على أربعة أقوال:
القول الأول: قال بعض العلماء: إنما لم يقتلهم لأنه لم يعلم حالهم أحد سواه. وقد اتفق العلماء على بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه، وإنما اختلفوا في سائر الأحكام. قال ابن العربي: وهذا منتقض، فقد قُتِلَ بالمُجذَّر بن زياد الحارثُ بن سويد بن الصامت، لأن المجذر قتل أباه سويدا يوم بُعاث، فأسلم الحارث وأغفله يوم أحد فقتله، فأخبر به جبريلُ النبيَ صلى الله عليه وسلم فقتله به، لأن قتله كان غيلة، وقتل الغيلة حد من حدود الله.
قلت: وهذه غفلة من هذا الإمام، لأنه إن ثبت الإجماع المذكور فليس بمنتقض بما ذكر، لأن الإجماع لا ينعقد ولا يثبت إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، وعلى هذا فتكون تلك قضية في عين بوحي، فلا يحتج بها أو منسوخة بالإجماع. والله أعلم.
القول الثاني: قال أصحاب الشافعي: إنما لم يقتلهم لأن الزنديق وهو الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان يستتاب ولا يقتل. قال ابن العربي: وهذا وهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستتبهم ولا نقل ذلك أحد، ولا يقول أحد إن استتابة الزنديق واجبة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم معرضا عنهم علمه بهم. فهذا المتأخر من أصحاب الشافعي الذي قال: إن استتابة الزنديق جائزة قال قولا لم يصح لأحد.
القول الثالث: إنما لم يقتلهم مصلحة لتأليف القلوب عليه لئلا تنفر عنه، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله لعمر: (معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي) أخرجه البخاري ومسلم. وقد كان يعطي للمؤلفة قلوبهم مع علمه بسوء اعتقادهم تألفا، وهذا هو قول علمائنا وغيرهم. قال ابن عطية. وهي طريقة أصحاب مالك رحمه الله في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين، نص على هذا محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وابن الماجشون، واحتج بقوله تعالى: "لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض" [الأحزاب: 60] إلى قوله: "وقتلوا تقتيلا" [الأحزاب: 61]. قال قتادة: معناه إذا هم أعلنوا النفاق. قال مالك رحمه الله: النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم، فيقتل الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة، وهو أحد قولي الشافعي. قال مالك: وإنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه، إذ لم يشهد على المنافقين. قال القاضي إسماعيل: لم يشهد على عبدالله بن أبي إلا زيد بن أرقم وحده، ولا على الجُلاس بن سويد إلا عمير بن سعد ربيبه، ولو شهد على أحد منهم رجلان بكفره ونفاقه لقتل. وقال الشافعي رحمه الله محتجا للقول الآخر: السنة فيمن شهد عليه بالزندقة فجحد وأعلن بالإيمان وتبرأ من كل دين سوى الإسلام أن ذلك يمنع من إراقة دمه. وبه قال أصحاب الرأي وأحمد والطبري وغيرهم. قال الشافعي وأصحابه. وإنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم، لأن ما يظهرونه يجُبُّ ما قبله. وقال الطبري: جعل الله تعالى الأحكام بين عباده على الظاهر، وتولى الحكم في سرائرهم دون أحد من خلقه، فليس لأحد أن يحكم بخلاف ما ظهر، لأنه حكم بالظنون، ولو كان ذلك لأحد كان أولى الناس به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا، ووكل سرائرهم إلى الله. وقد كذب الله ظاهرهم في قوله: "والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" [المنافقون: 1] قال ابن عطية: ينفصل المالكيون عما لزموه من هذه الآية بأنها لم تعين أشخاصهم فيها وإنما جاء فيها توبيخ لكل مغموص عليه بالنفاق، وبقي لكل واحد منهم أن يقول: لم أرد بها وما أنا إلا مؤمن، ولو عين أحد لما جب كذبه شيئا.
