تفسير الطبري تفسير الصفحة 3 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 3
004
002
 الآية : 6
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }
اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى بهذه الآية, وفـيـمن نزلت, فكان ابن عبـاس يقول, كما:
132ـ حدثنا به مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا أي بـما أنزل إلـيك من ربك, وإن قالوا إنا قد آمنا بـما قد جاءنا من قبلك. وكان ابن عبـاس يرى أن هذه الآية, نزلت فـي الـيهود الذين كانوا بنواحي الـمدينة علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم توبـيخا لهم فـي جحودهم نبوّة مـحمد صلى الله عليه وسلم, وتكذيبهم به, مع علـمهم به ومعرفتهم بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـيهم وإلـى الناس كافة.
وهذه الآية من أوضح الأدلة علـى فساد قول الـمنكرين تكلـيف ما لا يطاق إلا بـمعونة الله لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه ختـم علـى قلوب صنف من كفـار عبـاده وأسماعهم, ثم لـم يسقط التكلـيف عنهم ولـم يضع عن أحد منهم فرائضه ولـم يعذره فـي شيء مـما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الـختـم والطبع علـى قلبه وسمعه, بل أخبر أن لـجميعهم منه عذابـا عظيـما علـى تركهم طاعته فـيـما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه مع حتـمه القضاء مع ذلك بأنهم لا يؤمنون.
الآية : 7
القول فـي تأويـل جل ثناؤه:{خَتَمَ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِهمْ وَعَلَىَ سَمْعِهِمْ وَعَلَىَ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }.
وقوله: وَعلـى أبْصَارِهمْ غشِاوَة خبر مبتدأ بعد تـمام الـخبر عما ختـم الله جل ثناؤه علـيه من جوارح الكفـار الذين مضت قصصهم, وذلك أن غِشاوَة مرفوعة بقوله: وَعلـى أبْصَارِهمْ فذلك دلـيـل علـى أنه خبر مبتدأ, وأن قوله: خَتـمَ اللّهُ علـى قُلُوبِهمْ قد تناهى عند قوله: وَعلـى سَمْعِهمْ. وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لـمعنـيـين, أحدهما: اتفـاق الـحجة من القراء والعلـماء علـى الشهادة بتصحيحها, وانفراد الـمخالف لهم فـي ذلك وشذوذه عما هم علـى تـخطئته مـجمعون وكفـى بإجماع الـحجة علـى تـخطئة قراءته شاهدا علـى خطئها. والثانـي: أن الـختـم غير موصوفة به العيون فـي شيء من كتاب الله, ولا فـي خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا موجود فـي لغة أحد من العرب. وقد قال تبـارك وتعالـى فـي سورة أخرى: وَختَـمَ علـى سَمْعهِ وَقَلْبِهِ ثم قال: وَجَعَلَ علـى بَصَرِه غِشاوَة فلـم يدخـل البصر فـي معنى الـختـم, وذلك هو الـمعروف فـي كلام العرب. فلـم يجز لنا ولا لأحد من الناس القراءة بنصب الغشاوة لـما وصفت من العلتـين اللتـين ذكرت, وإن كان لنصبها مخرج معروف فـي العربـية. وبـما قلنا فـي ذلك من القول والتأويـل, رُوى الـحَبر عن ابن عبـاس.
133ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي الـحسين بن الـحسن, عن أبـيه, عن جده, عن ابن عبـاس: ختـم الله علـى قلوبهم وعلـى سمعهم والغشاوة علـى أبصارهم.
فإن قال قائل: وما وجه مخرج النصب فـيها؟ قـيـل له: إن نصبها بإضمار «جعل» كأنه قال: وجعل علـى أبصارهم غشاوة ثم أسقط «جعل» إذ كان فـي أول الكلام ما يدل علـيه. وقد يحتـمل نصبها علـى إتبـاعها موضع السمع إذ كان موضعه نصبـا, وإن لـم يكن حسنا إعادة العامل فـيه علـى «غشاوة» ولكن علـى إتبـاع الكلام بعضه بعضا, كما قال تعالـى ذكره: يَطُوفُ عَلَـيْهمْ وُلْدَان مُخَـلّدُونَ بأكْوَابٍ وأبـارِيقَ ثم قال: وَفَـاكهَة مِـمّا يَتَـخَيّرُونَ وَلَـحْمِ طَيْرٍ مِـمّا يَشْتَهُونَ وحُورٍ عينٍ فخفض اللـحم والـحور علـى العطف به علـى الفـاكهة إتبـاعا لاَخر الكلام أوله. ومعلوم أن اللـحم لا يطاف به ولا بـالـحور, ولكن ذلك كما قال الشاعر يصف فرسه:
عَلَفْتُها تِبْنا وَماءً بـارِداحَتّـى شَتَتْ هَمّالَةً عَيْناها
ومعلوم أن الـماء يشرب ولا يعلف به, ولكنه نصب ذلك علـى ما وصفت قبل. وكما قال الاَخر:
وَرَأيْتُ زَوْجَكِ فـي الوَغَىمُتَقَلّدَا سَيْفـا وَرُمْـحَا
وكان ابن جريج يقول فـي انتهاء الـخبر عن الـختـم إلـى قوله: وَعلـى سَمْعِهِمْ وابتداء الـخبر بعده بـمثل الذي قلنا فـيه, ويتأول فـيه من كتاب الله: فإنْ يَشأ اللّهُ يَخْتِـم علـى قَلْبِكَ.
134ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: حدثنا ابن جريج, قال: الـختـم علـى القلب والسمع, والغشاوة علـى البصر, قال الله تعالـى ذكره: فإنْ يَشأ اللّهُ يَخْتِـمْ علـى قَلْبِكَ وقال: وخَتـمَ علـى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ علـى بَصَرِهِ غِشاوَةً والغشاوة فـي كلام العرب: الغطاء, ومنه قول الـحارث بن خالد بن العاص:
تَبِعْتُكَ إذْ عَيْنِـي عَلَـيْها غِشاوَةٌفَلـمّا انْـجَلَتْ قَطّعْتُ نَفْسِي ألُومُها
ومنه يقال: تغشاه الهم: إذا تـجلّله وركبه. ومنه قول نابغة بنـي ذبـيان:
هَلا سألْتِ بَنِـي ذُبْـيانَ ما حَسَبـيإذَا الدّخانُ تَغَشّى الأشمَطَ البَرِمَا
يعنـي بذلك: إذا تـجلله وخالطه.
وإنـما أخبر الله تعالـى ذكره نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم عن الذين كفروا به من أحبـار الـيهود, أنه قد ختـم علـى قلوبهم وطبع علـيها فلا يعقلون لله تبـارك وتعالـى موعظة وعظهم بها فـيـما آتاهم من علـم ما عندهم من كتبه, وفـيـما حدّد فـي كتابه الذي أوحاه وأنزله إلـى نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم, وعلـى سمعهم فلا يسمعون من مـحمد صلى الله عليه وسلم نبـيّ الله تـحذيرا ولا تذكيرا ولا حجة أقامها علـيهم بنبوّته, فـيتذكروا ويحذروا عقاب الله عز وجل فـي تكذيبهم إياه, مع علـمهم بصدقه وصحة أمره وأعلـمه مع ذلك أن علـى أبصارهم غشاوة عن أن يبصروا سبـيـل الهدى فـيعلـموا قبح ما هم علـيه من الضلالة والردي.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك رُوي الـخبر عن جماعة من أهل التأويـل.
135ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: خَتـمَ اللّهُ علـى قُلُوبِهِمْ وَعلـى سَمْعهِمْ وَعلـى أبْصَارِهِمْ غِشاوَة أي عن الهدى أن يصيبوه أبدا بغير ما كذبوك به من الـحقّ الذي جاءك من ربك, حتـى يؤمنوا به, وإن آمنوا بكل ما كان قبلك.
136ـ حدثنـي موسى بن هارون الهمدانـي, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح عن ابن عبـاس, وعن مرة الهمدانـي, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خَتَـم اللّهُ علـى قُلُوبِهِمْ وَعلـى سَمْعِهِمْ يقول فلا يعقلون, ولا يسمعون. ويقول: وجعل علـى أبصارهم غشاوة, يقول: علـى أعينهم فلا يبصرون.
وأما آخرون فإنهم كانوا يتأوّلون أن الذين أخبر الله عنهم من الكفـار أنه فعل ذلك بهم هم قادة الأحزاب الذين قتلوا يوم بدر.
137ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس, قال: هاتان الاَيتان إلـي: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ هم: الّذِينَ بَدّلُوا نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرا وأحَلّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَار وهم الذين قتلوا يوم بدر فلـم يدخـل من القادة أحد فـي الإسلام إلا رجلان: أبو سفـيان بن حرب, والـحكم بن أبـي العاص.
138ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس, عن الـحسن, قال: أما القادة فلـيس فـيهم مـجيب, ولا ناج, ولا مهتد, وقد دللنا فـيـما مضى علـى أولـى هذين التأويـلـين بـالصواب كرهنا إعادته.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ.
وتأويـل ذلك عندي كما قاله ابن عبـاس وتأوّله.
139ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: ولهم بـما هم علـيه من خلافك عذاب عظيـم, قال: فهذا فـي الأحبـار من يهود فـيـما كذّبوك به من الـحق الذي جاءك من ربك بعد معرفتهم.
الآية : 8
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }
قال أبو جعفر: أما قوله: وَمِنَ النّاسِ فإن فـي الناس وجهين: أحدهما أن يكون جمعا لا واحد له من لفظه, وإنـما واحده إنسان وواحدته إنسانة. والوجه الاَخر: أن يكون أصله «أُناس» أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها, ثم دخـلتها الألف واللام الـمعرّفتان, فأدغمت اللام التـي دخـلت مع الألف فـيها للتعريف فـي النون, كما قـيـل فـي: لكنّ هُوَ اللّهُ رَبـي علـى ما قد بـينا فـي اسم الله الذي هو الله.
وقد زعم بعضهم أن الناس لغة غير أناس, وأنه سمع العرب تصغره نُوَيْس من الناس, وأن الأصل لو كان أناس لقـيـل فـي التصغير: أُنَـيْس, فردّ إلـى أصله.
وأجمع جميع أهل التأويـل علـى أن هذه الآية نزلت فـي قوم من أهل النفـاق, وأن هذه الصفة صفتهم. ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويـل بأسمائهم:
140ـ حدثنا مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّهِ وَبـالْـيَوْمِ الاَخرِ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنـينَ يعنـي الـمنافقـين من الأوس والـخزرج, ومن كان علـى أمرهم. وقد سُمّي فـي حديث ابن عبـاس هذا أسماؤهم عن أبـيّ بن كعب, غير أنـي تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم.
141ـ حدثنا الـحسين بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزاق, قال: أنبأنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّهِ وَبـالْـيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُم بِـمُؤْمِنِـينَ حتـى بلغ: فَمَا رَبِحَتْ تِـجارَتُهُمْ وَما كَانُوا مُهْتَدِينَ قال: هذه فـي الـمنافقـين.
142ـ حدثنا مـحمد بن عمرو البـاهلـي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميـمون, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: هذه الآية إلـى ثلاث عشرة فـي نعت الـمنافقـين.
حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله.
حدثنا سفـيان, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن رجل, عن مـجاهد مثله.
143ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط عن إسماعيـل السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرّة, وعن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: وَمِنَ الناسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّهِ وَبـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُمْ بِـمؤْمِنِـينَ هم الـمنافقون.
144ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس فـي قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّهِ وَبـالْـيَوْمِ الاَخِرِ إلـى: فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرضا وَلَهُمُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ قال: هؤلاء أهل النفـاق.
145ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين بن داود, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج فـي قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّهِ وَبـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ قال: هذا الـمنافق يخالف قولُه فعلَه وسرّه علانـيَته ومدخـلُه مخرجَه ومشهدُه مغيَبه.
وتأويـل ذلك أن الله جل ثناؤه لـمّا جمع لرسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم أمره فـي دار هجرته واستقر بها قرارُه وأظهر الله بها كلـمته, وفشا فـي دور أهلها الإسلام, وقهر بها الـمسلـمون من فـيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان, وذلّ بها من فـيها من أهل الكتاب أظهر أحبـار يهودها لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضغائن وأبدوا له العداوة والشنآن حسدا وبغيا إلا نفرا منهم, هداهم الله للإسلام فأسلـموا, كما قال الله جل ثناؤه: وَدّ كَثِـيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَردّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيـمانِكُمْ كُفّـارا حَسَدا منْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَـيّنَ لَهُمْ الـحَقّ وطابقهم سرّا علـى معاداة النبـي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبغيهم الغوائل قومٌ من أراهط الأنصار الذي آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه وكانوا قد عتوا فـي شركهم وجاهلـيتهم قد سُمّوا لنا بأسمائهم, كرهنا تطويـل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم. وظاهروهم علـى ذلك فـي خفـاء غير جهار حذار القتل علـى أنفسهم والسبـاء من رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأصحابه, وركونا إلـى الـيهود, لـما هم علـيه من الشرك وسوء البصيرة بـالإسلام. فكانوا إذا لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيـمان به من أصحابه, قالوا لهم حذارا علـى أنفسهم: إنا مؤمنون بـالله وبرسوله وبـالبعث, وأعطوهم بألسنتهم كلـمة الـحق لـيدرءوا عن أنفسهم حكم الله فـيـمن اعتقد ما هم علـيه مقـيـمون من الشرك لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم, وإذا لقوا إخوانهم من الـيهود وأهل الشرك والتكذيب بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به فخـلوا بهم, قالوا: إنّا مَعَكُمْ إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءونَ فإياهم عنى جل ذكره بقوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّهِ وَبـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ يعنـي بقوله تعالـى خبرا عنهم «آمّنا بـالله»: صدقنا بـالله. وقد دللنا علـى أن معنى التصديق فـيـما مضى قبل من كتابنا هذا. وقوله: وَبـالـيَوْمِ الاَخرِ يعنـي بـالبعث يوم القـيامة. وإنـما سُمِي يوم القـيامة الـيوم الاَخر: لأنه آخر يوم, لا يوم بعده سواه.
وهذه الآية من أوضح الأدلة علـى فساد قول الـمنكرين تكلـيف ما لا يطاق إلا بـمعونة الله لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه ختـم علـى قلوب صنف من كفـار عبـاده وأسماعهم, ثم لـم يسقط التكلـيف عنهم ولـم يضع عن أحد منهم فرائضه ولـم يعذره فـي شيء مـما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الـختـم والطبع علـى قلبه وسمعه, بل أخبر أن لـجميعهم منه عذابـا عظيـما علـى تركهم طاعته فـيـما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه مع حتـمه القضاء مع ذلك بأنهم لا يؤمنون.
فإن قال قائل: وكيف لا يكون بعده يوم, ولا انقطاع للاَخرة, ولا فناء, ولا زوال؟.
قـيـل: إن الـيوم عند العرب إنـما سمي يوما بلـيـلته التـي قبله, فإذا لـم يتقدم النهار لـيـل لـم يسمّ يوما, فـيوم القـيامة يوم لا لـيـل له بعده سوى اللـيـلة التـي قامت فـي صبـيحتها القـيامة, فذلك الـيوم هو آخر الأيام, ولذلك سماه الله جل ثناؤه: الـيَوْم الاَخر, ونعته بـالعقـيـم, ووصفه بأنه يوم عقـيـم لأنه لا لـيـل بعده.
وأما تأويـل قوله:: وَما هُمْ بِـمُؤْمنـينَ ونفـيه عنهم جل ذكره اسم الإيـمان, وقد أخبر عنهم أنهم قد قالوا بألسنتهم آمنّا بـالله وبـالـيوم الاَخر فإن ذلك من الله جل وعز تكذيب لهم فـيـما أخبروا عن اعتقادهم من الإيـمان والإقرار بـالبعث, وإعلام منه نبـيه صلى الله عليه وسلم أن الذي يبدونه له بأفواههم خلاف ما فـي ضمائر قلوبهم, وضد ما فـي عزائم نفوسهم. وفـي هذه الآية دلالة واضحة علـى بطول ما زعمته الـجهمية من أن الإيـمان هو التصديق بـالقول دون سائر الـمعانـي غيره. وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم فـي كتابه من أهل النفـاق أنهم بألسنتهم: آمَنّا بـاللّهِ وَبـالْـيَوْمِ الاَخرِ ثم نفـى عنهم أن يكونوا مؤمنـين, إذ كان اعتقادهم غير مصدق قـيـلهم ذلك. وقوله: وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ يعنـي بـمصدقـين فـيـما يزعمون أنهم به مصدقون.
الآية : 9
القول فـي تأويـل قوله تعالـى.
{يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ }
قال أبو جعفر: وخداع الـمنافق ربه والـمؤمنـين إظهاره بلسانه من القول والتصديق خلاف الذي فـي قلبه من الشك والتكذيب لـيدرأ عن نفسه بـما أظهر بلسانه حُكْمَ الله عز وجل اللازمَ من كان بـمثل حاله من التكذيب لو لـم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار من القتل والسبـاء, فذلك خداعه ربه وأهل الإيـمان بـالله.
فإن قال قائل: وكيف يكون الـمنافق لله وللـمؤمنـين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقـية؟ قـيـل: لا تـمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي هو فـي ضميره تقـية لـينـجو مـما هو له خائف, فنـجا بذلك مـما خافه مخادعا لـمن تـخـلص منه بـالذي أظهر له من التقـية, فكذلك الـمنافق سمي مخادعا لله وللـمؤمنـين بـاظهاره ما أظهر بلسانه تقـية مـما تـخـلص به من القتل والسبـاء والعذاب العاجل, وهو لغير ما أظهر مستبطن, وذلك من فعله وإن كان خداعا للـمؤمنـين فـي عاجل الدنـيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنـيتها ويسقـيها كأس سرورها, وهو موردها به حياض عطبها, ومـجرّعها به كأس عذابها, ومذيقها من غضب الله وألـيـم عقابه ما لا قبل لها به. فذلك خديعته نفسه ظنّا منه مع إساءته إلـيها فـي أمر معادها أنه إلـيها مـحسن, كما قال جل ثناؤه: وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَشْعَرُونَ إعلاما منه عبـاده الـمؤمنـين أن الـمنافقـين بإساءتهم إلـى أنفسهم فـي إسخاطهم ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين, ولكنهم علـى عمياء من أمرهم مقـيـمون.
وبنـحو ما قلنا فـي تأويـل ذلك كان ابن زيد يقول.
146ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب قال: سألت عبد الرحمن بن زيد, عن قول الله جل ذكره: يُخادعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا إلـى آخر الآية, قال: هؤلاء الـمنافقون يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا, أنهم مؤمنون بـما أظهروا.
وهذه الآية من أوضح الدلـيـل علـى تكذيب الله جل ثناؤه قول الزاعمين: إن الله لا يعذب من عبـاده إلا من كفر به عنادا, بعد علـمه بوحدانـيته, وبعد تقرّر صحة ما عاند ربه تبـارك وتعالـى علـيه من توحيده والإقرار بكتبه ورسله عنده لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عن الذين وصفهم بـما وصفهم به من النفـاق وخداعهم إياه والـمؤمنـين أنهم لا يشعرون أنهم مبطلون فـيـما هم علـيه من البـاطل مقـيـمون, وأنهم بخداعهم الذي يحسبون أنهم به يخادعون ربهم وأهل الإيـمان به مخدوعون. ثم أخبر تعالـى ذكره أن لهم عذابـا ألـيـما بتكذيبهم بـما كانوا يكذبونه من نبوّة نبـيه واعتقاد الكفر به, وبـما كانوا يكذبون فـي زعمهم أنهم مؤمنون, وهم علـى الكفر مصرّون.
فإن قال لنا قائل: قد علـمت أن الـمفـاعلة لا تكون إلا من فـاعلـين, كقولك: ضاربت أخاك, وجالست أبـاك إذا كان كل واحد مـجالس صاحبه ومضاربه. فأما إذا كان الفعل من أحدهما فإنـما يقال: ضربت أخاك وجلست إلـى أبـيك, فمن خادع الـمنافق فجاز أن يقال فـيه: خادع الله والـمؤمنـين. قـيـل: قد قال بعض الـمنسوبـين إلـى العلـم بلغات العرب: إن ذلك حرف جاء بهذه الصورة, أعنـي «يُخادع» بصورة «يُفـاعل» وهو بـمعنى «يَفْعل» فـي حروف أمثالها شاذّة من منطق العرب, نظير قولهم: قاتلك الله, بـمعنى قتلك الله.
ولـيس القول فـي ذلك عندي كالذي قال, بل ذلك من التفـاعل الذي لا يكون إلا من اثنـين كسائر ما يعرف من معنى «يُفـاعل ومُفـاعل» فـي كل كلام العرب, وذلك أن الـمنافق يخادع الله جل ثناؤه بكذبه بلسانه علـى ما قد تقدم وصفه, والله تبـارك اسمه خادعه بخذلانه عن حسن البصيرة بـما فـيه نـجاة نفسه فـي آجل معاده, كالذي أخبر فـي قوله: {وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّـمَا نُـمْلـي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنّـمَا نُـمْلِـي لَهُمْ لِـيَزْدادُوا إثْم} وبـالـمعنى الذي أخبر أنه فـاعل به فـي الاَخرة بقوله: {يَوْمَ يَقُولُ الـمُنافِقُونَ وَالـمُنافِقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} الآية, فذلك نظير سائر ما يأتـي من معانـي الكلام بـيفـاعل ومفـاعل. وقد كان بعض أهل النـحو من أهل البصرة يقول: لا تكون الـمفـاعلة إلا من شيئين, ولكنه إنـما قـيـل: يخادعون الله عند أنفسهم بظنهم أن لا يعاقبوا, فقد علـموا خلاف ذلك فـي أنفسهم بحجة الله تبـارك اسمه الواقعة علـى خـلقه بـمعرفته وما يخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ. قال: وقد قال بعضهم: وما يخدعون يقول: يخدعون أنفسهم بـالتـخـلـية بها. وقد تكون الـمفـاعلة من واحد فـي أشياء كثـيرة. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ.
