تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 4 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 4

4- تفسير الصفحة رقم4 من المصحف
الآية: 17 {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون}
قوله تعالى: "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" فمثلهم رفع بالابتداء والخبر في الكاف، فهي اسم، كما هي في قول الأعشى:
أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وقول امرئ القيس:
ورحنا بكابن الماء يُجنَب وسطنا تَصَوَّبُ فيه العين طورا وترتقي
أراد مثل الطعن، وبمثل ابن الماء. ويجوز أن يكون الخبر محذوفا، تقديره مثلهم مستقر كمثل، فالكاف على هذا حرف. والمثل والمثل والمثيل واحد ومعناه الشبيه. والمتماثلان: المتشابهان، هكذا قال أهل اللغة.
قوله "الذي" يقع للواحد والجمع. قال ابن الشجري هبة الله بن علي: ومن العرب من يأتي بالجمع بلفظ الواحد، كما قال:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
وقيل في قول الله تعالى "والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون" [الزمر: 33]: إنه بهذه اللغة، وكذلك قوله: "مثلهم كمثل الذي" قيل: المعنى كمثل الذين استوقدوا، ولذلك قال: "ذهب الله بنورهم"، فحمل أول الكلام على الواحد، وآخره على الجمع. فأما قوله تعالى: "وخضتم كالذي خاضوا" [التوبة: 69] فإن الذي ههنا وصف لمصدر محذوف تقديره وخضتم كالخوض الذي خاضوا. وقيل: إنما وحد "الذي" و"استوقد" لأن المستوقد كان واحدا من جماعة تولي الإيقاد لهم، فلما ذهب الضوء رجع عليهم جميعا فقال "بنورهم". واستوقد بمعنى أوقد، مثل استجاب بمعنى أجاب، فالسين والتاء زائدتان، قاله الأخفش، ومنه قول الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي يجبه. واختلف النحاة في جواب لما، وفي عود الضمير من "نورهم"، فقيل: جواب لما محذوف وهو طفئت، والضمير في "نورهم" على هذا للمنافقين، والإخبار بهذا عن حال تكون في الآخرة، كما قال تعالى: "فضرب بينهم بسور له باب" [الحديد: 13]. وقيل: جوابه "ذهب"، والضمير في "نورهم" عائد على "الذي"، وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد، لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده. والمعنى المراد بالآية ضرب مثل للمنافقين، وذلك أن ما يظهرونه من الإيمان الذي تثبت لهم به أحكام المسلمين من المناكح والتوارث والغنائم والأمن على أنفسهم وأولادهم وأموالهم بمثابة من أوقد نارا في ليلة مظلمة فاستضاء بها ورأى ما ينبغي أن يتقيه وأمن منه، فإذا طفئت عنه أو ذهبت وصل إليه الأذى وبقي متحيرا، فكذلك المنافقون لما آمنوا اغتروا بكلمة الإسلام، ثم يصيرون بعد الموت إلى العذاب الأليم - كما أخبر التنزيل: "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" [النساء: 145] - ويذهب نورهم، ولهذا يقولون: "انظرونا نقتبس من نوركم" [الحديد: 13]. وقيل: إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار، وانصرافهم عن مودتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها. وقيل غير هذا.
قوله: "نارا" النار مؤنثة وهي من النور وهو أيضا الإشراق. وهي من الواو، لأنك تقول في التصغير: نويرة، وفي الجمع نور وأنوار ونيران، انقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها.
قوله تعالى: "فلما أضاءت ما حوله" ضاءت وأضاءت لغتان، يقال: ضاء القمر يضوء ضوءا وأضاء يضيء، يكون لازما ومتعديا. وقرأ محمد بن السميقع: ضاءت بغير ألف، والعامة بالألف، قال الشاعر:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
"ما" زائدة مؤكدة. وقيل: مفعولة بأضاءت. و"حوله" ظرف مكان، والهاء في موضع خفض بإضافته إليها. "ذهب" وأذهب لغتان من الذهاب، وهو زوال الشيء. "وتركهم" أي أبقاهم. "في ظلمات" جمع ظُلْمة. وقرأ الأعمش: "ظلْمات" بإسكان اللام على الأصل. ومن قرأها بالضم فللفرق بين الاسم والنعت. وقرأ أشهب العقيلي: "ظلَمات" بفتح اللام. قال البصريون: أبدل من الضمة فتحة لأنها أخف. وقال الكسائي: "ظلمات" جمع الجمع، جمع ظلم." لا يبصرون" فعل. مستقبل في موضع الحال، كأنه قال: غير مبصرين، فلا يجوز الوقف على هذا على "ظلمات".
الآية: 18 {صم بكم عمي فهم لا يرجعون}
قوله تعالى: "صم بكم عمي" (صمٌّ) أي هم صم، فهو خبر ابتداء مضمر. وفي قراءة عبدالله بن مسعود وحفصة: صماً بكماً عمياً، فيجوز النصب على الذم، كما قال تعالى: "ملعونين أينما ثقفوا" [الأحزاب: 61]، وكما قال: "وامرأته حمالة الحطب" [المسد: 4]، وكما قال الشاعر:
سقوني الخمر ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزور
فنصب "عداة الله" على الذم. فالوقف على "يبصرون" على هذا المذهب صواب حسن. ويجوز أن ينصب صما بـ "تركهم"، كأنه قال: وتركهم صما بكما عميا، فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على "يبصرون". والصمم في كلام العرب: الانسداد، يقال: قناة صماء إذا لم تكن مجوفة. وصممت القارورة إذا سددتها. فالأصم: من انسدت خروق مسامعه. والأبكم: الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس. وقيل: الأخرس والأبكم واحد. ويقال: رجل أبكم وبكيم، أي أخرس بين الخرس والبكم، قال:
فليت لساني كان نصفين منهما بكيم ونصف عند مجرى الكواكب
والعمى: ذهاب البصر، وقد عمي فهو أعمى، وقوم عمي، وأعماه الله. وتعامى الرجل: أرى ذلك من نفسه. وعمي عليه الأمر إذا التبس، ومنه قوله تعالى: "فعميت عليهم الأنباء يومئذ" [القصص: 66]. وليس الغرض مما ذكرناه نفي الإدراكات عن حواسهم جملة، وإنما الغرض نفيها من جهة ما، تقول: فلان أصم عن الخنا. ولقد أحسن الشاعر حيث قال:
أصم عما ساءه سميع
وقال آخر:
وعوراء الكلام صممت عنها ولو أني أشاء بها سميع
وقال الدارمي:
أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري جارتي الجدر
وقال بعضهم في وصاته لرجل يكثر الدخول على الملوك:
أدخل إذا ما دخلت أعمى واخرج إذا ما خرجت أخرس
وقال قتادة: "صم" عن استماع الحق، "بكم" عن التكلم به، "عمي" عن الإبصار له.