قلت: هذا الانفصال فيه نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أو كثيرا منهم بأسمائهم وأعيانهم بإعلام الله تعالى إياه، وكان حذيفة يعلم ذلك بإخبار النبي عليه السلام إياه حتى كان عمر رضي الله عنه يقول له: يا حذيفة هل أنا منهم؟ فيقول له: لا.
القول الرابع: وهو أن الله تعالى كان قد حفظ أصحاب نبيه عليه السلام بكونه ثبتهم أن يفسدهم المنافقون أو يفسدوا دينهم فلم يكن في تبقيتهم ضرر، وليس كذلك اليوم، لأنا لا نأمن من الزنادقة أن يفسدوا عامتنا وجهالنا.
الآية 11{وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون}
قوله: "إذا" في موضع نصب على الظرف والعامل فيها "قالوا"، وهي تؤذن بوقوع الفعل المنتظر. قال الجوهري: "إذا" اسم يدل على زمان مستقبل، ولم تستعمل إلا مضافة إلى جملة، تقول: أجيئك إذا أحمر البسر، وإذا قدم فلان. والذي يدل على أنها اسم وقوعها موقع قولك: آتيك يوم يقدم فلان، فهي ظرف وفيها معنى المجازاة. وجزاء الشرط ثلاثة: الفعل والفاء وإذا، فالفعل قولك: إن تأتني آتك. والفاء: إن تأتني فأنا أحسن إليك. وإذا كقوله تعالى: "وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون" [الروم: 36]. ومما جاء من المجازاة بإذا في الشعر قول قيس بن الخطيم:
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها خطانا إلى أعدائنا فنضارب
فعطف "فنضارب" بالجزم على "كان" لأنه مجزوم، ولو لم يكن مجزوما لقال: فنضارب، بالنصب. وقد تزاد على "إذا" "ما" تأكيدا، فيجزم بها أيضا، ومنه قول الفرزدق:
فقام أبو ليلى إليه ابن ظالم وكان إذا ما يسلل السيف يضرب
قال سيبويه: والجيد ما قال كعب بن زهير:
وإذا ما تشاء تبعث منها مغرب الشمس ناشطا مذعورا
يعني أن الجيد ألا يجزم بإذا، كما لم يجزم في هذا البيت. وحكي عن المبرد أنها في قولك في المفاجأة: خرجت فإذا زيد، ظرف مكان، لأنها تضمنت جُثة. وهذا مردود، لأن المعنى خرجت فإذا حضور زيد، فإنما تضمنت المصدر كما يقتضيه سائر ظروف الزمان، ومنه قولهم: "اليوم خمر وغدا أمر" فمعناه وجود خمر ووقوع أمر.
قوله: "قيل" من القول وأصله قَوِل، نقلت كسرة الواو إلى القاف فانقلبت الواو ياء. ويجوز: "قيلْ لّهم" بإدغام اللام في اللام وجاز الجمع بين ساكنين، لأن الياء حرف مد ولين. قال الأخفش: ويجوز "قيل" بضم القاف والياء. وقال الكسائي: ويجوز إشمام القاف الضم ليدل على أنه لما لم يسم فاعله، وهي لغة قيس وكذلك جيء وغيض وحيل وسيق وسيء وسيئت. وكذلك روى هشام عن ابن عباس، وروي عن يعقوب. وأشم منها نافع سيء وسيئت خاصة. وزاد ابن ذكوان: حيل وسيق، وكسر الباقون في الجميع. فأما هذيل وبنود دبير من أسد وبني فقعس فيقولون: "قول" بواو ساكنة.
قوله: "لا تفسدوا" (لا) نهي. والفساد ضد الصلاح، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها. فسد الشيء فسادا وفسودا وهو فاسد وفسيد. والمعنى في الآية: لا تفسدوا في الأرض بالكفر وموالاة أهله، وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقران. وقيل: كانت الأرض قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيها الفساد، ويفعل فيها بالمعاصي، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع الفساد وصلحت الأرض. فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، كما قال في آية أخرى: "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها" [الأعراف: 56].