إن قال لنا قائل: أولـيس الـمنافقون قد خدعوا الـمؤمنـين بـما أظهروا بألسنتهم من قـيـل الـحقّ عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم حتـى سلـمت لهم دنـياهم وإن كانوا قد كانوا مخدوعين فـي أمر آخرتهم؟ قـيـل: خطأ أن يقال إنهم خدعوا الـمؤمنـين لأنا إذا قلنا ذلك أوجبنا لهم حقـيقة خدعة جازت لهم علـى الـمؤمنـين, كما أنا لو قلنا: قتل فلان فلانا, أوجبنا له حقـيقة قتل كان منه لفلان. ولكنا نقول: خادع الـمنافقون ربهم والـمؤمنـين, ولـم يخدعوهم بل خدعوا أنفسهم, كما قال جل ثناؤه, دون غيرها, نظير ما تقول فـي رجل قاتل آخر فقتل نفسه ولـم يقتل صاحبه: قاتل فلان فلانا ولـم يقتل إلا نفسه, فتوجب له مقاتلة صاحبه, وتنفـي عنه قتله صاحبه, وتوجب له قتل نفسه. فكذلك تقول: خادع الـمنافق ربه والـمؤمنـين, ولـم يخدع إلا نفسه, فتثبت منه مخادعة ربه والـمؤمنـين, وتنفـي عنه أن يكون خدع غير نفسه لأن الـخادع هو الذي قد صحت له الـخديعة ووقع منه فعلها. فـالـمنافقون لـم يخدعوا غير أنفسهم, لأن ما كان لهم من مال وأهل فلـم يكن الـمسلـمون ملكوه علـيهم فـي حال خداعهم إياه عنه بنفـاقهم ولا قبلها فـيستنقذوه بخداعهم منهم, وإنـما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غير الذي فـي ضمائرهم, ويحكم الله لهم فـي أموالهم وأنفسهم وذراريهم فـي ظاهر أمورهم بحكم ما انتسبوا إلـيه من الـملة, والله بـما يخفون من أمورهم عالـم. وإنـما الـخادع من خَتَلَ غيره عن شيئه, والـمخدوع غير عالـم بـموضع خديعة خادعه. فأما والـمخادَع عارف بخداع صاحبه إياه, وغير لاحقه من خداعه إياه مكروه, بل إنـما يتـجافـى للظان به أنه له مخادع استدراجا لـيبلغ غاية يتكامل له علـيه الـحجة للعقوبة التـي هو بها موقع عند بلوغه إياها. والـمستدرج غير عالـم بحال نفسه عند مستدرجه, ولا عارف بـاطلاعه علـى ضميره, وأن إمهال مستدرجيه إياه تركه معاقبته علـى جرمه لـيبلغ الـمخاتل الـمخادع من استـحقاقه عقوبة مستدرجه بكثرة إساءته وطول عصيانه إياه وكثرة صفح الـمستدرج وطول عفوه عنه أقصى غاية, فإنـما هو خادع نفسه لا شك دون من حدثته نفسه أنه له مخادع. ولذلك نفـى الله جل ثناؤه عن الـمنافق أن يكون خدعه غير نفسه, إذ كانت الصفة التـي وصفنا صفته. وإذ كان الأمر علـى ما وصفنا من خداع الـمنافق ربه وأهل الإيـمان به, وأنه غير سائر بخداعه ذلك إلـى خديعة صحيحة إلا لنفسه دون غيرها لـما يورطها بفعله من الهلاك والعطب, فـالواجب إذا أن يكون الصحيح من القراءة: وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ دون: «وما يخادعون», لأن لفظ الـمخادع غير موجب تثبـيت خديعة علـى صحة, ولفظ خادع موجب تثبـيت خديعة علـى صحة. ولا شك أن الـمنافق قد أوجب خديعة الله عز وجل لنفسه بـما ركب من خداعه ربه ورسوله والـمؤمنـين بنفـاقه, فلذلك وجبت الصحة لقراءة من قرأ: وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ.
ومن الدلالة أيضا علـى أن قراءة من قرأ: وما يَخْدَعُونَ أولـى بـالصحة من قراءة من قرأ: «وما يخادعون» أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يخادعون الله والـمؤمنـين فـي أول الآية, فمـحال أن ينفـي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه, لأن ذلك تضادّ فـي الـمعنى, وذلك غير جائز من الله جل وعز. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَما يَشْعُرُونَ.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَما يَشْعُرُونَ: وَما يدرون, يقال: ما شعر فلان بهذا الأمر, وهو لا يشعر به إذا لـم يدر ولـم يعلـم شعرا وشعورا, كما قال الشاعر:
عَقّوا بِسَهْمٍ ولَـمْ يَشْعُرْ بِهِ أحَدٌثُمّ اسْتَفـاءُوا وَقالُوا حَبّذَا الوَضَحُ
يعنـي بقوله: «لـم يشعر به»: لـم يدر به أحد ولـم يعلـم. فأخبر الله تعالـى ذكره عن الـمنافقـين, أنهم لا يشعرون بأن الله خادعهم بإملائه لهم واستدراجه إياهم الذي هو من الله جل ثناؤه إبلاغ إلـيهم فـي الـحجة والـمعذرة, ومنهم لأنفسهم خديعة, ولها فـي الاَجل مضرّة. كالذي:
147ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سألت ابن زيد عن قوله: وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ قال: ما يشعرون أنهم ضرّوا أنفسهم بـما أسرّوا من الكفر والنفـاق. وقرأ قول الله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعا قال: هم الـمنافقون, حتـى بلغ وَيحْسَبُونَ أنّهُمْ علـى شَيءٍ قد كان الإيـمان ينفعهم عندكم.
الآية : 10
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }
وأصل الـمرض: السقم, ثم يقال ذلك فـي الأجساد والأديان فأخبر الله جل ثناؤه أن فـي قلوب الـمنافقـين مرضا. وإنـما عنى تبـارك وتعالـى بخبره عن مرض قلوبهم الـخبر عن مرض ما فـي قلوبهم من الاعتقاد ولكن لـما كان معلوما بـالـخبر عن مرض القلب أنه معنىّ به مرض ما هم معتقدوه من الاعتقاد استغنى بـالـخبر عن القلب بذلك والكناية عن تصريح الـخبر عن ضمائرهم واعتقاداتهم كما قال عمر بن لـجأ:
وَسَبّحَتِ الـمَدِينَةُ لا تَلُـمْهارأتْ قَمَرا بِسُوقِهِمُ نَهارا
يريد وسبح أهل الـمدينة. فـاستغنى بـمعرفة السامعين خبره بـالـخبر عن الـمدينة عن الـخبر عن أهلها. ومثله قول عنترة العبسيّ:
هَلاّ سألْتِ الـخَيْـلَ يا ابنْةَ مالِكِإنْ كُنْتِ جاهِلَةً بِـمَا لَـمْ تَعْلَـمِي
يريد: هلا سألت أصحاب الـخيـل؟ ومنه قولهم: يا خيـل الله اركبـي, يراد: يا أصحاب خيـل الله اركبوا.
والشواهد علـى ذلك أكثر من أن يحصيها كتاب, وفـيـما ذكرنا كفـاية لـمن وفق لفهمه. فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه: فـي قُلُوبِهمْ مَرَضٌ إنـما يعنـي فـي اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه فـي الدين والتصديق بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وبـما جاء به من عند الله مرض وسقم. فـاجتزأ بدلالة الـخبر عن قلوبهم علـى معناه عن تصريح الـخبر عن اعتقادهم. والـمرض الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه فـي اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه هو شكهم فـي أمر مـحمد, وما جاء به من عند الله وتـحيرهم فـيه, فلا هم به موقنون إيقان إيـمان, ولا هم له منكرون إنكار إشراك ولكنهم كما وصفهم الله عز وجل مذبذبون بـين ذلك لا إلـى هؤلاء ولا إلـى هؤلاء, كما يقال: فلان تـمرض فـي هذا الأمر, أي يضعف العزم ولا يصحح الروية فـيه. وبـمثل الذي قلنا فـي تأويـل ذلك تظاهر القول فـي تفسيره من الـمفسرين ذكر من قال ذلك:
148ـ حدثنا مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: فـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شكّ.
149ـ وحدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق عن الضحاك, عن ابن عبـاس, قال: الـمرض: النفـاق.
150ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة الهمدانـي عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يقول: فـي قلوبهم شك.
151ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلَـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال عبد الرحمن بن زيد فـي قوله: فـي قُلُوبِهِمْ مَرَض قال: هذا مرض فـي الدين ولـيس مرضا فـي الأجساد. قال: هم الـمنافقون.
152ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك قراءة عن سعيد عن قتادة فـي قوله: فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال: فـي قلوبهم ريبة وشك فـي أمر الله جل ثناؤه.
153ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس: فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال: هؤلاء أهل النفـاق, والـمرض الذي فـي قلوبهم الشكّ فـي أمر الله تعالـى ذكره.
154ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال عبد الرحمن بن زيد: وَمِنَ النّاس مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِـاللّهِ وَبـالـيَوْمِ الاَخِرِ حتـى بلغ: فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال الـمرض: الشك الذي دخـلهم فـي الإسلام.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا.
قد دللنا آنفـا علـى أن تأويـل الـمرض الذي وصف الله جل ثناؤه أنه فـي قلوب الـمنافقـين: هو الشكّ فـي اعتقادات قلوبهم وأديانهم وما هم علـيه فـي أمر مـحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر نبوّته وما جاء به مقـيـمون.
فـالـمرض الذي أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنه زادهم علـى مرضهم هو نظير ما كان فـي قلوبهم من الشك والـحيرة قبل الزيادة, فزادهم الله بـما أحدث من حدوده وفرائضه التـي لـم يكن فرضها قبل الزيادة التـي زادها الـمنافقـين من الشك والـحيرة إذْ شكوا وارتابوا فـي الذي أحدث لهم من ذلك إلـى الـمرض والشك الذي كان فـي قلوبهم فـي السالف من حدوده وفرائضه التـي كان فرضها قبل ذلك, كما زاد الـمؤمنـين به إلـى إيـمانهم الذي كانوا علـيه قبل ذلك بـالذي أحدث لهم من الفرائض والـحدود إذ آمنوا به, إلـى إيـمانهم بـالسالف من حدوده وفرائضه إيـمانا. كالذي قال جل ثناؤه فـي تنزيـله: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيـمَانا فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيـمَانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمّا الّذِينَ فـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسا إلـى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كافِرُونَ} فـالزيادة التـي زيدها الـمنافقون من الرجاسة إلـى رجاستهم هو ما وصفنا, والزيادة التـي زيدها الـمؤمنون إلـى إيـمانهم هو ما بـينا, وذلك هو التأويـل الـمـجمع علـيه. ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويـل:
155ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت. عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا قال: شكّا.
156ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: أخبرنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرّة الهمدانـي عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا يقول: فزادهم الله ريبة وشكا.
157ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك قراءة عن سعيد عن قتادة: فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا يقول: فزادهم الله ريبة وشكا فـي أمر الله.
158ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قول الله: فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا قال: زادهم رجسا. وقرأ قول الله عزّ وجلّ: {فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيـمَانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمّا الّذِينَ فـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسا إلـى رِجْسِهِمْ} قال: شرّا إلـى شرّهم, وضلالة إلـى ضلالتهم.
159ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا قال زادهم الله شكا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلهُمْ عَذَابٌ ألِـيـمٌ.
قال أبو جعفر: والألـيـم: هو الـموجع, ومعناه: ولهم عذاب مؤلـم, فصرف «مؤلـم» إلـى «ألـيـم», كما يقال: ضرب وجيع بـمعنى موجع, والله بديع السموات والأرض بـمعنى مبدع. ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبـيدي:
أمِنْ رَيْحَانَةَ الدّاعِي السّمِيعُيُؤَرّقُنِـي وأصْحابـي هُجُوعُ
بـمعنى الـمُسْمِع. ومنه قول ذي الرمة:
وَيَرْفَعُ مِنْ صُدُور شَمَرْدلاتٍيَصُدّ وُجُوهَها وَهَجٌ ألِـيـمُ
ويروى «يصك», وإنـما الألـيـم صفة للعذاب, كأنه قال: ولهم عذاب مؤلـم. وهو مأخوذ من الألـم, والألـم: الوجع. كما:
160ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر عن أبـيه عن الربـيع, قال: الألـيـم: الـموجع.