قلت: وهذا المعنى هو المراد في وصف النبي صلى الله عليه وسلم ولاة آخر الزمان في حديث جبريل (وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها). والله أعلم.
قوله تعالى: "فهم لا يرجعون" أي إلى الحق لسابق علم الله تعالى فيهم. يقال: رجع بنفسه رجوعا، ورَجَعَه غيره، وهذيل تقول: أرجعه غيره. وقوله تعالى: "يرجع بعضهم إلى بعض القول" [سبأ: 31] أي يتلاومون فيما بينهم، حسب ما بينه التنزيل في سورة "سبأ".
الآية: 19 {أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين}
قوله تعالى: "أو كصيب من السماء" قال الطبري: "أو" بمعنى الواو، وقاله الفراء.
وأنشد:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وقال آخر:
نال الخلافة أو كانت له قَدَرا كما أتى ربه موسى على قدر
أي وكانت. وقيل: "أو" للتخيير أي مثّلوهم بهذا أو بهذا، لا على الاقتصار على أحد الأمرين، والمعنى أو كأصحاب صيب. والصيب: المطر. واشتقاقه من صاب يصوب إذا نزل، قال علقمة:
فلا تعدلي بيني وبين مغمر سقتك روايا المزن حيث تصوب
وأصله: صَيوب، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، كما فعلوا في ميت وسيد وهين ولين. وقال بعض الكوفيين: أصله صويب على مثال فعيل. قال النحاس: "لو كان كما قالوا لما جاز إدغامه، كما لا يجوز إدغام طويل. وجمع صيب صيايب. والتقدير في العربية: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا أو كمثل صيب".
قوله تعالى: "من السماء" السماء تذكر وتؤنث، وتجمع على أسمية وسموات وسمي، على فُعول، قال العجاج: تلفه الرياح والسُّمِيّ
والسماء: كل ما علاك فأظلك، ومنه قيل لسقف البيت: سماء. والسماء: المطر، سمي به لنزوله من السماء. قال حسان بن ثابت:
ديارٌ من بني الحسحاس قفر تعفيها الروامس والسماء
وقال آخر:
إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
ويسمى الطين والكلأ أيضا سماء، يقال: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم. يريدون الكلأ والطين. ويقال لظهر الفرس أيضا سماء لعلوه، قال:
وأحمر كالديباج أما سماؤه فَرَيّا وأما أرضه فمحول
والسماء: ما علا. والأرض: ما سفل، على ما تقدم.
قوله تعالى: "فيه ظلمات" ابتداء وخبر. "ورعد وبرق" معطوف عليه. وقال: ظلمات بالجمع إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدَّجْن، وهو الغيم، ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت. وقد مضى ما فيه من اللغات فلا معنى للإعادة، وكذا كل ما تقدم إن شاء الله تعالى.
واختلف العلماء في الرعد، ففي الترمذي عن ابن عباس قال: سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟ قال: (ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله). فقالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: (زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر الله) قالوا: صدقت. الحديث بطوله. وعلى هذا التفسير أكثر العلماء. فالرعد: اسم الصوت المسموع، وقاله علي رضي الله عنه، وهو المعلوم في لغة العرب، وقد قال لبيد في جاهليته:
فَجَّعني الرعد والصواعق بال فارس يوم الكريهة النجد
وروي عن ابن عباس أنه قال: الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت. واختلفوا في البرق، فروي عن علي وابن مسعود وابن عباس رضوان الله عليهم: البرق مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب.
قلت: وهو الظاهر من حديث الترمذي. وعن ابن عباس أيضا هو سوط من نور بيد الملك يزجر به السحاب. وعنه أيضا البرق ملك يتراءى.
وقالت الفلاسفة: الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب. والبرق ما ينقدح من اصطكاكها. وهذا مردود لا يصح به نقل، والله أعلم. ويقال: أصل الرعد من الحركة، ومنه الرعديد للجبان. وارتعد: اضطرب، ومنه الحديث: (فجيء بهما ترعد فرائصهما) الحديث. أخرجه أبو داود. والبرق أصله من البريق والضوء، ومنه البراق: دابة ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وركبها الأنبياء عليهم السلام قبله. ورعدت السماء من الرعد، وبرقت من البرق. ورعدت المرأة وبرقت: تحسنت وتزينت. ورعد الرجل وبرق: تهدد وأوعد، قال ابن أحمر:
يا جُلَّ ما بعدت عليك بلادنا وطِلابُنا فابرُق بأرضك وارعُدِ
وأرعد القوم وأبرقوا: أصابهم رعد وبرق. وحكى أبو عبيدة وأبو عمرو: أرعدت السماء وأبرقت، وأرعد الرجل وأبرق إذا تهدد وأوعد، وأنكره الأصمعي. واحتج عليه بقول الكميت:
أبرق وأرعد يا يزيـ ـد فما وعيدك لي بضائر
فقال: ليس الكميت بحجة.
فائدة: روى ابن عباس قال: كنا مع عمر بن الخطاب في سفرة بين المدينة والشام ومعنا كعب الأحبار، قال: فأصابتنا ريح وأصابنا رعد ومطر شديد وبرد، وفرق الناس. قال فقال لي كعب: إنه من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، عوفي مما يكون في ذلك السحاب والبرد والصواعق. قال: فقلتها أنا وكعب، فلما أصبحنا واجتمع الناس قلت لعمر: يا أمير المؤمنين، كأنا كنا في غير ما كان فيه الناس قال: وما ذاك؟ قال: فحدثته حديث كعب. قال: سبحان الله أفلا قلتم لنا فنقول كما قلتم! في رواية فإذا بردة قد أصابت أنف عمر فأثرت به. وستأتي هذه الرواية في سورة "الرعد" إن شاء الله. ذكر الروايتين أبو بكر بن علي بن ثابت الخطيب في روايات الصحابة عن التابعين رحمة الله عليهم أجمعين. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الرعد والصواعق قال: (اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك).