قوله: "في الأرض" الأرض مؤنثة، وهي اسم جنس، وكان حق الواحدة منها أن يقال أرضة، ولكنهم لم يقولوا. والجمع أرضات، لأنهم قد يجمعون المؤنث الذي ليست فيه هاء التأنيث بالتاء كقولهم: عرسات. ثم قالوا أرضون فجمعوا بالواو والنون، والمؤنث لا يجمع بالواو والنون إلا أن يكون منقوصا كثبة وظبة، ولهم جعلوا الواو والنون عوضا من حذفهم الألف والتاء وتركوا فتحة الراء على حالها، وربما سكنت. وقد تجمع على أروض. وزعم أبو الخطاب أنهم يقولون: أرض وآراض، كما قالوا: أهل وآهال. والأراضي أيضا على غير قياس، كأنهم جمعوا آرُضا. وكل ما سفل فهو أرض. وأرض أريضة، أي زكية بينة الأراضة. وقد أرِضت بالضم، أي زكت. قال أبو عمرو: نزلنا أرضا أريضة، أي معجبة للعين، ويقال: لا أرض لك، كما يقال: لا أم لك. والأرض: أسفل قوائم الدابة، قال حميد يصف فرسا:
ولم يقلب أرضها البَيطار ولا لحبليه بها حبار
أي أثر والأرض: النفضة والرعدة. روى حماد بن سلمة عن قتادة عن عبدالله بن الحارث قال: زلزلت الأرض بالبصرة، فقال ابن عباس: والله ما أدري أزلزلت الأرض أم بي أرْض؟ أي أم بي رعدة، وقال ذو الرمة يصف صائدا:
إذا توجس ركزا من سنابكها أو كان صاحب أرض أو به الموم
والأرض: الزكام. وقد آرضه الله إيراضا، أي أزكمه فهو مأروض. وفسيل مستأرض، وودية مستأرضة (بكسر الراء) وهو أن يكون له عرق في الأرض، فأما إذا نبت على جذع النخل فهو الراكب. والإراض (بالكسر): بساط ضخم من صوف أو وبر. ورجل أريض، أي متواضع خليق للخير. قال الأصمعي يقال: هو آرضهم أن يفعل ذلك، أي أخلقهم. وشيء عريض أريض إتباع له، وبعضهم يفرده ويقول: جدي أريض أي سمين.
قوله: "نحن" أصل "نَحْن" نَحُن قلبت حركة الحاء على النون وأسكنت الحاء، قاله هشام بن معاوية النحوي. وقال الزجاج: "نحن" لجماعة، ومن علامة الجماعة الواو، والضمة من جنس الواو، فلما اضطروا إلى حركة "نحن" لالتقاء الساكنين حركوها بما يكون للجماعة. قال: لهذا ضموا واو الجمع في قوله عز وجل: "أولئك الذين اشتروا الضلالة" [البقرة: 16] وقال محمد بن يزيد: "نحن" مثل قبل وبعد، لأنها متعلقة بالإخبار عن اثنين وأكثر، فـ "أنا" للواحد "نحن" للتثنية والجمع، وقد يخبر به المتكلم عن نفسه في قوله: نحن قمنا، قال الله تعالى: "نحن قسمنا بينهم معيشتهم" [الزخرف: 32] والمؤنث في هذا إذا كانت متكلمة بمنزلة المذكر، تقول المرأة: قمت وذهبت، وقمنا وذهبنا، وأنا فعلت ذاك، ونحن فعلنا. هذا كلام العرب فاعلم.
قوله تعالى: "مصلحون" اسم فاعل من أصلح. والصلاح: ضد الفساد. وصلح الشيء (بضم اللام وفتحها) لغتان، قال ابن السكيت. والصلوح (بضم الصاد) مصدر صلح (بضم اللام)، قال الشاعر:
فكيف بإطراقي إذا ما شتمتني وما بعد شتم الوالدين صلوح
وصلاح من أسماء مكة. والصلح (بكسر الصاد): نهر.