161ـ حدثنا يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك قال: الألـيـم, الـموجع.
162ـ وحدثت عن الـمنـجاب بن الـحارث, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك فـي قوله ألِـيـمٌ قال: هو العذاب الـموجع, وكل شيء فـي القرآن من الألـيـم فهو الـموجع.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: بِـمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ.
اختلفت القراءة فـي قراءة ذلك, فقرأه بعضهم: بِـمَا كانُوا يَكْذِبُونَ مخففة الذال مفتوحة الـياء, وهي قراءة معظم أهل الكوفة. وقرأه آخرون: يُكَذّبُونَ بضم الـياء وتشديد الذال, وهي قراءة معظم أهل الـمدينة والـحجاز والبصرة. وكأن الذين قرءوا ذلك بتشديد الذال وضم الـياء رأوا أن الله جل ثناؤه إنـما أوجب للـمنافقـين العذاب الألـيـم بتكذيبهم نبـيهم مـحمدا صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به, وأن الكذب لولا التكذيب لا يوجب لأحد الـيسير من العذاب, فكيف بـالألـيـم منه؟
ولـيس الأمر فـي ذلك عندي كالذي قالوا وذلك أن الله عزّ وجلّ أنبأ عن الـمنافقـين فـي أول النبأ عنهم فـي هذه السورة بأنهم يكذبون بدعواهم الإيـمان وإظهارهم ذلك بألسنتهم خداعا لله عزّ وجلّ ولرسوله وللـمؤمنـين, فقال: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّهِ وَبِـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُو} بذلك من قـيـلهم مع استسرارهم الشك والريبة, وما يخدعون بصنـيعهم ذلك إلا أنفسهم دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والـمؤمنـين, وما يشعرون بـموضع خديعتهم أنفسهم واستدراج الله عزّ وجل إياهم بإملائه لهم فـي قلوبهم شك أي نفـاق وريبة, والله زائدهم شكّا وريبة بـما كانوا يكذبون الله ورسوله والـمؤمنـين بقولهم بألسنتهم: آمَنّا بـاللّهِ وَبـالـيَوْمِ الاَخِرِ وهم فـي قـيـلهم ذلك كَذَبة لاستسرارهم الشك والـمرض فـي اعتقادات قلوبهم. فـي أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم, فأولـى فـي حكمة الله جل جلاله أن يكون الوعيد منه لهم علـى ما افتتـح به الـخبر عنهم من قبـيح أفعالهم وذميـم أخلاقهم, دون ما لـم يجز له ذكر من أفعالهم إذ كان سائر آيات تنزيـله بذلك نزل. وهو أن يفتتـح ذكر مـحاسن أفعال قوم ثم يختـم ذلك بـالوعيد علـى ما افتتـح به ذكره من أفعالهم, ويفتتـح ذكر مساوىء أفعال آخرين ثم يختـم ذلك بـالوعيد علـى ما ابتدأ به ذكره من أفعالهم. فكذلك الصحيح من القول فـي الاَيات التـي افتتـح فـيها ذكر بعض مساوىء أفعال الـمنافقـين أن يختـم ذلك بـالوعيد علـى ما افتتـح به ذكره من قبـائح أفعالهم, فهذا مع دلالة الآية الأخرى علـى صحة ما قلنا وشهادتها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا, وأن الصواب من التأويـل ما تأوّلنا من أن وعيد الله الـمنافقـين فـي هذه الآية العذاب الألـيـم علـى الكذب الـجامع معنى الشك والتكذيب, وذلك قول الله تبـارك وتعالـى: {إذَا جاءَكَ الـمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إنّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَـمُ إنّكَ لَرَسُولُهُ واللّهُ يَشْهَدُ إنّ الـمُنافِقِـينَ لَكاذِبُونَ اتّـخَذُوا أيـمَانَهُمْ جُنّةً فَصَدوّا عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ إنّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} والآية الأخرى فـي الـمـجادلة: {اتّـخَذوُا أيْـمَانَهُمْ جُنّةً فَصَدوّا عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} فأخبر جلّ ثناؤه أن الـمنافقـين بقـيـلهم ما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم, مع اعتقادهم فـيه ما هفم معتقدون, كاذبون. ثم أخبر تعالـى ذكره أن العذاب الـمهين لهم علـى ذلك من كذبهم. ولو كان الصحيح من القراءة علـى ما قرأه القارئون فـي سورة البقرة: وَلهُمْ عَذَابٌ ألـيِـمٌ بِـمَا كانُوا يُكذَبّوُنَ لكانت القراءة فـي السورة الأخرى: {والله يشهد إن الـمنافقـين لـمكذّبون}, لـيكون الوعيد لهم الذي هو عقـيب ذلك وعيدا علـى التكذيب, لا علـى الكذب.
وفـي إجماع الـمسلـمين علـى أن الصواب من القراءة فـي قوله: وَاللّهُ يَشْهَدُ إنّ الـمُنافَقِـينَ لَكاذِبُونَ بـمعنى الكذب, وأن إيعاد الله تبـارك وتعالـى فـيه الـمنافقـين العذاب الألـيـم علـى ذلك من كذبهم, أوضح الدلالة علـى أن الصحيح من القراءة فـي سورة البقرة: بـما كَانُوا يَكْذِبُون بـمعنى الكذب, وأن الوعيد من الله تعالـى ذكره للـمنافقـين فـيها علـى الكذب حق, لا علـى التكذيب الذي لـم يجز له ذكر نظير الذي فـي سورة الـمنافقـين سواء.
وقد زعم بعض نـحويـي البصرة أن «ما» من قول الله تبـارك اسمه: بِـمَا كانُوا يَكُذِبُون اسم للـمصدر, كما أن أن والفعل اسمان للـمصدر فـي قولك: أحبّ أن تأتـينـي, وأن الـمعنى إنـما هو بكذبهم وتكذيبهم. قال: وأدخـل «كان» لـيخبر أنه كان فـيـما مضى, كما يقال: ما أحسن ما كان عبد الله. فأنت تعجب من عبد الله لا من كونه, وإنـما وقع التعجب فـي اللفظ علـى كونه. وكان بعض نـحويـي الكوفة ينكر ذلك من قوله ويستـخطئه ويقول: إنـما ألغيت «كان» فـي التعجب لأن الفعل قد تقدمها, فكأنه قال: «حسنا كان زيد», «وحسن كان زيد» يبطل «كان», ويعمل مع الأسماء والصفـات التـي بألفـاظ الأسماء إذا جاءت قبل «كان» ووقعت «كان» بـينها وبـين الأسماء.
وأما العلة فـي إبطالها إذا أبطلت فـي هذه الـحال فشبه الصفـات والأسماء بفعل ويفعل اللتـين لا يظهر عمل كان فـيهما, ألا ترى أنك تقول: «يقوم كان زيد», ولا يظهر عمل «كان» فـي «يقوم», وكذلك «قام كان زيد». فلذلك أبطل عملها مع فـاعل تـمثـيلاً بفعل ويفعل, وأعملت مع فـاعل أحيانا لأنه اسم كما تعمل فـي الأسماء. فأما إذا تقدمت «كان» الأسماء والأفعال وكان الاسم والفعل بعدها, فخطأ عنده أن تكون «كان» مبطلة فلذلك أحال قول البصري الذي حكيناه, وتأوّل قوله الله عزّ وجل: بِـمَا كانُوا يَكذْبِوُنَ أنه بـمعنى: الذي يكذبونه.
الآية : 11
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ قَالُوَاْ إِنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل هذه الآية, فروي عن سلـمان الفـارسي أنه كان يقول: لـم يجيءْ هؤلاء بعد.
163ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثام بن علـيّ, قال: حدثنا الأعمش, قال: سمعت الـمنهال بن عمرو يحدّث عن عبـاد بن عبد الله, عن سلـمان, قال: ما جاء هؤلاء بعد, الذين إذَا قـيـلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فـي الأرْضِ قالُوا إنّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ.
حدثنـي أحمد بن عثمان بن حكيـم, قال: حدثنا عبد الرحمن بن شريك, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي الأعمش, عن زيد بن وهب وغيره, عن سلـمان أنه قال فـي هذه الآية: وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فـي الأرْضِ قالُوا إنّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ قال ما جاء هؤلاء بعد. وقال آخرون بـما:
164ـ حدثنـي به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره, عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة الهمدانـي, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فـي الأرْض قالُوا إنّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ هم الـمنافقون. أما لا تفسدوا فـي الأرض فإن الفساد هو الكفر والعمل بـالـمعصية.
165ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فـي الأرْضِ يقول: لا تعصوا فـي الأرض. قال: فكان فسادهم علـى أنفسهم ذلك معصية الله جل ثناؤه, لأن من عصى الله فـي الأرض أو أمر بـمعصيته فقد أفسد فـي الأرض, لأن إصلاح الأرض والسماء بـالطاعة.
وأولـى التأويـلـين بـالآية تأويـل من قال: إن قول الله تبـارك اسمه: وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فـي الأرْضِ قالُوا إنّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ نزلت فـي الـمنافقـين الذين كانوا علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإن كان معنـيا بها كل من كان بـمثل صفتهم من الـمنافقـين بعدهم إلـى يوم القـيامة. وقد يحتـمل قول سلـمان عند تلاوة هذه الآية: «ما جاء هؤلاء بعد» أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصفة علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرا منه عمن جاء منهم بعدهم ولـما يجيء بعد, لا أنه عنى أنه لـم يـمض مـمن هذه صفته أحد.
وإنـما قلنا أولـى التأويـلـين بـالآية ما ذكرنا, لإجماع الـحجة من أهل التأويـل علـى أن ذلك صفة من كان بـين ظهرانـي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الـمنافقـين, وأن هذه الاَيات فـيهم نزلت. والتأويـل الـمـجمع علـيه أولـى بتأويـل القرآن من قول لا دلالة علـى صحته من أصل ولا نظير. والإفساد فـي الأرض: العمل فـيها بـما نهى الله جل ثناؤه عنه, وتضيـيع ما أمر الله بحفظه. فذلك جملة الإفساد, كما قال جل ثناؤه فـي كتابه مخبرا عن قـيـل ملائكته: {قالُوا أَتَـجْعَلَ فِـيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ} يعنون بذلك: أتـجعل فـي الأرض من يعصيك ويخالف أمرك؟ فكذلك صفة أهل النفـاق مفسدون فـي الأرض بـمعصِيتهم فـيها ربهم, وركوبهم فـيها ما نهاهم عن ركوبه, وتضيـيعهم فرائضه وشكهم فـي دين الله الذي لا يقبل من أحد عملاً إلا بـالتصديق به والإيقان بحقّـيته, وكذبهم الـمؤمنـين بدعواهم غير ما هم علـيه مقـيـمون من الشك والريب, وبـمظاهرتهم أهل التكذيب بـالله وكتبه ورسله علـى أولـياء الله إذا وجدوا إلـى ذلك سبـيلاً.