قوله تعالى: "يجعلون أصابعهم في آذانهم" جعلهم أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن فيؤمنوا به وبمحمد عليه السلام، وذلك عندهم كفر والكفر موت. وفي واحد الأصابع خمس لغات: إصبع بكسر الهمزة وفتح الباء، وأصبع بفتح الهمزة وكسر الباء، ويقال بفتحهما جميعا، وضمهما جميعا، وبكسرهما جميعا، ومؤنثة. وكذلك الأذن وتخفف وتثقل وتصغر، فيقال: أذينة. ولو سميت بها رجلا ثم صغرته قلت: أذين، فلم تؤنث لزوال التأنيث عنه بالنقل إلى المذكر فأما قولهم: أذينة في الاسم العلم فإنما سمي به مصغرا، والجمع آذان. وتقول: أذنته إذا ضربت أذنه. ورجل أذُن: إذا كان يسمع كلام كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع. وأذاني: عظيم الأذنين. ونعجة أذناء، وكبش آذن. وأذّنت النعل وغيرها تأذينا: إذا جعلت لها أذنا. وأذنت الصبي: عركت أذنه.
قوله تعالى: "من الصواعق" أي من أجل الصواعق. والصواعق جمع صاعقة. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: إذا اشتد غضب الرعد الذي هو الملك طار النار من فيه وهي الصواعق. وكذا قال الخليل، قال: هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد، يكون معها أحيانا قطعة نار تحرق ما أتت عليه. وقال أبو زيد: الصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد. وحكى الخليل عن قوم: الساعقة (بالسين). وقال أبو بكر النقاش: يقال صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد. وقرأ الحسن: من "الصواقع" (بتقديم القاف)، ومنه قول أبي النجم:
يحكون بالمصقولة القواطع تَشَقُّق البرق عن الصواقع
قال النحاس: وهي لغة تميم وبعض بني ربيعة. ويقال: صعقتهم السماء إذا ألقت عليهم. الصاعقة. والصاعقة أيضا صيحة العذاب، قال الله عز وجل: "فأخذتهم صاعقة العذاب الهون" [فصلت: 17] ويقال: صعق الرجل صعقة وتصعاقا، أي غشي عليه، وفي قوله تعالى: "وخر موسى صعقا" [الأعراف: 143] فأصعقه غيره. قال ابن مقبل:
ترى النُعَرات الزرقَ تحت لَبانه أُحادَ ومثنى أصعقتها صواهله
وقوله تعالى: "فصعق من في السموات ومن في الأرض" [الزمر: 68] أي مات. وشبه الله تعالى في هذه الآية أحوال المنافقين بما في الصيب من الظلمات والرعد والبرق والصواعق. فالظلمات مثل لما يعتقدونه من الكفر، والرعد والبرق مثل لما يخوفون به. وقيل: مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال عليهم، والعمى هو الظلمات، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أحيانا أن تبهرهم هو البرق. والصواعق، مثل لما في القرآن من الدعاء إلى القتال في العاجل والوعيد في الآجل. وقيل: الصواعق تكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة وغيرهما.
قوله: "حذر الموت" حذر وحذار بمعنى، وقرئ بهما. قال سيبويه: هو منصوب، لأنه موقوع له أي مفعول من أجله، وحقيقته أنه مصدر، وأنشد سيبويه:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
وقال الفراء: هو منصوب على التمييز والموت: ضد الحياة. وقد مات يموت، ويمات أيضا، قال الراجز: بنيتي سيدة البنات عيشي ولا يؤمن أن تماتي
فهو ميت وميت، وقوم موتى وأموات وميتون وميتون. والموات (بالضم): الموت. والموات (بالفتح): ما لا روح فيه. والموات أيضا: الأرض التي لا مالك لها من الآدميين ولا ينتفع بها أحد. والمَوَتان (بالتحريك): خلاف الحيوان، يقال: اشتر الموتان، ولا تشتر الحيوان، أي اشتر الأرضين والدور، ولا تشتر الرقيق والدواب. والمُوتان (بالضم): موت يقع في الماشية، يقال: وقع في المال موتان. وأماته الله وموته، شدد للمبالغة. وقال:
فعروة مات موتا مستريحا فهأنذا أُمَوَّتُ كل يوم
وأماتت الناقة إذا مات ولدها، فهي مميت ومميتة. قال أبو عبيد: وكذلك المرأة، وجمعها مماويت. قال ابن السكيت: أمات فلان إذا مات له ابن أو بنون. والمتماوت من صفة الناسك المرائي. وموت مائت، كقولك: ليل لائل، يؤخذ من لفظه ما يؤكد به. والمستميت للأمر: المسترسل له، قال رؤبة:
وزبد البحر له كتيت والليل فوق الماء مستميت
المستميت أيضا: المستقتل الذي لا يبالي في الحرب من الموت، وفي الحديث: (أرى القوم مستميتين) وهم الذين يقاتلون على الموت. والمُوتة (بالضم): جنس من الجنون والصرع يعتري الإنسان، فإذا أفاق عاد إليه كمال عقله كالنائم والسكران. ومُؤتة (بضم الميم وهمز الواو): اسم أرض قتل بها جعفر بن أبي طالب عليه السلام.
قوله تعالى: "والله محيط بالكافرين" ابتداء وخبر، أي لا يفوتونه. يقال: أحاط السلطان بفلان إذا أخذه أخذا حاصرا من كل جهة، قال الشاعر:
أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا بما قد رأوا مالوا جميعا إلى السلم
ومنه قوله تعالى: "وأحيط بثمره" [الكهف: 42]. وأصله محيط، نقلت حركة الياء إلى الحاء فسكنت. فالله سبحانه محيط بجميع المخلوقات، أي هي في قبضته وتحت قهره، كما قال: "والأرض جميعا قبضته يوم القيامة" [الزمر: 67]. وقيل: "محيط بالكافرين" أي عالم بهم. دليله: "وأن الله قد أحاط بكل شيء علما" [الطلاق: 12]. وقيل: مهلكهم وجامعهم. دليله قوله تعالى: "إلا أن يحاط بكم" [يوسف: 66] أي إلا أن تهلكوا جميعا. وخص الكافرين بالذكر لتقدم ذكرهم في الآية. والله أعلم.
الآية: 20 {يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير}
قوله تعالى: "يكاد البرق يخطف أبصارهم" (يكاد) معناه يقارب، يقال: كاد يفعل كذا إذا قارب ولم يفعل. ويجوز في غير القرآن: يكاد أن يفعل، كما قال رؤبة:
قد كاد من طول البلى أن يمصحا
مشتق من المصح وهو الدرس. والأجود أن تكون بغير "أن"، لأنها لمقاربة الحال، و"أن" تصرف الكلام إلى الاستقبال، وهذا متناف، قال الله عز وجل: "يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار" [النور: 43]. ومن كلام العرب: كاد النعام يطير، وكاد العروس يكون أميرا، لقربهما من تلك الحال. وكاد فعل متصرف على فعل يفعل. وقد جاء خبره بالاسم وهو قليل، قال: "وما كدت آئبا". ويجري مجرى كاد كرب وجعل وقارب وطفق، في كون خبرها بغير "أن"، قال الله عز وجل: "وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة" [الأعراف: 22] لأنها كلها بمعنى الحال والمقاربة، والحال لا يكون معها "أن"، فاعلم.