وإنما قالوا ذلك على ظنهم، لأن إفسادهم عندهم إصلاح، أي أن ممالأتنا للكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين. قال ابن عباس وغيره.
الآية: 12{ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}
قوله عز وجل: "ألا إنهم هم المفسدون" ردا عليهم وتكذيبا لقولهم. قال أرباب المعاني: من أظهر الدعوى كذب، ألا ترى أن الله عز وجل يقول: ألا إنهم هم المفسدون وهذا صحيح. وكسرت "إن" لأنها مبتدأة، قال النحاس. وقال علي بن سليمان. يجوز فتحها، كما أجاز سيبويه: حقا أنك منطلق، بمعنى ألا. و"هم" يجوز أن يكون مبتدأ و"المفسدون" خبره والمبتدأ وخبره خبر "إن". ويجوز أن تكون "هم" توكيدا للهاء والميم في "إنهم". ويجوز أن تكون فاصلة - والكوفيون يقولون عمادا - و"المفسدون" خبر "إن"، والتقدير ألا إنهم المفسدون، كما تقدم في قوله: "وأولئك هم المفلحون" [لقمان: 5].
قوله تعالى: "ولكن لا يشعرون" قال ابن كيسان يقال: ما على من لم يعلم أنه مفسد من الذم، إنما يذم إذا علم أنه مفسد ثم أفسد على علم، قال: ففيه جوابان: أحدهما - أنهم كانوا يعملون الفساد سرا ويظهرون الصلاح وهم لا يشعرون أن أمرهم يظهر عند النبي صلى الله عليه وسلم. والوجه الآخر: أن يكون فسادهم عندهم صلاحا وهم لا يشعرون أن ذلك فساد، وقد عصوا الله ورسوله في تركهم تبيين الحق واتباعه "ولكن" حرف تأكيد واستدراك ولا بد فيه من نفي وإثبات، إن كان قبله نفي كان بعده إيجاب، وإن كان قبله إيجاب كان بعده نفي. ولا يجوز الاقتصار بعده على اسم واحد إذا تقدم الإيجاب، ولكنك تذكر جملة مضادة لما قبلها كما في هذه الآية، وقولك: جاءني زيد لكن عمرو لم يجئ، ولا يجوز جاءني زيد لكن عمرو ثم تسكت، لأنهم قد استغنوا ببل في مثل هذا الموضع عن لكن، وإنما يجوز ذلك إذا تقدم النفي كقولك: ما جاءني زيد لكن عمرو.
الآية: 13{وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون}
قوله تعالى: "وإذا قيل لهم" يعني المنافقين في قول مقاتل وغيره. "آمنوا كما آمن الناس" أي صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وشرعه، كما صدق المهاجرون والمحققون من أهل يثرب. وألف "آمنوا" ألف قطع، لأنك تقول: يؤمن، والكاف في موضع نصب، لأنها نعت لمصدر محذوف، أي إيمانا كإيمان الناس.
قوله تعالى: "قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء" يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، عن ابن عباس. وعنه أيضا: مؤمنو أهل الكتاب. وهذا القول من المنافقين إنما كانوا يقولونه في خفاء واستهزاء فأطلع الله نبيه والمؤمنين على ذلك، وقرر أن السفه ورِقَّة الحُلوم وفساد البصائر إنما هي في حيزهم وصفة لهم، وأخبر أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون للرين الذي على قلوبهم. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود، أي وإذا قيل لهم - يعني اليهود - آمنوا كما آمن الناس: عبدالله بن سلام وأصحابه، قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء! يعني الجهال والخرقاء. وأصل السَّفَه في كلام العرب: الخفة والرقة، يقال: ثوب سفيه إذا كان رديء النسج خفيفه، أو كان باليا رقيقا. وتسفهت الريح الشجر: مالت به، قال ذو الرمة:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم
وتسفهت الشيء: استحقرته. والسفه: ضد الحلم. ويقال: إن السفه أن يكثر الرجل شرب الماء فلا يروى. ويجوز في همزتي السفهاء أربعة أوجه، أجودها أن تحقق الأولى وتقلب الثانية واوا خالصة، وهي قراءة أهل المدينة والمعروف من قراءة أبي عمرو. وإن شئت خففتهما جميعا فجعلت الأولى بين الهمزة والواو وجعلت الثانية واوا خالصة. وإن شئت خففت الأولى وحققت الثانية. وإن شئت حققتهما جميعا.