فذلك إفساد الـمنافقـين فـي أرض الله, وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلـحون فـيها. فلـم يسقط الله جل ثناؤه عنهم عقوبته, ولا خفف عنهم ألـيـم ما أعدّ من عقابه لأهل معصيته بحسبـانهم أنهم فـيـما أتوا من معاصي الله مصلـحون, بل أوجب لهم الدرك الأسفل من ناره والألـيـمَ من عذابه والعارَ العاجل بسبّ الله إياهم وشتـمه لهم, فقال تعالـى: أَلاّ إنّهُمْ هُمُ الـمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ وذلك من حكم الله جل ثناؤه فـيهم أدلّ الدلـيـل علـى تكذيبه تعالـى قول القائلـين: إن عقوبـات الله لا يستـحقها إلا الـمعاند ربه فـيـما لزمه من حقوقه وفروضه بعد علـمه وثبوت الـحجة علـيه بـمعرفته بلزوم ذلك إياه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قالُوا إنّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ.
وتأويـل ذلك كالذي قاله ابن عبـاس, الذي:
166ـ حدثنا به مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس قوله: إنّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ أي قالوا: إنـما نريد الإصلاح بـين الفريقـين من الـمؤمنـين وأهل الكتاب. وخالفه فـي ذلك غيره.
167ـ حدثنا القاسم بن الـحسن, قال: حدثنا الـحسين بن داود, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِـي الأرْضِ قال: إذا ركبوا معصية الله, فقـيـل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا, قالوا: إنـما نـحن علـى الهدى مصلـحون.
قال أبو جعفر: وأيّ الأمرين كان منهم فـي ذلك أعنـي فـي دعواهم أنهم مصلـحون فهم لا شكّ أنهم كانوا يحسبون أنهم فـيـما أتوا من ذلك مصلـحون. فسواء بـين الـيهود والـمسلـمين كانت دعواهم الإصلاح أو فـي أديانهم, وفـيـما ركبوا من معصية الله, وكذبهم الـمؤمنـين فـيـما أظهروا لهم من القول وهم لغير ما أظهروا مستبطنون, لأنهم كانوا فـي جميع ذلك من أمرهم عند أنفسهم مـحسنـين, وهم عند الله مسيئون, ولأمر الله مخالفون لأن الله جل ثناؤه قد كان فرض علـيهم عداوة الـيهود وحربهم مع الـمسلـمين, وألزمهم التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به من عند الله كالذي ألزم من ذلك الـمؤمنـين, فكان لقاؤهم الـيهود علـى وجه الولاية منهم لهم, وشكهم فـي نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفـيـما جاء به أنه من عند الله أعظم الفساد, وإن كان ذلك كان عندهم إصلاحا وهدى: فـي أديانهم, أو فـيـما بـين الـمؤمنـين والـيهود, فقال جل ثناؤه فـيهم: ألا إنّهُمُ هُمْ الـمُفْسِدُونَ دون الذين ينهونهم من الـمؤمنـين عن الإفساد فـي الأرض ولكن لا يشعرون.
الآية : 12
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{أَلآ إِنّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـَكِن لاّ يَشْعُرُونَ }
وهذا القول من الله جل ثناؤه تكذيب للـمنافقـين فـي دعواهم إذا أمروا بطاعة الله فـيـما أمرهم الله به, ونُهوا عن معصية الله فـيـما نهاهم الله عنه. قالوا: إنـما نـحن مصلـحون لا مفسدون, ونـحن علـى رشد وهدى فـيـما أنكرتـموه علـينا دونكم لا ضالون. فكذبهم الله عزّ وجلّ فـي ذلك من قـيـلهم, فقال: ألا إنّهُمُ هُمُ الـمُفْسِدُونَ الـمخالفون أمر الله عزّ وجل, الـمتعدّون حدوده الراكبون معصيته, التاركون فروضه وهم لا يشعرون ولا يدرون أنهم كذلك, لا الذين يأمرونهم بـالقسط من الـمؤمنـين وينهونهم عن معاصي الله فـي أرضه من الـمسلـمين.
الآية : 13
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ النّاسُ قَالُوَاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السّفَهَآءُ أَلآ إِنّهُمْ هُمُ السّفَهَآءُ وَلَـَكِن لاّ يَعْلَمُونَ }
قال أبو جعفر: وتأويـل قوله: وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ آمِنُوا كما آمَنَ النّاسُ يعنـي: وإذا قـيـل لهؤلاء الذين وصفهم الله ونعتهم بأنهم يقولون آمَنّا بـاللّهِ وَبِـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ: صَدّقوا بـمـحمد وبـما جاء به من عند الله كما صدّق به الناس. ويعنـي ب«الناس» الـمؤمنـين الذين آمنوا بـمـحمد ونبوّته وما جاء به من عند الله. كما:
168ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمار, عن أبـي روق, عن الضحاك عن ابن عبـاس فـي قوله: وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ آمَنُوا كما آمَنَ النّاسُ يقول: وإذا قـيـل لهم صدّقوا كما صدّق أصحاب مـحمد, قولوا: إنه نبـيّ ورسول, وإن ما أنزل علـيه حق. وصَدّقوا بـالاَخرة, وأنكم مبعوثون من بعد الـموت.
وإنـما أدخـلت الألف واللام فـي «الناس» وهم بعض الناس لا جميعهم لأنهم كانوا معروفـين عند الذين خوطبوا بهذه الآية بأعيانهم. وإنـما معناه: آمنوا كما آمن الناس الذين تعرفونهم من أهل الـيقـين والتصديق بـالله وبـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وما جاء به من عند الله وبـالـيوم الاَخر, فلذلك أدخـلت الألف واللام فـيه كما أدخـلتا فـي قوله: {الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فـاخْشُوهُمْ} لأنه أشير بدخولها إلـى ناس معروفـين عند من خوطب بذلك.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قَالوا أنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السّفَهَاءُ.
قال أبو جعفر: والسفهاء جمع سفـيه, كالعلـماء جمع علـيـم, والـحكماء جمع حكيـم. والسفـيه: الـجاهل الضعيف الرأي, القلـيـل الـمعرفة بـمواضع الـمنافع والـمضارّ ولذلك سمى الله عزّ وجل النساء والصبـيان سفهاء, فقال تعالـى: {وَلا تُؤْتُوا السّفَهَاء أَمْوَالَكُمْ الّتِـي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ} قِـياما فقال عامة أهل التأويـل: هم النساء والصبـيان لضعف آرائهم, وقلة معرفتهم بـمواضع الـمصالـح والـمضارّ التـي تصرف إلـيها الأموال. وإنـما عنى الـمنافقون بقـيـلهم أنؤمن كما آمن السفهاء, إذْ دُعوا إلـى التصديق بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وبـما جاء به من عند الله, والإقرار بـالبعث, فقال لهم: آمنوا كما آمن أصحاب مـحمد وأتبـاعه من الـمؤمنـين الـمصدقـين به أهل الإيـمان والـيقـين والتصديق بـالله وبـما افترض علـيهم علـى لسان رسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم وفـي كتابه وبـالـيوم الاَخر, فقالوا إجابة لقائل ذلك لهم: أنؤمن كما آمن أهل الـجهل ونصدق بـمـحمد صلى الله عليه وسلم كما صدق به هؤلاء الذين لا عقول لهم ولا أفهام كالذي:
169ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة الهمدانـي, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم, قالوا: أنُؤْمِنُ كما آمَنَ السّفَهاءُ يعنون أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم.
170ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه عن الربـيع بن أنس: قالوا أنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السّفَهاءُ يعنون أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم.
171ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أنبأنا ابن وهب, قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلـم فـي قوله: قالُوا أنُؤْمِنُ كمَا آمَنَ السّفَهاءُ قال: هذا قول الـمنافقـين, يريدون أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم.
172ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمار, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: قالوا أنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السّفَهاءُ يقولون: أنقول كما تقول السفهاء؟ يعنون أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم, لـخلافهم لدينهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ألا إنّهُمُ هُمْ السّفَهاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَـمُونَ.
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالـى عن الـمنافقـين الذين تقدم نعته لهم ووصْفُه إياهم بـما وصفهم به من الشك والتكذيب, أنهم هم الـجهال فـي أديانهم, الضعفـاء الاَراء فـي اعتقاداتهم واختـياراتهم التـي اختاروها لأنفسهم من الشك والريب فـي أمر الله وأمر رسوله وأمر نبوّته, وفـيـما جاء به من عند الله, وأمر البعث, لإساءتهم إلـى أنفسهم بـما أتوا من ذلك, وهم يحسبون أنهم إلـيها يحسنون. وذلك هو عين السفه, لأن السفـيه إنـما يفسد من حيث يرى أنه يصلـح ويضيع من حيث يرى أنه يحفظ. فكذلك الـمنافق يعصي ربه من حيث يرى أنه يطيعه, ويكفر به من حيث يرى أنه يؤمن به, ويسيء إلـى نفسه من حيث يحسب أنه يحسن إلـيها, كما وصفهم به ربنا جل ذكره فقال: ألا إنّهُمُ هُمُ الـمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ وقال: ألا إنهم هم السفهاء دون الـمؤمنـين الـمصدّقـين بـالله وبكتابه وبرسوله وثوابه وعقابه, ولكن لا يعلـمون. وكذلك كان ابن عبـاس يتأوّل هذه الآية.
173ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمار, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس يقول الله جل ثناؤه: ألا إنّهُمْ هُمُ السّفَهاءُ يقول الـجهال, ولَكِنْ لا يَعْلَـمُونَ يقول: ولكن لا يعقلون. وأما وجه دخول الألف واللام فـي «السفهاء» فشبـيه بوجه دخولهما فـي «الناس» فـي قوله: وَإذَا قِـيـلَ لَهمْ آمِنُوا كمَا آمَنَ النّاسُ وقد بـينا العلة فـي دخولهما هنالك, والعلة فـي دخولهما فـي السفهاء نظيرتها فـي دخولهما فـي الناس هنالك سواء. والدلالة التـي تدل علـيه هذه الآية من خطأ قول من زعم أن العقوبة من الله لا يستـحقها إلا الـمعاند ربه مع علـمه بصحة ما عانده فـيه نظير دلالة الاَيات الأخر التـي قد تقدّم ذكرنا تأويـلَها فـي قوله: وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ونظائر ذلك.
الآية : 14
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذَا لَقُواْ الّذِينَ آمَنُواْ قَالُوَا آمَنّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىَ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوَاْ إِنّا مَعَكْمْ إِنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ }
قال أبو جعفر: وهذه الآية نظير الآية الأخرى التـي أخبر الله جل ثناؤه فـيها عن الـمنافقـين بخداعهم الله ورسوله والـمؤمنـين, فقال: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّهِ وَبـالـيَوْمِ الاَخِرِ ثم أكذبهم تعالـى ذكره بقوله: وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ وأنهم بقـيـلهم ذلك يخادعون الله والذين آمنوا. وكذلك أخبر عنهم فـي هذه الآية أنهم يقولون للـمؤمنـين الـمصدقـين بـالله وكتابه ورسوله بألسنتهم: آمنا وصدّقنا بـمـحمدٍ وبـما جاء به من عند الله, خداعا عن دمائهم وأموالهم وذراريهم, ودرءا لهم عنها, وأنهم إذا خـلوا إلـى مَرَدَتِهم وأهل العتوّ والشرّ والـخبث منهم ومن سائر أهل الشرك الذين هم علـى مثل الذي هم علـيه من الكفر بـالله وبكتابه ورسوله وهم شياطينهم. وقد دللنا فـيـما مضى من كتابنا علـى أن شياطين كل شيء مردته قالوا لهم: إنّا مَعَكُمْ أي إنا معكم علـى دينكم, وظهراؤكم علـى من خالفكم فـيه, وأولـياؤكم دون أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم, إنـما نـحن مستهزئون بـالله وبكتابه ورسوله وأصحابه. كالذي:
174ـ حدثنا مـحمد بن العلاء: قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال حدثنا بشر بن عمار عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس فـي قوله: وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا قال: كان رجال من الـيهود إذا لقوا أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم أو بعضهم, قالوا: إنا علـى دينكم, وإذا خـلوا إلـى أصحابهم وهم شياطينهم قالُوا إنّا مَعَكُمْ إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: وَإذَا لَقُوا اللّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وإذا خَـلَوْا إلـى شَياطِينِهِمْ قال: إذا خـلوا إلـى شياطينهم من يهود الذين يأمرونهم بـالتكذيب, وخلاف ما جاء به الرسول قالُوا إنّا مَعَكُمْ أي إنا علـى مثل ما أنتـم علـيه إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ.
175ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة الهمدانـي, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطِينِهِمْ أما شياطينهم, فهم رءوسهم فـي الكفر.
176ـ حدثنا بشر بن معاذ العقدي, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قوله: وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطِينِهِمْ أي رؤسائهم وقادتهم فـي الشرّ, قالُوا إنـما نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ.
177ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أنبأنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وَإذَا خَـلَوْا إلـى شياطينِهِمْ قال: الـمشركون.
178ـحدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميـمون, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عز وجل: وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطِينِهِمْ قال: إذا خلا الـمنافقون إلـى أصحابهم من الكفـار.
حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا أبو حذيفة, عن شبل بن عبـاد, عن عبد الله بن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطِينِهِمْ قال أصحابهم: من الـمنافقـين والـمشركين.
179ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج, عن عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس: وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطِينهمْ قال إخوانهم من الـمشركين, قالُوا إنا مَعَكُم إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزُءُونَ.
180ـ حدثنا القاسم بن الـحسن, قال: حدثنا الـحسين بن داود, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج فـي قوله: وَإذَا لَقُوا الذِينَ آمَنوا قالُوا آمَنا قال: إذا أصاب الـمؤمنـين رخاء, قالوا: إنا نـحن معكم إنـما نـحن إخوانكم, وإذا خـلوا إلـى شياطينهم استهزءوا بـالـمؤمنـين.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال مـجاهد: شياطينهم: أصحابهم من الـمنافقـين والـمشركين.
فإن قال لنا قائل: أرأيت قوله: وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطينهم فكيف قـيـل «خـلوا إلـى شياطينهم» ولـم يقل «خـلوا بشياطينهم»؟ فقد علـمت أن الـجاري بـين الناس فـي كلامهم «خـلوت بفلان» أكثر وأفشى من «خـلوت إلـى فلان», ومن قولك: إن القرآن أفصح البـيان قـيـل: قد اختلف فـي ذلك أهل العلـم بلغة العرب, فكان بعض نـحويـي البصرة يقول: يقال خـلوت إلـى فلان, إذا أريد به: خـلوت إلـيه فـي حاجة خاصة لا يحتـمل إذا قـيـل كذلك إلا الـخلاء إلـيه فـي قضاء الـحاجة. فأما إذا قـيـل: خـلوت به احتـمل معنـيـين: أحدهما الـخلاء به فـي الـحاجة, والاَخر: فـي السخرية به, فعلـى هذا القول وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطينهمْ لا شك أفصح منه لو قـيـل: «وإذا خـلوا بشياطينهم» لـما فـي قول القائل: «إذا خـلوا بشياطينهم» من التبـاس الـمعنى علـى سامعيه الذي هو منتف عن قوله: وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطينهمْ فهذا أحد الأقوال. والقول الاَخر أن تُوَجّه معنى قوله: وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطينهم أي إذا خـلوا مع شياطينهم, إذ كانت حروف الصفـات يعاقب بعضها بعضا كما قال الله مخبرا عن عيسى ابن مريـم أنه قال للـحواريـين: مَنْ أنْصَارِي إلـى اللّهِ يريد مع الله, وكما توضع «علـى» فـي موضع «من» و«فـي» و«عن» و«البـاء», كما قال الشاعر:
إذَا رَضِيَتْ عَلـيّ بَنُو قُشَيْرٍلَعَمْرُ اللّهِ أعْجَبَنِـي رِضَاها
بـمعنى «عنّـي».
وأما بعض نـحويـي أهل الكوفة فإنه كان يتأوّل أن ذلك بـمعنى: وَإذَا لَقُوا الذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنا وإذا صرفوا خلاءهم إلـى شياطينهم فـيزعم أن الـجالب «إلـى» الـمعنى الذي دل علـيه الكلام: من انصراف الـمنافقـين عن لقاء الـمؤمنـين إلـى شياطينهم خالـين بهم, لا قوله «خـلوا». وعلـى هذا التأويـل لا يصلـح فـي موضع «إلـى» غيرها لتغير الكلام بدخول غيرها من الـحروف مكانها.
وهذا القول عندي أولـى بـالصواب, لأن لكل حرف من حروف الـمعانـي وجها هو به أولـى من غيره, فلا يصلـح تـحويـل ذلك عنه إلـى غيره إلا بحجة يجب التسلـيـم لها. ول«إلـى» فـي كل موضع دخـلت من الكلام حكم وغير جائز سلبها معانـيها فـي أماكنها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتهْزِءُونَ.
أجمع أهل التأويـل جميعا لا خلاف بـينهم, علـى أن معنى قوله: إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ: إنـما نـحن ساخرون. فمعنى الكلام إذا: وإذا انصرف الـمنافقون خالـين إلـى مردتهم من الـمنافقـين والـمشركين قالوا: إنا معكم عن ما أنتـم علـيه من التكذيب بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وبـما جاء به ومعاداته ومعاداة أتبـاعه, إنـما نـحن ساخرون بأصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم فـي قـيـلنا لهم إذا لقـيناهم آمَنّا بـاللّهِ وبـالـيَوْمِ الاَخِرِ. كما:
181ـ حدثنا مـحمد بن العلاء, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمار, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: قالوا: إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهزِءُونَ ساخرون بأصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم.
182ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ: أي إنـما نـحن نستهزىء بـالقوم ونلعب بهم.
183ـ حدثنا بشر بن معاذ العقدي, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ: إنـما نستهزىء بهؤلاء القوم ونسخر بهم.
184ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج, عن عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ أي نستهزىء بأصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم.
الآية : 15
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
قال أبو جعفر: اختلف فـي صفة استهزاء الله جل جلاله الذي ذكر أنه فـاعله بـالـمنافقـين الذين وصف صفتهم. فقال بعضهم: استهزاؤه بهم كالذي أخبرنا تبـارك اسمه أنه فـاعل بهم يوم القـيامة فـي قوله تعالـى: {يَوْمَ يَقُولُ الـمُنافِقُونَ والـمُنافِقاتُ للّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُم} قـيـل {ارجعُوا وراءكم فـالْتَـمِسُوا نُورا فَضُرِبَ بَـيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بـابٌ بـاطِنُهُ فِـيهِ الرّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ يُنادُونَهُمْ ألَـمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلَـى} الآية, وكالذي أخبرنا أنه فعل بـالكفـار بقوله: {وَلا يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّـمَا نُـمْلِـي لَهُمْ خَيْرٌ لأِنْفُسِسِهمْ إنّـمَا نُـمْلِـي لَهُمْ لِـيَزْدَادُوا إثم}. فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جل وعز وسخريته ومكره وخديعته للـمنافقـين وأهل الشرك به, عند قائلـي هذا القول ومتأوّلـي هذا التأويـل. وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم: توبـيخه إياهم ولومه لهم علـى ما ركبوا من معاصي الله والكفر به, كما يقال: إن فلانا لـيهزأ منه الـيوم ويسخر منه يراد به توبـيخ الناس إياه ولومهم له, أو إهلاكه إياهم وتدميره بهم, كما قال عَبِـيد بن الأبرص:
سائِلْ بِنا حُجْرَ ابْنَ أُمّ قَطامِ إذْظَلّتْ بهِ السّمْرُ النّوَاهلُ تَلْعَبُ
فزعموا أن السمر وهي القنا لا لعب منها, ولكنها لـما قتلتهم وشردتهم جعل ذلك من فعلها لعبـا بـمن فعلت ذلك به قالوا: فكذلك استهزاء الله جل ثناؤه بـمن استهزأ به من أهل النفـاق والكفر به, إما إهلاكه إياهم وتدميره بهم, وإما إملاؤه لهم لـيأخذهم فـي حال أمنهم عند أنفسهم بغتة, أو توبـيخه لهم ولأئمته إياهم. قالوا: وكذلك معنى الـمكر منه والـخديعة والسخرية.
وقال آخرون: قوله: {يُخادِعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ} علـى الـجواب, كقول الرجل لـمن كان يخدعه إذا ظفر به: أنا الذي خدعتك ولـم تكن منه خديعة, ولكن قال ذلك إذْ صار الأمر إلـيه. قالوا: وكذلك قوله: {ومَكَرُوا ومَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الـمَاكِرِينَ} والله يستهزىء بهم علـى الـجواب, والله لا يكون منه الـمكر ولا الهزء. والـمعنى: أن الـمكر والهزء حاق بهم.
وقال آخرون: قوله: {إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} وقوله: {يُخادِعُونَ اللّهَ وهُوَ خادِعُهُمْ} وقوله: {فَـيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَنَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ} أشبه ذلك, إخبـار من الله أنه مـجازيهم جزاء الاستهزاء, ومعاقبهم عقوبة الـخداع. فأخرج خبره عن جزائه وما إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي علـيه استـحقوا العقاب فـي اللفظ وإن اختلف الـمعنـيان, كما قال جل ثناؤه: وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِثْلُها ومعلوم أن الأولـى من صاحبها سيئة إذ كانت منه لله تبـارك وتعالـى معصية, وأن الأخرى عدل لأنها من الله جزاء للعاصي علـى الـمعصية. فهما وإن اتفق لفظاهما مختلفـا الـمعنى. وكذلك قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَـيْكُمْ فَـاعْتَدوا عَلَـيْهِ}. فـالعدوان الأول ظلـم, والثانـي جزاء لا ظلـم, بل هو عدل لأنه عقوبة للظالـم علـى ظلـمه وإن وافق لفظه لفظ الأول. وإلـى هذا الـمعنى وجهوا كل ما فـي القرآن من نظائر ذلك مـما هو خبر عن مكر الله جلّ وعزّ بقوم, وما أشبه ذلك.
وقال آخرون: إن معنى ذلك أن الله جل وعز أخبر عن الـمنافقـين أنهم إذا خـلوا إلـى مردتهم قالوا: إنا معكم علـى دينكم فـي تكذيب مـحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به, وإنـما نـحن بـما نظهر لهم من قولنا لهم صدّقنا بـمـحمد علـيه الصلاة والسلام وما جاء به مستهزءون. يعنون: إنّا نظهر لهم ما هو عندنا بـاطل لا حقّ ولا هُدًى. قالوا: وذلك هو معنى من معانـي الاستهزاء. فأخبر الله أنه يستهزىء بهم فـيظهر لهم من أحكامه فـي الدنـيا خلاف الذي لهم عنده فـي الاَخرة, كما أظهروا للنبـي صلى الله عليه وسلم والـمؤمنـين فـي الدين ما هم علـى خلافه فـي سرائرهم.