قوله تعالى: "يخطف أبصارهم" الخطف: الأخذ بسرعة، ومنه سمي الطير خطافا لسرعته. فمن جعل القرآن مثلا للتخويف فالمعنى أن خوفهم مما ينزل بهم يكاد يذهب أبصارهم. ومن جعله مثلا للبيان الذي في القرآن فالمعنى أنهم جاءهم من البيان ما بهرهم. ويخْطَف ويخْطِف لغتان قرئ بهما. وقد خطفه (بالكسر) يخطفه خطفا، وهي اللغة الجيدة، واللغة الأخرى حكاها الأخفش: خطف يخطف. الجوهري: وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف. وقد قرأ بها يونس في قوله تعالى "يكاد البرق يخطف أبصارهم" وقال النحاس: في "يخطف" سبعة أوجه، القراءة الفصيحة: يخطَف. وقرأ علي بن الحسين ويحيى بن وثاب: يخطف بكسر الطاء، قال سعيد الأخفش: هي لغة. وقرأ الحسن وقتادة وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي بفتح الياء وكسر الخاء والطاء. وروي عن الحسن أيضا أنه قرأ بفتح الخاء. قال الفراء: وقرأ بعض أهل المدينة بإسكان الخاء وتشديد الطاء. قال الكسائي والأخفش والفراء: يجوز "يخطف" بكسر الياء والخاء والطاء. فهذه ستة أوجه موافقة للخط. والسابعة حكاها عبدالوارث قال: رأيت في مصحف أبي بن كعب "يتخطف"، وزعم سيبويه والكسائي أن من قرأ "يخطف" بكسر الخاء والطاء فالأصل عنده يختطف، ثم أدغم التاء في الطاء فالتقى ساكنان فكسرت الخاء لالتقاء الساكنين. قال سيبويه: ومن فتح الخاء ألقى حركة التاء عليها. وقال الكسائي: ومن كسر الياء فلأن الألف في اختطف مكسورة. فأما ما حكاه الفراء عن أهل المدينة من إسكان الخاء والإدغام فلا يعرف ولا يجوز، لأنه جمع بين ساكنين. قال النحاس وغيره.
قلت: وروي عن الحسن أيضا وأبي رجاء "يخِطَّف". قال ابن مجاهد: وأظنه غلطا، واستدل على ذلك بأن "خطِف الخطفة" لم يقرأه أحد بالفتح.
"أبصارهم" جمع بصر، وهي حاسة الرؤية. والمعنى: تكاد حجج القرآن وبراهينه الساطعة تبهرهم. ومن جعل "البرق" مثلا للتخويف فالمعنى أن خوفهم مما ينزل بهم يكاد يذهب أبصارهم.
قوله تعالى: "كلما أضاء لهم مشوا فيه" "كلما" منصوب لأنه ظرف. وإذا كان "كلما" بمعنى "إذا" فهي موصولة والعامل فيه "مشوا" وهو جوابه، ولا يعمل فيه "أضاء"، لأنه في صلة ما. والمفعول في قول المبرد محذوف، التقدير عنده: كلما أضاء لهم البرق الطريق. وقيل: يجوز أن يكون فعل وأفعل بمعنى، كسكت وأسكت، فيكون أضاء وضاء سراء فلا يحتاج إلى تقدير حذف مفعول. قال الفراء: يقال ضاء وأضاء، وقد تقدم. والمعنى أنهم كلما سمعوا القرآن وظهرت لهم الحجج أنسوا ومشوا معه، فإذا نزل من القرآن ما يعمون فيه ويضلون به أو يكلفونه "قاموا" أي ثبتوا على نفاقهم، عن ابن عباس. وقيل: المعنى كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم وتوالت النعم قالوا: دين محمد دين مبارك، وإذا نزلت بهم مصيبة وأصابتهم شدة سخطوا وثبتوا في نفاقهم، عن ابن مسعود وقتادة. قال النحاس: وهذا قول حسن، ويدل على صحته: "ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه" [الحج: 11] وقال علماء الصوفية: هذا مثل ضربه الله تعالى لمن لم تصح له أحوال الإرادة بدءا، فارتقى من تلك الأحوال بالدعاوى إلى أحوال الأكابر، كأن تضيء عليه أحوال الإرادة لو صححها بملازمة آدابها، فلما مزجها بالدعاوى أذهب الله عنه تلك الأنوار وبقي في ظلمات دعاويه لا يبصر طريق الخروج منها. وروي عن ابن عباس أن المراد اليهود، لما نصر النبي صلى الله عليه وسلم ببدر طمعوا وقالوا: هذا والله النبي الذي بشرنا به موسى لا ترد له راية، فلما نكب بأحد ارتدوا وشكوا، وهذا ضعيف. والآية في المنافقين، وهذا أصح عن ابن عباس، والمعنى يتناول الجميع.
قوله تعالى: "ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم" "لو" حرف تمن وفيه معنى الجزاء، وجوابه اللام. والمعنى: ولو شاء الله لأطلع المؤمنين عليهم فذهب منهم عز الإسلام بالاستيلاء عليهم وقتلهم وإخراجهم من بينهم. وخص السمع والبصر لتقدم ذكرهما في الآية أولا، أو لأنهما أشرف ما في الإنسان. وقرئ "بأسماعهم" على الجمع، وقد تقدم الكلام في هذا.
قوله تعالى: "إن الله على كل شيء قدير" عموم، ومعناه عند المتكلمين فيما يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه. وأجمعت الأمة على تسمية الله تعالى بالقدير، فهو سبحانه قدير قادر مقتدر. والقدير أبلغ في الوصف من القادر، قاله الزجاجي. وقال الهروي: والقدير والقادر بمعنى واحد، يقال: قدرت على الشيء أقدر قدْرا وقدَرا ومقْدِرة ومقْدُرة وقدرانا، أي قدرة. والاقتدار على الشيء: القدرة عليه. فالله جل وعز قادر مقتدر قدير على كل ممكن يقبل الوجود والعدم. فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الله تعالى قادر، له قدرة بها فعل ويفعل ما يشاء على وفق علمه واختياره. ويجب عليه أيضا أن يعلم أن للعبد قدرة يكتسب بها ما أقدره الله تعالى عليه على مجرى العادة، وأنه غير مستبد بقدرته. وإنما خص هنا تعالى صفته التي هي القدرة بالذكر دون غيرها، لأنه تقدم ذكر فعل مضمنه الوعيد والإخافة، فكان ذكر القدرة مناسبا لذلك. والله أعلم.