قوله تعالى: "ولكن لا يعلمون" مثل "ولكن لا يشعرون"، وقد تقدم. والعلم معرفة المعلوم على ما هو به، تقول: علمت الشيء أعلمه علما عرفته، وعالمت الرجل فعلمته أعلمه (بالضم في المستقبل). غلبته بالعلم.
الآية: 14 {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون}
قوله تعالى: "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا" أنزلت هذه الآية في ذكر المنافقين. أصل لقوا: لقيوا، نقلت الضمة إلى القاف وحذفت الياء لالتقاء الساكنين. وقرأ محمد بن السميقع اليماني: "لاقوا الذين آمنوا". والأصل لاقيوا، تحركت الياء وقبلها فتحة انقلبت ألفا، اجتمع ساكنان الألف والواو فحذفت الألف لالتقاء الساكنين ثم حركت الواو بالضم.
وإن قيل: لم ضمت الواو في لاقوا في الإدراج وحذفت من لقوا؟ فالجواب: أن قبل الواو التي في لقوا ضمة فلو حركت الواو بالضم لثقل على اللسان النطق بها فحذفت لثقلها، وحركت في لاقوا لأن قبلها فتحة.
قوله تعالى: "وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم" إن قيل: لم وصلت "خلوا" بـ "إلى" وعرفها أن توصل بالباء؟ قيل له: "خلوا" هنا بمعنى ذهبوا وانصرفوا، ومنه قول الفرزدق:
كيف تراني قالبا مجني أضرب أمري ظهره لبطن
قد قتل الله زيادا عني
لما أنزل منزلة صَرَف. وقال قوم: "إلى" بمعنى مع، وفيه ضعف. وقال قوم: "إلى" بمعنى الباء، وهذا يأباه الخليل وسيبويه. وقيل: المعنى وإذا خلوا من المؤمنين إلى شياطينهم، فـ "إلى" على بابها. والشياطين جمع شيطان على التكسير، وقد تقدم القول في اشتقاقه ومعناه في الاستعاذة. واختلف المفسرون في المراد بالشياطين هنا، فقال ابن عباس والسدي: هم رؤساء الكفر. وقال الكلبي: هم شياطين الجن. وقال جمع من المفسرين: هم الكهان. ولفظ الشيطنة الذي معناه البعد عن الإيمان والخير يعم جميع من ذكر. والله أعلم.