والصواب فـي ذلك من القول والتأويـل عندنا, أن معنى الاستهزاء فـي كلام العرب: إظهار الـمستهزىء للـمستهزإ به من القول والفعل ما يرضيه ويوافقه ظاهرا, وهو بذلك من قـيـله وفعله به مورثه مساءة بـاطنا, وكذلك معنى الـخداع والسخرية والـمكر. وإذا كان ذلك كذلك, وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفـاق فـي الدنـيا من الأحكام بـما أظهروا بألسنتهم من الإقرار بـالله وبرسوله وبـما جاء به من عند الله الـمُدْخِـل لهم فـي عداد من يشمله اسم الإسلام وإن كانوا لغير ذلك مستبطنـين من أحكام الـمسلـمين الـمصدقـين إقرارهم بألسنتهم بذلك بضمائر قلوبهم وصحائح عزائمهم وحميد أفعالهم الـمـحققة لهم صحة إيـمانهم, مع علـم الله عز وجل بكذبهم, واطلاعه علـى خبث اعتقادهم وشكهم فـيـما ادعوا بألسنتهم أنهم مصدقون حتـى ظنوا فـي الاَخرة إذ حشروا فـي عداد من كانوا فـي عدادهم فـي الدنـيا أنهم واردون موردهم وداخـلون مدخـلهم, الله جلّ جلاله مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام الـملـحقهم فـي عاجل الدنـيا وآجل الاَخرة إلـى حال تـميـيزه بـينهم وبـين أولـيائه وتفريقه بـينهم وبـينهم معدّ لهم من ألـيـم عقابه ونكال عذابه ما أعدّ منه لأعدى أعدائه وأشرّ عبـاده, حتـى ميز بـينهم وبـين أولـيائه فألـحقهم من طبقات جحيـمه بـالدرك الأسفل. كان معلوما أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم, وإن كان جزاء لهم علـى أفعالهم وعدلاً ما فعل من ذلك بهم لاستـحقاقهم إياه منه بعصيانهم له كان بهم بـما أظهر لهم من الأمور التـي أظهرها لهم من إلـحاقه أحكامهم فـي الدنـيا بأحكام أولـيائه وهم له أعداء, وحشره إياهم فـي الاَخرة مع الـمؤمنـين وهم به من الـمكذّبـين إلـى أن ميز بـينهم وبـينهم, مستهزئا وساخرا ولهم خادعا وبهم ماكرا. إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والـمكر والـخديعة ما وصفنا قبل, دون أن يكون ذلك معناه فـي حال فـيها الـمستهزىء بصاحبه له ظالـم أو علـيه فـيها غير عادل, بل ذلك معناه فـي كل أحواله إذا وجدت الصفـات التـي قدمنا ذكرها فـي معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره. وبنـحو ما قلنا فـيه رُوي الـخبر عن ابن عبـاس.
185ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمار, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس فـي قوله: اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ قال: يسخر بهم للنقمة منهم.
وأما الذين زعموا أن قول الله تعالـى ذكره: اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ إنـما هو علـى وجه الـجواب, وأنه لـم يكن من الله استهزاء ولا مكر ولا خديعة فنافون علـى الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه وأوجبه لها. وسواء قال قائل: لـم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخرية بـمن أخبر أنه يستهزىء ويسخر ويـمكر به, أو قال: لـم يخسف الله بـمن أخبر أنه خسف به من الأمـم, ولـم يغرق من أخبر أنه أغرقه منهم. ويقال لقائل ذلك: إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكر بقوم مضوا قبلنا لـم نرهم, وأخبر عن آخرين أنه خسف بهم, وعن آخرين أنه أغرقهم, فصدقنا الله تعالـى ذكره فـيـما أخبرنا به من ذلك, ولـم نفرّق بـين شيء منه, فما برهانك علـى تفريقك ما فرقت بـينه بزعمك أنه قد أغرق وخسف بـمن أخبر أنه أغرق وخسف به, ولـم يـمكر به أخبر أنه قد مكر به؟ ثم نعكس القول علـيه فـي ذلك فلن يقول فـي أحدهما شيئا إلا ألزم فـي الاَخر مثله. فإن لـجأ إلـى أن يقول إن الاستهزاء عبث ولعب, وذلك عن الله عزّ وجلّ منفـيّ. قـيـل له: إن كان الأمر عندك علـى ما وصفت من معنى الاستهزاء, أفلست تقول: اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وسخر الله منهم مكر الله بهم, وإن لـم يكن من الله عندك هزء ولا سخرية؟ فإن قال: «لا» كذّب بـالقرآن وخرج عن ملة الإسلام, وإن قال: «بلـى», قـيـل له: أفتقول من الوجه الذي قلت: اللّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ وسخر الله منهم يـلعب الله بهم ويعبث, ولا لعب من الله ولا عبث؟ فإن قال: «نعم», وصف الله بـما قد أجمع الـمسلـمون علـى نفـيه عنه وعلـى تـخطئة واصفه به, وأضاف إلـيه ما قد قامت الـحجة من العقول علـى ضلال مضيفه إلـيه. وإن قال: لا أقول يـلعب الله به ولا يعبث, وقد أقول يستهزىء بهم ويسخر منهم قـيـل: فقد فرقت بـين معنى اللعب, والعبث, والهزء, والسخرية, والـمكر, والـخديعة. ومن الوجه الذي جازَ قِـيـلُ هذا ولـم يَجُزْ قِـيـلُ هذا افترق معنـياهما, فعلـم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الاَخر.
وللكلام فـي هذا النوع موضع غير هذا كرهنا إطالة الكتاب بـاستقصائه, وفـيـما ذكرنا كفـاية لـمن وفق لفهمه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَيَـمُدّهُمْ.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله ويَـمُدّهُمْ فقال بعضهم بـما:
186ـ حدثنـي به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم: يـمُدّهُمْ: يُـملـي لهم.
وقال آخرون بـما:
187ـ حدثنـي به الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا سويد بن نصر, عن ابن الـمبـارك, عن ابن جريج, قراءة عن مـجاهد: يَـمُدّهُمْ قال: يزيدهم.
وكان بعض نـحويـي البصرة يتأوّل ذلك أنه بـمعنى: يـمدّ لهم, ويزعم أن ذلك نظير قول العرب: الغلام يـلعب الكعاب, يراد به يـلعب بـالكعاب. قال: وذلك أنهم قد يقولون قد مددت له وأمددت له فـي غير هذا الـمعنى, وهو قول الله: وأمْدَدْناهُمْ وهذا من أمددناهم, قال: ويقال قد مدّ البحر فهو مادّ, وأمدّ الـجرح فهو مُـمِدّ.
وحكي عن يونس الـجرمي أنه كان يقول: ما كان من الشرّ فهو «مددت», وما كان من الـخير فهو «أمددت». ثم قال: وهو كما فسرت لك إذا أردت أنك تركته فهو مددت له, وإذا أردت أنك أعطيته قلت: أمددت.
وأما بعض نـحويـي الكوفة فإنه كان يقول: كل زيادة حدثت فـي الشيء من نفسه فهو «مددت» بغير ألف, كما تقول: مدّ النهر, ومدّه نهر آخر غيره: إذا اتصل به فصار منه. وكل زيادة أحدثت فـي الشيء من غيره فهو بألف, كقولك: «أمدّ الـجرح», لأن الـمدة من غير الـجرح, وأمددت الـجيش بـمدد.
وأولـى هذه الأقوال بـالصواب فـي قوله: ويـمُدّهُمْ أن يكون بـمعنى يزيدهم, علـى وجه الإملاء والترك لهم فـي عتوّهم وتـمرّدهم, كما وصف ربنا أنه فعل بنظرائهم فـي قوله: وَنُقَلّبُ أفْئِدَتَهُمْ وأبْصَارَهُمْ كما لـم يُؤْمِنوا بِهِ أوّل مرّةٍ ونَذرُهُمْ فـي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يعنـي نذرهم ونتركهم فـيه ونـملـي لهم لـيزدادوا إثما إلـى إثمهم. ولا وجه لقول من قال ذلك بـمعنى «يـمدّ لهم» لأنه لا تَدَافُع بـين العرب وأهل الـمعرفة بلغتها أن يستـجيزوا قول القائل: مدّ النهر نهر آخر, بـمعنى: اتصل به فصار زائدا ماء الـمتصل به بـماء الـمتصل من غير تأوّل منهم, ذلك أن معناه مدّ النهر نهر آخر, فكذلك ذلك فـي قول الله: وَيَـمُدّهُمْ فِـي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فـي طُغْيانِهِمْ.
قال أبو جعفر: والطغيان الفُعْلان, من قولك: طغى فلان يَطْغَى طغيانا إذا تـجاوز فـي الأمر حده فبغى. ومنه قوله الله: كَلاّ إنّ الإنْسانَ لَـيَطْغَى أنْ رآهُ اسْتَغْنى: أي يتـجاوز حدّه. ومنه قول أمية بن أبـي الصلت:
ودعا اللّهَ دَعْوَةً لاتَ هَنّابَعْدَ طُغْيانِهِ فَظَلّ مُشِيرا
وإنـما عنى الله جل ثناؤه بقوله: ويـمُدّهُمْ فـي طُغْيانِهِمْ أنه يـملـي لهم ويذرهم يبغون فـي ضلالهم وكفرهم حيارى يترددون. كما:
188ـ حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس فـي قوله: فـي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ قال: فـي كفرهم يترددون.
189ـ وحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره, عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: فـي طُغْيانِهِمْ: فـي كفرهم.
190ـ وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: فـي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهونَ أي فـي ضلالتهم يعمهون.
191ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: فـي طُغْيانِهِمْ فـي ضلالتهم.
192ـ وحدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: فـي طُغْيانِهِمْ قال: طغيانهم, كفرهم وضلالتهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: يَعْمَهُونَ.
قال أبو جعفر: والعَمَهُ نفسه: الضلال, يقال منه: عَمِهَ فلانٌ يَعْمَهُ عَمَهانا وعُمُوها: إذا ضل. ومنه قول رؤبة بن العجاج يصف مَضَلّةً من الـمهامة:
ومُخْفِقٍ مِنْ لُهْلُهٍ ولُهْلُهِمِنْ مَهْمَه يُجْتَبْنَهُ فـي مَهْمَهِ
أعمَى الهدى بـالـجاهلـينَ العُمّهِ
والعُمّهُ: جمع عامِهِ, وهم الذين يضلون فـيه فـيتـحيرون. فمعنى قوله جل ثناؤه: وَيَـمُدّهُمْ فـي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فـي ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم دنسه, وعلاهم رجسه, يترددون حيارى ضُلاّلاً لا يجدون إلـى الـمخرج منه سبـيلاً لأن الله قد طبع علـى قلوبهم وختـم علـيها, فأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها, فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبـيلاً. وبنـحو ما قلنا فـي «العَمَه» جاء تأويـل الـمتأولـين.
193ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم: يَعْمَهُونَ: يتـمادون فـي كفرهم.
194ـ وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, عن معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: يَعْمَهُونَ قال: يتـمادون.
195ـ وحدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس فـي قوله يَعْمَهُونَ قال: يترددون.
196ـ وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: يَعْمَهُونَ: الـمتلدد.
197ـ وحدثنا مـحمد بن عمرو البـاهلـي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميـمون, قال: حدثنا ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: فـي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ قال: يترددون.
وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
وحدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن رجل, عن مـجاهد مثله.
وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر عن ابن الـمبـارك, عن ابن جريج قراءة عن مـجاهد مثله.
198ـ وحدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: يَعْمَهُونَ قال: يترددون.
الآية : 16
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ اشْتَرُواْ الضّلاَلَةَ بِالْهُدَىَ فَمَا رَبِحَتْ تّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }
قال أبو جعفر: إن قال قائل: وكيف اشترى هؤلاء القوم الضلالة بـالهدى, وإنـما كانوا منافقـين لـم يتقدم نفـاقهم إيـمان فـيقال فـيهم بـاعوا هداهم الذي كانوا علـيه بضلالتهم حتـى استبدلوها منه؟ وقد علـمت أن معنى الشراء الـمفهوم اعتـياض شيء ببذل شيء مكانه عوضا منه, والـمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة لـم يكونوا قط علـى هدى فـيتركوه ويعتاضوا منه كفرا ونفـاقا؟ قـيـل: قد اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك, فنذكر ما قالوا فـيه, ثم نبـين الصحيح من التأويـل فـي ذلك إن شاء الله.
199ـ حدثنا مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, عن مـحمد بن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَروا الضّلالَةَ بـالهُدَى أي الكفر بـالإيـمان.
200ـ وحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم: أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَروا الضّلالَةَ بـالهُدَى يقول أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
201ـ وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَروا الضّلالَةَ بـالهُدَى: استـحبّوا الضلالة علـى الهدى.
202ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميـمون, عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد فـي قوله: أولَئِكَ الّذِينَ اشْتروا الضّلالَةَ بـالهُدَى آمنوا ثم كفروا.
وحدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله.
قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا فـي تأويـل ذلك: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى, وجهوا معنى الشراء إلـى أنه أخذ الـمشتري مكان الثمن الـمشترى به, فقالوا: كذلك الـمنافق والكافر قد أخذا مكان الإيـمان الكفر, فكان ذلك منهما شراء للكفر والضلالة اللذين أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى, وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضا من الضلالة التـي أخذاها.
وأما الذين تأولوا أن معنى قوله: «اشتروا»: «استـحبوا», فإنهم لـما وجدوا الله جل ثناؤه قد وصف الكفـار فـي موضع آخر فنسبهم إلـى استـحبـابهم الكفر علـى الهدى, فقال: وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهمْ فـاسْتَـحَبّوا العَمَى علـى الهُدَى صرفوا قوله: اشْتَروا الضّلالَةَ بـالهُدَى إلـى ذلك وقالوا: قد تدخـل البـاء مكان «علـى», و«علـى» مكان البـاء, كما يقال: مررت بفلان ومررت علـى فلان بـمعنى واحد, وكقول الله جل ثناؤه: وَمنْ أهْلِ الكِتابِ مَنْ إنْ تأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤدّهِ إلَـيْكَ أي: علـى قنطار. فكان تأويـل الآية علـى معنى هؤلاء: أولئك الذين اختاروا الضلالة علـى الهدى. وأراهم وجهوا معنى قول الله جل ثناؤه: اشْتَروا إلـى معنى «اختاروا», لأن العرب تقول: اشتريت كذا علـى كذا, و«استريته» يعنون اخترته علـيه. ومن الاشتراء قول أعشى بنـي ثعلبة:
فقَدْ أُخْرِجُ الكاعبَ الـمُشْتَراةَ مِنْ خِدْرِها وأُشْيِعُ القِمَارا
يعنـي بـالـمشتراة: الـمختارة. وقال ذو الرمة فـي الاشتراء بـمعنى الاختـيار:
يَذُبّ القَصَايا عَنْ شَراةٍ كأنّهاجماهيرُ تـحتَ الـمُدْجِنَاتِ الهَوَاضِبِ
يعنـي بـالشّراة: الـمختارة. وقال آخر فـي مثل ذلك:
إنّ الشّرَاةَ رُوقَةُ الأمْوَالِوحَزْرَةُ القَلْبِ خِيارُ الـمَالِ
قال أبو جعفر: وهذا وإن كان وجها من التأويـل فلست له بـمختار, لأن الله جل ثَناؤه قال فَمَا رَبِحَتْ تِـجارَتُهُمْ فدل بذلك علـى أن معنى قوله أولَئِكَ الّذِينَ اشْتَروا الضّلالَةَ بـالهُدَى معنى الشراء الذي يتعارفه الناس من استبدال شيء مكان شيء وأخذ عوض علـى عوض.
وأما الذين قالوا: إن القوم كانوا مؤمنـين وكفروا, فإنه لا مؤنة علـيهم لو كان الأمر علـى ما وصفوا به القوم لأن الأمر إذا كان كذلك فقد تركوا الإيـمان, واستبدلوا به الكفر عوضا من الهدى. وذلك هو الـمعنى الـمفهوم من معانـي الشراء والبـيع, ولكن دلائل أول الاَيات فـي نعوتهم إلـى آخرها دالة علـى أن القوم لـم يكونوا قط استضاءوا بنور الإيـمان ولا دخـلوا فـي ملة الإسلام, أوَ ما تسمع الله جل ثناؤه من لدن ابتدأ فـي نعتهم إلـى أن أتـى علـى صفتهم إنـما وصفهم بإظهار الكذب بألسنتهم بدعواهم التصديق بنبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به, خداعا لله ولرسوله وللـمؤمنـين عند أنفسهم واستهزاءً فـي نفوسهم بـالـمؤمنـين, وهم لغير ما كانوا يظهرون مستبطنون, لقول الله جل جلاله: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّهِ وَبـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ} ثم اقتصّ قصصهم إلـى قوله: أوْلَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوا الضّلالَةَ بـالهُدَى فأين الدلالة علـى أنهم كانوا مؤمنـين فكفروا؟.
فإن كان قائل هذه الـمقالة ظنّ أن قوله: أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتروا الضّلالَةَ بـالهُدَى هو الدلـيـل علـى أن القوم قد كانوا علـى الإيـمان فـانتقلوا عنه إلـى الكفر, فلذلك قـيـل لهم: اشتروا فإن ذلك تأويـل غير مسلـم له, إذ كان الاشتراء عند مخالفـيه قد يكون أخذ شيء بترك آخر غيره, وقد يكون بـمعنى الاختـيار وبغير ذلك من الـمعانـي. والكلـمة إذا احتـملت وجوها لـم يكن لأحد صرف معناها إلـى بعض وجوهها دون بعض إلا بحجة يجب التسلـيـم لها.
قال أبو جعفر: والذي هو أولـى عندي بتأويـل الآية ما روينا عن ابن عبـاس وابن مسعود من تأويـلهما قوله: اشْتَروا الضّلالَةَ بـالهُدَى أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وذلك أن كل كافر بـالله فإنه مستبدل بـالإيـمان كفرا بـاكتسابه الكفر الذي وجد منه بدلاً من الإيـمان الذي أمر به. أَوَ ما تسمع الله جل ثناؤه يقول فـيـمن اكتسب كفرا به مكان الإيـمان به وبرسوله: وَمَنْ يَتَبَدّلِ الكُفْرَ بـالإيـمَانِ فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِـيـلِ وذلك هو معنى الشراء, لأن كل مشترٍ شيئا فإنـما يستبدل مكان الذي يؤخذ منه من البدل آخر بدلاً منه, فكذلك الـمنافق والكافر استبدلا بـالهدى الضلالة والنفـاق, فأضلهما الله وسلبهما نور الهدى فترك جميعَهم فـي ظلـمات لا يبصرون.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمَا رَبحَتْ تِـجارَتُهُمْ.
قال أبو جعفر: وتأويـل ذلك أن الـمنافقـين بشرائهم الضلالة بـالهدى خسروا ولـم يربحوا, لأن الرابح من التـجار الـمستبدل من سلعته الـمـملوكة علـيه بدلاً هو أنفس من سلعته أو أفضل من ثمنها الذي يبتاعها به. فأما الـمستبدل من سلعته بدلاً دونها ودون الثمن الذي يبتاعها به فهو الـخاسر فـي تـجارته لا شك. فكذلك الكافر والـمنافق لأنهما اختارا الـحيرة والعمى علـى الرشاد والهدى والـخوف والرعب علـى الـحفظ والأمن, فـاستبدلا فـي العاجل بـالرشاد الـحيرة, وبـالهدى الضلالة, وبـالـحفظ الـخوف, وبـالأمن الرعب مع ما قد أعدّ لهما فـي الاَجل من ألـيـم العقاب وشديد العذاب, فخابـا وخسرا, ذلك هو الـخسران الـمبـين.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك كان قتادة يقول.
203ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: فَمَا رَبِحَتْ تِـجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ قد والله رأيتـموهم خرجوا من الهدى إلـى الضلالة, ومن الـجماعة إلـى الفرقة, ومن الأمن إلـى الـخوف, ومن السنة إلـى البدعة.
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه قوله: فَمَا رَبِحَتْ تِـجارَتُهُمْ وهل التـجارة مـما تربح أو تنقص فـيقال ربحت أو وُضِعَتْ؟ قـيـل: إن وجه ذلك علـى غير ما ظننت وإنـما معنى ذلك: فما ربحوا فـي تـجارتهم لا فـيـما اشتروا ولا فـيـما شروا. ولكن الله جل ثناؤه خاطب بكتابه عربـا فسلك فـي خطابه إياهم وبـيانه لهم مسلك خطاب بعضهم بعضا وبـيانهم الـمستعمل بـينهم. فلـما كان فصيحا لديهم قول القائل لاَخر: خاب سعيك, ونام لـيـلك, وخسر بـيعك, ونـحو ذلك من الكلام الذي لا يخفـى علـى سامعه ما يريد قائله خاطبهم بـالذي هو فـي منطقهم من الكلام فقال: فَمَا رَبِحَتْ تِـجارَتُهُمْ إذ كان معقولاً عندهم أن الربح إنـما هو فـي التـجارة كما النوم فـي اللـيـل, فـاكتفـى بفهم الـمخاطبـين بـمعنى ذلك عن أن يقال: فما ربحوا فـي تـجارتهم, وإن كان ذلك معناه, كما قال الشاعر:
وَشَرّ الـمَنايا مَيّتٌ وَسْطَ أهْلِهِكهُلْكِ الفَتاةِ أسْلَـم الـحَيّ حاضِرُهْ
يعنـي بذلك: وشرّ الـمنايا منـية ميت وسط أهله فـاكتفـى بفهم سامع قـيـله مراده من ذلك عن إظهار ما ترك إظهاره. وكما قال رؤبة بن العجاج:
حارِثُ قَدْ فَرّجْتَ عَنـي هَمّيفَنامَ لَـيْـلِـي وَتَـجَلّـى غَمّي
فوصف بـالنوم اللـيـل, ومعناه أنه هو الذي نام. وكما قال جرير بن الـخَطَفَـي:
وأعْوَرَ مِن نَبَهانَ أما نَهارُهُفأعْمَى وأمّا لَـيْـلُهُ فَبَصِيرُ
فأضاف العمى والإبصار إلـى اللـيـل والنهار, ومراده وصف النبهانـي بذلك.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَما كانُوا مُهْتَدِين.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ ما كانوا رشداء فـي اختـيارهم الضلالة علـى الهدى, واستبدالهم الكفر بـالإيـمان, واشترائهم النفـاق بـالتصديق والإقرار