فهذه عشرون آية على عدد الكوفيين، أربع آيات في وصف المؤمنين، ثم تليها آيتان في ذكر الكافرين، وبقيتها في المنافقين. وقد تقدمت الرواية فيها عن ابن جريج، وقاله مجاهد أيضا.
الآية: 21 {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون}
قوله سبحانه وتعالى: "يا أيها الناس اعبدوا ربكم" قال علقمة ومجاهد: كل آية أولها "يا أيها الناس" فإنما نزلت بمكة، وكل آية أولها "يا أيها الذين آمنوا" فإنما نزلت بالمدينة. قلت: وهذا يرده أن هذه السورة والنساء مدنيتان وفيهما يا أيها الناس. وأما قولهما في "يا أيها الذين آمنوا" [النساء: 19] الآية فصحيح. وقال عروة بن الزبير: ما كان من حد أو فريضة فإنه نزل بالمدينة، وما كان من ذكر الأمم والعذاب فإنه نزل بمكة. وهذا واضح.
و"يا" في قوله: "يا أيها" حرف نداء "أي" منادى مفرد مبني على الضم، لأنه منادى في اللفظ، و"ها" للتنبيه. "الناس" مرفوع صفة لأي عند جماعة النحويين، ما عدا المازني فإنه أجاز النصب قياسا على جوازه في: يا هذا الرجل. وقيل: ضمت "أي" كما ضم المقصود المفرد، وجاؤوا بـ "ها" عوضا عن ياء أخرى، وإنما لم يأتوا بياء لئلا ينقطع الكلام فجاؤوا بـ "ها" حتى يبقى الكلام متصلا. قال سيبويه: كأنك كررت "يا" مرتين وصار الاسم بينهما، كما قالوا: ها هو ذا. وقيل لما تعذر عليهم الجمع بين حرفي تعريف أتوا في الصورة بمنادي مجرد عن حرف تعريف، وأجروا عليه المعرف باللام المقصود بالنداء، والتزموا رفعه، لأنه المقصود بالنداء، فجعلوا إعرابه بالحركة التي كان يستحقها لو باشرها النداء تنبيها على أنه المنادي، فاعلمه.
واختلف من المراد بالناس هنا على قولين: أحدهما: الكفار الذي لم يعبدوه، يدل عليه قوله: "وإن كنتم في ريب" [البقرة: 23] الثاني: أنه عام في جميع الناس، فيكون خطابه للمؤمنين باستدامة العبادة، وللكافرين بابتدائها. وهذا حسن.
قوله تعالى: "اعبدوا" أمر بالعبادة له. والعبادة هنا عبارة عن توحيده والتزام شرائع دينه. وأصل العبادة الخضوع والتذلل، يقال: طريق معبدة إذا كانت موطوءة بالأقدام. قال طرفة:
وظيفا وظيفا فوق مَوْرٍ معبَّد
والعبادة: الطاعة. والتعبد: التنسك. وعبدت فلانا: اتخذته عبدا.
قوله تعالى: "الذي خلقكم" خص تعالى خلقه لهم من بين سائر صفاته إذ كانت العرب مقرة بأن الله خلقها، فذكر ذلك حجة عليهم وتقريعا لهم. وقيل: ليذكرهم بذلك نعمته عليهم. وفي أصل الخلق وجهان: أحدهما: التقدير، يقال: خلقت الأديم للسقاء إذا قدرته قبل القطع، قال الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ـض القوم يخلق ثم لا يفري
وقال الحجاج: ما خلقت إلا فريت، ولا وعدت إلا وفيت. الثاني: الإنشاء والاختراع والإبداع، قال الله تعالى: "وتخلقون إفكا" [العنكبوت: 17].
قوله تعالى: "والذين من قبلكم" فيقال إذا ثبت عندهم خلقهم ثبت عندهم خلق غيرهم، فالجواب: أنه إنما يجري الكلام على التنبيه والتذكير ليكون أبلغ في العظة، فذكرهم من قبلهم ليعلموا أن الذي أمات من قبلهم وهو خلقهم يميتهم، وليفكروا فيمن مضى قبلهم كيف كانوا، وعلى أي الأمور مضوا من إهلاك من أهلك، وليعلموا أنهم يبتلون كما ابتلوا. والله أعلم.
قوله تعالى: "لعلكم تتقون" "لعل" متصلة باعبدوا لا بخلقكم، لأن من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتقي. وهذا وما كان مثله فيما ورد في كلام الله تعالى من قوله: "لعلكم تعقلون، لعلكم تشكرون، لعلكم تذكرون، لعلكم تهتدون" فيه ثلاث تأويلات.
الأول: أن "لعل" على بابها من الترجي والتوقع، والترجي والتوقع إنما هو في حيز البشر، فكأنه قيل لهم: افعلوا ذلك على الرجاء منكم والطمع أن تعقلوا وأن تذكروا وأن تتقوا. هذا قول سيبويه ورؤساء اللسان قال سيبويه في قوله عز وجل: "اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى" [طه: 43 - 44] قال معناه: اذهبا على طمعكما ورجائكما أن يتذكر أو يخشى. واختار هذا القول أبو المعالي.
الثاني: أن العرب استعملت "لعل" مجردة من الشك بمعنى لام كي. فالمعنى لتعقلوا ولتذكروا ولتتقوا، وعلى ذلك يدل قول الشاعر:
وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كلمع سراب في الملا متألق
المعنى: كفوا الحروب لنكف، ولو كانت "لعل" هنا شكا لم يوثقوا لهم كل موثق، وهذا القول عن قطرب والطبري.