قوله تعالى: "إنما نحن مستهزئون" أي مكذبون بما ندعى إليه. وقيل: ساخرون. والهزء: السخرية واللعب، يقال: هزئ به واستهزأ، قال الراجز:
قد هزئت مني أم طيسلة قالت أراه معدِما لا مال له
وقيل: أصل الاستهزاء: الانتقام، كما قال الآخر:
قد استهزؤوا منهم بألفي مدجج سراتهم وسط الصحاصح جثّم
الأية 15: {الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون}
قوله تعالى: "الله يستهزئ بهم" أي ينتقم منهم ويعاقبهم، ويسخر بهم ويجازيهم على استهزائهم، فسمى العقوبة باسم الذنب. هذا قول الجمهور من العلماء، والعرب تستعمل ذلك كثيرا في كلامهم، من ذلك قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فسمى انتصاره جهلا، والجهل لا يفتخر به ذو عقل، وإنما قال ليزدوج الكلام فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما. وكانت العرب إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ جوابا له وجزاء ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفا له في معناه، وعلى ذلك جاء القرآن والسنة. وقال الله عز وجل: "وجزاء سيئة سيئة مثلها" [الشورى: 40]. وقال: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" [البقرة: 194] والجزاء لا يكون سيئة. والقصاص لا يكون اعتداء، لأنه حق وجب، ومثله: "ومكروا ومكر الله" [آل عمران: 54]. و"إنهم يكيدون كيدا، وأكيد كيدا" [الطارق: 15 - 16]. و"إنما نحن مستهزئون، الله يستهزئ بهم" وليس منه سبحانه مكر ولا هزء إنما هو جزاء لمكرهم واستهزائهم وجزاء كيدهم، وكذلك "يخادعون الله وهو خادعهم" [النساء: 142]. "فيسخرون منهم سخر الله منهم" [التوبة: 79]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يمل حتى تملوا ولا يسأم حتى تسأموا). قيل: حتى بمعنى الواو أي وتملوا. وقيل المعنى وأنتم تملون. وقيل: المعنى لا يقطع عنكم ثواب أعمالكم حتى تقطعوا العمل. وقال قوم: إن الله تعالى يفعل بهم أفعالا هي في تأمل البشر هزء وخدع ومكر، حسب ما روى: (إن النار تجمد كما تجمد الإهالة فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم). وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا أمنا "هم منافقو أهل الكتاب، فذكرهم وذكر استهزاءهم، وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم يعني رؤساءهم في الكفر - على ما تقدم قالوا: إنا معكم على دينكم "إنما نحن مستهزئون" بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. "الله يستهزئ بهم" في الآخرة، يفتح لهم باب جهنم من الجنة، ثم يقال لهم: تعالوا، فيقبلون يسبحون في النار، والمؤمنون على الأرائك - وهي السرر - في الحجال ينظرون إليهم، فإذا انتهوا إلى الباب سد عنهم، فيضحك المؤمنون منهم، فذلك قول الله عز وجل: "الله يستهزئ بهم" أي في الآخرة، ويضحك المؤمنون منهم حين غلقت دونهم الأبواب، فذلك قوله تعالى: "فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون. على الأرائك ينظرون" [المطففين: 34 - 35] إلى أهل النار "هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون" [المطففين: 36]. وقال قوم: الخداع من الله والاستهزاء هو استدراجهم بدرور النعم الدنيوية عليهم، فالله سبحانه وتعالى يظهر لهم من الإحسان في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم، ويستر عنهم من عذاب الآخرة، فيظنون أنه راض عنهم، وهو تعالى قد حتم عذابهم، فهذا على تأمل البشر كأنه استهزاء ومكر وخداع، ودل على هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الله عز وجل يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج). ثم نزع بهذه الآية: "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين" [الأنعام: 44 - 45]. وقال بعض العلماء في قوله تعالى: "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون": [الأعراف: 182] كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم نعمة.
قوله تعالى: "ويمدهم" أي يطيل لهم المدة ويمهلهم ويملي لهم، كما قال: "إنما نملي لهم ليزدادوا إثما" [آل عمران: 178] وأصله الزيادة. قال يونس بن حبيب: يقال مد لهم في الشر، وأمد في الخير، قال الله تعالى: "وأمددناكم بأموال وبنين". [الإسراء: 6]. وقال: "وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون" [الطور: 22]. وحكي عن الأخفش: مددت له إذا تركته، وأمددته إذا أعطيته. وعن الفراء واللحياني: مددت، فيما كانت زيادته من مثله، يقال: مد النهرُ النهرَ، وفي التنزيل: "والبحر يمده من بعده سبعة أبحر" [لقمان: 27]. وأمددت، فيما كانت زيادته من غيره، كقولك: أمددت الجيش بمدد، ومنه: "يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة". [آل عمران: 125]. وأمدّ الجرح، لأن المدة من غيره، أي صارت فيه مدة.