الثالث: أن تكون "لعل" بمعنى التعرض للشيء، كأنه قيل: افعلوا متعرضين لأن تعقلوا، أو لأن تذكروا أو لأن تتقوا. والمعنى في قوله "لعلكم تتقون" أي لعلكم أن تجعلوا بقبول ما أمركم الله به وقاية بينكم وبين النار. وهذا من قول العرب: اتقاه بحقه إذا استقبله به، فكأنه جعل دفعه حقه إليه وقاية له من المطالبة، ومنه قول علي رضي الله عنه: كنا إذا احمر البأس اتقينا بالنبي صلى الله عليه وسلم، أي جعلناه وقاية لنا من العدو. وقال عنترة:
ولقد كررت المهر يدمى نحره حتى اتقتني الخيل بابني حِذيم
الآية: 22 {الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون}
قوله تعالى: "الذي جعل" معناه هنا صير لتعديه إلى مفعولين: ويأتي بمعنى خلق، ومنه قوله تعالى: "ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة" [المائدة: 103] وقوله: "وجعل الظلمات والنور" [الأنعام: 1] ويأتي بمعنى سمى، ومنه قوله تعالى: "حم. والكتاب المبين. إنا جعلناه قرآنا عربيا" [الزخرف: 1 - 3]. وقوله: "وجعلوا له من عباده جزءا" [الزخرف: 15]. "وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا" [الزخرف: 19] أي سموهم. ويأتي بمعنى أخذ، كما قال الشاعر:
وقد جعلت نفسي تطيب لضغمة لضغمهما ها يقرع العظم نابها
وقد تأتي زائدة، كما قال الآخر:
وقد جعلت أرى الاثنين أربعة والواحد اثنين لما هدني الكبر
وقد قيل في قوله تعالى "وجعل الظلمات والنور": إنها زائدة. وجعل واجتعل بمعنى واحد، قال الشاعر:
ناط أمر الضعاف واجتعل اللي ل كحبل العاديّة الممدود
"فراشا" أي وطاء يفترشونها ويستقرون عليها. وما ليس بفراش كالجبال والأوعار والبحار فهي من مصالح ما يفترش منها، لأن الجبال كالأوتاد كما قال: "ألم نجعل الأرض مهادا. والجبال أوتادا" [النبأ: 6 - 7]. والبحار تركب إلى سائر منافعها كما قال: "والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس" [البقرة: 164].
قال أصحاب الشافعي: لو حلف رجل ألا يبيت على فراش أو لا يستسرج بسراج فبات على الأرض وجلس في الشمس لم يحنث، لأن اللفظ لا يرجع إليهما عرفا. وأما المالكية فبنوه على أصلهم في الأيمان أنها محمولة على النية أو السبب أو البساط الذي جرت عليه اليمين، فإن عدم ذلك فالعرف.
قوله تعالى: "والسماء بناء" السماء للأرض كالسقف للبيت، ولهذا قال وقوله الحق "وجعلنا السماء سقفا محفوظا" [الأنبياء: 32] وكل ما علا فأظل قيل له سماء، وقد تقدم القول فيه والوقف على "بناء" أحسن منه على "تتقون"، لأن قوله: "الذي جعل لكم الأرض فراشا" نعت للرب. ويقال: بنى فلان بيتا، وبنى على أهله - بناء فيهما - أي زفها. والعامة تقول: بنى بأهله، وهو خطأ، وكأن الأصل فيه أن الداخل بأهله كان يضرب عليها قبة ليلة دخوله بها، فقيل لكل داخل بأهله: بان. وبنّى (مقصورا) شدد للكثرة، وابتنى دارا وبنى بمعنى، ومنه بنيان الحائط، وأصله وضع لبنة على أخرى حتى تثبت.
وأصل الماء موه، قلبت الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها فقلت ماه، فالتقى حرفان خفيان فأبدلت من الهاء همزة، لأنها أجلد، وهي بالألف أشبه، فقلت: ماء، الألف الأولى عين الفعل، وبعدها الهمزة التي هي بدل من الهاء، وبعد الهمزة بدل من التنوين. قال أبو الحسن: لا يجوز أن يكتب إلا بألفين عند البصريين، وإن شئت بثلاث، فإذا جمعوا أو صغروا ردوا إلى الأصل فقالوا: مويه وأمواه ومياه، مثل جمال وأجمال.
قوله تعالى: "فأخرج به من الثمرات رزقا لكم" الثمرات جمع ثمرة. ويقال: ثمر مثل شجر. ويقال ثمر مثل خشب. ويقال: ثمر مثل بدن. وثمار مثل إكام جمع ثمر. وسيأتي لهذا مزيد بيان في "الأنعام" إن شاء الله. وثمار السياط: عقد أطرافها.
والمعنى في الآية أخرجنا لكم ألوانا من الثمرات، وأنواعا من النبات. "رزقا" طعاما لكم، وعلفا لدوابكم، وقد بين هذا قوله تعالى: "إنا صببنا الماء صبا. ثم شققنا الأرض شقا. فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا. وحدائق غلبا. وفاكهة وأبا. متاعا لكم ولأنعامكم" [عبس: 25 - 32] وقد مضى الكلام في الرزق مستوفى والحمد لله.
فإن قيل: كيف أطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك؟ قيل له: لأنها معدة لأن تملك ويصح بها الانتفاع، فهي رزق.
قلت: ودلت هذه الآية على أن الله تعالى أغنى الإنسان عن كل مخلوق، ولهذا قال عليه السلام مشيرا إلى هذا المعنى: (والله لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحدا أعطاه أو منعه). أخرجه مسلم. ويدخل في معنى الاحتطاب جميع الأشغال من الصنائع وغيرها، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا فقد أخذ بطرف من جعل لله ندا. وقال علماء الصوفية: أعلم الله عز وجل في هذه الآية سبيل الفقر، وهو أن تجعل الأرض وطاء والسماء غطاء، والماء طيبا والكلأ طعاما، ولا تعبد أحدا في الدنيا من الخلق بسبب الدنيا، فإن الله عز وجل قد أتاح لك ما لا بد لك منه، من غير منة فيه لأحد عليك. وقال نوف البكالي: رأيت علي بن أبي طالب خرج فنظر إلى النجوم فقال: يا نوف، أراقد أنت أم رامق؟ قلت: بل رامق يا أمير المؤمنين، قال: طوبى للزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطا، وترابها فراشا، وماءها طيبا، والقرآن والدعاء دثارا وشعارا، فرفضوا الدنيا على منهاج المسيح عليه السلام... وذكر باقي الخبر، وسيأتي تمامه في هذه السورة عند قوله تعالى: "أجيب دعوة الداع" [البقرة: 186] إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: "فلا تجعلوا" نهي. "لله أندادا" أي أكفاء وأمثالا ونظراء، واحدها ند، وكذلك قرأ محمد بن السميقع "ندا"، قال الشاعر:
نحمد الله ولا ند له عنده الخير وما شاء فعل
وقال حسان:
أتهجوه ولست له بند فشركما لخيركما الفداء
ويقال: ند ونديدة على المبالغة، قال لبيد:
ليكلا يكون السندري نديدتي وأجعل أقواما عموما عماعما
وقال أبو عبيدة "أندادا" أضدادا. النحاس: "أندادا" مفعول أول، و"لله" في موضع الثاني. الجوهري: والند (بفتح النون): التل المرتفع في السماء. والند من الطيب ليس بعربي. وند البعير يند ندا وندادا وندودا: نفر وذهب على وجهه، ومنه قرأ بعضهم "يوم التناد". وندد به أي شهره وسمع به.
قوله تعالى: "وأنتم تعلمون" ابتداء وخبر، والجملة في موضع الحال، والخطاب للكافرين والمنافقين، عن ابن عباس. فإن قيل: كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك من الختم والطبع والصمم والعمى. فالجواب من وجهين: أحدهما - "وأنتم تعلمون" يريد العلم الخاص بأن الله تعالى خلق الخلق وأنزل الماء وأنبت الرزق، فيعلمون أنه المنعم عليهم دون الأنداد. الثاني - أن يكون المعنى وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم، والله أعلم. وفي هذا دليل على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد. وقال ابن فورك: يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين، فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون وتجعلوا لله أندادا بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد.
الآية: 23 {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين}
قوله تعالى: "وإن كنتم في ريب" أي في شك. "مما نزلنا" يعني القرآن، والمراد المشركون الذين تُحدوا، فإنهم لما سمعوا القرآن قالوا: ما يشبه هذا كلام الله، وإنا لفي شك منه؛ فنزلت الآية. ووجه اتصالها بما قبلها أن الله سبحانه لما ذكر في الآية الأولى الدلالة على وحدانيته وقدرته ذكر بعدها الدلالة على نبوة نبيه، وأن ما جاء به ليس مفترى من عنده.
قوله تعالى: "على عبدنا" يعني محمد صلى الله عليه وسلم. والعبد مأخوذ من التعبد وهو التذلل، فسمى المملوك - من جنس ما يفعله - عبدا لتذلله لمولاه، قال طرفة:
إلى أن تحامتني العشيرة كلها وأفردت إفراد البعير المعبد
أي المذلل. قال بعضهم: لما كانت العبادة أشرف الخصال والتسمي بها أشرف الخطط، سمى نبيه عبدا، وأنشدوا:
يا قوم قلبي عند زهراء يعرفه السامع والرائي
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
قوله: "فأتوا بسورة من مثله" الفاء جواب الشرط، ائتوا مقصور لأنه من باب المجيء، قاله ابن كيسان. وهو أمر معناه التعجيز، لأنه تعالى علم عجزهم عنه. والسورة واحدة السور. وقد تقدم الكلام فيها وفي إعجاز القرآن، فلا معنى للإعادة. "ومن" في قوله "من مثله" زائدة، كما قال "فأتوا بسورة مثله" والضمير في "مثله" عائد على القرآن عند الجمهور من العلماء، كقتادة ومجاهد وغيرهما. وقيل: يعود على التوراة والإنجيل. فالمعنى فأتوا بسورة من كتاب مثله فإنها تصدق ما فيه. وقيل: يعود على النبي صلى الله عليه وسلم. المعنى: من بشر أمي مثله لا يكتب ولا يقرأ. فمن على هذين التأويلين للتبعيض والوقف على "مثله" ليس بتام، لأن "وادعوا" نسق عليه.
قوله تعالى: "وادعوا شهداءكم" معناه أعوانكم ونصراءكم. الفراء: آلهتكم. وقال ابن كيسان: فإن قيل كيف ذكر الشهداء هاهنا، وإنما يكون الشهداء ليشهدوا أمرا، أو ليخبروا بأمر شهدوه، وإنما قيل لهم: "فأتوا بسورة من مثله"؟ فالجواب: أن المعنى استعينوا بمن وجدتموه من علمائكم، وأحضروهم ليشاهدوا ما تأتون به، فيكون الرد على الجميع أوكد في الحجة عليهم.
قلت: هذا هو معنى قول مجاهد. قال مجاهد: معنى: "وادعوا شهداءكم" أي ادعوا ناسا يشهدون لكم، أي يشهدون أنكم عارضتموه. النحاس: "شهداءكم" نصب بالفعل جمع شهيد، يقال: شاهد وشهيد، مثل قادر وقدير. وقوله" "من دون الله" أي من غيره، ودون نقيض فوق، وهو تقصير عن الغاية، ويكون ظرفا. والدون: الحقير الخسيس، قال:
إذا ما علا المرء رام العلاء ويقنع بالدون من كان دونا
ولا يشتق منه فعل، وبعضهم يقول منه: دان يدون دونا. ويقال: هذا دون ذاك، أي أقرب منه. ويقال في الإغراء بالشيء: دونكه. قالت تميم للحجاج: أقبرنا صالحا - وكان قد صلبه - فقال: دونكموه.
قوله تعالى: "إن كنتم صادقين" فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة، لقولهم في آية أخرى: "لو نشاء لقلنا مثل هذا" [الأنفال: 31] والصدق: خلاف الكذب، وقد صدق في الحديث. والصدق: الصلب من الرماح. ويقال: صدقوهم القتال. والصديق: الملازم للصدق. ويقال: رجل صدق، كما يقال: نعم الرجل. والصداقة مشتقة من الصدق في النصح والود.
الآية: 24 {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين}
قوله تعالى: "فإن لم تفعلوا" يعني فيما مضى "ولن تفعلوا" أي تطيقوا ذلك فيما يأتي. والوقف على هذا على "صادقين" تام. وقال جماعة من المفسرين: معنى الآية وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ولن تفعلوا، فإن لم تفعلوا فاتقوا النار فعلى هذا التفسير لا يتم الوقف على "صادقين".
فإن قيل: كيف دخلت "إن" على "لم" ولا يدخل عامل على عامل؟ فالجواب أن "إن" ههنا غير عاملة في اللفظ، فدخلت على "لم" كما تدخل على الماضي، لأنها لا تعمل في "لم" كما لا تعمل في الماضي، فمعنى إن لم تفعلوا إن تركتم الفعل. قوله تعالى "ولن تفعلوا" نصب بلن، ومن العرب من يجزم بها، ذكره أبو عبيدة، ومنه بيت النابغة:
فلن أعرض أبيت اللعن بالصفد
وفي حديث ابن عمر حين ذهب به إلى النار في منامه: فقيل لي "لن تُرَع". هذا على تلك اللغة. وفي قوله: "ولن تفعلوا" إثارة لهممهم، وتحريك لنفوسهم، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها وقال ابن كيسان: "ولن تفعلوا" توقيفا لهم على أنه الحق، وأنهم ليسوا صادقين فيما زعموا من أنه كذب، وأنه مفترى وأنه سحر وأنه شعر، وأنه أساطير الأولين، وهم يدعون العلم ولا يأتون بسورة من مثله.