قوله تعالى: "في طغيانهم" كفرهم وضلالهم. وأصل الطغيان مجاوزة الحد، ومنه قوله تعالى: "إنا لما طغى الماء" [الحاقة: 11] أي ارتفع وعلا وتجاوز المقدار الذي قدرته الخُزان. وقوله في فرعون: "إنه طغى" [طه: 24] أي أسرف في الدعوى حيث قال: "أنا ربكم الأعلى" [النازعات: 24]. والمعنى في الآية: يمدهم بطول العمر حتى يزيدوا في الطغيان فيزيدهم في عذابهم.
قوله تعالى: "يعمهون" يعمون. وقال مجاهد: أي يترددون متحيرين في الكفر. وحكى أهل اللغة: عَمِه الرجل يعمه عموها وعمها فهو عمه وعامه إذا حار، ويقال رجل عامه وعمه: حائر متردد، وجمعه عُمّه. وذهبت إبله العُمّهى إذا لم يدر أين ذهبت. والعمى في العين، والعمه في القلب، وفي التنزيل: "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" [الحج: 46]
الآية: 16 {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين}
قوله تعالى: "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى" قال سيبويه: ضمت الواو في "اشتروا" فرقا بينها وبين الواو الأصلية، نحو: "وأن لو استقاموا على الطريقة". [الجن: 16]. وقال ابن كيسان: الضمة في الواو أخف من غيرها لأنها من جنسها. وقال الزجاج: حركت بالضم كما فعل في "نحن". وقرأ ابن أبي إسحاق ويحيى بن يعمر بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين. وروى أبو زيد الأنصاري عن قعنب أبي السمال العدوي أنه قرأ بفتح الواو لخفة الفتحة وإن كان ما قبلها مفتوحا. وأجاز الكسائي همز الواو وضمها كأدؤر. واشتروا: من الشراء. والشراء هنا مستعار. والمعنى استحبوا الكفر على الإيمان، كما قال: "فاستحبوا العمى على الهدى" [فصلت: 17] فعبر عنه بالشراء، لأن الشراء إنما يكون فيما يحبه مشتريه. فأما أن يكون معنى شراء المعاوضة فلا، لأن المنافقين لم يكونوا مؤمنين فيبيعون إيمانهم. وقال ابن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. ومعناه استبدلوا واختاروا الكفر على الإيمان. وإنما أخرجه بلفظ الشراء توسعا، لأن الشراء والتجارة راجعان إلى الاستبدال، والعرب تستعمل ذلك في كل من استبدل شيئا بشيء. قال أبو ذؤيب:
فإن تزعميني كنت أجهل فيكم فإني شريت الحلم بعدك بالجهل
وأصل الضلالة: الحيرة. ويسمى النسيان ضلالة لما فيه من الحيرة، قال له جل وعز: "فعلتها إذا وأنا من الضالين" [الشعراء: 20] أي الناسين. ويسمى الهلاك ضلالة، كما قال عز وجل: "وقالوا أإذا ضللنا في الأرض" [السجدة: 10].
قوله تعالى: "فما ربحت تجارتهم" أسند تعالى الربح إلى التجارة على عادة العرب في قولهم: ربح بيعك، وخسرت صفقتك، وقولهم: ليل قائم، ونهار صائم، والمعنى: ربحت وخسرت في بيعك، وقمت في ليلك وصمت في نهارك، أي فما ربحوا في تجارتهم. وقال الشاعر:
نهارك هائم وليلك نائم كذلك في الدنيا تعيش البهائم
ابن كيسان: ويجوز تجارة وتجائر، وضلالة وضلائل.
قوله تعالى: "وما كانوا مهتدين" في اشترائهم الضلالة. وقيل: في سابق علم الله. والاهتداء ضد الضلال، وقد تقدم.