وقوله "فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة" جواب "فإن لم تفعلوا" أي اتقوا النار بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم وطاعة الله تعالى. وقد تقدم معنى التقوى فلا معنى لإعادتها. ويقال: إن لغة تميم وأسد "فتقوا النار". وحكى سيبويه: تقى يتْقي، مثل قضى يقضي. "النار" مفعولة. "التي" من نعتها. وفيها ثلاث لغات: التي واللتِ (بكسر التاء) واللتْ (بإسكانها). وهي اسم مبهم للمؤنث وهي معرفة، ولا يجوز نزع الألف واللام منها للتنكير، ولا تتم إلا بصلة. وفي تثنيتها ثلاث لغات أيضا: اللتان واللتا (بحذف النون) واللتان (بتشديد النون) وفي جمعها خمس لغات: اللاتي، وهي لغة القرآن. واللات (بكسر التاء بلا ياء). واللواتي. واللوات (بلا ياء)، وأنشد أبو عبيدة:
من اللواتي واللتي واللاتي زعمن أن قد كبرت لداتي
واللوا (بإسقاط التاء)، هذا ما حكاه الجوهري وزاد ابن الشجري: اللائي (بالهمز وإثبات الياء). واللاء (بكسر الهمزة وحذف الياء). واللا (بحذف الهمزة) فإن جمعت الجمع قلت في اللاتي: اللواتي وفي اللائي: اللوائي. قال الجوهري: وتصغير التي اللتيا (بالفتح والتشديد)، قال الراجز: بعد اللتيا واللتيا والتي إذا علتها أنفس تردت
وبعض الشعراء أدخل على "التي" حرف النداء، وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الألف واللام إلا في قولنا: يا الله، وحده. فكأنه شبهها به من حيث كانت الألف واللام غير مفارقتين لها، وقال:
من أجلك يا التي تيمت قلبي وأنت بخيلة بالود عني
ويقال: وقع فلان في اللتيا والتي، وهما اسمان من أسماء الداهية. والوقود (بالفتح): الحطب. وبالضم: التوقد. و"الناس" عموم، ومعناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء أنه يكون حطبا لها، أجارنا الله منها. "والحجارة" هي حجارة الكبريت الأسود - عن ابن مسعود والفراء - وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب: سرعة الاتقاد، نتن الرائحة، كثرة الدخان، شدة الالتصاق بالأبدان، قوة حرها إذا حميت. وليس في قوله تعالى: "وقودها الناس والحجارة" دليل على أن ليس فيها غير الناس والحجارة، بدليل ما ذكره في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها. وقيل: المراد بالحجارة الأصنام، لقوله تعالى: "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" [الأنبياء: 98] أي حطب جهنم. وعليه فتكون الحجارة والناس وقودا للنار وذكر ذلك تعظيما للنار أنها تحرق الحجارة مع إحراقها للناس. وعلى التأويل الأول يكونون معذبين بالنار والحجارة. وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مؤذ في النار). وفي تأويله وجهان: أحدهما - أن كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار. الثاني - أن كل ما يؤذي الناس في الدنيا من السباع والهوام وغيرها في النار معد لعقوبة أهل النار. وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة. والله أعلم.
روى مسلم عن العباس بن عبدالمطلب قال قلت: يا رسول الله، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل نفعه ذلك؟ قال: (نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح - في رواية - ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار). "وقودها" مبتدأ. "الناس" خبره. "والحجارة" عطف عليهم. وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف: "وُقودها" (بضم الواو). وقرأ عبيد بن عمير: "وقيدها الناس". قال الكسائي والأخفش: الوقود (بفتح الواو): الحطب، و(بالضم): الفعل، يقال: وقدت النار تقد وقودا (بالضم) ووَقَدا وقِدة ووقيدا ووقْدا ووقدانا، أي توقدت. وأوقدتها أنا واستوقدتها أيضا. والاتقاد مثل التوقد، والموضع موقد، مثل مجلس، والنار موْقَدة. والوقدة: شدة الحر، وهي عشرة أيام أو نصف شهر. قال النحاس: يجب على هذا ألا يقرأ إلا "وقودها" بفتح الواو لأن المعنى حطبها، إلا أن الأخفش قال: وحكي أن بعض العرب يجعل الوَقود والوُقود بمعنى الحطب والمصدر. قال النحاس: وذهب إلى أن الأول أكثر، قال: كما أن الوضوء الماء، والوضوء المصدر.
قوله تعالى: "أعدت للكافرين" ظاهره أن غير الكافرين لا يدخلها وليس كذلك، بدليل ما ذكره في غير موضع من الوعيد للمذنبين وبالأحاديث الثابتة في الشفاعة، على ما يأتي. وفيه دليل على ما يقوله أهل الحق من أن النار موجودة مخلوقة، خلافا للمبتدعة في قولهم إنها لم تخلق حتى الآن. وهو القول الذي سقط فيه القاضي منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي. روى مسلم عن عبدالله بن مسعود قال كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تدرون ما هذا) قال قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: (هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها). وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتجت النار والجنة فقالت هذه يدخلني الجبارون والمتكبرون وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله عز وجل لهذه: أنت عذابي أعذب به من أشاء وقال لهذه: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها). وأخرجه مسلم بمعناه. يقال: احتجت بمعنى تحتج، للحديث المتقدم حديث ابن مسعود، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أريهما في صلاة الكسوف، ورآهما أيضا في إسرائه ودخل الجنة، فلا معنى لما خالف ذلك. وبالله التوفيق. و"أعدت" يجوز أن يكون حالا للنار على معنى معدة، وأضمرت معه قد، كما قال: "أو جاؤوكم حصرت صدورهم" [النساء: 90] فمعناه قد حصرت صدورهم، فمع "حصرت" قد مضمرة لأن الماضي لا يكون حالا إلا مع قد، فعلى هذا لا يتم الوقف على "الحجارة". ويجوز أن يكون كلاما منقطعا عما قبله، كما قال: "وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم" [فصلت: 23]. وقال السجستاني: "أعدت للكافرين" من صلة "التي" كما قال في آل عمران: "واتقوا النار التي أعدت للكافرين" [آل عمران: 131]. ابن الأنباري: وهذا غلط، لأن التي في سوره البقرة قد وصلت بقوله: "وقودها الناس" فلا يجوز أن توصل بصلة ثانية، وفي آل عمران ليس لها صله غير "أعدت".